شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

المبحث السادس

ما يجب على الله تعالى في رأي المعتزلة

قال (المبحث السادس)

(ذهب المعتزلة إلى أنه يجب على الله تعالى أمور :

الأول : اللطف وهو فعل يقرب إلى الطاعة أو يحصلها ، ويبعده عن المعصية لا إلى حد الإلجاء ، واستدلوا بأنه لو جاز منع ما يقرب إلى المأمور به لكان غير مراد وهو تناقض ، وبأن منع اللطف نقض للغرض ، وتقريب أو تحصيل فيقبح ، وبأن الواجب لا يتم إلا بما يحصله أو يقرب منه فيجب ، والكل ضعيف ومعارض بأنه من قواعدكم أن أقصى اللطف واجب. فيلزم أن لا يبقى كافر ولا فاسق ، وبأنه لو وجب لما أخبر الله تعالى بسعادة البعض ، وشقاوة البعض لكونه إقناطا وإغراء ، ولما خلا عصر من الأنبياء والأولياء والخلفاء).

لما لم تقل بوجوب شيء على الله كفينا مئونة كثير من تطويلات المعتزلة القائلين بوجوب أشياء على الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وقد أكثروا الكلام في تفاصيلها ولنعد منها عدة :

الأول : اللطف وهو فعل يقرب العبد إلى الطاعة ، ويبعده عن المعصية لا إلى حد الإلجاء ، ويسمى اللطف المقرب ، أو يحصل الطاعة فيه ، ويسمى المحصل ، وذلك كالأرزاق والآجال ، والقوى والآلات ، وإكمال العقل ، ونصب الأدلة ، وما يشبه ذلك.

وفسروا الوجوب عليه بأنه لا بد أن يفعله لقيام الداعي ، وانتفاء الصارف ، وتارة بأن لتركه مدخلا في استحقاق الذم ، وقد عرفت ما فيه ، واستدلوا على الوجوب بوجوه :

٣٢١

الأول : أنه مريد للطاعة ، فلو جاز منع ما يحصل أو يقرب منها لكان غير مريد لها ، وهو تناقض ، ورد بمنع الملازمة ومنع أن (١) كل مأمور به مراد.

الثاني : أن منع اللطف نقض لغرضه الذي هو الإتيان بالمأمور به ، ونقض الغرض (٢) قبيح يجب تركه ، ورد بمنع المقدمتين لجواز أن لا يكون نقض المأمور به مرادا أو غرضا ، ويتعلق بنقضه (٣) حكم ومصالح.

الثالث : أن منع اللطف تحصيل للمعصية أو تقريب منها وكلاهما قبيح يجب تركه. ورد بالمنع فإن عدم تحصيل الطاعة أعم من تحصيل المعصية وكذا التقريب ، ولا ثم أن إيجاد القبيح قبيح وقد مرّ.

الرابع أن الواجب لا يتم إلا بما يحصله أو يقرب منه فيكون واجبا. وردّ بعد تسليم القاعدة بأن ذلك وجوب على المكلف بشرط كونه مقدورا له فلا يكون مما نحن فيه ، ثم عورضت الوجوه بوجوه :

الأول : أنه لو وجب اللطف لما بقي كافر ولا فاسق لأن من الألطاف ما هو محصل ومن قواعدهم أن أقصى اللطف واجب ، فلا يندفع ما ذكرنا بما قيل إن الكافر أو الفاسق لا يخلو عن لطف ، فلذا (٤) أجيب : بأن اللطف يتفاوت بالنسبة إلى المكلفين ، وليس كل ما هو لطف في إيمان زيد ، لطف في إيمان عمرو ، فليس في معلوم الله تعالى ما هو لطف في حق الكل ، حتى يحصل إيمانهم. وردّ بالنصوص الدالة على أن انتفاء إيمان الكل ، مبني على انتفاء مشيئة الله ، وذلك كقوله تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٥) (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) (٦) (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٧) إلى غير ذلك مما لا يحصى سيما في

__________________

(١) في (ب) لمن بدلا من (أن)

(٢) في (أ) الفرض بدلا من (الغرض)

(٣) في (ب) ببعض بدلا من (بنقضه)

(٤) في (ب) فلهذا بدلا من (فلذا)

(٥) سورة السجدة آية رقم ١٢

(٦) سورة هود آية رقم ١١٨

(٧) سورة الأنعام آية رقم ١٤٩

٣٢٢

أواخر سورة الأنعام وحملها على مشيئة القسر والإلجاء اجتراء ، والنقل عن أئمة (١) التفسير افتراء ، والتمسك بقوله تعالى (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٢) مراء (٣) لأنه لا يدل على أن تعليق الأمور بمشيئة الله كذب ، بل على أن قول الكفرة (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (٤) عناد منهم ، وتكذيب لله ، وتسوية بين مشيئته ورضاه وأمره على ما قالوا حين فعلوا فاحشة (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) (٥).

الثاني : أنه لو وجب لما أخبر الله بسعادة البعض ، وشقاوة البعض بحيث لا يطيع البتة ، لأن ذلك إقناط وإغراء على المعصية وهو قبيح ، ولو في حق من علم الله أنه لا يجدي عليه اللطف.

الثالث : أنه لو وجب لكان في كل عصر نبي ، وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف ، ويدعو إلى الحق ، وعلى وجه الأرض خليفة ينصف المظلوم وينتصف من الظالم إلى غير ذلك من الألطاف.

العوض

قال (الثاني العوض (٦) وهو يقع خال عن التعظيم)

(في مقابلة ما يفعل بالعبد من الألم ونحوه ، ويجب لأن تركه ظلم وهو ضرر لا يكون مستحقا ، ولا مشتملا على نفع ، أو دفع ضر ولا عاديا. قالوا والألم إن وقع جزاء سيئة فعقوبة ، وإلا فإن كان من الله تعالى ، أو من مكلف لا حسنة له ، أو من غير عاقل ، اضطر إليه بسبب من الله تعالى ، أو واقعا بأمره ، أو إباحته أو تمكينه ، فالعوض

__________________

(١) في (ب) آية بدلا من (أئمة)

(٢) سورة الأنعام آية رقم ١٤٨

(٣) في (ب) هراء بدلا من (مراء)

(٤) سورة الأنعام آية رقم ١٤٨

(٥) سورة الأعراف آية رقم ٢٨ وقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل حيث قال : (عليه) بدلا من (عليها)

(٦) العوض : واحد الأعواض. تقول منه عاضه وأعاضه وعوضه تعويضا وعاوضه أي أعطاه العوض. واعتاض وتعوض أخذ العوض ، واستعاض أي طلب العوض.

٣٢٣

عليه ، واختلفوا في لزوم دوام العوض ، وفي لزوم العلم عند الإبقاء بكونه حقه ، وفي جواز التفضل بقضاء عوض المظلوم عن الظالم ، وفي وجوب كون العوض في الآخرة ، وفي حبوطه بالذنوب ، وفي جواز التفضل بمثل الأعواض من غير سبق الألم ، واضطربوا في أن أعواض آلام الكفار والفساق وغير العاقل كالصبيان والبهائم تكون في الدنيا أم في الآخرة وفي أن البهائم هل تدخل الجنة ، وهل يخلق فيها العلم؟).

يستحق في مقابلة ما يفعل الله تعالى بالعبد من الأسقام والآلام ، وما يجري مجرى ذلك فيخرج الأجر والثواب لكونهما للتعظيم في مقابلة فعل العبد ، وكذا النفع المتفضل به لكونه غير مستحق ، ووجه وجوبه على الإطلاق أن تركه قبيح لكونه ظلما ، فيجب فعله.

قالوا : ويستحق على الله تعالى بإنزاله الآلام على العبد ، وبتفويته المنافع عليه لمصلحة الغير عليه كالزكاة ، وبإنزاله الغموم التي لا تستند إلى فعل العبد كالغم (١) المستند إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن بوصول مضرة أو فوات منفعة ، بخلاف المستند إلى جهل مركب لأنه من العبد ، وبأمر العباد بالمضار كالذبح لمثل الهدي ، والنذر. أو إباحته إياها كالصيد ، أو تمكينه غير العاقل كالوحوش والسباع من غير إضرار العباد لا بمثل ألم الاحتراق حين ألقي صبي في النار ، وألم القتل بشهادة الزور. لأن الأول مما وجب طبعا بخلق الله تعالى ذلك فيها بطريق جري العادة ، فالعوض على الملقى ، والثاني مما وجب شرعا بفعل الشهود ، فعليهم العوض ، وأما في تمكين الظالم من الظلم فالعوض على الله تعالى فإن الانتصاف واجب عليه. قالوا فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله تعالى أعواضه الموازنة بظلم الظالم على الأوقات المتتالية على وجه لا يتبين انقطاعها ،

__________________

(١) الغم : واحد الغموم. تقول منه غمه فاغتم ، وتقول (غمه) أي غطاه فانغم ، والغمة : الكربة ويقال : أمر غمّة أي مبهم ملتبس قال الله تعالى : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) قال أبو عبيدة : مجازها ظلمة وضيق وهم.

وغم عليه الخبر على ما لم يسم فاعله أي استعجم مثل أغمى ، ويقال أيضا غم الهلال على الناس إذا ستره عنهم غيم فلم ير والغمام السحاب : الواحدة غمامة ، وقد أغمت السماء أي تغيمت.

٣٢٤

كي لا يتألم أو يتفضل الله عليه بمثل تلك الأعواض عقيب انقطاعها ، فلا يتألم. وإن كان من أهل النار أسقط الله تعالى باعواضه جزءا من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف ، وذلك بأن يفرق القدر المسقط على الأوقات المتتالية لئلا ينقطع ألمه. وفسروا الظلم بضرر غير مستحق لا يشتمل على نفع أو دفع ضرر معلوم ، أو مظنون (١) ، ولا يكون دفعا عن نفسه ، ولا مفعولا بطريق جري العادة ، فخرج العقاب ومشقة السفر والحجامة ودفع الصائل ، وإحراق الله تعالى الصبي الملقى في النار. فإن الإيلام إذا كان مستحقا أو مشتملا على نفع أو دفع ضر ، وعاديا لا يكون ظلما ، بل يكون حسنا (٢) يجوز صدوره عن الله تعالى من غير عوض عليه (٣). ثم للمعتزلة في بحث الآلام والأعواض فروع واختلافات لا بأس بذكر بعضها منها : أن الألم إذا وقع جزاء لسيئة فهي عقوبة لا عوض عليها ، وإن لم يقع فإن كان من الله تعالى وجب العوض عليه ، وإن كان مكلفا فإن كان له حسنات أخذ الله حسناته ، وأعطاها المؤلم عوضا لإيلامه ، وإن لم يكن له حسنات فعلى الله العوض من عنده حيث مكن الظالم ولم يصرفه عن الإيلام. فالواجب قبل الوقوع إما الصرف ، وإما التزام العوض ، وإن كان من غير عاقل كالأطفال والوحوش والسباع. فإن كان ملجأ إليه بسبب من الله تعالى كجوع وخوف ونحوهما : فالعوض على الله تعالى. وإلا فعلى المؤلم عند القاضي ، وعلى الله تعالى عند أبي علي لأن التمكين وعدم المنع بعلم أو نهي إغراء على إيصال تلك المضار. فأخذ العوض منها يكون ظلما بمنزلة من ألقى الطعام إلى كلب فأكله ، ثم أخذ يضربه ، وللقاضي ما ورد في الحديث من أنه : «يأخذ للجماء من القرناء» (٤) وما ثبت في الشرع من وجوب منعها

__________________

(١) الظن : معروف ، وقد يوصع موضع العلم ، وبابه رد ، وتقول ظننتك زيدا وظننت زيدا إياك ، تضع الضمير المنفصل موضع المتصل والظنين : المتهم والظنة ، التهمة يقال منه أطنه وأظنه بالطاء والظاء إذا اتهمه وفي حديث ابن سيرين (لم يكون علي ـ رضى الله عنه ـ يظن في قتل عثمان ـ رضي الله عنه) وهو يفتعل من يظتن فأدغم (ومظنة) الشيء موضعه ومكان الذي يظن كونه فيه ، والجمع المظان.

(٢) في (ب) شيئا بدلا من (حسنا)

(٣) في (ب) عن بدلا من (من)

(٤) الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢ : ٣٦٣ (؟؟؟؟ ـ حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، عن واصل عن يحيى بن عقيل ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«يقبض الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء ، وحتى الذرة من الذرة».

٣٢٥

عن تلك المضار. وأجيب (١) بأن الحديث خبر واحد في مقابلة القطعي مع أنه لا يدل على كيفية الانتصاف فلعلها تكون بإيفاء العوض من عنده ، وأما التكليف فإنما هو لحفظ المواشي عن السباع والأموال عن الضياع ، حتى لا يجب منع الهرة عن أكل الحشرات والعصافير ، بل قد يحرم لكونه منعا للرزق عنها ، اللهم إلا إذا تألم قلب العاقل بالافتراس فيجب المنع دفعا لتضرره بتألم قلبه ومنها أن الإيلام بأمر الله كما في استعمال البهائم أو بإباحته كما في ذبحها أو بتمكينه مع تأخير الانتصاف إلى دار الجزاء كما في المظلوم عوضه على الله تعالى لتعاليه عن الظلم ومنها أنه إذا استوى لذة وألم في كونهما لطفا ، فالجمهور على أنه يتعين اللذة ، ويقبح الألم. لأنه إنما يحسن إذا تعين طريقا للعوض واللطف. وقال أبو هاشم (٢) : بل يتخير منهما كما بين المنفعتين لأن الإيلام بكونه عوضا ولطفا قد خرج عن كونه عبثا وظلما ، ومنها أن العوض يستحق دائما عند أبي علي كالثواب. إذ لو انقطع لاغتم بانقطاعه فثبت عوض آخر وهلمّ جرا ، ومنقطعا عند أبي هاشم إذ لو شرط الدوام لما حسن بدونه ، واللازم باطل لأن العقلاء قد يستحسنون الآلام لمنافع منقطعة ، ومنها أنهم اختلفوا في أنه هل يشترط عند إبقاء العوض علم المعوض بأنه حقه كالثواب أم لا بناء على أن العوض منه مجرد اللذة والمنفعة. وفي الثواب قصد التعظيم به بما لا يثبت بدون علمه بذلك ، ومنها أنه هل يجوز التفضل بقضاء عوض المظلوم عن الظالم؟ بناء على أن حقه في الأعواض المقابلة بالمضار وقد وصلت أم لا بناء على أن حقه في الأعواض الواجبة ، ولم تصل وأنه لو جاز التفضل لعوضه ، لجاز ترك الانتصاف من الظالم وهو باطل ، ومنها أن العوض الواجب على الله ، لا يصح إسقاطه إذ لا نفع فيه لأحد ، لكن يصح نقله إلى الغير نفعا له بخلاف لثواب ، فإن جهة التعظيم لا تقبل ذلك ، وأما الواجب على العبد ، وعند القاضي لا

__________________

(١) في (أ) واجب بدلا من (وأجيب) وهو تحريف.

(٢) هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي من أبناء أبان مولى عثمان : عالم بالكلام من كبار المعتزلة ، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميت (البهشمية) نسبه إلى كنيته (أبي هاشم) وله مصنفات في الاعتزال كما لابيه من قبله مولده عام ٢٤٧ ه‍ ووفاته ببغداد عام ٣٢١ ه‍ راجع المقريزيّ ٢ : ٢٤٨ ووفيات الأعيان ١ : ٢٩٢ والبداية والنهاية ١١ : ١٧٦ وميزان الاعتدال ٢ : ١٣١ وتاريخ بغداد ١١ : ٥٥ وفيه أبو هاشم شيخ المعتزلة ومصنف الكتب على مذهبهم.

٣٢٦

يصح كهبة المجهول. وقيل يصح لما فيه من نفع الجاني ، والجهالة لا تمنع صحة الإسقاط كما في الإعتاق والإبراء ، وكذا يصح نقله إلى الغير بأن يهب عوضه من غيره ، لكن شبهة الجهالة في ذلك متأكدة. ومنها اختلافهم في أن العوض هل يجب أن يكون في الآخرة ، وهل يحيط بالذنوب اعتبارا بالثواب ، أم يجوز في الدنيا ، ولا يحيط أصلا لعدم الدليل على النقيض ، وفي أنه هل يجوز التفضل بمثل الأعواض ابتداء من غير سبق ألم ، أم لا؟ وعلى تقدير الجواز هل يجوز الإيلام وتحسن المحن لمجرد العوض؟ كما هو رأي أبي علي بناء على أن للعوض اللازم للمستحق مزية على المتفضل به من غير لزوم ، واستحقاق أم لا بد مع ذلك من أن يكون ألطافا للمؤلم في الزجر عن القبيح؟ ولغيره بحسب الاتعاظ والاعتبار؟ كما هو رأي الضميري (١) ، أم لا بد من كلا الأمرين كما هو رأي أبي هاشم بناء على أنه لما جاز مثل العوض ابتداء كان الإيلام لمجرد العوض عبثا خارجا عن الحكمة ، وما يقال من أن للمستحق اللازم مزية على المتفضل به الغير اللازم فإنما هو في حق من وقف من تفضله.

فإن قيل : وهل يجوز إيلام الغير لمنفعته بدون رضاه.

قلنا : نعم إذا كانت منفعة عظيمة موقنة تتفق العقلاء على إيثار ذلك الألم (٢) لأجلها.

__________________

(١) هو محمد بن عمر الضمريّ : أبو عبد الله شيخ المعتزلة في البصرة انتهت إليه رياستهم بعد الجبائيّ ، وهو أستاذ أبي سعيد السيرافي من كتبه «الرد على ابن الراونديّ» توفي عام ٣١٥ ه‍ راجع سير النبلاء الطبقة الثامنة عشرة ولسان الميزان ٥ : ٣٢٠

(٢) الألم : مصدر ألم يألم ، كعلم يعلم ، وهو مقابل للذة ، والألم واللذة هما من الأحوال النفسية الأولية ، فلا يعرفان ، بل تذكر خواصهما وشروطهما دفعا للالتباس اللفظي.

قال ابن سينا : إن اللذة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ، والألم إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر (الاشارات ، ص ١٩).

والمراد بالإدراك العلم ، وبالنيل تحقق الكمال لمن يلتذ ، فإن التكليف بالشيء لا يوجب الألم واللذة من غير إدراك فلا ألم ولا لذة للجماد بما يناله من الكمال والنقص ، وإدراك الشيء من غير النيل لا يؤلم ولا يوجب لذة ، كتصور الحلاوة والمرارة ، فالألم واللذة ، لا يتحققان إذن دون الادراك والنيل ، وإنما قال عند المدرك لأن الشيء قد يكون كمالا وخيرا بالقياس إلى شخص ولا يعتقد كماليته فلا يلتذ به (راجع الكشاف للتهانوي)

٣٢٧

فإن قيل : فيلزم جواز ذلك للعبد أيضا.

أجيب : بالتزامه أو بالفرق ، فإن الله عالم بالتمكن من التعويض بخلاف العبد ، وأما الإيلام بدون الرضا لمنفعة الغير على ما يراه الضميري في إيلام زيد لاعتبار عمرو ، وجمهور المعتزلة في ذبح الحيوانات واستعمالها لمنافع العباد ، فلا يعقل حسنه ، ومنها أنهم ذهبوا إلى أن آلام غير العاقل من الصبيان والمجانين والبهائم حسنة لالتزام أعواض يزيد عليها ، ثم اضطربوا في أنها تكون في الدنيا ، أم في الآخرة. وفي أن البهائم هل تدخل الجنة؟ ويخلق فيها العقل والعلم ، وأن ذلك عوض أم لا؟ وفي أن عاقبة أمرها ما ذا؟ وفي بعض التفاسير أن قول الكافر (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (١) يكون حين يوصل الله تعالى إلى البهائم أعواضها ، ثم يجعلها ترابا.

وأما أعواض الكفار ، والفساق فقيل في الدنيا ، وقيل في النار بتخفيف العذاب.

قال (الثالث الجزاء وسيأتي)

وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وسيأتي في مقصد السمعيات على التفصيل.

قال (الرابع الاحترام)

إذا علم من المعصوم أو التائب أنه يكفر أو يفسق لو بقي لما في تركه من تفويت الغرض ، وجمهورهم على أنه لا يجب لأن التفويت إنما هو بفعل العبد. ذهب بعض المعتزلة إلى أن الباري تعالى إذا علم من المؤمن المعصوم أو التائب أنه إن أبقاه حيّا يكفر أو يفسق يجب اخترامه لأن في تركه تفويتا للغرض بعد حصوله وهو قبيح. والأكثرون على أنه لا يجب ، لأن تفويت الغرض ، إنما هو بفعل العبد ، وهو المعصية لا بالتبقية ، ولأنه لم يخترم من كفر بعد الإيمان ، وعصى بعد الطاعة ، ولم يخترم إبليس مع ما روي أنه عبد الله تعالى عشرين ألف سنة ثم كفر.

والقول بأن ذلك كان مع النفاق بعيد جدا ، والاستدلال بقوله تعالى (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٢) ضعيف لقول المفسرين إنه بمعنى صار أو كان من جنس كفرة الجن

__________________

(١) سورة النبأ آية رقم ٤٠

(٢) هذا جزء من آية من سورة البقرة ٣٤ (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ).

٣٢٨

وشياطينهم ، أو كان في علم الله تعالى ممن يكفر ، وأما إذا علم من المؤمن أنه يكفر أو يفسق ثم يتوب ، أو من الكافر والفاسق أنه يزداد كفرا وعصيانا ، ولا يتوب فلا يجب الاخترام ، كما لا يجب تبقية المؤمن إذا علم منه زيادة الطاعة ، ولا تبقية الطفل إذا علم منه أنه لو كلفه آمن ، وأما تبقية إبليس وتمكينه. فقال أبو علي : إنما يحسن إذا كان المعلوم أن من يعصي بوسوسته يعصي لو لا وسوسته. (١)

قال (الخامس الأصلح)

(الخامس الأصلح للعباد في الدين عند البصرية ، والدنيا أيضا عند البغدادية ، واتفقوا على وجوب الاقدار والتمكين ، وأقصى ما يمكن من الأصلح لكل أحد ، حتى ليس في المقدور ما لو فعل بالكفار لآمنوا جميعا ، وإلا لكان تركه بخلا وسفها ، كالحكيم (٢) أمر بطاعته ، ولم يعط مع القدرة وعدم التضرر ما يوصل إليه ، وكالكريم استدعى حضور ضيف ، وترك تلقيه بالبشاشة إلى الفظاظة (٣). وقد يتمسك بأن وجوب الفعل عند خلوص الداعي ، والقدرة قطعي ، ونحن نقول بعد التنزل ، لو وجب الأصلح لما خلق الكافر الفقير المبتلى طول عمره بالمحن والآفات ، لوجب بمقتضى تمثيلاتكم على كل أحد ، ما هو الأصلح لعبيده ، وألزم أن يكون الأصلح للكفار الخلود في النار ، وأن يكون كل ما يفعله بالعباد أداء الواجب ، فلا يستوجب شكرا ، وأن تتناهى مقدوراته من اللطف ، وأن تكون إماتة الأنبياء ، والأولياء والمحسنين والكرماء ، وتبقية الظلمة والغواة ، وإبليس والذاريات ومن

__________________

(١) الوسوسة : حديث النفس يقال : وسوست إليه نفسه (وسوسة) وسواسا بكسر الواو.

والوسواس : بالفتح الاسم كالزلزال والزّلزال وقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) يريد إليهما ، ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل ويقال لصوت الحلى (وسواس). والوسواس أيضا اسم الشيطان.

(٢) ورد في القرآن لفظ الحكيم على خمسة أوجه :

الأول : بمعنى الأمور المقضية على وجه الحكمة قال تعالى (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) الثاني : بمعنى اللوح المحفوظ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).

الثالث : بمعنى الكتاب المشتمل على قبول المصالح (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ).

وقيل : معنى الحكيم المحكم ، قال تعالى : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) سورة هود آية رقم ١.

(٣) الفظّ من الرجال الغليظ ، وقد فظ يفظ بالفتح فظاظة بفتح الفاء.

٣٢٩

علم منهم الارتداد ، وتصلح للعباد وأن لا يحسن الدعاء لدفع البلاء ، وأن يتساوى امتنانه على الكفر وعلى الأنبياء ، وأن لا يبقى له في التفضل مجال ، ولا تكون له خيرة في الأفضال).

ذهب البغداديون من المعتزلة (١) إلى أنه يجب على الله تعالى ما هو (٢) أصلح لعباده في الدين ، والدنيا ، وقال البصريون : بل في الدين فقط فيعنون (٣) بالأصلح الأنفع ، والبغداديون الأصلح في الحكمة والتدبير. واتفق الفريقان على وجوب الاقدار والتمكين ، وأقصى ما يمكن في معلوم الله تعالى مما يؤمن عنده المكلف ، ويطيع وأنه فعل لكل أحد غاية مقدورة من الأصلح ، وليس في مقدوره لطف لو فعل بالكفار لآمنوا جميعا ، وإلا لكان تركه بخلا وسفها (٤) ، وعمدتهم القصوى (٥) قياس الغائب على الشاهد لقصور نظرهم في المعارف الإلهية ، واللطائف الخفية الربانية ، ووفور غلطهم في صفات الواجب الحق وأفعال الغنى المطلق. قالوا : نحن نقطع بأن الحكيم إذا أمر بطاعته ، وقدر على أن يعطي المأمور ما يصل به إلى الطاعة من غير تضرر بذلك ، ثم لم يفعل كان مذموما عند العقلاء ، معدودا في زمرة البخلاء ، ولذلك من دعى عدوه إلى الموالاة ، والرجوع إلى الطاعة ، لا يجوز أن يعامله من الغلظ واللين إلا بما هو أنجع في حصول المراد ، وادعى (٦) إلى ترك العناد ، وأيضا من اتخذ ضيافة لرجل واستدعى حضوره ، وعلم أنه لو تلقاه ببشر وطلاقة وجه دخل وأكل وإلا فلا. فالواجب عليه البشر والطلاقة (٧) والملاطفة لا أضدادها.

قلنا : ذاك بعد تسليم استلزام الأمر الإرادة إنما هو في حكيم محتاج إلى طاعة

__________________

(١) في (ب) والمعتزلة بدلا (من المعتزلة)

(٢) سقط من (ب) لفظ (ما هو)

(٣) في (أ) يقصدون بدلا من (يعنون)

(٤) سقط من (أ) لفظ (وسفها)

(٥) في (ب) الكبرى بدلا من (القصوى)

(٦) سقط في (ب) وادعى إلى

(٧) سقط من (أ) لفظ (الطلاقة)

٣٣٠

الأولياء أو رجوع الأعداء ، ويتعزز (١) لكثرة الأعوان والأنصار ، ويعظم لديه الأقدار ، ويكون للشيء بالنسبة إليه مقدار ، وقد يتمسك بأن عند وجود الداعي والقدرة ، وانتفاء الصارف يجب الفعل.

وردّ بأن ذاك بعد التسليم وجوب عنه بمعنى اللزوم عند تمام العلة. والكلام في الوجوب عليه بمعنى استحقاق الذم على الترك ، فأين هذا من ذاك؟ لنا بعد التنزل إلى القول لوجوب شيء على الله ، وأن ليس الصلاح والفساد بخلق الله تعالى وجوه :

الأول : لو وجب عليه الأصلح لعباده (٢) لما خلق الكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة ، سيما (٣) المبتلى بالأسقام والآلام ، والمحن والآفات.

الثاني : يلزم على ما ذكرتم من الأمثلة أنه يجب على كل أحد ما هو أصلح لعبيده ولنفسه فإن دفع بأن المكلف يتضرر بذلك ، ويلحقه الكد والتعب (٤).

أجيب : بأنه يلزم حينئذ أن لا يجب عليه شيء مما هو (٥) كذلك.

فإن قيل : يترتب عليه ثواب يربى عليه فيحسن لذلك.

قلنا : فليكن الأصلح كذلك.

الثالث : يلزم أن يكون الأصلح للكفار الخلود (٦) في النار. إذ لو كان الخروج أو عدم الدخول أصلح لفعل.

فإن قيل : نعم يلزم أن الأصلح لهم (٧) الخلود لعلمه بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.

__________________

(١) في (ب) ويتقوى بدلا من (ويتعزز)

(٢) سقط من (ب) لفظ (لعباده)

(٣) سقط من (أ) لفظ (سيما)

(٤) سقط من (أ) لفظ (والتعب)

(٥) في (ب) يكون بدلا من (هو)

(٦) في (أ) البقاء في النار بدلا من (الخلود)

(٧) سقط من (ب) لفظ (لهم)

٣٣١

قلنا : لا خفاء في أن الإماتة وقطع العذاب ثم سلب العقول أصلح. وأيضا فإذا كان تكليف من علم أنه يكفر أصلح مع أنه تنجيز مشقة ، فلم لا يكون إنقاذا من علم أنه يعود أصلح مع أنه تنجيز راحة.

الرابع : يلزم أن لا يستوجب الله على فعل شكرا لكونه مؤديا للواجب كمن يرد وديعة (١) ، ودينا لازما.

الخامس : مقدورات الله تعالى غير متناهية ، فأي قدر يضبطونه (٢) في الأصلح فالمزيد عليه ممكن ، فيجب لا إلى حدّ.

فإن قيل : ربما يصير ضم المزيد إليه مفسدة ، كما أن ضم النافع إلى النافع يصير مضرة ، فيما إذا زاد من الدواء (٣) على القدر الذي فيه الشفاء.

أجيب : بأنه لا يعقل أن يكون ضم الصلاح إلى الصلاح فسادا ، وتقدر قدر من الدواء للشفاء إنما هو بطريق جري (٤) العادة من الله تعالى ، فإنه النافع والضار لا الدواء ، حتى لو غير العادة ، وجعل الشفاء في القدر الزائد جاز.

ولو سلّم فالنفع مقدور والزيادة في الدواء ليس من ضم النفع إلى النفع ، بل من ضم ليس ينفع مثلا لنافع في الحمى قدر من المبرد يقاوم الحرارة الغالية ، فإذا زيد عليه قدر فليس ينفع ، لأنه عمله ليس في دفع تلك الحرارة التي هي المرض ، بل في إثبات برودة تزيل الصحة والاعتدال (٥) بخلاف الصلاح في الدين ، فإنه لا يتقدر بقدر ، ولا ينتهي إلى حد ، وكل صلاح ضم إلى صلاح يكون أصلح.

فإن قيل : يتقدر الأصلح لا لتناهي قدرة الله تعالى. بل لما علم أن المزيد عليه يصير سببا (٦) للطغيان.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (وديعة)

(٢) في (ب) يقدرونه بدلا من (يضبطونه)

(٣) سقط من (ب) لفظ (الدواء)

(٤) سقط من (ب) لفظ (جري)

(٥) سقط من (أ) لفظ (والاعتدال)

(٦) في (ب) طريقا بدلا من (سببا)

٣٣٢

أجيب : بأنكم لا تعتبرون في وجوب الأصلح جانب المعلوم حيث تزعمون أن من علم الله تعالى أنه لو كلفه طغى وعصى واستكبر وكفر يجب على الله تعويضه للثواب مع علمه بأنه لا يدركه بل يقع في العقاب ولو أنه اخترمه قبل كمال العقل خلص نجيا.

السادس : يلزم أن تكون إماتة الأنبياء والأولياء المرشدين بعد حين وتبقية إبليس وذرياته المضلين إلى يوم الدين أصلح لعباده وكفى بهذا فظاعة.

السابع : من علم الله تعالى منه الكفر والعصيان أو الارتداد بعد الإسلام ، فلا خفاء في أن الإماتة أو سلب العقل أصلح له ولم يفعل.

فإن قيل : بل الأصلح التكليف والتعريض للنعيم الدائم لكونه أعلى المنزلتين.

قلنا : فلم لم يفعل ذلك بمن مات طفلا ، وكيف لم يكن التكليف والتعريض لأعلى المنزلتين أصلح له ، وبهذه النكتة ألزم الأشعري الجبائي ورجع عن مذهبه.

فإن قيل : علم من الطفل أنه إن عاش ضل وأضل غيره فأماته لمصلحة الغير.

قلنا : فكيف لم يمت فرعون (١) وهامان (٢) ومزدك وزرادشت وغيرهم من الضالين المضلين أطفالا ، وكيف لم يكن منع الأصلح عمن لا جناية له لأجل مصلحة الغير سفها وظلما.

__________________

(١) فرعون : اسم أعجمي ممنوع من الصرف ، والجمع : فراعنة كقياصرة وأكاسرة وهو اسم لكل من ملك مصر ، فإذا أضيفت إليها الاسكندرية سمي عزيزا واختلف في اسمه ، فقيل : مصعب بن الوليد. وقيل : ريان بن الوليد ، وقيل : الوليد بن ريان ، وكان أصله من خراسان من مدينة بسورمان ، وقيل من قرية مجهولة تسمى : نوشخ ، ولما قعد على سرير الملك قال : أين عجائز نوشخ وقد صدر منه ما لم يصدر من أحد من الكفار والمتمردين ، ولا من قائدهم إبليس ، منها إنكار العبودية ـ ودعوى الربوبية بقوله : (أنا ربكم الاعلى).

(٢) هامان : هو اسم أعجمي ، وقد تقدمت نظائره ، وكان وزير فرعون ، وأصله من خراسان من قرية يقال لها بوشنج ، وكان قد قرأ كتب المتقدمين ، وكان له اليد الطولى في حساب النجوم ، وكان يستدل من طالعه على مجمل أحواله وأحوال فرعون فاتفقا وسافرا جميعا من خراسان إلى أن بلغ أمرهما ما بلغ ، وذكر شواهد شقاوته وخذلانه في مواضع من الكتاب العزيز.

٣٣٣

الثامن : أجمع الأنبياء والأولياء وجميع العقلاء على الدعاء لدفع البلاء (١) ، وكشف البأساء والضراء ، فعندكم يكون ذلك سؤالا من الله تعالى أن يغير الأصلح ، ويمنع الواجب وهو ظلم.

التاسع : أن أعطى أبا جهل (٢) لعنه الله غاية مقدوره من المصالح والألطاف ، فقد سوى بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أبي جهل في الإنعام والإحسان ورجع فضل النبي عليه‌السلام إلى محصن اختياره من غير امتنان ، وإن منع أبا جهل بعض المصالح والألطاف فقد ترك الواجب ولزم السفه والظلم على ما هو أصلكم الفاسد.

العاشر : لو وجب الأصلح لما بقي للتفضل مجال ، ولم يكن الله خيرة في الإنعام والإفضال وهو باطل لقوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) (٣) (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) (٤) (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) (٥) (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٦) ولعمري إن مفاسد هذا الأصل أظهر من أن تخفى ، وأكثر من أن تحصى ، ولو وجب على الله الأصلح للعباد لما ضل المعتزلة طريق الرشاد.

__________________

(١) أخرج ابن ماجه بسنده عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يزيد في العمر إلا البر ، ولا يرد القضاء إلا الدعاء وإن الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها».

(٢) هو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزوميّ القرشيّ ، أشد الناس عداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدر الاسلام ، وأحد سادات قريش وأبطالها في الجاهلية.

قال صاحب عيون الأخبار : سودت قريش أبا جهل ولم يطر شاربه فادخلته دار الندوة مع الكهول ، أدرك الإسلام ، وكان يقال له أبو الحكم فدعاه المسلمون أبا جهل ، قتل في غزوة بدر عام ٢ ه‍ راجع ابن الأثير : ١ : ٢٣ ، ٢٥ ، ٢٦ ، ٢٧ ، والسيرة الحلبية ٢ : ٣٢

(٣) سورة القصص آية رقم ٦٨

(٤) سورة البقرة آية رقم ١٠٥

(٥) سورة البقرة آية رقم ٢٦٩

(٦) سورة آل عمران آية رقم ٣٣

٣٣٤

الفصل السّابع

في أسماء الله تعالى

وفيه مباحث :

١ ـ الاسم

٢ ـ أسماء الله تعالى توفيقية

٣ ـ في مدلول الاسم

٣٣٥
٣٣٦

(الفصل السابع في أسمائه وفيه مباحث).

معظم كلام القدماء في هذا الفصل شرح معاني أسماء الله ، ورجعها إلى ما له من الصفات والأفعال ، والمتأخرون فوضوا ذلك إلى ما صنف فيه من الكتب ، واقتصروا على ما اختلفوا فيه من مغايرة الاسم للمسمى وكون أسماء الله تعالى توفيقية.

المبحث الأول

الاسم

قال (المبحث الأول الاسم)

(هو اللفظ الموضوع ، والمسمى هو المعنى الموضوع له ، والتسمية وصفه أو ذكره فتغايرها ضروري وما اشتهر من أن الاسم نفس المسمى ، والتسمية غيرهما ، أريد بالاسم المدلول. كما في قولنا زيد كاتب بخلاف قولنا زيد مكتوب ، وتفضل الشيخ بأن الاسم قد يكون نفس المسمى كقولنا الله ـ وقد يكون غيره كالخلق ، وقد يكون بحيث لا هو ولا غيره كالعالم مبني على أنه أخذ المدلول بحيث يعم التضمن ، وأراد بالمسمى نفس الذات والحقيقة ، وتمسك الفريقين بمثل قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) وقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢). مع أنه يوهم أن المتنازع ا س م وليس كذلك ضعيف ، إذ قد يقدس الاسم ، ويعبر بتعظيمه عن تعظيم الذات ، وقد يراد به عند الشيخ التسمية ، مع أن تعدد المفهومات لا ينافي وحدة الذات.

فإن قيل : لا خفاء في تغاير اللفظ والمعنى وعدم تغاير المدلول والمسمى فلا يظهر ما يصلح محلا للنزاع والاشتباه.

__________________

(١) سورة الأعلى آية رقم ١

(٢) سورة الأعراف آية رقم ١٨٠

٣٣٧

قلنا : عند ذكر (الحكم) الاسم قد يتعلق الحكم بالمدلول كما في كتب زيد ، وقد يتعلق بالدال كما في كتبت زيدا حتى كان لكل لفظ وضعا علميا بالنسبة إلى نفسه كما في قولنا : ضرب فعل ماض ، ومن حرف جر ، على أن من الأسماء ما هو من أفراد المسمى كالكلمة والاسم ، ومن المدلولات ما هو ذات المسمى كالإنسان وما هو عارض كالضاحك والمسمى قد يراد به المفهوم ، وقد يراد به ما صدق هو عليه من الإفراد ، فلا يبعد أن تورث هذه الإطلاقات اشتباها في إطلاق أن الاسم نفس المسمى أم غيره؟).

هو اللفظ المفرد (١) الموضوع للمعنى على ما يعم أنواع الكلمة ، وقد يقيد بالاستقلال والتجرد عن الزمان ، فيقابل الفعل والحرف على ما هو مصطلح (٢) النحاة ، والمسمى هو المعنى الذي وضع الاسم بإزائه ، والتسمية هو وضع الاسم للمعنى ، وقد يراد بها ذكر الشيء باسمه كما يقال سمي زيدا ، ولم يسم عمرا ، فلا خفاء في تغاير (٣) الأمور الثلاثة ، وإنما الخفاء فيما ذهب إليه بعض (٤) أصحابنا من أن الاسم نفس المسمى ، وفيما ذكره الشيخ الأشعري (٥) من أن أسماء الله تعالى ثلاثة أقسام ، ما هو نفس المسمى ، مثل الله الدال على الوجود أي الذات ، وما هو غيره ، كالخالق ، والرازق ، ونحو ذلك مما يدل على فعل ، وما لا يقال انه هو ، ولا غيره ، كالعالم والقادر ، وكل ما يدل على الصفات القديمة ، وأما التسمية فغير الاسم والمسمى (٦) وتوضيحه أنهم يريدون بالتسمية اللفظ وبالاسم مدلوله ، كما يريدون بالوصف قول الواصف ، وبالصفة مدلوله ، وكما يقولون إن القراءة حادثة والمقروء قديم ، إلا أن الأصحاب اعتبروا المدلول المطابقي فأطلقوا القول بأن الاسم نفس المسمى للقطع بأن مدلول الخالق شيء ما له الخلق ، لا نفس الخلق ، ومدلول

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (المفرد)

(٢) في (أ) عند بدلا من (مصطلح)

(٣) في (ب) اختلاف بدلا من (تغاير)

(٤) سقط من (ب) لفظ (بعض)

(٥) سبق الترجمة له في هذا الكتاب في كلمة وافية

(٦) في (ب) فغيرهما بدلا من (الاسم والمسمى)

٣٣٨

العالم شيء ما له العلم لا نفس العلم ، والشيخ أخذ المدلول أعم ، واعتبر في أسماء الصفات المعاني المقصودة ، فزعم أن مدلول الخالق الخلق ، وهو غير الذات ، ومدلول العالم العلم وهو لا عين ولا غير ، وتمسكوا في ذلك بالعقل والنقل ، أما العقل ، فلأنه لو كانت الأسماء غير الذات لكانت حادثة ، فلم يكن الباري تعالى في الأزل إلها وعالما وقادرا ونحو ذلك وهو محال بخلاف الخالقية فإنه يلزم من قدمها قدم المخلوق إذا أريد الخالق بالفعل ، كالقاطع في قولنا السيف قاطع عند الوقوع بخلاف قولنا السيف قاطع في الغمد ، بمعنى أن من شأنه ذلك ، فإن الخالق ح معناه الاقتدار على ذلك ، وأما النقل فلقوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) (١) والتسبيح إنما هو للذات دون اللفظ وقوله تعالى (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) (٢) وعبادتهم إنما هي للأصنام التي هي المسميات دون الأسامي ، وأما التمسك بأن الاسم لو كان غير المسمى لما كان قولنا محمد رسول الله حكما بثبوت (٣) الرسالة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل لغيره فشبهة واهية (٤). فإن الاسم وإن لم يكن (٥) نفس المسمى لكنه دال عليه ، ووضع الكلام على أن تذكر الألفاظ ويرجع الأحكام إلى المدلولات ، كقولنا زيد كاتب ، أي مدلول زيد متصف بمعنى الكتابة ، وقد يرجع بمعونة القرينة إلى نفس اللفظ ، كما في قولنا : زيد مكتوب ، وثلاثي ، ومعرب ، ونحو ذلك.

وأجيب عن الأول : بأن الثابت في الأزل معنى الإلهية ، والعلم ، ولا يلزم من انتفاء الاسم بمعنى اللفظ (٦) ، انتفاء ذلك المعنى.

وعن الثاني : بأن معنى تسبيح الاسم تقديسه ، وتنزيهه ، عن أن يسمى به الغير أو عن يفسر بما لا يليق ، أو عن يذكر على غير وجه التعظيم (٧) ، أو هو كناية عن

__________________

(١) سورة الأعلى آية رقم ١

(٢) سورة يوسف آية رقم ٤٠

(٣) سقط من (ب) لفظ (بثبوت)

(٤) في (ب) ضعيفة بدلا من (واهية)

(٥) سقط من (ب) لفظ (يكن)

(٦) سقط من (أ) كلمة (اللفظ)

(٧) سقط من (أ) لفظ (وجه)

٣٣٩

تسبيح الذات كما في قولهم : سلام على المجلس الشريف ، والجناب المنيف ، وفيه من التعظيم والإجلال ما لا يخفى (١) ، أو لفظ الاسم مقحم كما في قول الشاعر : ثم اسم السلام عليكما. ومعنى عبادة الأسماء أنهم يعبدون الأصنام التي ليس فيها من الإلهية إلا مجرد الاسم. كمن سمى نفسه بالسلطان ، وليست عنده آلات السلطنة وأسبابها ، فيقال إنه فرح من السلطنة بالاسم على أن في تقرير الاستدلال اعترافا بالمغايرة حيث يقال التسبيح لذات الرب دون اسمه ، والعبادة لذوات الأصنام دون أساميها ، بل ربما يدعي أن في الآيتين دلالة على المغايرة حيث أضيف الاسم إلى الرب ، وجعل الأسماء بتسميتهم ، وجعلهم مع القطع بأن أشخاص الأصنام ليست كذلك ، ثم عورض الوجهان لوجهين :

الأول : أن الاسم لفظ وهو عرض غير باق ، ولا قائم بنفسه ، متصف بأنه مركب من الحروف ، وبأنه عجمي أو عربي ثلاثي أو رباعي ، والمسمى معنى لا يتصف بذلك وربما يكون جسما قائما بنفسه متصفا بالألوان متمكنا في المكان إلى غير ذلك من الخواص فكيف يتحدان.

الثاني : قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٢) وقوله عليه‌السلام «إن لله تعالى تسعا وتسعين اسما» (٣) مع القطع بأن المسمى واحد لا تعدد فيه.

وأجيب : بأن النزاع ليس في نفس اللفظ ، بل مدلوله ، ونحن إنما نعبر عن اللفظ بالتسمية ، وإن كانت في اللغة فعل الواضع أو الذاكر ، ثم لا ننكر إطلاق الاسم على التسمية كما في الآية والحديث ، على أن الحق أن المسميات أيضا كثيرة ، للقطع بأن مفهوم العالم غير مفهوم القادر ، وكذا البواقي ، وإنما الواحد هو الذات المتصف بالمسميات.

__________________

(١) في (ب) كثيرا من (ما لا يخفى)

(٢) سورة الأعراف آية رقم ١٨٠

(٣) الحديث أخرجه البخاريّ في كتاب الدعوات ٦٩ وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الذكر ٢ باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها ٢٦٧٧ بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه زيادة من حفظها دخل الجنة وإن الله وتر يحب الوتر ، وفي رواية ابن عمر «من أحصاها» وأخرجه ابن ماجه في كتاب الدعاء.

٣٤٠