شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

وفيه نظر ، لأن الكلام فيمن وصل إليه (١) هذا الخبر ، وكلف التصديق به على التعيين وبعضهم بأن الإيمان في حق مثل أبي لهب هو التصديق بما عدا هذا الإخبار ، وهذا في غاية السقوط ، وقد يتمسك بمثل قوله تعالى حكاية : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٢) ودلالتها إما على الجواز فظاهر ، وإما على الوقوع فلأنه إنما يستفاد في (٣) العادة عما وقع في الجملة لا عما أمكن ولم يقع أصلا.

والجواب : أن المراد به العوارض التي لا طاقة بها لا التكاليف.

قال (وأما نفي الغرض)

(فمن أدلة القوم ما يفيد لزوم النفي كقولهم لو كان فاعلا لغرض كان ناقصا في ذاته مستكملا بغيره. وقولهم قد ثبت استناد الكل إليه ابتداء من غير أن يكون البعض غرضا وتبعا للبعض ، ومنها ما يفيد نفي اللزوم كقولهم لا بد من الانتهاء إلا ما يكون البعض لغرض قطعا للسلسلة ، وقولهم لا يعقل في مثل تخليد الكفار نفع لأحد ، وهذا أقرب تعليل بعض الأفعال سيما شرعية الأحكام مما يشهد به النصوص ، ويكاد يقع عليه الإجماع وبه يثبت القياس).

ما ذهب إليه الأشاعرة أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض ، يفهم من بعض أدلته عموم السلب ولزوم النفي بمعنى أنه يمتنع أن يكون شيء من أفعاله معللا بالغرض ، ومن بعضها سلب العموم ونفي اللزوم ،! بمعنى أن ذلك ليس بلازم في كل فعل فمن الأول وجهان :

أحدهما : لو كان الباري فاعلا لغرض لكان ناقصا في ذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض ، لأنه لا بد في الغرض من أن يكون وجوده أصلح للفاعل من عدمه ، وهو معنى الكمال ، لا يقال لعل الغرض يعود إلى الغير فلا تتم الملازمة. لأنا نقول : وحصول ذلك الغرض للغير لا بد أن يكون أصلح للفاعل من عدمه ، وإلا لم يصلح

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (إليه).

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٨٨.

(٣) في (أ) يستعاذ بدلا من (يستفاد).

٣٠١

غرضا لفعله ضرورة ، وحينئذ يعود الإلزام ، وردّ بمنع الضرورة ، بل يكفي مجرد كونه أصلح للغير.

وثانيهما : لو كان شيء من الممكنات غرضا لفعل الباري لما كان حاصلا بخلقه ابتداء بل بتبعية ذلك الفعل وتوسطه لأن ذلك (١) معنى الغرض واللازم باطل لما ثبت من استناد الكل إليه ابتداء من غير أن يكون البعض أولى بالغرضية والتبعية من البعض ، لا يقال معنى استناد الكل إليه ابتداء أنه الموجد بالاستقلال لكل ممكن لا أن يوجد ممكنا. وذلك الممكن ممكنا آخر على ما يراه الفلاسفة. وهذا لا ينافي توقف تحصيل البعض على البعض كالحركة على الجسم ، والوصول إلى المنتهى على الحركة ونحو ذلك ما لا يحصى. لأنا نقول الذي يصلح أن يكون غرضا لفعله ليس إلا إيصال اللذة إلى العبد ، وهو مقدور له تعالى من غير شيء من الوسائط. وردّ بعد تسليم انحصار الغرض فيما ذكر بأن إيصال بعض اللذات قد لا يمكن إلا بخلق وسائط كالإحساس ، ووجود ما يلتذ به ونحو ذلك.

ومن الثاني وجهان : أحدهما أنه لا بد من انقطاع السلسلة إلى ما يكون (٢) غرضا ، ولا يكون لغرض ، فلا يصح القول بلزوم الغرض وعمومه. وثانيهما أن مثل تخليد الكفار في النار لا يعقل فيه نفع لأحد ، والحق أن تعليل بعض الأفعال لا سيما (٣) شرعية الأحكام (٤) بالحكم والمصالح ظاهر كإيجاب الحدود ، والكفارات ، وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك ، والنصوص أيضا شاهدة بذلك كقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥) و (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) (٦) الآية (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) (٧) الآية ولهذا

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (ذلك).

(٢) في (ب) أن بدلا من (إلى).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (لا).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (الأحكام).

(٥) سورة الذاريات آية رقم ٥٦.

(٦) سورة المائدة آية رقم ٣٢.

(٧) سورة الأحزاب آية رقم ٣٧.

٣٠٢

كان القياس حجة إلا عند شرذمة لا يعتد بهم ، وأما تعميم ذلك بأن (١) لا يخلو فعل من أفعاله عن غرص فمحل بحث.

(قال (خاتمة) ذهبت المعتزلة إلى أن الغرض من التكليف.

هو التعريض للثواب فإنه لا يحسن بدون الاستحقاق الحاصل بالمشاق ويدل عليه وجوه :

الأول : مثل قوله تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) (٢) الآية.

الثاني : أنه لا غرض سواء إجماعا لأنهم لا يثبتون الغرض ونحن ننفى غيره فتعين.

الثالث : أن التكليف بالمشاق إضرار وهو بدون استحقاق ، ولا منفعة ظلم ، فيكون التعريض للمنفعة هو الجهة المحسنة.

وردّ بأن المترتب قد يكون فضلا من الله تعالى لا أثرا لما ترتب عليه ، وكيف يعقل استحقاق النعيم الدائم بمجرد كلمة وتصديق فيمن آمن فمات.

ولا نسلم الإجماع على أنه لا غرض سواه ، فقيل الابتلاء ، وقيل الشكر ، وقيل حفظ النظام ، وقيل أمر لا طريق إليه للعقل.

ولو سلم فلا يفيد كونه الغرض إلا بعد ثبوت لزوم الغرض ولم يثبت).

ولو بالنسبة إلى من مات على الكفر أو الفسق هو التعريض للثواب أعني منافع كثيرة دائمة خالصة مع السرور والتعظيم ، فإن ذلك لا يحسن بدون الاستحقاق ولا خفاء في أن للأفعال والتروك الشاقة تأثيرا في إثبات الاستحقاق بشهادة الآيات والأحاديث الدالة على ترتب الثواب. استحقاق التعظيم على تلك الأفعال والتروك ، (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٣) (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٤) (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ

__________________

(١) في (ب) بأنه بدلا من (بان).

(٢) سورة النساء آية رقم ١٣.

(٣) سورة الفتح آية رقم ١٧.

(٤) سورة آل عمران آية ١٩٥.

٣٠٣

أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١) إلى غير ذلك مما لا يحصى وبدلالة العقول.

أما أولا : فلأن الخالي عن الغرض عبث لا يصدر (٢) عن الحكيم (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (٣) ولا غرض سوى ذلك إجماعا لأنا لا (٤) نثبت غيره ، والمخالف لا يثبت الغرض أصلا.

وأما ثانيا : فلأن العبث (٥) على أمر شاق بطريق الاستعلاء بحيث لو خولف ترتب عليه العقاب إضرار وإضرار غير المستحق لا لمنفعة ظلم يستحيل على الله تعالى ، فالتعريض لتلك المنافع ، والتمكين من اكتساب السعادة الأبدية هي الجهة المحسنة للتكليف ولا يبطل حسنه بتفويت الكافر والفاسق ذلك على نفسه بسوء اختياره.

وأجيب : أولا بأنا لا نسلّم أنه (٦) لا يحسن الثواب والتعظيم بدون الاستحقاق. أمّا على أنه لا يقبح من الله تعالى شيء فظاهر ، وأما على التنزل والقول بالقبح العقلي ، فلأن إفادة منفعة الغير من غير ضرر للمفيد ، ولا لغيره محض الكرم والحكمة ، وغلطهم إما نشأ من عدم التفرقة (٧) بين الاستحقاق الحاصل بالأعمال ، وبين كون المفاد والمنعم به لائقا بحال المنعم عليه. فإن إفادة ما لا ينبغي كتعظيم الصبيان والبهائم لا يعود جودا ولا يستحسن عقلا ، فتوهموا أن إيصال النعيم إلى غير من عمل الصالحات من هذا القبيل. ولا خفاء في أن هذا إما هو على تقدير التكليف (٨) ، وإما على (٩) تقدير عدمه وكون الإنسان غير مكلف بأمر ولا نهي. فكيف يتصور قبح إفاضة سرور دائم عليه من غير لحوق ضرر بالغير.

__________________

(١) سورة النحل آية رقم ٩٧.

(٢) في (ب) لا يصور وهو تحريف.

(٣) سورة المؤمنون آية رقم ١١٥.

(٤) في (ب) بزيادة (لا).

(٥) في (أ) البعث وهو تحريف.

(٦) في (أ) ثم بدلا من (نسلم).

(٧) في (أ) غير بدلا من (عدم).

(٨) في (أ) تقرير بدلا من (تقدير).

(٩) سقط من (أ) لفظ (على).

٣٠٤

وثانيا : بأن ترتب الثواب على الأعمال لا يدل على أن لها تأثيرا في إثبات الاستحقاق لجواز أن يكون فضلا من الله تعالى دائرا مع العمل ، كيف وجميع الأفعال لا تفي لشكر القليل مما أفاض من النعماء ، وكيف (١) يعقل استحقاق ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر لمجرد تصديق القلب وإقرار (٢) اللسان فيمن آمن فمات في الحال. وبهذا يظهر أنه لا حاجة في إثبات الاستحقاق الى ما شرع من التكاليف على ما فصل في علم الفقه وعلم صفات القلب وأحوال الآخرة التي يسميه (٣) الإمام حجة الإسلام بعلم السر.

وثالثا : بأنه لو سلم لزوم الغرض فلا نسلم الإجماع على أنه لا غرض سوى ما ذكرتم. فقد قيل : الغرض الابتلاء ، وقيل شكر النعماء ، وقيل حفظ نظام العالم ، أو تهذيب الأخلاق ، ويحتمل أن يكون أمرا لا تهتدي إليه العقول وبهذا يندفع كونه ظلما لأن الإضرار لمثل تلك المنافع يكون محض العدل سيما ممن له ولاية الربوبية ، وكان التصرف في خاص ملكه.

ورابعا : بأن العمل والثواب على ما ذكرتم يشبه إجازة ولا بدّ فيها من رضى الأجير، وإن كان الأجر أضعاف الآلاف لأجرة (٤) المثل. والحق على أن القول بالقبح العقلي ، ووجوب تركه على الله تعالى يشكل الأمر في تكليف الكافر للقطع بأنه إضرار من جهة أنه إلزام أفعال شاقة لا يترتب عليه نفع له بل استحقاقا لعذاب دائم ، وإن كان مسببا عن سوء اختياره ولا خفاء في أن مثله يقبح بخلاف (٥) تكليف المؤمن حيث يترتب عليه منافع لا تحصى ، وكون تكليف الكافر لغرض التعريض والتمكين أي جعله في معرض الثواب ، ومتمكنا من اكتسابه ، إنما يحسن إذا لم يعلم قطعا أنه لا يكتسب الثواب ، وأن استحقاقه العقاب (٦) والوقوع في الهلاك الدائم كان منتفيا لو لا هذا التكليف.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (كيف).

(٢) سقط من (ب) لفظ (وإقرار).

(٣) في (ب) الذي بدلا من (التي).

(٤) في (ب) لأجرته بدلا من (أجرة).

(٥) في (ب) يصح بدلا من (يقبح).

(٦) في (أ) العتاب بدلا من (العقاب).

٣٠٥

وأجاب بعض المعتزلة بأن لنا أصلا جليلا تنحل به أمثال هذه الشبه ، وهو أنه قد يستقبح الفعل في (١) بادئ النظر مع أن فيه حكم ومصالح إذا ظهرت عاد الاستقباح استحسانا كما في قصة موسى مع الخضر عليهما‌السلام من خرق السفينة وقتل الغلام ، وكما في تعذيب الإنسان ولده أو عبده للتأديب والزجر عن بعض المنكرات. وعلى هذا ينبغي أن يحمل كل ما لا يدرك فيه جهة حسن من أفعال الباري تعالى وتقدس وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

حيث تعجب الملائكة من خلق آدام عليه‌السلام ، وبه تبين حسن خلق المؤذيات ، وإبليس وذريته ونحو ذلك.

قلنا : إذا تأملتم فهذا الأصل عليكم لا لكم والله أعلم.

__________________

(١) في (ب) العقل بدلا من (الفعل).

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٠.

٣٠٦

الفصل السّادس

في تفاريع الأفعال

وفيه مباحث :

١ ـ الهدى قد يراد به الامتداد

٢ ـ في اللطف والتوفيق

٣ ـ في الأجل والوقت

٤ ـ الرزق ما ساقه الله فانتفع به

٥ ـ السعر تقدير ما يباع الشيء

٦ ـ ادعاء المعتزلة في أمور تجب على الباري تعالى

٣٠٧
٣٠٨

المبحث الأول

الهدى قد يراد به الامتداد

(ويقابله الضلال. وقد يراد [به] الدلالة على الطريق الموصل ، ويقابله الإضلال ، وقد تستعمل الهداية في الدعوة إلى الحق وفي الإبانة وفي الإرشاد في الآخرة ، إلى طريق الجنة ، والإضلال في الإضاعة والإهلاك ، وقد يسندان مجازا إلى الأسباب.

وأما الخلاف في ما يدل على اتصاف الباري تعالى بالهداية والإضلال والطبع والختم (١) على قلوب الكفرة [المشركين] في طغيانهم ، فعندنا بمعنى خلق الهدى والضلال لما ثبت من أنه الخالق وحده. وعند المعتزلة ، الهداية الدلالة الموصلة إلى البغية أو البيان بمعنى نصب الأدلة أو منح الألطاف ، والإضلال الإهلاك والتعذيب أو التسمية والتلقيب بالضال ، أو منع الألطاف أو الإسناد مجاز ، وهذا مع ابتنائه على فاسد أصلهم يأباه ظاهر كثير من الآيات).

قد جرت العادة بتعقيب مسألة خلق الأعمال بمباحث الهدى والضلال (٢) والأرزاق والآجال ، ونحو ذلك ، فعقدنا لها فصلا وسميناه بفصل تفاريع الأفعال لابتناء عامة مباحثه على أنه تعالى هو الخالق لكل شيء ، وأنه لا قبح في خلقه وفعله ، وإن قبح المخلوق.

__________________

(١) الختم والطبع : مصدرا ختمت وطبعت ، وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم والطابع ، والثاني : الأثر الحاصل عن الشيء ومنه قوله تعالى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) البقرة آية ٧ وقال بعضهم : ختمه شهادته تعالى عليه أنه لا يؤمن وقوله تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) سورة يونس آية ٦٥ أي نمنعهم من الكلام.

(٢) الضلال والضل : ضد الهدى ، وضللت بعيري ، واضللته إذا كان مطلقا فمرّ ولم تدر أين أخذ وأضللت خاتمي وضل في الدين وهو ضال وضليل.

والضلال ينقسم قسمين : ضلال في العلوم النظرية كالضلال في معرفة الوحدانية ومعرفة النبوة ونحوهما المشار إليه بقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً).

وضلال في العلوم العملية كمعرفة الأحكام الشرعية.

راجع بصائر ذوي التمييز ج ٣ ص ٤٨١

٣٠٩

قال المبحث الأول : الهدى قد يكون لازما بمعنى الابتداء أي وجدان طريق توصل إلى المطلوب ويقابله الضلال أي فقدان الطريق الموصل ، وقد يكون متعديا بمعنى الدلالة على الطريق الموصل والإرشاد إليه ، ويقابله الإضلال بمعنى الدلالة على خلافه ، مثل أضلني فلان عن الطريق. وقد تستعمل الهداية في معنى الدعوة كقوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) وقوله تعالى (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (٢) أي دعوناهم إلى طريق الحق (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٣) أي على الاهتداء. وبمعنى الإثابة كقوله تعالى في حق المهاجرين والأنصار (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٤) وقيل معناه الإرشاد في الآخرة إلى طريق الجنة ، ويستعمل الإضلال في معنى الإضاعة والإهلاك كقوله تعالى (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٥) ومنه (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) (٦) أي هلكنا ، وقد يسندان مجازا إلى الأسباب كقوله تعالى (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٧) وكقوله تعالى حكاية (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً) (٨) وهذا كله مما ليس فيه كثير نزاع وأمّا الكلام في الآيات المشتملة على اتصاف الباري تعالى بالهداية والإضلال والطبع على قلوب الكفرة والختم والمد في طغيانهم ونحو ذلك كقوله تعالى (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٩) (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١٠) (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (١١) (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٢)

__________________

(١) سورة الشورى آية رقم ٥٢.

(٢) سورة فصلت آية رقم ١٧.

(٣) سورة فصلت آية رقم ١٧.

(٤) سورة محمد آية رقم ٥.

(٥) سورة محمد آية رقم ٤.

(٦) سورة السجدة آية رقم ١٠.

(٧) سورة الإسراء آية رقم ٩.

(٨) سورة إبراهيم آية رقم ٣٦.

(٩) سورة يونس آية رقم ٢٥ وقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل حيث ذكر يهدي بدلا من (يدعو).

(١٠) سورة البقرة آية رقم ٢٧٢.

(١١) سورة الأنعام آية رقم ١٢٥.

(١٢) سورة الأعراف آية رقم ١٧٨.

٣١٠

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) (١) (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (٢) (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٣) (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (٤) (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) (٥) (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) (٦) إلى غير ذلك. فهي عندنا راجعة إلى خلق الإيمان والاهتداء ، والكفر والضلال بناء على ما مرّ من أنه الخالق وحده خلافا للمعتزلة بناء على أصلهم الفاسد. أنه لو خلق فيهم الهدى (٧) والضلال لما صح منه المدح والثواب والذم والعقاب فحملوا الهداية على الإرشاد إلى طريق الحق بالبيان ، ونصب الأدلة أو الإرشاد في الآخرة إلى طريق الجنة ، والإضلال على الإهلاك ، والتعذيب أو التسمية والتثبيت (٨) والتلقيب بالضال أو ، الوجدان ضالا ولما ظهر على بعضهم أن بعض هذه المعاني تقبل التعليق بالمشيئة وبعضها لا يخص المؤمن دون الكافر ، وبعضها ليس مضافا إلى الله تعالى دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعض معاني الإضلال لا يقابل الهداية ، جعلوا الهداية بمعنى الدلالة الموصلة إلى النعيم (٩) والإضلال مع أنه فعل الشيطان مسندا إلى الله تعالى مجازا لما أنه بإقداره ، وتمكينه ، ولأن ضلالهم بواسطة ضربه المثل في (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) (١٠) أو بواسطة الفتنة التي هي الابتلاء والتكليف في (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) (١١) ونحن نقول : بل الهداية هي الدلالة على الطريق الموصل سواء كانت موصلة أم لا والعدول إلى المجاز ، إنما ليصح عند تعذر الحقيقة ، ولا تعذر. وبعض المواضع من كلام الله تعالى يشهد للمتأمل بأن إضافة الهداية والإضلال إلى الله تعالى ليست إلا بطريق الحقيقة والله الهادي.

__________________

(١) سورة الأعراف آية رقم ١٥٥.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٦.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٧.

(٤) سورة النساء آية رقم ١٥٥ وقد جاءت هذه الآية محرفة في أولها بزيادة (أي).

(٥) سورة الأنعام آية رقم ٢٥.

(٦) سورة البقرة آية رقم ١٥.

(٧) الهدى بضم الهاء وفتح الدال : الرشاد والدلالة يذكر ويؤنث قال تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) والمعنى ارشدنا وقيل : أي قدمنا إليه وقيل : ثبتنا عليه ، وقيل : وفقنا ، وقيل : ارزقنا ، وكلها أقوال متقاربة قال ابن عطية : الهداية في اللغة : الإرشاد لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد وكلها لو تأملت رجعت إليه.

(٨) في (ب) والتثبيت بدلا من (التلقيب).

(٩) في (ب) النعيم بدلا من البغية.

(١٠) سورة البقرة آية رقم ٢٦.

(١١) سورة الأعراف آية ١٥٥.

٣١١

المبحث الثاني

اللطف والتوفيق

قال (المبحث الثاني اللطف والتوفيق)

(والعصمة خلق قدرة الطاعة ، والخذلان خلق قدرة المعصية فالموفق لا يعصي وبالعكس وقيل العصمة (١) أن لا يخلق الله تعالى في العبد الذنب ، وقيل خاصية يمتنع بسببه صدور الذنب عنه ، وقالت الفلاسفة ملكة تمنع الفجور مع القدرة عليه ، وقالت المعتزلة اللطف ما يختار المكلف عنده الطاعة تركا أو إتيانا أو يقرب منهما مع تمكنه في الحالين ، ويسميان المحصل والمقرب ، ويختص المحصل للواجب باسم التوفيق ، وترك القبيح باسم العصمة ، وقيل : التوفيق : خلق لطف يعلم الله أن العبد يطيع عنده. والخذلان منع اللطف ، والعصمة لطف لا داعي معه إلى ترك الطاعة ، ولا إلى ارتكاب المعصية مع القدرة عليهما. قالوا : واللطف يختلف باختلاف المكلفين ، وليس في معلومه ما هو لطف في حق الكل ، ومن هاهنا حملوا المشيئة في مثل قوله تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٢) على مشيئة قسر وإلجاء).

خلق قدرة الطاعة ، والخذلان خلق قدرة المعصية ، والعصمة هي التوفيق بعينه ، فإن عممت كانت توفيقا عاما ، وإن خصصت كانت توفيقا خاصا كذا ذكره إمام الحرمين (٣) وقال : ثم الموفق لا يعصي إذ لا قدرة له على المعصية وبالعكس ،

__________________

(١) العصمة : المنع يقال : عصمه الطعام أي منعه من الجوع ، والعصمة أيضا الحفظ ، وقد عصمه يعصمه بالكسر ، عصمه فانعصم ، واعتصم بالله أي امتنع بلطفه من المعصية ، وقوله تعالى (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) يجوز أن يراد لا معصوم أي لا ذا عصمة فيكون فاعل بمعنى مفعول ، والمعصم موضع السوار من الساعد ، واعتصم بكذا واستعصم به إذا تقوى وامتنع ، وفي المثل : كن عصاميا ولا تكن عظاميا يريدون به قوله :

نفس عصام سودت عصاما

وعلمته الكرّ والإقداما

(٢) سورة السجدة آية رقم ١٣.

(٣) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويين ، أبو المعالي ركن الدين الملقب بإمام ـ

٣١٢

ومبناه أن القدرة مع الفعل وليست نسبته إلى الطرفين على السواء. ومن أصحابنا من قال : العصمة أن لا يخلق الله تعالى في العبد الذنب.

وقالت الفلاسفة هي ملكة تمنع الفجور مع القدرة عليه. وقيل خاصية في نفس الشخص أو بدنه يمتنع بسببه صدور الذنب عنه.

(ورد بأنه لا يستحق المدح بترك الذنب ولا الثواب عليه) (١) ولا التكليف به.

وفي كلام المعتزلة أن اللطف ما يختار المكلف عنده الطاعة تركا أو إتيانا (٢) أو يقرب منهما مع تمكنه في الحالين ، فإن كان مقربا من الواجب أو ترك القبيح يسمى لطفا مقربا وإن كان محصلا له فلطفا محصلا ، ويخص المحصل للواجب باسم التوفيق ، والمحصل لترك القبيح باسم العصمة ، ومنهم من قال : التوفيق خلق اللطف بعلم الله تعالى أن العبد يطيع عنده ، والخذلان منع اللطف ، والعصمة لطف لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة ، ولا إلى ارتكاب المعصية مع القدرة عليهما ، واللطف هو الفعل الذي يعلم الله تعالى أن العبد يطيع عنده.

__________________

ـ الحرمين ، أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي ، ولد في جوين (من نواحي نيسابور / عام ٤١٩ ه‍ ورحل إلى بغداد ، فمكة حيث جاور أربع سنين ، وذهب إلى المدينة فأفتى ودرس ، جامعا طرق المذاهب ، ثم عاد إلى نيسابور فبنى له نظام الملك المدرسة النظامية فيها ، وكان يحضر دروسه أكابر العلماء له مصنفات كثيرة منها (غياث الأمم والنيات الظلم) (والشامل في أصول الدين) وغير ذلك توفي عام ٤٧٨ ه‍.

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) في (ب) أو إثباتا.

٣١٣

المبحث الثالث

حقيقة الأجل

قال (المبحث الثالث الأجل)

(الوقت وشاع في الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيوان فيه وهو واحد والموت من فعل الله تعالى ، وقد يكون عقيب فعل العبد بطريق جري العادة ، والمقتول ميت بأجله ، ولو لم يقتل لم يقطع بموته ولا حياته. وقال أبو الهذيل (١) يموت البتة في ذلك الوقت ، وقال كثير من المعتزلة : بل يعيش البتة إلى أمد هو أجله. لنا مثل قوله تعالى (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢) وأنه إذا لم يعلم الأجل لم يعلم الموت ولا الحياة. وقوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) (٣) معناه من عمر معمر لا من ذلك المعمر وزيادة البر في العمر مع أن الخبر من باب الآحاد يحتمل كثرة الخير والبركة ، وتجويز تأخر الموت ليس تغييرا لعلم الله ، بل تقريرا لأن عدم القتل إنما يتصور على تقدير العلم بذلك ، ووجوب الجزاء على القاتل لما اكتسبه من الفعل ، وارتكبه من النهي لا لما في المحل من الموت).

في اللغة الوقت ، وأجل الشيء يقال لجميع مدته ولآخرها كما يقال أجل (٤) هذا الدين شهران أو آخر الشهر ، وفسر قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (٥) بعضهم بأجل الموت وأجل القيمة ، وبعضهم بما بين أن يخلق الله (٦)

__________________

(١) هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي ، مولى عبد القيس أبو الهذيل العلاف ، من أئمة المعتزلة ، ولد في البصرة عام ١٣٥ واشتهر بعلم الكلام. قال المأمون : أطل أبو الهذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام ، له مقالات في الاعتزال ، ومجالس ومناظرات ، وكان حسن الجدل قوي الحجة ، سريع الخاطر ، كف بصره في آخر عمره ، وتوفي بسامرا عام ٢٣٥ ه‍ له كتب كثيرة منها كتاب سماه (ميلاس) على اسم مجوس أسلم على يديه.

راجع وفيات الأعيان ١ : ٤٨٠ ولسان الميزان ٥ : ٤١٣ ومروج الذهب ٢ : ٢٩٨

(٢) سورة الأعراف آية رقم ٣٤

(٣) سورة فاطر آية رقم ١١

(٤) في (ب) أصل بدلا من (أجل)

(٥) سورة الأنعام آية رقم ٢

(٦) في (ب) إلى بدلا من (الله) وهو تحريف

٣١٤

الموت ، وما بين الموت والبعث ، ثم شاع استعماله في آخر مدة الحياة ، فلذا يفسر بالوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيوان فيه ، ثم من قواعد الباب أن المقتول ميت بأجله أي موته كائن في الوقت الذي علم الله تعالى في الأزل وقدر حاصل بإيجاد الله تعالى من غير صنع للعبد مباشرة ، ولا توليدا ، وأنه لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت ، وأن لا يموت من غير قطع بامتداد العمر ، ولا بالموت بدل القتل ، وخالف في ذلك طوائف من المعتزلة. فزعم الكعبي (١) أنه ليس بميت لأن القتل فعل العبد ، والموت لا يكون إلا فعل الله تعالى أي مفعوله ، وأثر صنعه.

وردّ بأن القتل قائم بالقاتل حال فيه لا في المقتول ، وإنما فيه الموت ، وانزهاق الروح الذي هو إيجاد الله تعالى عقيب القتل بطريق جري العادة ، وكأنه يريد بالقتل المقتولية ، ويجعلها نفس بطلان الحياة ، ويخص الموت بما لا يكون على وجه القتل على ما يشعر به قوله تعالى (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) (٢) الآية لكن لا خفاء في أن المعنى مات حتف أنفه ، وأن مجرد بطلان الحياة موت ، ولهذا قيل : إن في المقتول معنيين قتلا هو من فعل القاتل ، وموتا هو من فعل الله تعالى. وزعم كثير منهم أن القاتل قد قطع عليه الأجل ، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لو لا القتل ، وزعم أبو الهذيل أنه لو لم يقتل لمات البتة في ذلك الوقت ، لنا الآيات والأحاديث الدالة على أن كل هالك مستوف أجله من غير تقدم ولا تأخر ، ثم على تقدير عدم القتل ، لا قطع بوجود الأجل وعدمه ، فلا قطع بالموت ولا الحياة. فإن عورض بقوله تعالى (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا

__________________

(١) هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبيّ من بني كعب ، البلخيّ الخراسانيّ أبو القاسم ، أحد أئمة المعتزلة ، كان رأس طائفة منهم تسمى الكعبية وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها ، وهو من أهل بلخ أقام ببغداد مدة طويلة ، وتوفي ببلخ عام ٣١٩ ه‍ له كتب منها «التفسير» وتأييد مقالة أبي الهذيل ، وأدب الجدل ، ومفاخر خراسان ، والطعن على المحدثين ، انثى عليه أبو حيان التوحيدي ، وقال الخطيب البغداديّ صنف في الكلام كتابا كثيرة وانتشرت كتبه في بغداد.

راجع تاريخ بغداد ٩ : ٣٨٤ المقريزي ٢ : ٣٤٨ ووفيات الأعيان ١ : ٢٥٢

(٢) سورة آل عمران آية رقم ١٤٤

٣١٥

فِي كِتابٍ) (١) وقوله عليه‌السلام «لا يزيد في العمر إلا البر» (٢).

أجيب : بأن المعنى ولا ينقص من عمر معمر على أن الضمير لمطلق المعمر. لا لذلك المعمر بعينه ، كما يقال لي درهم ونصفه أي لا ينقص عمر شخص من أعمار إخوانه (٣) ومبالغ مدد أمثاله. وأما الحديث فخبر واحد فلا يعارض القطعي.

وقد يقال المراد بالزيادة والنقصان بحسب الخير والبركة. كما قيل ذكر الفتى عمره الثاني أو بالنسبة إلى ما أثبتته الملائكة في صحيفتهم فقد يثبت فيها الشيء مطلقا ، وهو في علم الله تعالى مقيد ثم يؤول إلى موجب علم الله تعالى وإليه الإشارة بقوله تعالى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٤) أو بالنسبة إلى ما قدر الله تعالى من عمره لو لا أسباب الزيادة والنقصان ، وهذا يعود إلى القول بتعدد الأجل ، والمذهب أنه واحد.

تمسك الكثيرون بأنه لو مات بأجله لم يستحق القاتل دما ولا دية أو قصاصا ولا ضمانا في ذبح شاة الغير لأنه لم يقطع عليه أجلا ، ولم يحدث بفعله أمرا لا مباشرة ولا توليدا ، وبأنه قد يقتل في الملحمة ألوف تقضي العادة بامتناع موتهم في ذلك الزمان. والجواب عن الأول : أن استحقاق الذم والعقوبة ليس بما ثبت في المحل من الموت ، بل بما اكتسبه القاتل وارتكبه من الفعل المنهي سيما عند ظهور البقاء وعدم القطع بالأجل حتى لو علم موت الشاة بإخبار الصادق أو ظهورا لأمارات (٥) لم يضمن عند بعض الفقهاء. وعن الثاني : منع قضاء العادة بل قد يقع مثل ذلك بالوباء والزلزلة والغرق والحرق. تمسك أبو الهذيل بأنه لو لم يمت لكان القاتل قاطعا لأجل قدره الله تعالى مغيرا لأمر علمه وهو محال.

__________________

(١) سورة فاطر آية رقم ١١

(٢) الحديث أخرجه ابن ماجه في المقدمة ١٠ باب في القدر ٩٠ حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزيد في العمر إلا البر ، ولا يرد القدر إلا الدعاء وإن الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها».

في الزوائد سألت شيخنا أبا الفضل القرافي عن هذا الحديث. فقال : حسن وأخرجه الترمذي في كتاب القدر ٦ وأحمد بن حنبل ٥٠٢ ، ٥ ، : ٢٧٧ ، ٢٨٠ ، ٢٨٢ (حلبي).

(٣) في (ب) أضرابه بدلا من (إخوانه).

(٤) سورة الرعد آية رقم ٣٩.

(٥) سقط من (أ) كلمه (ظهورا).

٣١٦

والجواب : أن عدم القتل إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل وحينئذ لا نسلّم لزوم المحال. وقد يجاب بأنه لا استحالة (١) في قطع الأجل المقدر الثابت لو لا القتل ، لأنه تقرير للمعلوم لا تغيير ، فإن قيل : إذا كان الأجل زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى كان المقتول ميتا بأجله (٢) قطعا وإن قيد بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك قطعا من غير تصور خلاف ، وكان الخلاف لفظي على ما يراه الأستاذ وكثير من المحققين. قلنا : المراد بأجله المضاف إلى (٣) زمان بطلان حياته بحيث لا محيص عنه ، ولا تقدم ، ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٤) ومرجع الخلاف إلى أنه : هل يتحقق في حق المقتول (٥) مثل ذلك أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل فإلى وقت هو أجل له.

فإن قيل : فيلزم على الأول القطع بالموت وإن لم يقتل (٦). وعلى الثاني : القطع بامتداد العمر إلى أمد ، وقد قال بجواز الأمرين البعض من الكل (٧) من الفريقين.

أجيب : بمنع لزوم الثاني لجواز أن لا يكون الوقت الذي هو الأجل متراخيا ، بل قد يكون (٨) متصلا بحين القتل أو نفسه وهذا ظاهر ، وأما الأول فيمكن دفعه بأن عدم قتل المقتول سيما مع تعلق علم الله تعالى ، بأنه يقتل أمر مستحيل لا يمتنع لمن (٩) يستلزم محالا هو انقلاب الأجل وإن قدر معه تعلق العلم بأنه لا يقتل ، فانتفاء القطع يكون ذلك الوقت هو الأجل ظاهر ، لأن القطع بذلك ، إنما كان في جهة القطع بالقتل ، ثم الأجل عندنا واحد. وعند من جعل المقتول ميتا بأجله مع القطع ، فإنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد آخر هو أجله اثنان. وعند الفلاسفة للحيوان أجل طبيعي بتحلل رطوبته ، وانطفاء حرارته ، الغريزتين وآجال اخترامية بحسب (١٠) أسباب لا تحصى من الأمراض والافات.

__________________

(١) في (ب) بأن الاستحالة بدلا من (بأنه لا استحالة)

(٢) سقط من (أ) لفظ (ميتا).

(٣) سقط من (أ) لفظ (إلى)

(٤) سورة الأعراف آية رقم ٣٤

(٥) في (ب) حق المقتول بدلا من (المعقول)

(٦) في (ب) من بدلا من (وإن لم)

(٧) سقط من (ب) لفظ (الكل)

(٨) سقط من (أ) لفظ (قد)

(٩) في (أ) من بدلا من (لمن)

(١٠) في (ب) يحتسب بدلا من (بحسب)

٣١٧

المبحث الرابع

في الرزق

قال (المبحث الرابع الرزق)

(ما ساقه الله إلى الحيوان فانتفع به ، فكل يستوفي رزقه ، ولا يأكل أحد رزق أحد وقيل : لينتفع به ، وقد يختص بالمأكول ، وقيده المعتزلة بأن لا يكون لأحد منعه ليخرج الحرام جريا على أصلهم في القبح فمن لم يأكل طول عمره سوى الحرام لم يكن مرزوقا. لنا النصوص الدالة على ضمان الأرزاق (١).

قالوا : فلم يدفع عنه ويذم ويعاقب عليه ويمنع من السعي في تحصيله.

قلنا : لارتكابه المنهي واكتسابه القبيح).

في الأصل مصدر سمي به المرزوق وهو ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان مما ينتفع به ، فيدخل رزق الإنسان والدواب وغيرهما من المأكول وغيره ، ويخرج ما لم ينتفع به وإن كان السوق للانتفاع لأنه يقال فيمن ملك شيئا ، وتمكن من الانتفاع به ، ولم ينتفع إن ذلك لم يصر رزقا له ، وعلى هذا يصح أن كل أحد يستوفي رزقه ولا يأكل أحد رزق غيره ، ولا الغير رزقه بخلاف ما إذا اكتفى بمجرد صحة الانتفاع والتمكن من ذلك على ما يراه المعتزلة وبعض أصحابنا. نظر إلى أن أنواع الأطعمة والثمرات تسمى رزقا (٢) ، ويؤمر بالإنفاق من الأرزاق ، ولهذا اختاروا في تفسير المعنى المصدري ، التمكن من الانتفاع وفي العيني ما يصح به الانتفاع. ولم يكن لأحد منعه احترازا عن الحرام ، وعما أبيح للضيف مثلا قبل أن يأكل. ومن فسره بما ساقه الله تعالى إلى العبد فأكله لم يجعل غير المأكول رزقا عرفا ، وإن صح لغة

__________________

(١) قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها). سورة هود آية رقم ٦.

وقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ). سورة العنكبوت آية رقم ٦٠.

(٢) في (ب) أرزاقا من (رزقا).

٣١٨

حيث يقال : رزقه الله ولدا صالحا. وأراد بالعبد ما يشمل البهائم تغليبا ، وتفسيره بالملك ليس بمطرد ولا منعكس لدخول ملك الله تعالى وخروج رزق الدواب ، بل العبيد والإماء مع الاختلال (١) بما في مفهومه من الإضافة إلى الرازق ، اللهم الا أن يقال المراد المملوك أي المجعول ملكا بمعنى الإذن في التصرف الشرعي فيه معنى الإضافة ، ولا يشمل ملك الله تعالى ويدخل رزق غير الإنسان بطرق التغليب. لكن لا بد مع هذا من قيد الانتفاع. وحينئذ فخروج ملك الله تعالى ظاهر ، ومن فسره بالانتفاع أراد (٢) المنتفع به ، أو أخذ الرزق مصدرا من المبني للمفعول (٣) ، أي الارتزاق ، ولما كان الرزق مضافا إلى الرازق وهو الله تعالى وحده ، لم يكن الحرام المنتفع به رزقا عند المعتزلة لقبحه. وقد عرفت فساد أصلهم ، ولزمهم أن من لم يأكل طول عمره إلا الحرام لم يرزقه الله تعالى وهو باطل لقوله تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٤).

وأجيب بأنه تعالى قد ساق إليه كثيرا من المباح إلا أنه أعرض عنه لسوء اختياره على أنه منقوض بمن مات ولم يأكل حلالا ولا حراما ، فجوابكم جوابنا. قالوا لو كان الحرام رزقا لما جاز دفعه عنه (٥) ، ولا الذم ولا العقاب عليه (٦).

قلنا : ممنوع وإنما يصح لو لم يكن مرتكبا للمنهي عنه (٧) مكتسبا للقبح من الفعل سيما في مباشرة الأسباب لأن السعي في تحصيل الرزق قد يجب وذلك عند الحاجة ، وقد يستحب ، وذلك عند قصد التوسعة على نفسه وعياله ، وقد يباح وذلك عند قصد التكثير من غير ارتكاب منهي ، وقد يحرم وذلك عند ارتكاب المنهي كالغصب والسرقة والربا.

__________________

(١) في (ب) الاحلال بدلا من (الاختلال)

(٢) في (ب) أو بدلا من (أراد)

(٣) في (ب) للمعقول بدلا من (المفعول)

(٤) سورة هود آية رقم ٦

(٥) سقط من (ب) لفظ (عنه)

(٦) سقط من (ب) لفظ (ولا)

(٧) سقط من (ب) لفظ (عنه)

٣١٩

المبحث الخامس

السعر تقدير ما يباع به الشيء

قال (المبحث الخامس السعر تقدير ما يباع به الشيء).

السعر تقدير ما يباع به الشيء ويكون غلاء ورخصا بأسباب من الله تعالى ، ولو كان البعض من اكتساب العباد ، فالمسعر هو الله تعالى وحده خلافا للمعتزلة.

طعاما كان أو غيره ، ويكون غلاء ورخصا باعتبار الزيادة على المقدار الغالب في ذلك المكان والأوان والنقصان عنه ، ويكونان بما لا اختيار (١) فيه للعبد كتقليل ذلك الجنس ، وتكثير الرغبات فيه ، وبالعكس وبما له فيه (٢) اختيار (٣) كإخافة السيل (٤) ، ومنع التبايع ، وادخار الأجناس ومرجعه أيضا إلى الله تعالى ، فالمسعّر (٥) هو الله وحده (٦) خلافا للمعتزلة زعما منهم أنه قد يكون من أفعال العباد تولدا كما مرّ ومباشرة كالمواضعة على تقدير الأثمان.

__________________

(١) في (ب) احتيال بدلا من (ختيار)

(٢) سقط من (ب) لفظ (فيه)

(٣) في (ب) احتيال بدلا من (ختيار)

(٤) في (ب) البل بدلا من (السيل).

(٥) في (ب) المقرب بدلا من (المسعر)

(٦) أخرج ابن ماجه في كتاب التجارات ٢٧ باب من كره أن يسعر ٢٢٠٠ حدثنا حجاج حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة ، وحميد وثابت عن أنس بن مالك قال : «غلا السعر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله قد علا السعر فسعر لنا. فقال : إن الله هو المسعر القابض ، الباسط ، الرزاق ، إني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال ...».

٣٢٠