شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

الثامن : قوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (١) جعل المنهيات مكروهة فلا تكون مرادة ، لأن الإرادة والكراهة ضدان ، ورد بعد تسليم كونه إشارة إلى المنهيات الواقعة ليلزم كونها مرادة بأن المعنى أنها مكروهة عند الناس وفي مجال العادات لا عند الله فيلزم المحال.

وأما جعل المكروه مجازا عن المنهي فلغو من الكلام لكون ذلك إشارة إلى المنهي.

__________________

(١) سورة الإسراء آية رقم ٣٨.

٢٨١

المبحث الثالث

لا حكم للعقل بالحسن والقبح

(قال : المبحث الثالث.

لا حكم للعقل بالحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح والذم عند الله تعالى ، خلافا للمعتزلة ، وأما بمعنى صفة الكمال والنقص أو ملاءمة الغرض أو الطبع وعدمها فلا نزاع. فعندنا الحسن بالأمر ، والقبح بالنهي ، بل عينهما وعندهم الأمر للحسن ، والنهي للقبح حتى لو لم يدركا بالعقل ضرورة أو نظرا كان الشرع كاشفا لا مبينا).

في الحسن والقبح جعل هذا من مباحث أفعال الباري تعالى مع أنها لا تتصف بالحسن والقبح بالمعنى الذي يذكره. أعني المأمور به والنهي عنه نظرا إلى أنهما بخلقه ، ومن آثار فعله ، وإلى أنهما بتفسير الخصم يتعلقان بأفعال الباري إثباتا ونفيا. وقد اشتهر أن الحسن والقبح عندنا شرعيان وعند المعتزلة عقليان ، وليس النزاع في الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل ، وبمعنى الملاءمة للغرض وعدمها كالعدل والظلم ، وبالجملة كل ما يستحق المدح أو الذم في نظر العقول ومجاري العادات ، فإن ذلك يدرك بالعقل. ورد الشرع أم لا ، وإنما النزاع في الحسن والقبح عند الله تعالى بمعنى استحقاق فاعله في حكم الله تعالى المدح أو الذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا. ومبنى التعرض للثواب والعقاب على أن الكلام في أفعال العباد ، فعند ذلك بمجرد الشرع بمعنى أن العقل لا يحكم بأن الفعل حسن أو قبيح في حكم الله تعالى ، بل ما ورد الأمر به فهو حسن ، وما ورد النهي عنه فقبيح من غير أن يكون للعقل جهة محسنة أو مقبحة في ذاته ولا بحسب جهاته واعتباراته حتى لو أمر بما نهى عنه صار حسنا وبالعكس وعندهم للفعل (١) جهة محسنة أو مقبحة في حكم الله

__________________

(١) في (ب) للعقل بدلا من (للفعل).

٢٨٢

تعالى ، يدركها العقل بالضرورة كحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضار ، أو بالنظر كحسن الكذب النافع ، وقبح الصدق الضار ، أو بورود الشرع ، كحسن صوم يوم عرفة ، وقبح صوم يوم عيد.

فإن قيل : فأي فرق بين المدعيين في (١) هذا القسم.

قلنا : الأمر والنهي عندنا من موجبات الحسن والقبح بمعنى أن الفعل أمر به فحسن ، ونهى عنه فقبح ، وعندهم من مقتضياته بمعنى أنه حسن فأمر به ، أو قبح فنهى عنه ، فالأمر والنهي إذا وردا كشفا عن حسن وقبح سابقين حاصلين للفعل لذاته أو لجهاته ، ثم لكل من الفريقين تعريفات للحسن والقبيح يتناول بعضها فعل الباري ، وفعل غير المكلف ، والمباح دون البعض وقد بينا تفصيل ذلك في شرح التنقيح ، وفوائد شرح مختصر الأصول.

__________________

(١) في (ب) المذهبين بدلا من (المدعيين).

٢٨٣

أدلة أهل السنة

(قال لنا :

من السمع قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ومن العقل وجوه :

الأول : لو حسن الفعل أو قبح لذاته لما اختلف حسنا وقبحا ، كالقتل حدا وظلما ، والضرب تأديبا وتعذيبا ، والكذب أو الصدق إنقاذا وإهلاكا.

الثاني : لو كانا بالذات لما اجتمعا كما في أخبار من قال لأكذبن غدا أو هذا الذي تكلم به كاذب.

الثالث : العبد لا يستقل بفعله لما سبق وعندهم لا مدح ولا ذم من الله تعالى إلا على ما يستقل العبد به.

وأما الاستدلال بأنهما لو كانا حقيقين ، وهما ثبوتيان لكونهما مقتضى اللاحسن واللاقبح العدميين لزم من اتصاف الفعل بهما قيام المعنى بالمعنى ، بل قيام الموجود بالمعدوم لأنهما لكونهما الداعي والصارف يتقدمان الفعل. وبأنه إذا اختلفت الأفعال حسنا وقبحا بالذات ، أو الاعتبار ويبطل اختيار الباري في شرعية الأحكام وتعيين الحلال والحرام فضعيف).

تمسك أصحابنا بوجوه يدل بعضها على أن الحسن والقبح ليسا لذات الفعل ولا لجهات واعتبارات فيه ، وبعضها على أنهما ليسا لذاته خاصة.

الأول : لو حسن الفعل أو قبح عقلا لزم تعذيب تارك الواجب ، ومرتكب الحرام ، سواء ورد الشرع أم لا بناء على أصلهم في وجوب تعذيب من استحقه إذا

__________________

(١) سورة الإسراء آية رقم ١٥.

٢٨٤

مات غير تائب واللازم باطل لقوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١).

الثاني : لو كان الحسن والقبح بالعقل لما كان شيء من أفعال العباد حسنا ولا قبيحا عقلا ، واللازم باطل باعترافكم. وجه اللزوم أن فعل العبد إما اضطراري ، وإما اتفاقي. ولا شيء منهما بحسن ولا قبيح عقلا.

اما الكبرى فبالاتفاق ، وأما الصغرى فلأن العبد إن لم يتمكن من الترك فذاك ، وإن تمكن فإن لم يتوقف الفعل على مرجح ، بل صدر عنه تارة ، ولم يصدر أخرى بلا تجدد أمر كان اتفاقيا على أنه يفضي إلى الترجح بلا مرجح ؛ وفيه انسداد باب إثبات الصانع ، وإن توقف فذلك المرجح إن كان من العبد ، فينقل الكلام إليه ويتسلسل ، وإن لم يكن فمعه إن لم يجب الفعل ، بل صح الصدور واللاصدور ، عاد الترديد ولزم المحذور ، وإن وجب فالفعل اضطراري والعبد مجبور.

واعترض بأن المرجح هو الإرادة التي شأنها الترجيح والتخصيص ، وصدور الفعل معه ، عندنا على سبيل الصحة دون الوجوب إلا عند أبي الحسين.

ولو سلم فالوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ولا يوجب الاضطرار المنافي للحسن وصحة التكليف.

وأجيب أنه قد ثبت بالدليل لزوم الانتهاء إلى مرجح لا يكون من العبد ، ويجب معه الفعل ، ويبطل استقلال العبد ، ومثله لا يحسن ولا يقبح ، ولا يصح التكليف به عندهم وأما الاعتراض بأنه استقلال في مقابلة الضرورة ، ومنقوض بفعل الباري فقد عرفت جوابه.

الثالث : لو كان قبح الكذب لذاته لما تخلف عنه في شيء من الصور ضرورة ، واللازم باطل فيما إذا (٢) تعين الكذب ، لإنقاذ نبي من الهلاك ، فإنه يجب قطعا فيحسن ، وكذا كل فعل يجب تارة ، ويحرم أخرى كالقتل ، والضرب حدا وظلما.

__________________

(١) سورة الإسراء آية رقم ١٥.

(٢) في (أ) بزيادة (إذا).

٢٨٥

واعترض بأن الكذب في الصورة المذكورة باق على قبحه إلا إذا (١) ترك إنجاء النبي أقبح منه ، فيلزم ارتكاب أقل القبيحين تخلصا عن ارتكاب الأقبح ، فالواجب الحسن هو الإنجاء لا الكذب. وهذا إذا سلمنا عدم إمكان التخليص بالتعريض وإلا ففي المعاريض مندوحة عن الكذب (٢).

والجواب : أن هذا الكذب لما تعين سببا وطريقا إلى الإنجاء الواجب كان واجبا فكان حسنا. وأما القتال (٣) ومحصله (٤) الضرب حدا فأمرهما ظاهر.

الرابع : لو كان الحسن والقبح ذاتيين لزم اجتماع المتنافيين في إخبار من قال لأكذبن غدا. لأنه إما صادق فيلزم لصدقه حسنه ولاستلزامه الكذب في الغد قبحه ، وإما كاذب فيلزم لكذبه قبحه ، ولاستلزامه ترك الكذب في الغد حسنه ، وقد يقرر اجتماع المتنافيين في اخبار الغدي كاذبا ، فإنه لكذبه قبيح ، ولاستلزامه صدق الكلام الأول حسن أو لأنه إما حسن فلا يكون القبح ذاتيا للكذب ، وإما قبيح فيكون تركه حسنا مع استلزامه كذب الكلام الأول وهو قبيح ، ومبني الاستلزام على انحصار الأخبار الغدي في هذا (٥) الواحد. وقد يقرر بأنه إما صادق ، وإما كاذب ، وأيا ما كان يلزم اجتماع الحسن والقبح فيه ، ومبنى الكل على أن ملزوم الحسن حسن ، وملزوم القبيح قبيح ، وأن كل حسن أو قبح ذاتي ، ويمكن تقرير الشبهة بحيث يجتمع الصدق والكذب في كلام واحد ، فيجتمع الحسن والقبح ، وذلك إذا اعتبرنا قضية يكون مضمونها الإخبار عن نفسها بعدم الصدق ، فيتلازم فيها الصدق والكذب ، كما تقول هذا الكلام الذي أتكلم به الآن (٦) ليس بصادق ، فإن صدقها يستلزم عدم صدقها

__________________

(١) في (ب) إن بدلا من (إذا).

(٢) الحديث رواه البخاريّ في باب الأدب رقم ١١٦ ، والمعاريض من التعريض خلاف التصريح ، ومندوحة ، فسحة ومتسع. وأخرجه الطبريّ في التهذيب والطبرانيّ في الكبير ورجاله ثقات ، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعا ، وأخرجه أبو بكر بن كامل في فوائده والبيهقيّ في الشعب من طريقه.

(٣) في (ب) القتل بدلا من (القتال).

(٤) في (أ) بزيادة (ومحصله).

(٥) في (أ) بزيادة (هذا).

(٦) في (أ) بزيادة لفظ (الآن).

٢٨٦

وبالعكس ، وقد يورد ذلك في صورة كلام غدي وأمسي ، فيقال الكلام الذي أتكلم به غدا ليس بصادق أو لا شيء مما أكلم به غدا بصادق خارجية ، ثم يقتصر في الغد على قوله ذلك الكلام الذي تكلمت به أمس صادق ، فإن صدق كل من الكلام الغدي والأمسي يستلزم عدم صدقهما وبالعكس ، وهذه مغلطة تحير في حلها عقول العقلاء وفحول الأذكياء، ولهذا سميتها مغلطة جذر الأصم (١) ، ولقد تصفحت الأقاويل فلم أظفر بما (٢) يروي الغليل (٣) ، وتأملت كثيرا ، فم يظهر إلا أقل من القليل (٤) ، وهو أن الصدق أو الكذب كما يكون حالا للحكم أي للنسبة الإيجابية أو السلبية على ما هو اللازم في جميع القضايا ، قد يكون حكما أي محكوما به محمولا على الشيء بالاشتقاق كما في قولنا هذا صادق ، وذاك كاذب ، ولا يتناقضان إلا إذا اعتبرا حالين لحكم واحد ، أو حكمين على موضوع واحد بخلاف ما إذا اعتبر أحدهما حالا للحكم ، والآخر حكما لاختلاف المرجح اختلافا جليا. كما في قولنا : السماء تحتنا .. صادق أو كاذب أو خفيا .. كما في الشخصية التي هي مناط المغلطة ، فأما إذا فرضناها كاذبة لم يلزم إلا صدق نقيضها ، وهو قولنا هذا الكلام صادق ، فيقع (٥) الصدق حكما للشخصية لا حالا لحكمها ، وإنما حال حكمها الكذب على ما فرضنا ، والصدق حال للنسبة الإيجابية التي هي حكم النقيض وحكم للشخصية التي هي الأصل ، فلم يجتمعا حالين لحكم ولا حكمين لموضوع وكذا إذا فرضناها صادقة ، وحينئذ فلعل المجيب يمنع تناقض الصدق والكذب المتلازمين بناء على رجوع أحدهما إلى حكم الشخصية والآخر إلى موضوعها. لكن الصواب عندي في هذه القضية ترك الجواب والاعتراف بالعجز عن حل الإشكال.

الخامس : لو كان الفعل حسنا أو قبيحا لذاته لزم قيام العرض بالعرض وهو باطل باعتراف الخصم وبما مرّ من الدليل ، وجه اللزوم أن حسن الفعل مثلا أمر زائد عليه ،

__________________

(١) جذر الأصم : (هو الكسر الذي لا يمكن النطق به).

(٢) في (ب) إلا بدلا من (بما).

(٣) في (ب) أقل القليل بدلا من (القليل).

(٤) سقط من (ب) من وتأملت إلى قوله : القليل).

(٥) في (ب) فيمتنع بدلا من (فيقع).

٢٨٧

لأنه قد يعقل الفعل ولا يعقل حسنه أو قبحه ، ومع ذلك فهو وجودي غير قائم بنفسه ، وهذا معنى العرض ، أما عدم القيام بنفسه ، فظاهر. وأما الوجود فلأن نقيضه لا حسن وهو سلب إذا لم يكن سلبا لاستلزم محلا موجودا فلم يصدق على المعدوم أنه ليس بحسن وهذا باطل بالضرورة وإذا كان أحد النقيضين سلبيا ، كان الآخر وجوديا ضرورة امتناع النقيضين ثم إنه صفة (١) للفعل الذي هو أيضا عرض يلزم قيام العرض بالعرض ، واعترض بأن النقيضين قد يكونان عدميين كالامتناع واللاامتناع ، وبأن صورة السلب أعني ما فيه حرف النفي لا يلزم من صدقه على المعدوم أن يكون سلبا محضا لجواز أن يكون مفهوما كليا يصدق على أفراد بعضها وجودي ، وبعضها عدمي كالأمكن (٢) الصادق على الواجب والممتنع ، وبأنه منقوض بإمكان الفعل ، فإنه ذاتي له مع إجراء الدليل فيه ، وإنما لم ينقضوا الدليل بأنه يقتضي أن لا يتصف الفعل بالحسن الشرعي للزوم قيام العرض بالعرض ، لأن الحسن الشرعي عند التحقيق قديم لا عرض ، ومتعلق بالفعل لا صفة له ، وقد بينا ذلك في شرح الأصول.

السادس : لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفاته وجهاته (٣) لم يكن الباري مختارا في الحكم واللازم باطل بالإجماع. وجه اللزوم أنه لا بد في الفعل من حكم ، والحكم على خلاف ما هو المعقول قبيح لا يصح عن الباري. بل يتعين عليه الحكم بالمعقول الراجح بحيث لا يصح تركه ، وفيه نفي للاختيار.

واعترض بأنه وإن لم يفعل القبيح لصارف الحكمة (٤) ، لكنه قادر عليه ، بتمكن منه ، ولو سلم فالامتناع لصارف الحكمة لا ينفي الاختيار على أن الحكم عندكم قديم ، فكيف يكون بالاختيار ، اللهم إلا أن يقصد الإلزام أو يراد جعله متعلقا بالأفعال.

__________________

(١) في (ب) صيغة بدلا من (صفة).

(٢) في (ب) كلا إمكان بدلا من (كالأمكن).

(٣) في (أ) وجله بدلا من (وجهاته).

(٤) الحكمة : المعرفة بالدين ، والفقه في التأويل ، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى. قاله مالك ورواه عنه ابن وهب وقاله ابن زيد ، وقال قتادة «الحكمة» السنة وبيان الشرائع ، وقيل الحكم والقضاء خاصة. راجع تفسير القرطبيّ ج ٢ ص ١٣١.

٢٨٨

السابع : قبح الفعل أو حسنه إذا كان صارفا عنه أو داعيا إليه كان سابقا عليه ، فيلزم قيام الموجود بالمعدوم.

واعترض بأن الصارف والداعي في التحقيق هو العلم باتصاف الفعل بالقبح أو الحسن عند الحصول.

٢٨٩

حسن الإحسان وقبح العدوان

ليس موضع شك

قال (تمسكوا بوجوه : الأول : أن حسن الإحسان وقبح العدوان مما لا يشك فيه عاقل وإن لم يتدين (١) : قلنا : لا بالمعنى المتنازع.

الثاني : من استوى في غرضه الصدق والكذب ، وإنقاذ الغريق وإهلاكه يؤثر الصدق والإنقاذ وما ذاك إلا لحسنهما عقلا.

قلنا : بل لكونهما أصلح وأوفق لغرض العامة وأليق برقة الجنسية ، على أن هذا القطع إنما هو عند فرض التساوي ولا تساوي فإنه محال.

الثالث : لو كان بالشرع لما ثبت أصلا لأن امتناع كذب الباري ، وأمره بالقبح ، ونهيه عن الحسن يكون أيضا بالشرع فيدور.

قلنا : قد سبق بيان امتناع كذبه من غير دور على أنا لا نجعل الحسن بالأمر بل نفسه ولا دور حينئذ.

الرابع : ـ لو لم يقبح منه الكذب وإظهار المعجزة عند الكاذب لم تثبت النبوة.

قلنا : ربما يمكن الشيء ويقطع بعدم وقوعه كسائر العاديات.

الخامس : من عرفه بذاته وصفاته وإنعاماته ، ثم أشرك به ونسب إليه ما لا يليق به من الزوجية والولد ، وسائر سمات الحدوث والنقصان ، وأصر على الكفران ، وعبادة الأوثان ، علم قطعا أنه في معرض الذم والعقاب.

قلنا : لما علم من استقرار الشرائع بذلك واستمرار العادات عليه.

السادس : لو لم يكن وجوب النظر عقليا لزم إقحام الأنبياء عليهم‌السلام وقد

__________________

(١) في (ج) (تبين).

٢٩٠

مرّ ولقوة الأخيرين ذهب البعض منا إلى الحسن والقبح عقلا في بعض الأفعال).

للمعتزلة في كون الحسن والقبح عقليين وجوه :

الأول : وهو عمدتهم القصوى أن حسن مثل العدل والإحسان ، وقبح مثل الظلم والكفران مما اتفق عليه العقلاء حتى الذين لا يتدينون بدين ولا يقولون بشرع كالبراهمة (١) والدهرية (٢) وغيرهم ، بل ربما يبالغ فيه غير المليين حتى يستقبحون ذبح الحيوانات. وذلك مع اختلاف أغراضهم وعاداتهم ورسومهم ومواصفاتهم. فلو لا أنه ذاتي للفعل يعلم بالعقل لما كان كذلك.

والجواب : منع الاتفاق على الحسن والقبح بالمعنى المتنازع ، وهو كونه متعلق المدح والذم عند الله تعالى ، واستحقاق الثواب والعقاب في حكمه ، بل بمعنى ملاءمة غرض العامة وطباعهم وعدمها ، ومتعلق المدح والذم في مجاري العقول والعادات ولا نزاع في ذلك فبطل اعتراضهم بأنا نعني بالحسن ما ليس لفعله مدخل في استحقاق الذم ، وبالقبح خلافه ، وأما اعتراضهم بأنه لما ثبت المدح والذم واستحقاق الثواب والعقاب في الشاهد ، فكذا في الغائب قياسا ، فلا يخفى ضعفه. كيف ، وغير المتشرع ربما لا يقول بدار الآخرة والثواب والعقاب.

الثاني : أن من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب بحيث لا مرجح أصلا ولا علم باستقرار الشرائع على تحسين الصدق ، وتقبيح الكذب ، فإنه يؤثر الصدق

__________________

(١) طائفة دينية موطنها الهند تنتسب إلى إبراهام ، والبراهمة هم طبقة الكهنة والحكام والفلاسفة اعلى المراتب في الديانة الهندوكية ويمثلون طبقة اجتماعية وراثية خاصة يقول الشهرستاني : ثم إن البراهمة تفرقوا أصنافا فمنهم أصحاب البددة ، أي البوذيين راجع ما كتبه البيروني في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة». وفيه تفصيل لهذا المذهب وما تفعله هذه الطائفة.

(٢) مذهب اعتقادي اشتق اسمه من الدهر والقول بأزليته وقدمه وأن الحياة بما في ذلك أفعال البشر تجري نتيجة للقوانين الطبيعية وإلى هذا تشير الآية (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). ويستتبع ذلك اعتقادهم أن المادة لا تفنى ، وأن الحواس هي أبواب المعرفة دون غيرها وأن المحسوسات هي الحقيقة الثابتة لهذا كثيرا ما يطلق على الدهرية اسم المادية أو الطبيعية وإن كانت تختلف الواحدة عن الأخرى في بعض الوجوه وقد نشأت هذه المدرسة في التفكير الإسلامي نتيجة للتأثر بمترجمات الفلسفة اليونانية.

راجع القاموس الإسلامي ج ٢ ص ٣٩٧.

٢٩١

قطعا وما ذاك إلا لأن حسنه ذاتي ضروري عقلي ، وكذلك إنقاذ من أشرف على الهلاك حيث لا يتصور للمنقذ نفع وغرض ولو مدحا وثناء.

والجواب : أن إيثار الصدق لما تقرر في النفوس من كونه الملائم لغرض العامة ومصلحة العالم والاستواء المفروض إنما هو في تحصيل غرض ذلك الشخص ، واندفاع حاجته لا على الإطلاق. كيف والصدق ممدوح ، والكذب مذموم عند العقلاء. وعلى مذهبكم عند الله أيضا بحكم العقل. ولو فرضنا الاستواء من كل وجه ، فلا نسلم إيثار الصدق قطعا ، وإنما القطع بذلك عند الفرض والتقدير ، فيتوهم أنه قطع عند وقوع المقدر المفروض ، وقد أوضحنا الفرق في فوائد شرح (١) الأصول.

وأما انقاذ الهالك فلرقة الجنسية المجبولة في الطبيعة ، وكله يتصور (٢) مثل تلك الحالة لنفسه ، فيجره استحسان ذلك الفعل من غيره في حق نفسه إلى استحسانه من نفسه في حق غيره.

وبالجملة لا نسلم أن إيثار الصدق والإنقاذ عند من لم يعلم استقرار الشرائع على حسنها إنما هو لحسنهما عند الله على ما هو المتنازع بل لأمر آخر.

الثالث : لو لم يثبت الحسن والقبح إلا بالشرع لم يثبتا أصلا ، لأن العلم بحسن ما أمر به الشارع أو أخبر عن حسنه ، وبكذب ما نهى عنه أو أخبر عن قبحه يتوقف على أن الكذب قبيح لا يصدر عنه ، وأن الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن سفه وعبث لا يليق به ، وذلك إما بالعقل والتقدير أنه معزول لا حكم له. وإما بالشرع فيدور.

والجواب : أنّا لا نجعل الأمر والنهي دليل الحسن والقبح ليرد ما ذكرتم ، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلق الأمر والمدح ، والقبح عن كونه متعلق النهي والذم. قال إمام الحرمين : ومما يجب التنبيه له أن قولنا لا يدرك الحسن والقبح إلا

__________________

(١) هذا الكتاب لعز الدولة سعيد بن منصور المعروف بابن كمونة المتوفي سنة ٦٧٦ ه‍ أتى فيه بجميع ألفاظ ابن سينا من غير إخلال إلا بما هو لضرورة اندراج الكلام وخرج ما التقطه من كتب الحكماء ومن شرح العلامة نصير الدين وما استنبطه فكره فصار كتابا كالشرح للإشارات وسماه «شرح الأصول والجمل من مهمات العلم والعمل». ولعل صاحب المقاصد عمل عليه بعض الخطوط والتعليقات.

(٢) في (ب) وكأنه بدلا من (وكله).

٢٩٢

بالشرع تجوز حيث يوهم كون الحسن زائدا على الشرع موقوفا إدراكه عليه وليس الأمر كذلك. بل الحسن عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله وكذا في القبح ، فإذا وصفنا فعلا بالوجوب ، فلسنا نقدر للفعل الواجب صفة بها يتميز عما ليس بواجب ، وإنما المراد بالواجب الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجابا ، وكذا الحظر.

هذا وقد بيّنا في بحث الكلام امتناع الكذب على الشارع من غير لزوم دور.

الرابع : لو لم يقبح من الله تعالى شيء لجاز إظهار المعجزة على يد الكاذب وفيه انسداد باب إثبات النبوة.

والجواب : أن الإمكان العقلي لا ينافي الجزم بعدم الوقوع أصلا كسائر العاديات.

الخامس : إنا قاطعون بأنه يقبح عند الله تعالى من العارف بذاته ، وصفاته أن يشرك به ، وينسب إليه الزوجة والولد ، وما لا يليق به من صفات النقص وسمات الحدوث بمعنى أنه يستحق الذم والعقاب في حكم الله تعالى سواء ورد الشرع أو لم يرد.

والجواب : أن مبنى القطع على استقرار الشرائع على ذلك ، واستمرار العادات بمثله في الشاهد فصار قبحه مركوزا في العقول حيث يظن أنه بمجرد حكم العقل.

السادس : لو لم يكن وجوب النظر ، وبالجملة أول الواجبات عقليا لزم إقحام الأنبياء وقد مرّ بجوابه ، ولقوة هاتين الشبهتين ذهب بعض اهل السنة وهم الحنفية إلى أن حسن بعض الأشياء وقبحها مما يدرك بالعقل كما هو رأي المعتزلة كوجوب أول الواجبات ، ووجوب تصديق النبي وحرمة تكذيبه دفعا للتسلسل ، وكحرمة الإشراك بالله ، ونسبة ما هو في غاية الشناعة إليه على من هو عارف به وبصفاته ، وكمالاته ووجوب ترك ذلك ولا نزاع في أن كل واجب حسن ، وكل حرام قبيح إلا أنهم لم يقولوا بالوجوب أو الحرمة على الله تعالى ، وجعلوا الحاكم بالحسن والقبح والخالق لأفعال العباد هو الله تعالى ، والعقل آلة لمعرفة بعض ذلك من غير إيجاب ولا توليد ، بل بإيجاد الله تعالى من غير كسب في البعض ومع الكسب بالنظر الصحيح في البعض.

٢٩٣

لا قبيح من الله تعالى

قال (المبحث الرابع)

(لا قبيح من الله تعالى وإن كان هو الخالق للكل ، ولا واجب عليه وإن حسن أفعاله بحكم الشرع.

والمعتزلة لما قالوا بوجوب أشياء عليه ، وثبوت قبائح بالعقل ذهبوا إلى أن يفعل البتة ما وجب ويترك ما قبح فوقع الإيقان على أنه لا يفعل قبيحا ، ولا يترك واجبا ، واضطروا في تفسير الواجب عليه تعالى ثم اضطروا إلى أن معناه أنه يفعله البتة ، وإن جاز تركه وهو مع كونه رجما بالغيب مجرد تسمية).

لا خلاف في أن الباري لا يفعل قبيحا ، ولا يترك واجبا. أما عندنا فلأنه لا قبح منه ولا واجب عليه لكون ذلك بالشرع ، ولا يتصور في فعله. وأما عند المعتزلة فلأن كل ما هو قبيح منه فهو يتركه البتة ، وما هو واجب عليه فهو يفعله البتة. وسيجيء ذكر ما أوجبوا عليه ، فإن قيل : الكفر والظلم والمعاصي كلها قبائح ، وقد خلقها الله تعالى.

قلنا : نعم إلا أن خلق القبيح ليس بقبيح ، فهو موجد القبائح لا فاعل لها.

فإن قيل : فلا يفعل الحسن أيضا لأنه لا حكم عليه أمرا كما لا حكم عليه نهيا. والإجماع على خلافه.

قلنا : قد ورد الشرع بالثناء عليه في أفعاله فكانت حسنة لكونها متعلق المدح ، والثناء عند الله تعالى ، وأما إذا اكتفى في الحسن بعدم استحقاق الذم في حكم الله تعالى فالأمر أظهر.

فإن قيل : الذي ثبت من مذهبنا هو أنه لا واجب عليه بمعنى أن شيئا من أفعاله

٢٩٤

ليس مما أمر الشارع به ، وحكم بأن (١) فاعله يستحق المدح ، وتاركه الذم عند الله تعالى والمعتزلة إنما يقولون بالوجوب بمعنى استحقاق تاركه الذم عند العقل ، أو بمعنى اللزوم عليه كما في تركه من الإخلال بالحكمة.

قلنا : على الأول لا نسلّم أنه يستحق الذم عقلا (٢) على فعل أو ترك ، فإنه المالك على الإطلاق. وعلى الثاني لا نسلم أن شيئا من أفعاله يكون بحيث يحل تركه بحكمة لجواز أن يكون له في كل فعل أو ترك حكم ومصالح لا تهتدي إليها العقول ، فإنه الحكيم الخبير على أنه لا معنى للزوم عليه (٣) إلا عدم التمكن من الترك ، وهو ينافي الاختيار. ولو سلّم فلا يوافق مذهبهم أن صدور الفعل عنه على سبيل الصحة من غير أن ينتهي الوجوب. ولهذا اضطر المتأخرون منهم إلى أن معنى الوجوب على الله أنه يفعله البتة ، ولا يتركه ، وإن كان الترك جائزا كما في العاديات. فإنا نعلم قطعا أن جبل (٤) أحد باق على حاله لم ينقلب ذهبا وإن كان جائزا.

والجواب : أن الوجوب حينئذ مجرد تسمية والحكم بأن الله تعالى يفعل البتة ما سميتموه واجبا جهالة وادعاء من شرذمة بخلاف العاديات ، فإنها علوم ضرورية خلقها الله تعالى لكل عاقل ، والعجب أنهم لا يسمون كل ما أخبر به الشارع من أفعاله واجبا عليه ، مع قيام الدليل على أنه يفعله البتة.

__________________

(١) في (ب) فإن بزيادة (الفاء).

(٢) في (أ) بزيادة ، (عقلا).

(٣) في (ب) لا لوم بدلا من (للزوم).

(٤) الجبل في اللغة : المرتفع الشامخ من الأرض ، وضده السهل والجمع جبال ويقال للجبال الأعلام والأطواد والرواسى وجاءت هذه الترادفات جميعا في القرآن ، قال تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) وقال : (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وقال : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ).

وجبل أحد : بالقرب من المدينة تنسب إليه المعركة التي نشبت بين المسلمين والمشركين من قريش في ١١ شوال عام ٣ ه‍ مارس ٦٢٤ م.

٢٩٥

جواز تكليف ما لا يطاق ولا تعلل أفعاله

تعالى

قال (المبحث الخامس)

(لا يمتنع تكليف ما لا يطاق ، ولا تعلل أفعاله بالأغراض خلافا للمعتزلة ، وعمدتهم أن تكليف ما لا يطاق سفه ، والفعل الخالي عن الغرض عبث ، فلا يليق بالحكيم ، وقد عرفت ضعفهما).

جعل أصحابنا جواز تكليف ما لا يطاق وعدم تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض من فروع مسألة الحسن والقبح ، وبطلان القول ، بأنه يقبح منه شيء ، ويجب عليه فعل أو ترك ، لأن المخالفين إنما عولوا في ذلك على أن تكليف ما لا يطاق سفه ، والفعل الخالي عن الغرض فيما شأنه ذلك عبث ، وكلاهما قبيح ، لا يليق بالحكمة ، فيجب عليه تركه. والمعتزلة منهم من ادعى العلم الضروري بقبح تكليف ما لا يطاق ، حتى زعم بعض (١) جهلتهم أن غير العقلاء كالصبيان والمعاينة ، يستقبح ذلك ، بل البهائم أيضا بلسان الحال حيث يحاربون بالقرون والأذناب وكثير من الأعضاء عند عدم الطاقة ، وأنت خبير بأن هذا منافرة للطبع وألم ومشقة وتضرر لا قبح بالمعنى المتنازع ، ومنهم من أثبته بقياس الغائب على الشاهد ، فإن العقلاء حتى الذاهلين عن النواهي الشرعية ، بل المنكرين للشرائع يستقبحون تكليف الموالي عبيدهم ما لا يطيقونه ، ويذمونهم على ذلك ، معللين بالعجز وعدم الطاقة.

والجواب : أن ذلك من جهة قطع المستقبحين بأن أفعال العباد معللة بالأغراض وأن مثل ذلك مناف لغرض العامة ، ومصلحة العالم ، ولا كذلك تكليف علام الغيوب إما لتنزه أفعاله من (٢) الغرض وإما لقصده حكما ومصالح لا تهتدي إليها (٣) العقول.

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (بعض).

(٢) في (ب) عن بدلا من لفظ (من).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (إليها).

٢٩٦

فإن قيل : كلامنا في تكليف التحقيق والمعاقبة على الترك لا في التكليف لأسرار أخر كما في التحدي.

قلنا : نحن أيضا إنما نعتبر احتمال أسرار أخر في ذلك التكليف ، وفي تثبيت استحقاق العقاب.

قال (ثم المتنازع)

(في الأول ما أمكن في نفسه ولم يقع متعلقا لقدرة العبد أصلا كخلق الأجسام أو عادة كالصعود إلى السماء لا ما امتنع لذاته كجمع النقيضين. فإن الجمهور على امتناع التكليف به بناء على أنه يستدعي تصور المكلف به واقعا ، والمستحيل لا يتصور إلا على سبيل التشبيه والنفي ولا ما امتنع لسابق علم أو إخبار من الله تعالى بعدم وقوعه ، فإن التكليف به واقع وفاقا. ثم النزاع في الجواز ، وإلا فالوقوع منفي بحكم النص والاستقراء ، وفي التكليف بمعنى طلب تحقيق الفعل والإتيان به ، واستحقاق العذاب على الترك ، وإلا فعل قصد التعجيز واقع وفاقا ، وبهذا يظهر أن تمسك المانعين بمثل (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١) ليس على المتنازع ، وكذا تمسك المجوزين بمثل (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) (٢) وبأن فعل العبد ليس بقدرته وبأن التكليف قبل الفعل والقدرة معه وبأن من علم الله أنه لا يؤمن مكلف بالإيمان مع استحالته منه لاستحالة الجهل على الله تعالى. وفي كلام كثير من المحققين أن التكليف بالممتنع لذاته كجمع النقيضين جائز بل واقع. لأن مثل أبي لهب (٣) مكلف بأن يصدق في جميع ما جاء به ، ومن جملته أنه لا يصدقه أصلا ، فقد كلف بأن يصدقه فى أنه لا يصدقه ، وهو جمع للنقيضين.

والجواب : بأن المكلف به ليس إلا تحصيل الإيمان وهو ممكن في نفسه ممتنع لسابق العلم والإخبار ، أو بأنه إنما كلف التصديق بما عدا هذا الإخبار ضعيف).

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٨٦.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٣.

(٣) هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هشام من قريش ، عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحد الأشراف الشجعان في الجاهلية ، ومن أشد الناس عداوة للمسلمين في الإسلام ، كان غنيا عتيا كبر عليه أن يتبع دينا جاء به ابن أخيه فآذى أنصاره وحرّض عليه وقاتلهم كان أحمر الوجه فلقب بأبي لهب مات بعد وقعة بدر بأيام ولم يشهدها عام ٢ ه‍.

٢٩٧

يشير إلى تحرير محل النزاع على ما هو رأي المحققين من أصحابنا ، فإنه حكى عن بعضهم تجويز تكليف المحال حتى الممتنع لذاته ، كجعل القديم محدثا وبالعكس ، وعن بعضهم أن تكليف ما علم الله تعالى عدم وقوعه أو أراد ذلك أو أخبر به كلها تكليف ما لا يطاق.

فنقول مراتب ما لا يطاق ثلاثة أدناها ما يمتنع بعلم الله تعالى بعدم وقوعه ، أو لإرادته ذلك أو لإخباره بذلك ، ولا نزاع في وقوع التأليف به فضلا عن الجواز فإن من مات على كفره ، ومن أخبر الله تعالى بعدم إيمانه يعد عاصيا إجماعا وأقصاها ما يمتنع لذاته كقلب الحقائق ، وجمع الضدين أو النقيضين. وفي جواز التكليف به تردد بناء على أنه يستدعي تصور المكلف به واقعا ، والممتنع هل يتصور واقعا ،؟ فيه تردد.

فقيل : لو لم يتصور لم يصح الحكم بامتناع تصوره وقبل تصوره. إنما يكون على سبيل التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع. ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن بين السواد والبياض أو على سبيل النفي بأن يحكم العقل بأنه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو اجتماع السواد والبياض كذا في الشفاء (١) وله زيادة تحقيق وتفصيل أوردناها في شرح الأصول.

والمرتبة الوسطى ما أمكن في نفسه لكن لم يقع متعلقا لقدرة العبد أصلا كخلق الجسم أو عادة كالصعود إلى السماء ، وهذا هو الذي وقع النزاع في جواز التكليف به بمعنى طلب تحقيق الفعل والإتيان به ، واستحقاق العقاب على تركه لا إلى قصد التعجيز ، وإظهار عدم الاقتدار على الفعل كما في التحدي بمعارضة القرآن ، فإنه لا خفاء في وجوب كونه مما لا يطاق.

فإن قيل : تكليف الجماد ليس بأبعد من هذا لجواز أن يخلق الله تعالى فيه الحياة والعلم والقدرة. فكيف لم يقع النزاع في امتناعه حتى للقائلين بجواز تكليف الممتنع لذاته.

__________________

(١) كتاب الشفاء في المنطق : لأبي علي حسين بن عبد الله المعروف بابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ ه‍ في ثمانية عشر مجلدا وشرحه أبو عبد الله محمد بن أحمد الأديب التجاني صاحب تحفة العروس ، واختصره شمس الدين عبد الحميد بن عيسى (الخسروشاهي التبريزي) المتوفى سنة ٦٥٢ ه‍ راجع كشف الظنون ج ٢ ص ١٠٥٥.

٢٩٨

قلنا : لأن شرط التكليف الفهم ، ولا فهم للجماد حين هو جماد ، ثم الجمهور على أن النزاع إنما هو في الجواز وأما الوقوع فمنفي بحكم الاستقراء ، وبشهادة مثل قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١) وبما ذكرنا يظهر أن كثيرا من التمسكات المذكورة في كلام الفريقين لم ترد على المتنازع أما للمانعين فمثل قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٢) فإنه إنما ينفي الوقوع لا الجواز.

فإن قيل : ما علم الله أو أخبر بعدم وقوعه يلزم من فرض وقوعه محال ، هو جهله أو كذبه تعالى عن ذلك ، وكل ما يلزم من فرض وقوعه محال ، فهو محال ضرورة امتناع وجود الملزوم بدون اللازم فجوابه منع الكبرى ، وإنما يصدق لو كان لزوم المحال لذاته.

أما لو كان لعارض كالعلم أو الخبر فيما نحن فيه فلا ، لجواز (٣) أن يكون هو (٤) ممكنا في نفسه ، ومنشأ لزوم المحال هو ذلك العارض ، ولعل لهذه النكتة في بعض كتبنا تقريرا آخر وأما للمجوزين فوجوه : منها مثل قوله تعالى (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) (٥) وقوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٦) وذلك لأنه تكليف تعجيز ، لا تكليف تحقيق. ومنها أن فعل العبد بخلق الله تعالى وقدرته ، فلا يكون بقدرة العبد وهي معنى ما لا يطاق وذلك لأن معنى ما لا يطاق أن لا يكون متعلقا بقدرة العبد ، وما وقع التكليف به متعلق بقدرته ، وإن كان واقعا بقدرة الله تعالى ، ومنها أن التكليف قبل الفعل (٧) والقدرة معه فلا يكون التكليف إلا بغير المقدور ، وذلك لأن القدرة المعتبرة في التكليف هي سلامة الأسباب والآلات لا الاستطاعة التي لا تكون إلا مع الفعل ولو صح هذان الوجهان لكان جميع التكاليف تكليف ما لا يطاق ، وليس كذلك. ومنها أن من علم الله تعالى منه أنه لا يؤمن ، بل يموت على الكفر مكلف بالإيمان وفاقا ، مع استحالته منه لأنه لو آمن لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا.

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٨٨.

(٢) سقط من (ب) من أول : وبما ذكرنا إلى قوله : (إلا وسعها).

(٣) في (ب) يجوز بدلا من (لجواز).

(٤) سقط من (ب) الضمير (هو).

(٥) سورة البقرة آية رقم ٣١.

(٦) سورة البقرة آية رقم ٢٣.

(٧) في (ب) فعل العبد بدلا من (قبل الفعل).

٢٩٩

يقال لا نسلّم أنه لو آمن لزم انقلاب العلم جهلا ، بل لزم أن يكون العلم المتعلق به من الأزل ، أنه يموت مؤمنا ، فإن العلم تابع للمعلوم ، فيكون هذا تقدير علم مكان علم لا تغيير علم إلى جهل كما إذا قدرت الآتي بالقبيح آتيا بالحسن ، فإنه يكون من أول الأمر مستحقا للمدح لا منقلبا من استحقاق الذم إلى استحقاق المدح ، لأنا نقول الكلام فيمن تحقق العلم بأنه يموت كافرا ، فعلى تقدير الإيمان يكون الانقلاب ضروريا ، وكذا الكلام فيمن أخبر الله تعالى بأنه لا يؤمن كأبي جهل (١) ، وأبي لهب وأضرابهما ، وقد عرفت أن هذا (٢) ليس من المتنازع ، فلا يكون الدليل على هذا التقرير واردا على محل النزاع وأما على تقرير كثير من المحققين ، فيدل على أن التكليف بالممتنع لذاته كجمع النقيضين جائز بل واقع.

قال إمام الحرمين في الإرشاد (٣).

فإن قيل : ما جوزتموه عقلا من تكليف المحال ، هل اتفق وقوعه شرعا.؟

قلنا : قال شيخنا ذلك واقع شرعا فإن الرب تعالى أمر أبا جهل بأن يصدقه ويؤمن به في جميع ما يخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن فقد أمره أن يصدقه بأنه لا يصدقه ، وذلك جمع بين النقيضين.

وكذا ذكر الإمام الرازي في المطالب العالية (٤) وقال أيضا ، أن الأمر بتحصيل الإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان أمر يجمع الوجود والعدم ، لأن وجود الإيمان يستحيل أن يحصل مع العلم بعدم الإيمان ضرورة أن العلم يقتضي المطابقة ، وذلك بحصول عدم الإيمان ، وأجاب بعضهم بأن ما ذكر لا يدل على أن المكلف به هو الجمع ، بل تحصيل الإيمان ، وهو ممكن في نفسه مقدور للعبد بحسب أصله ، وإن امتنع لسابق علم أو إخبار للرسول بأنه لا يؤمن فيكون مما هو جائز بل واقع بالاتفاق

__________________

(١) هو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزوميّ القرشيّ أشد الناس عداوة للنبي في صدر الإسلام ، وأحد دهاة قريش في الجاهلية قال صاحب عيون الأخبار : سودت قريش أبا جهل ولم يطر شاربه فادخلته دار الندوة مع الكهول ، أدرك الإسلام وكان يقال له (أبو الحكم) فدعاه المسلمون (أبا جهل) قتل في معركة بدر عام ٢ ه‍.

راجع السيرة الحلبية ٢ : ٢٣ ودائرة المعارف الاسلامية ١ : ٣٢٢ وإمتاع الإسماع ١ : ١٨

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (هذا).

(٣) سبق التعريف بهذا الكتاب.

(٤) سبق التعريف بهذا الكتاب.

٣٠٠