شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (١) وأمثال ذلك. وعلى مذهب المجبرة لهم أن يجادلوا ويقولوا إنك خلقت فينا الكفر ، وعلمته وأردته ، وأخبرت به ، وخلقت قدرة وداعية ، يجب معهما الكفر ، وكل هذه موانع من الإيمان ، فيكون القرآن حجة للكافر ، وقد أنزل ليكون حجة عليه ، وإلى هذا أشار الصاحب بن عباد (٢) وكان غاليا في الرفض والاعتزال ساعيا في تربية أبي هاشم الجبائي ورفع قدره ، وإعلاء ذكره حيث قال : كيف يأمر بالإيمان ولم يرده ، وينهى عن الكفر وأراده ، ويعاقب على الباطل ويقدره ، وكيف يصرف عن الإيمان ثم يقول (أَنَّى يُصْرَفُونَ) (٣) ويخلق فيهم الإفك ثم يقول (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤) وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) (٥) وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم قال (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (٦) وصدهم عن السبيل ثم يقول (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٧) وحال بينهم وبين الإيمان ثم يقول (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (٨) وأذهب بهم عن الرشد ثم قال (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٩) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (١٠).

والجواب : أن المراد الموانع الظاهرة التي يعلمها جهال الكفرة ، وهذه موانع عقلية خفيت على علماء القدرية.

الخامس : الآيات الدالة على أن فعل العبد بمشيئته كقوله تعالى (فَمَنْ شاءَ

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ٩٩.

(٢) هو إسماعيل بن عباد بن العباس ، أبو القاسم ، وزير غلب عليه الأدب ، لقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه فكان يدعوه بذلك ولد في الطالقان من أعمال قزوين عام ٣٢٦ ه‍ وتوفي بالري عام ٣٨٥ ه‍ له تصانيف منها المحيط ، والكشف عن مساوى شعر المتنبي ، وعنوان المعارف وذكر الخلائف.

(٣) هذا جزء من آية من سورة غافر آية رقم ٦٩.

(٤) هذا جزء من آية من سورة المائدة رقم ٧٥.

(٥) هذا جزء من آية من سورة البقرة رقم ٢٨.

(٦) سورة آل عمران آية رقم ٧١.

(٧) سورة آل عمران آية رقم ٩٩.

(٨) سورة التكوير جزء من آية رقم ٢٦.

(٩) سورة المدثر آية رقم ٤٩.

(١٠) سورة المدثر آية رقم ٤٩.

٢٦١

فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١) (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٢) (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٣) (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٤) (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥).

والجواب : أن التعليق بمشيئة العبد مذهبنا ، لكن مشيئته بمشيئة الله تعالى. (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٦) وفي تعداد هذه الأنواع إفرادها إطالة ، وقد فصلها الإمام في كتبه سيما المطالب العالية ، وأورد أيضا أحاديث كثيرة توافق أنواع الآيات. واقتصر في الجواب على أن الأدلة السمعية متعارضة ، فالتعويل على العقليات وعمدته في ذلك دليل الداعي الموجب ، ودليل العلم الأزلي ، ولذا نقل عن بعض أذكياء المعتزلة أنه كان يقول «هما العدوان للاعتزال وإلا فقدتم الدست».

وأما دليل الإرادة فقد أورده الموافق في عدادهما فلا معول عليه عندهم ، لتجويزهم وقوع خلاف مرادا لله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ولهذا ألزم المجوسي عمرو بن عبيد (٧) حين قال له : «لم لا تسلم فقال : لأن الله لم يرد إسلامي.

فقال : إن الله يريد إسلامك لكن الشياطين لا يتركونك.

فقال المجوسيّ : فأنا أكون مع الشريك الغالب».

__________________

(١) سورة الكهف آية رقم ٢٩.

(٢) هذا جزء من آية من سورة فصلت رقم ٤٠.

(٣) سورة المدثر آية رقم ٣٧.

(٤) هذا جزء من آية من سورة فصلت رقم ٤٠.

(٥) سورة الإنسان آية رقم ٢٩.

(٦) سورة التكوير آية رقم ٢٩ وسورة الإنسان آية رقم ٣٠.

(٧) هو عمرو بن عبيد أبو عثمان البصريّ. شيخ المعتزلة في عصره ومفتيها كان جده من سبي فارس ، وأبوه نساجا ثم شرطيا للحجاج في البصرة له رسائل وكتب الرد على القدرية ، وبعض العلماء يراه مبتدعا قال يحيى بن معين : كان من الدهرية الذين يقولون : إنما الناس مثل الزرع ، توفي عام ١٤٤ ه‍ راجع الروض الأنف ٢ : ١٩ ووفيات الأعيان ١ : ٣٨٤

٢٦٢

خاتمة في فصل النزاع

العبد مضطر في صورة المختار

فصل

(خاتمة : امتناع الترجح بلا مرجح وعدم العلم بتفاصيل الأفعال يعود إلى الجبر وحسن المدح والذم والأمر والنهي ، وكون الأفعال تابعة لقصد العبد وداعية إلى المقدور ، وكون العبد منبع النقصان يليق بالجبر ، وكثرة السفه ، والعبث والقبح في الأفعال بالقدر والآيات والآثار متكاثرة في الجانبين. فالحق أنه لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين إذ المبادي القريبة على الاختيار ، والبعيدة على الاضطرارية ، فالإنسان مضطر في صورة المختار).

يشير إلى ما ذكره الإمام الرازي من أن حال هذه المسألة عجيبة. فإن الناس كانوا مختلفين فيها أبدا بسبب أن ما يمكن الرجوع إليها فيها متعارضة متدافعة فمعول الجبرية على أنه لا بد لترجح الفعل على الترك من مرجح ، ليس من العبد ، ومعول القدرية على أن العبد لو لم يكن قادرا على فعله لما حسن المدح والذم ، والأمر والنهي ، وهما مقدمتان بديهيتان ، ثم من الدلائل العقلية اعتماد الجبرية على أن تفاصيل أحوال الأفعال غير معلومة للعبد ، واعتماد القدرية على أن أفعال العباد واقعة على وقوع مقصودهم ودواعيهم ، وهما متعارضان. ومن الإلزامات الخطابية أن القدرة على الإيجاد صفة كمال لا تليق بالعبد الذي هو منبع النقصان ، وأن أفعال العباد تكون سفها وعبثا فلا تليق بالمتعالي عن النقصان ، وأما الدلائل السمعية ، فالقرآن مملوء بما يوهم الأمرين ، وكذا الآثار. فإن أمة من الأمم لم تكن خالية من الفرقتين ، وكذا الأوضاع والحكايات متدافعة من الجانبين حتى قيل : إن وضع النرد على الجبر ، ووضع الشطرنج (١) على القدر. إلا أن مذهبنا أقوى بسبب أن القدح في

__________________

(١) شطرنج : لعبة قديمة يلعبها شخصان على رقعة مربعة بها ٦٤ مربعا ذات لونين مختلفين أحدهما فاتح والآخر غامق ، ولكل لاعب ١٦ قطعة يلعب بها ، ومن المعتقد أن أصل اللعبة هندي ، ثم انتقلت إلى ـ

٢٦٣

قلوبنا لا يترجح ، لكن الأمر لا يترجح لممكن إلا بمرجح يوجب السداد ، باب إثبات الصانع ونحن نقول الحق ما قال بعض أئمة الدين : انه لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين ، وذلك لأن من المبادي القريبة لأفعال العباد على قدرته واختياره ، والمبادي البعيدة على عجزه واضطراره. فإن الإنسان مضطر في صورة مختار ، كالقلم في يد الكاتب ، والوتد في شق الحائط وفي كلام العقلاء ، قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني.

__________________

ـ فارس ، ومنها إلى بلاد الشرق ، وأغلب الظن أن العرب نقلوها إلى الأندلس ومنها انتقلت إلى أوروبا ، وقد بدأت مباريات الشطرنج العالمية في لندن عام ١٨٥١ ومذ ذلك الوقت تقام المباريات الدولية كل عام.

٢٦٤

أفعاله بقضاء الله وقدره

قال (وأفعاله بقضاء الله تعالى)

(وقدره بمعنى خلقه ، وتقديره ابتداء أو بوسط موجب والرضا إنما يجب بالقضاء دون المقضي ، وعند المعتزلة لا يصلح إلا بمعنى الإعلام والكتبة أو بمعنى الإلزام في الواجبات خاصة ، وقالت الفلاسفة : القضاء وجود الكائنات في العالم العقلي مجملة ، والقدر وجودها في موادها الخارجية مفصلة. ودخول الشر في القضاء بالتبعية).

قد اشتهر من بين (١) أكثر الملل أن الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره ، وهذا يتناول أفعال العباد ، وأمره ظاهر عند أهل الحق لما تبين أنه الخالق لها نفسها ، أو الخالق للقدرة والداعية الموجبتين لها ، فمعنى القضاء والقدر الخلق والتقدير كما في قوله تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٢) وقوله تعالى (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) (٣) ولا يستقيم هذا عند القدرية ، وقد يكون القضاء والقدر بمعنى الإيجاب والإلزام كما في قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٤) وقوله تعالى (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) (٥) فيكون الواجبات بالقضاء والقدر دون البواقي ، وقد يراد بهما الإعلام والتبيين لقوله تعالى (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) (٦) الآية وقوله تعالى (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٧) أي أعلمنا بذلك وكتبناه في اللوح فعلى هذا جميع الأفعال بالقضاء والقدر.

__________________

(١) في (ب) بزيادة حرف الجر (من).

(٢) سورة فصلت آية رقم ١٢.

(٣) سورة فصلت آية رقم ١٠.

(٤) سورة الإسراء آية رقم ٢٣.

(٥) سورة الواقعة آية رقم ٦٠.

(٦) سورة الإسراء آية رقم ٤.

(٧) سورة النمل آية رقم ٥٧.

٢٦٥

وقالت الفلاسفة لما (١) كانت جميع صور الموجدات الكلية والجزئية حاصلة من حيث هي معقولة في العالم العقلي بإبداع الأول الواجب إياها ، وكان إيجاد ما يتعلق منها بالمادة في المادة مختلفا على سبيل الإبداع ممتنعا إذ هي غير متأتية لقبول صورتين معا فضلا عن أكثر ، وكان الجود الإلهي مقتضيا لتكميل المادة بإبداع تلك الصور فيها ، وإخراج ما فيها بالقوة من قبول تلك الصور إلى العقل قدر بلطيف حكمته زمانا يخرج فيه تلك الأمور من القوة إلى الفعل ، فالقضاء عبارة من وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعة ومجملة على سبيل الإبداع ، والقدرة عبارة عن وجودها في موادها الخارجية مفصلة واحدا بعد واحد ، كما قال عز من قائل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢).

قالوا ودخول الشر في القضاء الإلهي على سبيل التبع ، فإن الموجود إما خير محض كالعقول والأفلاك ، أو الخير غالب عليه كما في هذا العالم ، فإن المرض وإن كثر فالصحة أكثر منه ، ولما امتنع عقلا إيجادها (٣) في هذا العالم مبرأ عن الشرور بالكلية ، فإن المطر المخصب للبلاد يخرب بعض الدور بالضرورة وجب في الحكمة إيجاده لأن ترك الخير الكثير ، لأجل الشر القليل شر كثير ، فدخل الشر في القضاء ، وإن كان مكروها غير مرضى

__________________

(١) في (أ) كما بدلا من (لما).

(٢) سورة الحجر آية رقم ٢١.

(٣) في (أ) إيجاد ما بدلا من (إيجادها).

٢٦٦

ذم القدرية

والنصوص الدالة عليه

قال (ثم لا خلاف في ذم القدرية)

(حتى قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا» (١) وسموا بذلك لإفراطهم في نفيه وما يقولون من أن المثبت له أولى بالانتساب إليه مردود بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «القدرية مجوس هذه الأمة» (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا قامت القيامة نادى مناد في أهل الجمع أين خصماء الله ، فيقوم القدرية» وبأن من يضيف القدر إلى نفسه أولى بهذا الاسم ممن يضيفه إلى ربه).

قد ورد في صحاح الأحاديث «لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا» والمراد بهم القائلون بنفي كون الخير والشر كله بتقدير الله تعالى ومشيئته ، سموا بذلك لمبالغتهم في نفيه ، وكثرة مدافعتهم إياه ، وقيل لإثباتهم للعبد قدرة الإيجاد ، وليس بشيء لأن المناسب حينئذ القدري بضم القاف ، وقالت المعتزلة القدرية هم القائلون بأن الخير والشر كله من الله وبتقديره ومشيئته. لأن الشائع نسبة الشخص إلى ما يثبته ، ويقول به كالجبرية والحنفية (٣) والشافعية (٤) ، لا إلى ما ينفيه. ورد بأنه صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله

__________________

(١) لم نعثر على تخريج هذا الحديث رغم البحث والتقصي في كتب الأحاديث.

(٢) الحديث رواه أبو داود في السنة ١٦ ، وأحمد بن حنبل ٢ : ٨٦ ، ٥ : ٤٠٧ ولفظه عند أبي داود : مجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر.

(٣) هم أتباع الإمام أبو حنيفة ، أحد الأئمة الأربعة من أصحاب المذاهب الإسلامية. وتميز المذهب الحنفي بالمرونة لاعتماد أبي حنيفة على القياس كمصدر هام من مصادر التشريع الإسلامي ومن رجال المذهب الحنفي القاضي أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، والإمام زفر وكثير من الدول الإسلامية تأخذ بالمذهب الحنفي.

(٤) الشافعية : أتباع الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، أحد الأئمة الأربعة من أصحاب المذاهب الإسلامية ، واستقى الشافعي فقهه من خمسة مصادر. وقد نص عليها في كتاب الأم. الأولى الكتاب والسنة إذا ثبتت ثم الثانية الاجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ، والثالثة : أن يقول أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا نعلم لهم مخالفا منهم والرابعة ، اختلاف أصحاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، الخامسة القياس ، ولا يصار إلى شيء ما دام الكتاب والسنة ، وهما موجودان. وقد توفي الشافعي عام ٢٠٤ ه‍.

٢٦٧

«القدرية مجوس هذه الأمة» وقوله «إذا قامت القيامة نادى مناد في أهل الجمع أين خصماء الله ..؟ فيقوم القدرية» ولا خفاء في أن المجوس هم الذين ينسبون الخير إلى الله ، والشر إلى الشيطان ويسمونهما ، يزدان ، وأهرمن ، وأن من لا يفوض الأمور كلها إلى الله ، ويعترض لبعضها (١) فينسبه إلى نفسه يكون هو المخاصم لله تعالى وأيضا من يضيف القدر إلى نفسه ويدعي كونه الفاعل والمقدر أولى باسم القدري ممن يضيفه إلى ربه. فإن قيل روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لرجل قدم عليه من فارس «أخبرني بأعجب شيء رأيت» فقال رأيت أقواما ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم. فإن قيل لهم لم تفعلون ذلك. قالوا قضاء الله علينا وقدره.

فقال عليه‌السلام «سيكون في آخر أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم ، أولئك مجوس أمتي»(٢) وروى الأصبغ بن نباتة (٣) أن شيخا قام إلى علي بن أبي طالب بعد انصرافه من صفين (٤) ، فقال أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره فقال والذي فلق الحبة(٥) وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا قلعة (٦) إلا بقضاء وقدر ، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا فقال له مه أيها الشيخ عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون. وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرين ، فقال

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (لبعضها).

(٢) لم نعثر على هذا الحديث في كتب الصحاح ولعلنا بمشيئة الله في طبعة أخرى يوفقنا الله إليه.

(٣) الأصبغ بن نباتة التميمي ثم الحنظلي أبو القاسم الكوفي. روى عن عمرو بن علي ، والحسن بن علي ، وعمار بن ياسر ، وروى عنه سعد بن طريف والأجلح وثابت وغيرهم قال ابن معين ليس بثقة ، وقال النسائيّ متروك الحديث وقال ابن أبي حاتم عن أبيه لين الحديث وقال الدارقطني منكر الحديث ، وقال البزار أكثر أحاديثه عن علي لا يرويها غيره.

(٤) موقعة صفين : بكسر الصاد ، وكسر الفاء مشددة ، بزنة سجين موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي ، وفيه وقعت الحرب بين علي ومعاوية في سنة سبع وثلاثين في غرة صفر وقتل في هذه الحرب كثير من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان مدة المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام ، وكانت عدة الوقائع تسعين وقعة ، وفي إحداها قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب.

(٥) في (ب) خلق الجنة وهو تحريف.

(٦) في (أ) تلة بدلا من (قلعة).

٢٦٨

الشيخ كيف والقضاء القدر ساقنا ، فقال ويحك لعلك ظننت قضاء (١) لازما ، وقدرا حتما لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ، ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة عبدة الأوثان ، وجنود الشياطين وشهود الزور ، وأهل العمي عن الصواب ، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها. إن الله أمر تخييرا ونهى تحذيرا ، وكلف يسيرا ، لم يعص مغلوبا ، ولم يطع مستكرها ، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. فقال الشيخ وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما؟ قال : هو الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٢) وعن الحسن بعث الله تعالى محمدا إلى العرب وهم قدرية يحملون ذنوبهم على الله وتصديقه قوله تعالى (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) (٣).

قلنا ما ذكر لا يدل إلا على أن القول بأن فعل العبد إذا كان بقضاء الله تعالى وقدره وخلقه وإرادته يجوز للعبد الإقدام عليه ، ويبطل اختياره فيه ، واستحقاقه للثواب والعقاب والمدح والذم عليه قول المجوس فلينظر أن هذا قول المعتزلة أم المجبرة ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور. ومن وقاحتهم أنهم يروجون باطلهم بنسبته إلى مثل أمير المؤمنين علي وأولاده رضي الله عنهم. وقد صح عنه أنه خطب الناس على منبر الكوفة ، فقال «ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره» وأنه حين أراد حرب الشام قال : «شمرت عن ثوبي ودعوت قنبرا» :

قدم لوائي لا تؤخر حذرا

لن يرفع الحذار ما قد قدرا

وأنه قال لمن قال إني أملك الخير والشر والطاعة والمعصية «تملكها مع الله أو تملكها بدون الله ، فإن قلت أملكها مع الله فقد ادعيت أنك شريك الله ، وإن قلت أملكها

__________________

(١) في (ب) طبعت بدلا من (ظننت).

(٢) سورة الإسراء آية رقم ٢٣.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ٢٨ وقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل حيث جاءت (فإذا) بدلا من (وإذا).

٢٦٩

بدون الله فقد ادعيت أنك أنت الله». فتاب الرجل على يده. وأن جعفر الصادق (١) ، قال لقدري : اقرأ الفاتحة فقرأ. فلما بلغ قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٢) قال له جعفر على ما ذا تستعين بالله وعندك أن الفعل منك ، وجميع ما يتعلق بالأقدار والتمكين والألطاف قد حصلت وتمت ، فانقطع القدري والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) هو جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط الهاشميّ القرشيّ أبو عبد الله الملقب بالصادق. سادس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية. كان من أجلاء التابعين وله منزلة رفيعة في العلم ، أخذ عنه جماعة منهم الإمامان أبو حنيفة ومالك ولقب بالصادق لأنه لم يعرف عنه الكذب قط ، له أخبار مع الخلفاء وكان جريئا عليهم صداعا بالحق له رسائل مجموعة في كتاب ورد ذكرها في كشف الظنون يقال إن جابر بن حيان قام بجمعها توفي سنة ١٤٨ ه‍.

راجع وفيات الأعيان ١ : ١٠٥ وصفة الصفوة ٢ : ٩٤.

(٢) سورة الفاتحة آية ٥.

٢٧٠

أقوال العلماء في التوليد

قال (فرع)

(لما ثبت استناد الكل إلى الله بطل ما ذهب إليه المعتزلة من التوليد (١) وفروعه والمتولد عند عامتهم فعل العبد تمسكا بمثل ما مرّ في خلق الأعمال وقال النظام لا فعل له إلّا ما يوجد في محل قدرته. وقال معمر إلا الإرادة. وقيل إلّا الفكر ، والباقي لطبع المحل ، لأنه قد لا يوافق الداعية ، وقد لا يصح أن لا يفعله كما في السهم المرسل وردّ بأنه لمانع ، وأما تمسكنا بأنه لو كان فعل العبد لزم اجتماع المؤثرين ، أو الترجح بلا مرجح في حركة جسم يجذبه قادر ، ويدفعه آخر فمدفوع يمنع استقلال كل من القوتين في تلك الحركة

ذهبت المعتزلة إلى أن فعل الفاعل قد يوجب لفاعله فعلا آخر في محل القدرة أو خارجا عنه ، وذلك معنى التوليد ، وفرعوا (٢) عليه فروعا مثل أن المتولد بالسبب المقدور بالقدرة الحادثة يمتنع أن يقع بالقدرة الحادثة بطريق المباشرة من غير توسط السبب ومثل اختلافهم في أن المتولد هل يقع في فعل الله تعالى (٣) أم جميع أفعاله بطريق المباشرة وفي أن الموت هل هو متولد من الجرح حتى يكون فعل العبد إلى غير ذلك ، ولما ثبت استناد الممكنات إلى الله ابتداء بطل التوليد عن أصله. والمعتزلة

__________________

(١) يقول ابن حزم : تنازع المتكلمون في معنى عبروا عنه بالتوليد ، وهو أنهم اختلفوا فيمن رمى سهما فجرح به إنسانا أو غيره وفي حرق النار وتبريد الثلج وسائر الآثار الظاهرة من الجمادات فقالت طائفة ما تولد من ذلك عن فعل إنسان أوحى فهو فعل الإنسان والحي ، واختلفوا فيما تولد من غير حي فقالت طائفة هو فعل الله. وقالت طائفة ما تولد من غير حي فهو فعل الطبيعة وقال آخرون كل ذلك فعل الله عزوجل. ثم قال والأمر بين وهو أن كل ما في العالم من جسم أو عرض في جسم أو من أثر جسم فهو خلق الله عزوجل. الخ.

راجع ما كتبه ابن حزم في هذا الموضوع فهو في غاية الجودة ج ٣ من كتاب الفصل ص ٥٩ ـ وما بعدها.

(٢) في (ب) التوكيد وهو تحريف.

(٣) في (ب) بزيادة (فعل).

٢٧١

تمسكوا في كون المتولد فعلا للعبد سواء تولد من فعله المباشر أو فعله المتولد كحركة الآلة ، وحركة المتحرك بالآلة بمثل ما ذكروا في مسألة خلق الأعمال من وقوعه على وفق القصد ، والداعية ومن حسن المدح والذم والأمر والنهي ، بل استحسان المدح والذم على الأفعال المتولدة كالكتابة والصناعة (١) وإنشاء الكلام ، والدفع والجذب والقتل والحرب ، أظهر عند العقلاء من المدح والذم على المباشرات لأنها لا تظهر ظهور المتولدات ، وكذا الوقوع بحسب الدواعي أظهر فيها ، لأن أكثر الدواعي إنما يكون إلى المتولدات.

والجواب : مثل ما مرّ وذهب النظام من المعتزلة إلى أنه لا فعل للعبد إلا ما يوجد في محل قدرته والباقي بطبع المحل. وقال معمر لا فعل للعبد إلا الإرادة وما يحدث بعدها : إنما هو بطبع المحل وقيل لا فعل للعبد إلا الفكر ، قالوا لو كان المتولد فعلنا لم يقع إلا بحسب دواعينا كالمباشرة (٢) واللازم باطل ، لأن كثيرا من أرباب الصناعات ينقضون أعمالهم لعدم موافقتها دواعيهم وأغراضهم. وأيضا لو كان فعلنا لصح منا أن لا نفعله بعد وجود السبب لأن شأن القادر صحة أن يفعل وأن لا يفعل ، واللازم ظاهر البطلان كما في السهم المرسل من القوس.

والجواب : أن عدم الموافقة للفرض كمانع مثل الخطأ في تهيئة الأسباب ، وكذا عدم التمكن من ترك الفعل لمانع مثل إحداث السبب التام لا ينافي كونه فعل الفاعل فإن موافقة الفرض ، وتمكن القادر من الترك والفعل إما يكونان عند وجود الأسباب وانتفاء الموانع ، واحتج أصحابنا بوجوه.

الأول : أن الجسم الملتزق طرفاه بيدي قادرين إذا جذبه أحدهما ودفعه الآخر معا فحركته إما أن تقع بمجموع القدرتين ، فيلزم اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد أو بإحداهما فيلزم الترجح بلا مرجح أو لا بهما وهو المطلوب ، وفيه نظر إذ للخصم أن يمنع استقلال كل من القوتين بإحداث الحركة على الوجه الذي وقع باجتماعهما غاية الأمر أنها تستقل بإحداث حركة ذلك الجسم في الجملة.

__________________

(١) في (أ) الصباغة بدلا من (الصناعة).

(٢) في (أ) المباشر بدلا من (المباشرة).

٢٧٢

الثاني : أنه لو كان مقدورا للعبد لجاز وقوعه بلا توسط السبب كما في حق الباري تعالى.

الثالث : أن السبب عندهم موجب للمسبب عند عدم المانع ، فيلزم أن يكون الفعل المباشر مستقلا بإيجاب المتولد من غير تأثير للقدرة فيه.

الرابع : أنه لو كان بقدرة العبد لزم أن لا يوجد عند فناء قدرة العبد واللازم باطل فيما إذا رمى الإنسان سهما ومات. قيل إن أصاب السهم حيا فجرحه وأفضى إلى زهوق روحه بعد شهور وأعوام فهذه السرايات والآلام أفعال (١) حدثت (٢) بعد ما صار الرامي عظاما رميما.

واعترض بأنه يجوز أن يشترط في تأثير القدرة الحادثة ما لا يشترط في القديمة ، وبأن معنى كون (٣) المتولد بقدرة العبد تأثيرها في السبب الموجب له.

واعلم أن مذهب أصحابنا أن ما يقع مباينا لمحل القدرة الحادثة لا يكون مقدورا لها أصلا.

إنها لا تتعلق إلا بما يقوم بمحلها ، وإن كان بخلق الله ، ثم (٤) انظر في الوجوه الأربعة : إنها على تقدير تمامها. هل تفيد ذلك؟ أم يقتصر بعضها على مجرد نفي مذهب الخضم.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (أفعال).

(٢) في (ب) وجدت بدلا من (حدثت).

(٣) في (ب) مبنى بدلا من (معنى).

(٤) في (أ) في بدلا من (ثم).

٢٧٣

المبحث الثاني

في عموم إرادته تعالى

(في عموم إرادته الحق أن كل كائن مراد له ، وبالعكس ، لما أجمع عليه السلف من أن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولأنه خالق للكل مريده ، وعالم بعدم وقوع ما لم يقع فلا يريده ، لأن الإرادة (١) صفة شأنها الترجيح والتخصيص لأحد المتساويين بالنظر إلى القدرة وصرف الداعية إلى الدليل ولو بالغير من الإرادة والنصوص الشاهدة بما ذكرنا أكثر من أن تحصى.

والمعتزلة لم يكتفوا بقطع إرادته عن القبائح ، بل جزموا بأنها متعلقة بأضدادها. فجعلوا أكثر ما يجري في ملكه خلاف مراده ، تمسكا بأن إرادة القبيح قبيحة.

وأن العقاب على ما أريد ظلم ، وأن الأمر بما لا يراد والنهي عما يراد سفه ، وأن الإرادة تستلزم الأمر والرضاء والمحبة ، والكل فاسد ، ولا تمسك لهم بمثل قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٢) (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٣) (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٤) (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٥).

وأما الرد على الذين قالوا (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (٦) فلقصدهم الاستهزاء ولذلك قال الله تعالى (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا

__________________

(١) يقول صاحب المواقف : قال الحكماء إرادته تعالى هي نفس علمه بوجه النظام الأكمل ويسمونه عناية ، وقال ابن سبنا العناية هي إحاطة علم الأول بالكل ، وبما يجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام وقال أبو الحسين وجماعة من رؤساء المعتزلة إرادته تعالى هو علمه الخ.

المواقف ج ٨ ص ٨١ ـ ٨٢ المقصد الخامس.

(٢) سورة غافر آية رقم ٣١.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ٢٨.

(٤) سورة الزمر آية رقم ١٧.

(٥) سورة البقرة آية رقم ٢٠٥.

(٦) سورة الأنعام آية رقم ١٤٨.

٢٧٤

بَأْسَنا) (١) فجعلهم مكذبين. وصرح آخر : بأنه لو شاء لهداكم أجمعين. وقد يتمسك بقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) وقوله تعالى (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٣).

ورد الأول بعد تسليم العموم بأن المعنى لأمرهم بالعبادة أو ليتذللوا أو ليكونوا عبادا لي.

والثاني : بعد تسليم كون الإشارة إلى ما وقع بأن المعنى مكروها بين الناس وفي مجاري العادات).

مذهب أهل الحق أن إرادة الله تعالى متعلقة بكل كائن ، غير متعلقة بما ليس بكائن ، على ما اشتهر من السلف ، وروي مرفوعا إلى النبي عليه‌السلام «إن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن» (٤) لكن منهم من منع التفصيل بأن يقال إنه يريد الكفر والظلم والفسق كما في الخلق يقال ، إنه خالق الكل ، ولا يقال : خالق القاذورات والقردة والخنازير ، وخالفت المعتزلة في الشرور والقبائح ، فزعموا أنه يريد من الكافر الإيمان ، وإن لم يقع لا الكفر وإن وقع ، وكذا يريد من الفاسق الطاعة لا الفسق ، حتى أن أكثر ما يقع من العباد خلاف مراده. والظاهر أنه لا يصبر على ذلك رئيس قرية من عباده.

حكى أنه دخل القاضي عبد الجبار (٥) دارا للصاحب بن عباد فرأى الأستاذ أبي إسحاق الأسفرائني. فقال «سبحان من تنزه عن الفحشاء». فقال الأستاذ على الفور «سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء» والتقصي عن ذلك (٦) ، بأنه أراد من العباد الإيمان والطاعة برغبتهم واختيارهم ، فلا عجز ولا نقيصة ولا مغلوبية له في عدم

__________________

(١) سورة الأنعام آية رقم ١٤٨.

(٢) سورة الذاريات آية رقم ٥٦.

(٣) سورة الإسراء آية رقم ٢٨.

(٤) الحديث رواه أبو داود في الأدب رقم ١٠١ بلفظ (لا قوة إلا بالله ما شاء الله كان).

(٥) هو عبد الجبار بن أحمد الهمزاني أبو الحسين : قاض أصولي ، كان شيخ المعتزلة في عصره ، وهم يلقبونه قاضي القضاة ، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره ، ولي القضاء بالري ، ومات فيها عام ٤١٥ ه‍ له تصانيف كثيرة منها تنزيه القرآن عن المطاعن (والأصول الخمسة) (والمغني في التوحيد).

لسان الميزان ٣ : ٣٨٦ وتاريخ بغداد ١١ : ١١٣.

(٦) في (ب) المفضى.

٢٧٥

وقوع ذلك ، كالملك إذا أراد دخول القوم داره رغبة واختيارا لا كرها واضطرارا ، فلم يدخلوا ليس بشيء لأنه لم يقع هذا المراد ووقع مرادات العبيد والخدم ، وكفى بهذا نقيصة ومغلوبية لنا على إرادته للكائنات أنه خالق لها بقدرته من غير إكراه ، فيكون مريدا لها ضرورة أن الإرادة هي الصفة المرجحة لأحد طرفي الفعل والترك ، (١) وعلى عدم إرادته لما ليس بكائن أنه علم عدم وقوعه ، فعلم استحالته لاستحالة انقلاب علمه جهلا والعالم باستحالة الشيء لا يريده البتة.

واعترض بأن خلاف المعلوم مقدور له في نفسه ، والمقدور إذا كان متعلق المصلحة يجوز أن يكون مرادا وإن علم أنه لا يقع البتة وبأن من أخبره النبي الصادق بأن فلانا يقتله البتة يعلم ذلك قطعا مع أنه لا يريد قتله بل حياته.

والجواب أن هذا تمن لا إرادة ، فإنها الصفة التي شأنها التخصيص والترجيح ، وأما الآيات والأحاديث في هذا الباب ، فأظهر من أن تخفى ، وأكثر من أن تحصى ، (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢) (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (٣) (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) (٤) (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (٥) (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٦) (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٧) (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٨) (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٩).

__________________

(١) في (ب) العقل بدلا من الفعل.

(٢) سورة الأنعام آية رقم ١١١.

(٣) سورة الأنعام آية رقم ١٢٥.

(٤) سورة هود آية رقم ٣٤.

(٥) سورة الأنعام آية رقم ٣٥ وقد جاءت هذه الآية محرقة في (ب) حيث قال : لجعلهم بدلا من (لجمعهم).

(٦) سورة النحل آية رقم ٩.

(٧) سورة التوبة آية رقم ٥٥.

(٨) سورة القصص آية رقم ٥٦.

(٩) سورة يونس آية رقم ٢٥.

٢٧٦

وللمعتزلة فيها تأويلات فاسدة ، وتعسفات باردة يتعجب منها الناظر ، ويتحقق أنهم فيها محجوجون ، وبوهقها مخنوقون ، ولظهور الحق في هذه المسألة يكاد عامتهم به يعترفون ، ويجري على ألسنتهم أن ما لم يشأ الله لا يكون. ثم العمدة القصوى لهم في الجواب عن أكثر الآيات حمل المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء ، وحين سئلوا عن معناها تحيروا. فقال العلاف (١) معناها خلق الإيمان والهداية فيهم بلا اختيار منهم.

وردّ بأن المؤمن حينئذ يكون هو الله لا العبد على ما زعمتم في إلزامنا (٢) حين قلنا بأن الخالق هو الله تبارك وتعالى وعزوجل مع قدرتنا واختيارنا وكسبنا ، فكيف بدون ذلك؟ فقال الجبائي : معناها خلق العلم الضروري بصحة الإيمان ، وإقامة الدلائل المثبتة لذلك العلم الضروري.

ورد بأن هذا لا يكون إيمانا والكلام فيه على أن في بعض الآيات دلالة على أنهم لو رأوا كل آية ودليل لا يؤمنون البتة فقال ابنه أبو هاشم معناها : أن خلق لهم العلم الضروري بأنهم لو لم (٣) يؤمنوا لعذبوا عذابا شديدا وهذا أيضا فاسد ، (٤) ، لأن كثيرا من الكفار كانوا يعلمون ذلك ، وكذا إبليس ولا يؤمنون على أنه قال تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٥). يشهد بفساد تأويلاتهم لدلالته على أنه إنما لم يهد الكل لسبق الحكم بملء جهنم ولا خفاء في أن الإيمان والهداية بطريق الجبر لا يخرجهم عن استحقاق جهنم سيما عند المعتزلة. وتمام تفصيل هذا المقام وتزييف تأويلاتهم في المطولات وكتب التأويلات والمعتزلة تمسكوا في دعواهم بوجوه :

__________________

(١) هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي مولى عبد القيس أبو الهذيل العلاف من أئمة المعتزلة ولد في البصرة عام ١٣٥ ه‍ واشتهر بعلم الكلام. قال المأمون : أطل أبو الهذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام ، له مقالات في الاعتزال. كف بصره في آخر عمره مات عام ٢٣٥ ه‍ راجع وفيات الأعيان ١ : ٤٨٠ ومروج الذهب ٢ : ٢٩٨.

(٢) سقط من (أ) حرف الجر (في).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (الضروري).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (فاسد).

(٥) سورة السجدة آية رقم ١٣.

٢٧٧

الأول : أن إرادة القبيح قبيحة ، والله منزه عن القبائح.

وردّ بأنه لا قبيح منه غاية الأمر أنه يخفي علينا وجه حسنه.

الثاني : أن العقاب على ما أراده ظلم ورد بالمنع فإنه تصرف في ملكه.

الثالث : أن الأمر بما لا يراد والنهي عما يراد سفه.

وردّ بالمنع إذ ربما لا يكون غرض الآمر الإتيان بالمأمور. كالسيد إذا أمر العبد امتحانا له هل يطيعه أم لا؟ فإنه لا يريد شيئا من الطاعة والعصيان ، أو اعتذارا عن ضربه بأنه لا يطيعه فإنه يريد منه العصيان ، وكالمكره على الأمر بنهب أمواله ، وكذا النهي.

فإن قيل : مأمور السلطان يبادر إلى المأمور به ، معللا بأنه مراد السلطان.

قلنا : لا مطلقا. بل إذا ظهر أمارة الإرادة ، وإنما يعلل مطلقا بالأمر والإشارة والحكم.

الرابع : لو كان الكفر مرادا لله تعالى لكان طاعة لأن معناها تحصيل مراد المطاع (١) لدورانه معه وجودا وعدما.

وردّ بالمنع بل هي موافقة الأمر وإنما تدور معه علمت الإرادة أو لم تعلم.

الخامس : لو كان مرادا لكان قضاء فوجب الرضاء به والملازمة وبطلان اللازم إجماع.

وردّ بأنه مقضى لا قضاء ، ووجوب الرضا إنما هو بالقضاء دون المقضى ، ودعوى أن المراد بالقضاء الواجب الرضا به هو المقضى من المحن والبلايا والمصائب والرزايا لا الصفة الذاتية لله تعالى بهت بل هو الخلق والحكم والتقدير.

وقد يجاب بأن الرضا بالكفر من حيث انه من قضاء الله تعالى طاعة ، ولا من هذه الحيثية كفر وفيه نظر.

__________________

(١) في (ب) الله بدلا من (المطاع).

٢٧٨

السادس : الآيات الشاهدة بنفي إرادته للقبائح وبالتوبيخ والرد على من يقول بذلك كقوله تعالى (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (١) (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (٢) (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٣) (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٤) (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٥) (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٦) (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (٧) الآية وذلك لأن الله تعالى ذم المشركين ووبخهم على ادعائهم أن الكفر بمشيئة الله تعالى ، وكذبهم وآباءهم في ذلك وعاقبهم عليه ، وحكم بأنهم يتبعون فيه الظن دون العلم ، وأنه كذب صراح.

والجواب : أنه لا يتصور منه الظلم لأن ما يفعله بالعباد تصرف منه في ملكه.

فالإتيان (٨) نفي للظلم بنفي لازمه أعني الإرادة لأن ما يفعله القادر المختار لا يكون إلا مرادا ، وليس فيهما أنه لا يريد ظلم زيد على عمرو لظهور أن المعنى على أنه لا يريد ظلما منه ، وأما نفي الأمر والرضاء والمحبة فلا نزاع فيه لما في المحبة والرضا من الاستحسان وترك الاعتراض ، وإرادة الإنعام ، فهو يريد كفر الكافر ويخلقه ، ومع هذا يبغضه وينهاه عنه ويعاقبه عليه ولا يرضاه.

وأما رد مقال المشركين فلقصدهم بذلك الهزء والسخرية ، وتمهيدا لعذر في الإشراك كما إذا قال القدريّ استهزاء بالسني ، وقصد إلى إلزامه لو شاء الله رجوعي إلى مذهبكم وخلق في عقائدكم لرجعت ، والدليل عليه أنه قال تعالى (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٩) فجعل مقالهم تكذيبا لا كذبا ، ورتب عذاب الآباء على تكذيبهم

__________________

(١) سورة غافر آية رقم ٣١.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ١٠٨.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ٢٨.

(٤) سورة الزمر آية رقم ١٧.

(٥) سورة البقرة آية رقم ٢٠٥.

(٦) سورة الذاريات آية رقم ٥٦.

(٧) سورة الأنعام آية رقم ١٤٨.

(٨) في (ب) فالآيتان وهو تحريف.

(٩) سورة الأنعام آية رقم ١٤٨.

٢٧٩

لا كما زعم المستدل ولهذا صرح ، في آخر الآية بنفي مشيئة هدايتهم ، وأنه لو شاء لفعل البتة إزالة للوهم الذي ذهب إليه المستدل.

السابع : قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) دلّ على أنه أراد من الكل الطاعة والعبادة لا المعصية.

ورد بعد تسليم دلالة لام الفرض على كون ما بعدها ، مرادا بمنع العموم للقطع بخروج من مات على الصبا أو الجنون ، فليخرج من مات على الكفر.

ولو سلم فليس المقصود بيان خلقهم لهذا الغرض بل بيان استغنائه عنهم وافتقارهم إليه بدليل قوله تعالى (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٢) فكأنه قال وما خلقتهم لينفعوني بل لآمرهم بالعبادة أو ليتذللوا إليّ أما بالنسبة إلى المطيع فظاهر ، وأما بالنسبة إلى العاصي فبشهادة الفطرة على تذلله ، وإن تخرص وافترى. كذا في الارشاد لإمام الحرمين.

وذهب كثير من أهل التأويل إلى أن المعنى ليكونوا عبادا لي فتكون الآية على عمومها على أنها يعارضها قوله تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٣) وقوله تعالى (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (٤) وجعل اللام للعاقبة كما في قوله تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٥) إنما يصح في فعل من يجهل العواقب فيفعل لغرض فلا يحصل ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفاعل لهذا الغرض الفاسد تنبيها على أخطائه ، وكيف يتصور في علام الغيوب أن يفعل فعلا لغرض يعلم قطعا أنه لا يحصل البتة بل يحصل ضده. والعجب من المعتزلة كيف لا يعدون ذلك سفها وعبثا ..؟

__________________

(١) سورة الذاريات آية رقم ٥٦.

(٢) سورة الذاريات آية رقم ٥٧.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ١٧٩.

(٤) سورة آل عمران آية رقم ١٧٨.

(٥) سورة القصص آية رقم ٨.

٢٨٠