شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

ويفعلون (١) الزكاة ويعملون الصالحات والسيئات ، وهذه النكتة مما غفل عنها الجمهور ، فبالغوا في نفي كون (ما) موصولة حتى صرح الإمام بأن مثل ما (٢) تنحتون ، وما يأفكون في قوله تعالى (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٣) مجاز دفعا للاشتراك.

واما اعتراضهم بأن الآية حجة عليكم لا لكم حيث أسند العبادة والنحت والعمل إلى المخاطبين فجهل بالمتنازع.

الدليل الثالث

قال (ومنها قوله تعالى (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) (٤)

(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (٥) (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٦) (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) (٧) (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (٨)).

هذه الآيات صرح فيها بلفظ الخلق إلا أن في دلالتها على المطلوب نوع احتمال وخفاء ، لهذا جعلها نوعا آخر ، فقوله «هو الله الخالق» إنما يفيد حصر الخالقية في الله إذا كان الخالق خبرا وهو ضمير الشأن ، أو ضميرا مبهما يفسره الله ، وأما إذا كان الخالق صفة ، فذكر الإمام أنه لما كان الله علما (٩) ، والعلم لا يدل إلا على الذات المخصوصة

__________________

(١) في (ب) يؤتون بدلا من (يفعلون).

(٢) في (ب) أمثال بدلا من (مثل).

(٣) سورة الأعراف آية رقم ١١٧.

(٤) سورة الحشر آية رقم ٢٤.

(٥) سورة الملك آية رقم ١٣ وقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل. حيث جاءت بالصاد بدلا من السين في (أسروا).

(٦) سورة فاطر آية رقم ٣.

(٧) سورة النحل آية رقم ٢٠.

(٨) سورة لقمان آية رقم ١١.

(٩) في (ب) عالما بدلا من (علما).

٢٤١

بمنزلة الإشارة لم يجز أن يكون الحكم عائدا إليه ، إذ لا معنى لقولنا : إن هذا المعين ليس إلا هذا المعين. (١) ولزم أن يكون عائدا إلى الوصف على معنى أنه الخالق لا غيره وفيه ضعف لا يخفى على العارف بأساليب الكلام. وقوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (٢) احتجاج على علمه تعالى بما في القلوب من الدواعي والصوارف والعقائد ، والخواطر ، بكونه خالقا لها على طريق ثبوت اللازم. أعني العلم بثبوت ملزومه أعني الخلق ، وفي أسلوب الكلام إشارة إلى أن كلا من اللزوم وثبوت الملزوم واضح لا ينبغي أن يشك فيه ، ولهذا يستدل بالآية (٣) على نفس كون العبد خالقا لأفعاله على طريق نفس الملزوم. أعني خلقه لأفعاله ينفي اللازم ، أعني علمه بتفاصيلها لكن كون ذوات الصدور من (٤) قبيل الأفعال الاختيارية التي فيها النزاع محل بحث ، وكذا دلالة الآية على كون العلم من لوازم الخلق على الإطلاق بل على تقدير كون الخالق هو اللطيف الخبير فليتأمل. وقوله تعالى (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٥) لا ينفي خالقا سوى الله على الإطلاق بل بوصف كونه رازقا لنا من السماء والعبد ليس كذلك.

وأجاب الإمام بأن ملائكة السماء الساعين في إنزال الأمطار رازقون لنا بمعنى التمكين من الانتفاع بأنواع النبات والثمار كما يقال : رزق السلطان فلانا ، فلو كانوا خالقين لأفعالهم لوجد خالق غير الله يرزق من السماء وفيه ضعف.

وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) (٦) يتناول المسيح والملائكة وغيرهم من الأحياء الذين يدعونهم الكفار فيجب أن لا يخلقوا شيئا أصلا ، وقوله تعالى (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (٧) يدل على أن من سوى الله (٨) لم يخلق شيئا وإلا لكان للكفار أن يقولوا نحن خلقنا كثيرا من الحركات

__________________

(١) في (ب) لمعين بدلا من (إذ لا معنى).

(٢) سورة الملك آية رقم ١٣ ، ١٤.

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (به).

(٤) في (ب) الصور بدلا من (الصدور).

(٥) سورة فاطر آية رقم ٣.

(٦) سورة النحل آية رقم ٢٠.

(٧) سورة لقمان آية رقم ١١.

(٨) في (ب) رسول الله بدلا من (من سوى الله).

٢٤٢

والأوضاع والهيئات المحسوسة إن أريد بالإرادة الإبصار وإن أريد الإعلام فجميع الأفعال الظاهرة والباطنة ، لكن مبنى الوجهين على أن لا يكون الموصول إشارة إلى الأصنام خاصة ، ومن هذا القبيل قوله تعالى (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (١) (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢) (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) (٣) (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٤).

فإن قيل : على الوجوه نحن نجعل العبد موجدا لأفعاله ، لا خالقا لأن الخلق هو الإيجاد على وجه التقدير العاري عن الخلل. وعلى الوجه الذي يقدره وإيجاد العبد ربما يقع على وجه الخلل ، وعلى خلاف ما قدره.

قلنا : ليس الخلق إلا إيجادا على وجه التقدير أي الإيقاع على قدر وجه (٥) مخصوص ، وفعل العبد ربما يكون كذلك. فلو كان هو موجدا له لكان خالصا.

الدليل الرابع

قال (ومنها نحو قوله تعالى حكاية (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (٦).

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) (٧) (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٨)).

فإن جعل المتعدي إلى مفعولين يكون بمعنى التصيير أي تحصيل صنعة مكان صنعة ، فإذا وقع مفعوله الثاني من أفعال العباد أفاد أنها بجعل الله وبخلقه ، والمعتزلة

__________________

(١) سورة الأعراف آية رقم ٥٤.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٩.

(٣) سورة ص آية رقم ٢٧.

(٤) سورة طه آية رقم ٥٠.

(٥) في (ب) وجه بدلا من (قدر).

(٦) سورة البقرة آية رقم ١٢٨.

(٧) سورة ابراهيم آية رقم ٤٠.

(٨) سورة مريم آية رقم ٦.

٢٤٣

يجعلون أمثال هذا مجازا عن التوفيق ، ومنح الألطاف والخذلان ، ومنعها ، أو التمكين والأقدار ونحو ذلك ، إلا أنها من الكثرة والوضوح بحيث لا مجال لهذه التأويلات عند المنصف.

الدليل الخامس

قال (ومنها مثل : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١)

(يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) و (يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)).

هذه آيات تدل على أن الله تعالى يفعل كل ما يتعلق به إرادته ومشيئته وهي متعلقة بالإيمان وسائر الطاعات أيضا ، فيجب أن يكون فاعلها أي موجدها هو الله تعالى ، وحمل الكلام على أنه يفعل ما يريد فعله عدول عن الظاهر.

الدليل السادس

قال (ومنها) (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢)

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (٣) ، (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤) (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٥) (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٦) (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٧) (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) (٨) إلى غير ذلك).

هذه آيات مختلفة الأساليب في إفادة المطلوب ، فالظاهر من قوله تعالى (إِنْ

__________________

(١) سورة هود آية رقم ١٠٧.

(٢) سورة النساء آية رقم ٥٣.

(٣) سورة النحل آية رقم ٥٣.

(٤) سورة النحل آية رقم ٤٠.

(٥) سورة المجادلة آية رقم ٢٢ وقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل حيث قال : قلوبكم بدلا من (قلوبهم).

(٦) سورة النجم آية رقم ٤٣.

(٧) سورة يونس آية رقم ٢٢.

(٨) سورة النحل آية رقم ٧٩.

٢٤٤

تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) إن جميع الحسنات والسيئات من الطاعات والمعاصي وغيرها ، بخلق الله ومشيئته ، لأن منشأ الاحتياج أعني الإمكان أو الحدوث مشترك بين الكل بحيث لا ينبغي أن يخفى على العاقل ، فما لهم لا يفهمون ذلك فعلى هذا يكون قوله بعد ذلك (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٢) واردا على سبيل الإنكار أي كيف تكون هذه التفرقة أو محمولا على مجرد السببية دون الإيجاد توفيقا بين الكلامين ، ومن قوله تعالى (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (٣) وقوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤) أن الإيمان وجميع الطاعات حاصلة من الله وبتكوينه لكونها نعما لنا ومرادة له. ومن قوله تعالى (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٥) أنه الذي أثبت الإيمان ، وأوجده في القلوب. ومن قوله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٦) أنه يوجد الضحك والبكاء ، ومن قوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٧) أنه الموجد لسيرنا ومن قوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) (٨) أنه الموجد لوقوف الطير في الهواء ، مع أنه فعل اختياري من الحيوان ، وأمثال هذا كثيرة جدا (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٩) (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١٠) (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) (١١) وتأويلات القدرية عدول عن الظاهر بلا ضرورة لما سيأتي من إبطال أدلتهم القطعية.

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ٧٨.

(٢) سورة النساء آية رقم ٧٩.

(٣) سورة النحل آية رقم ٥٣.

(٤) سورة النحل آية رقم ٤٠.

(٥) سورة المجادلة آية رقم ٢٢.

(٦) سورة النجم آية رقم ٤٣.

(٧) سورة يونس آية رقم ٢٢.

(٨) سورة النحل آية رقم ٧٩.

(٩) سورة طه آية رقم ٢٥.

(١٠) سورة آل عمران آية رقم ١٢٦.

(١١) سورة آل عمران آية رقم ٨.

٢٤٥

الأحاديث الدالة على أن فعل العبد

واقع بقدرة الرب

قال (ومنها ما تواتر (١) معناه من الأحاديث الدالة على كون كل كائن بتقدير الله تعالى ومشيئته).

الأحاديث الواردة في باب القضاء والقدر وكون الكائنات بتقدير الله ومشيئته وإن كانت آحادا إلا أنها متواترة المعنى كشجاعة علي رضي الله تعالى عنه وجود حاتم وكلها صحاح بنقل الثقات مثل البخاري ومسلم وغيرهما ، وإن وقع في بعضها اختلاف رواية في بعض الألفاظ منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده تلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى» (٢).

ومنها ما روى علي رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره» (٣) ومنها ما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس».

ومنها ما روي أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته» (٤).

__________________

(١) في (ب) توارد بدلا من (تواتر).

(٢) الحديث رواه البخاريّ في الأنبياء ٣١ ، وتوحيد ٣٧ ومسلم في القدر ١٣ ، ١٥ ، وأبو داود في السنة ١٦ ، ١٧ والترمذيّ في القدر ٣ وابن ماجه في المقدمة ١٠ وعند ابن ماجه : فحج آدم موسى. ثلاث مرات ومعنى : فحج : أي غلب عليه بالحجة.

(٣) الحديث رواه مسلم في الإيمان ١ ، ٧ وأبو داود في السنة ١٦ والترمذيّ في القدر ١٠ ، وإيمان ٤ والنسائيّ في الإيمان ٥ ، ٦ وابن ماجه في المقدمة ٩ ، ١٠ وأحمد بن حنبل : ١ : ٢٧ ، ٢٨ ، ٥٢ ، ٩٧ ، ١٣٣ ، ٣١٩ ، ٢ : ١٠٧ ، ١٨١ ، ٢١٢.

(٤) الحديث رواه مسلم في القدر ١٨ ، والموطأ في القدر ٤ وأحمد بن حنبل فى مسنده ٥ ، ٢ : ١١.

٢٤٦

ومنها قوله عليه‌السلام : «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه» (١).

وعن جابر رضي الله تعالى عنه : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (٢) فقيل له : يا رسول الله أتخاف علينا وقد آمنا بك وبما حدثت به فقال «إن القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها هكذا» وأشار إلى السبابة والوسطى يحركهما. (٣) والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة.

__________________

(١) الحديث رواه ابن ماجه في المقدمة ١٣ وأحمد بن حنبل في المسند ٤ : ١٨٢.

(٢) الحديث رواه الترمذيّ في القدر ٧ ، والدعوات ٨٩ ، ١٢٤ ، وابن ماجه في الدعاء ٢ ، وأحمد بن حنبل ٤ : ١٨٢ ، ٤١٨ ، ٦ : ٩١ ، ٢٥١.

(٣) الحديث رواه مسلم في القدر ١٧ وابن ماجه في المقدمة ١٣ ، وأحمد بن حنبل : ٢ ، ١٦٨ ، ١٧٣ ، ٦ ، ١٨٢ ، ٢٥١.

٢٤٧

أدلة المعتزلة على أن أفعال العباد

واقعة بخلقهم وإيجادهم

قال (وأما المعتزلة)

(منهم من ادعى الضرورة لأن كل أحد يفرق بين حركة سقوطه وصعوده ، ويجد تصرفاته بحسب دواعيه ومقصوده ، وبحكم مدح من أحسن وذم من أساء ، وصحة طلب الشيء من الصحيح دون المقعد وصحة تحريك المدرة دون الجبل ولا شك في أن ما يطلبه أو ينهى عنه أو ما يتمناه إذ يتعجب منه ، إنما هو فعل فاعله ، كل ذلك بلا نظر وتأمل.

والجواب : أنها لا تفيد سوى أن من الأفعال ما هو متعلق بقدرته وإرادته واقع بحسب قصده وداعيته والمتنازع كونه بخلقه وإيجاده ، وقد خالف فيه أكثر العقلاء ، فادعاء كونه ضروريا آية الوقاحة فضرورة عمن هو في غاية الحذاقة لا يكون إلا تغبية وتلبيسا على أصحابه كيلا يتبين لهم رجوعه إلى الحق حيث ذهب إلى أن توقف ترجح القادر أحد طرفي الفعل والترك على الداعي ضروري ، وحصول الفعل عقيب الداعي واجب أو ينتفي حينئذ استقلال العبد بالفاعلية ، ويبطل الاعتزال بالكلية حيث لا يبقى المأمور مع الداعي الذي هو بخلق الله متمكنا من الفعل والترك ، كما إذا كان نفس الفعل كذلك.

قيل : المراد بالوجوب أنا نعلم أنه يفعل البتة مع إمكان الترك كثواب الأنبياء بالجنة ، وعقاب الكفار بالنار.

قلنا : إن لزم مع خلوص الداعي إيثار جانب الفعل بحيث لا يتمكن من الترك فذاك ، وإلا فلا فالوجوب مجرد تسمية واعتقاد الحصول رجم بالغيب ، وإنما يكون علما إذا اعتقد وجوب الصدور ، ولهذا يستدل بنفي الفعل على نفي القدرة والإرادة).

٢٤٨

القائلون بأن أفعال العباد واقعة بخلقهم وإيجادهم استقلالا ، افترقوا فرقتين. فأبو الحسين البصري وأتباعه ، ادعوا أن هذا الحكم ضروري مكروز في عقول العقلاء المنصفين الخالين عن (١) تقليد أسلافهم ، وذكروا في ذلك وجوها على قصد التنبيه أو الاستدلال ، فإنه ربما يكون الحكم ضروريا ، والحكم بضروريته ، استدلاليا.

الأول : أن كل أحد يفرق بالضرورة بين حركاته الاختيارية كالمشي على الأرض ، والصعود إلى الجبل ، والاضطرارية كالارتعاش ، والسقوط من السطح ، وما ذاك إلّا بأن الأولى بقدرته وإيجاده بخلاف الثانية.

الثاني : أن كل أحد يعلم بالضرورة أن تصرفاته واقعة بحسب قصده وداعيته ، كالإقدام على الأكل والشرب عند اشتداد الجوع ، والإحجام عنهما إذا علم أن في الطعام والماء سما ، ولا معنى لوجود الفعل بالاختيار إلا الذي يحدث منه الفعل على وفق دواعيه.

الثالث : أن كل فاعل يعلم (٢) بالضرورة حسن مدح من أحسن إليه وذم من أساء ، ولو لا أنه (٣) يعلم بالضرورة كونه المحدث لتلك الأفعال لما حكم بذلك ، كما لا يحكم بحسن المدح والذم على ما ليس من أفعاله ، ولهذا إذا رمى العاقل ندم الرامي لا الآخرة.

الرابع : أنه يعلم بالضرورة صحة القيام أو المشي من الصحيح البنية لا من الزمن والمقعد بناء على صحة حدوثهما من الأول دون الثاني ، وإذا كان الفرع ضروريا ـ فالأصل بطريق الأولى.

الخامس : أنه يعلم بالضرورة أنه يصح منه تحريك المدرة دون الجبل ، ولا معنى لهذا سوى العلم بقدرته على تحريكها دونه ، ولهذا يقصد الحمار طرف الجدول (٤) الضيق دون الواسع.

__________________

(١) في (ب) من بدلا من (عن).

(٢) في (ب) عاقل بدلا من (فاعل).

(٣) في (ب) ولو بدلا من (لو لا).

(٤) في (أ) طفر بدلا من (طرف) وهو تحريف.

٢٤٩

السادس : أن الطالب العاقل يعلم بالضرورة أنه يطلب ما يحدثه المأمور ، ولهذا يتلطف في استدعاء ذلك الفعل منه ، وأنه ينهى عما يكرهه من الأفعال التي يحدثها المنهي ، وكذا التمني والتعجب وغير ذلك ، وكل هذا يدل على أن فعل العبد إحداثه ، والواجب أن هذه الوجوه لا تفيد سوى أن من الأفعال (١) المستندة إلى العبد ما هو متعلق بقدرته وإرادته ، واقع بحسب قصده وداعيته وهي المسماة بالأفعال الاختيارية ، وكونها مقدورة للعبد واقعة بكسبه ، وعلى حسب قصده واختياره ، وعند صرف قدرته وإرادته ، وإن كانت مخلوقة لله تعالى كان في حسن المدح والذم وصحة الطلب والنهي والتمني والتعجب ونحو ذلك ، ولا يفيد كونها مخلوقة للعبد على ما هو المتنازع ، فضلا أن تفيد العلم الضروري بذلك والعجب من أبي الحسين وهو في غاية الحذاقة ، كيف اجترأ على هذه الدعوة ، وهي آية الوقاحة حيث نسب جميع ما سواه (٢) من العقلاء إلى السفسطة ، وإنكار الضرورة ، أما السنية والجبرية فظاهر ، وأما القدرية فلأنهم حملوا الحكم بكون العبد مرجوا لأفعاله نظريا لا ضروريا وذكر الإمام في نهاية العقول ، أن أبا الحسين لما خالف أصحابه في قولهم القادر على الضدين لا يتوقف فعله لأحدهما دون الآخر على مرجح ، وذهب إلى أن العلم بتوقف صدور الفعل على الداعي ضروري ، وأن حصول الفعل عقيب الداعي واجب لزمه من هاتين المقدمتين عدم كون العبد موجدا لفعله وفيه إبطال للأصول التي عليها مدار (٣) أمر الاعتزال ، فخاف من تنبيه أصحابه ، أنه رجع عن مذهبه ، فليس الأمر عليهم ، وادعى العلم الضروري بكون العبد موجدا لفعله ، ثم قال الإمام لا يقال الاعتراف بتوقف صدور الفعل عن القادر على الداعي ، ووجوب حصوله عند حصوله لا ينافي القول بأن قدرة العبد تؤثر في وجود الفعل ، وإما ينافي استقلاله بالفاعلية ، وهو إما ادعى العلم الضروري في الأول لا في الثاني. لأنا نقول نحن لا نستدل بالدليل المذكور لأجل بيان أن القدرة الحادثة غير مؤثرة ، بل لبيان سلب الاستقلال كما هو مذهب الأستاذ وإمام الحرمين. فإن كان أبو الحسين قد ساعدنا

__________________

(١) في (أ) بزيادة حرف الجر (من).

(٢) في (أ) ما بدلا من (من) التي للعاقل.

(٣) في (أ) مدى بدلا من (مدار).

٢٥٠

عليه فمرحبا بالوفاق ، لكن يلزم منه فساد مذهب الاعتزال (١) بالكلية لأنه لا فرق في العقل بين أن يأمر الله العبد بما يكون فعلا لله تعالى ، وأن يأمره بفعل يجب حصوله عند فعل الله تعالى ، ويمتنع حصوله عند عدمه ، فإن المأمور على كلا التقديرين لا يكون متمكنا من الفعل والترك ، ولا بين أن يعذب الله العبد على ما أوجده فيه ، وأن يعذبه على ما يجب حصوله عند حصول ما أحدثه الله فيه ، ولا بين فاعل القبيح والظلم ، وفاعل ما يوجب القبيح والظلم فمن اعترف بوجوب حصول الفعل عند حصول الإرادة الحادثة ، انسد عليه باب الاعتزال. فظهر أن أبا الحسين كان من المنكرين لمذهب الاعتزال في هذه المسألة ، وأن مبالغته في دعوى الضرورة فيها كانت على سبيل التغبية والتلبيس ، وزعم بعض المتأخرين من المعتزلة أن معنى الوجوب عند خلوص الداعي ، أنا نعلم أن القادر بفعله مع إمكان الترك ، كما نعلم أن الله يثيب الأنبياء والأولياء بالجنة ، ويعاقب الكفار بالنار ، مع إمكان تركهما نعلم أن العرب لو قدروا على مثل القرآن مع توافر الدواعي وانتفاء الموانع لأتوا بمثله ، ولا وجوب الإتيان بمثله بمعنى الذي ذكرنا لما عرفنا عجزه لجواز أن يقدروا ولا يأتوا به ، وفيه نظر لأنه إما أن يلزم مع خلوص الداعي صدور الفعل من القادر. بحيث لا يصح منه الترك وإن كان ممكنا في نفسه! وبالنظر إلى أصل قدرته وإرادته فيتم ما ذكره الإمام من وجوب الفعل لظهور أن تلك الداعية والإرادة الجازمة (٢) ليستا بإرادة العبد ، وهذا هو المعنى بالجبر ، الذي يقول به أهل الحق ، ويلزم أبا الحسين لا الجبر المغلق الذي يقول به المجبرة. وبطلانه ضروري. وإما أن لا يلزم (٣) فلا معنى لتسميته بالوجوب ، ولا طريق إلى العلم بالصدور ، بل هو رجم بالغيب ، لأن المفروض تساوي الأمرين ، وإما العلم فرع اعتقاد الوجوب ، ألا يرى أنه إذا قيل من أين عرفت عجز المتحدين؟ قيل لأنه خلصت دواعيهم (٤) فلو قدروا لأتوا به ، وهذا معنى الوجوب لأنه ، استدلال بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم ، ولهذا يستدل بنفي الفعل عند تحقق القدرة على نفي الداعية وجزم الإرادة.

__________________

(١) في (ب) المعتزلة بدلا من الاعتزال.

(٢) في (ب) الحادثة بدلا من (الجازمة).

(٣) في (ب) وإن لم بدلا من (وإما أن لا يلزم).

(٤) في (ب) خصلة وهو تحريف.

٢٥١

الأدلة العقلية التي تمسك بها

المعتزلة

قال (ومنهم من احتج عليه)

عقلا ونقلا : أما العقليات فوجوه :

(الأول : أنه لو لا استقلال العبد لبطل المدح والذم والأمر والنهي والثواب ، والعقاب وفوائد الوعد والوعيد ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، والفرق بين الكفر والإيمان والإساءة والإحسان وفعل النبي والشيطان ، وكلمات التسبيح والهذيان (١) ، وكذا بين ما يقع بأعضاء العبد على وفق إرادته وإرادة غيره مع أن التفرقة مدركة بالوجدان.

الثاني : أن من الأفعال قبائح يقبح من الحكيم خلقها كالظلم والشرك ، وإثبات الولد ونحو ذلك.

الثالث : أن فعل العبد واجب الوقوع على وفق إرادته ، فلو كان بإيجاد الله لما كان كذلك بجواز أن لا يحدثه عند إرادته ، ويحدثه عند كراهته.

الرابع : لو كان الله خالقا لأفعال المخلوقين لصح اتصافه بها ، إذ لا معنى للكافر إلا فاعل الكفر ، فيكون كافرا ظالما فاسقا آكلا شاربا قائما قاعدا إلى ما لا يحصى.

والجواب : عن الأول. أنه لا إشكال على من يجعل فعل العبد متعلقا لقدرته ، وإرادته واقعا بكسبه ، وعقيب عزمه ، ولو لزم فعل المعتزلة أيضا لوجوب الفعل أو امتناعه بناء على المرجح الموجب ، والعلم الأزلي وجودا وعدما.

__________________

(١) هذي : الهذيان كلام غير معقول مثل كلام المبرسم والمعتوه هذي يهذي هذيا وهذيانا تكلم بكلام غير معقول في مرض أو غيره ، وهذي إذا هذر بكلام لا يفهم وهذي به ذكره في هذانه والاسم من ذلك الهذاء.

راجع لسان العرب ج ٢ ص ٢٣٦.

٢٥٢

وعن الثاني : بعد تسليم القبح العقلي. أن القبيح فعل القبيح لا خلقه.

وعن الثالث : أنه لو سلم وجوب الوقوع فعلى وفق إرادة الله الموافقة لإرادة العبد عادة.

وعن الرابع : أنه حماقة (١) أو وقاحة).

المتقدمون من المعتزلة على أن العلم بكون العبد موجدا لأفعاله نظري ، فتمسكوا بوجوه عقلية ونقلية.

الدليل الأول

أما العقليات فمرجعها إلى خمسة.

الأول : وهو عمدتهم الكبرى ، وعروتهم الوثقى ، أنه لو لم يكن العبد موجدا لأفعاله بالاستقلال لزم فسادات منها بطلان المدح والذم عليها. [إذ لا معنى للمدح والذم] (٢) على ما ليس بفعل له ، ولا واقع بقدرته واختياره. وردّ بالمنع بل ربما يمدح أو يذم على ما هو محل له كالحسن والقبح واعتدال القامة ، وإفراط القصر. ومنها بطلان التكاليف من الأوامر والنواهي ، إذ لا معنى للأمر بما لا يكون فعلا للمأمور ، ولا يدخل في قدرته ، بل ما لا يطيقه المرض ونحوه حتى أن العقلاء يتعجبون منه ، وينسبون الآمر إلى الحمق والجنون بمنزلة من يطلب من إنسان خلق الحيوان ، والطيران إلى السماء. بل من الجماد المشي على الأرض والصعود في الهواء ، وكذا الثواب والعقاب إذ لا وجه للثواب والعقاب على ما هو بخلق المثيب والمعاقب حتى أن من يعاقب على ما يخلقه كان أشد ضررا على العبد من الشيطان ، وأحق منه بالذم إذ ليس منه إلا الوسوسة (٣) والتزيين ، ومنها بطلان فوائد الوعد والوعيد وإرسال

__________________

(١) الحمق ضد العقل وقال الجوهريّ : الحمق والحمق قلة العقل حمق يحمق حمقا وحماقة ، واستحمق الرجل إذا فعل الحمقى وتحامق فلان : إذا تكلف الحماقة وقال الشاعر :

إن للحمق نعمة في رقاب الناس

تخفى على ذوي الألباب

راجع لسان العربي ج ١١ ص ٣٥٣.

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) الوسوسة ، والوسواس : الصوت الخفي من ريح والوسواس صوت الحلى ، والوسواس حديث النفس يقال : وسوست إليه نفسه ووسوسة وسواسا ، والوسواس بالفتح الشيطان وفي الحديث الحمد لله الذي ـ

٢٥٣

الرسل ، وبعثة الأنبياء ، وإنزال الكتب من السماء ، إذ لا يظهر للترغيب والترهيب ، والحث على تحصيل الكمالات ، وإزالة الرذائل ونحو ذلك فائدة ، إلا إذا كان بقدرة (١) العبد وإرادته تأثير في أفعاله ويتولى مباشرتها باستقلاله. ومنها بطلان الفرق بين الأفعال التي تطابق العقل والشرع على استحسانها واستحقاقها المدح في العاجل والثواب في الآجل ، والتي ليست كذلك كالكفر والإيمان وكالإساءة إلى الفقراء والإحسان ، وكفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهداية والإرشاد ، وتمهيد قواعد الخيرات ، وفعل إبليس من الإضلال والإغواء ، وتزيين الشرور والشهوات ، وكالتكلم بالتسبيحات ، والدعوات المترتب عليها الثواب باستجابة ، والتكلم بالهذيانات والفحش والهجاء التي لا تورث (٢) إلا اللوم والعقاب ، لأن الكل بخلق الله تعالى من غير تأثير للعبد ، ومنها بطلان الفرق بين الحركات التي تظهر من أعضاء العبد بقدرته وإرادته ، والتي تظهر منها بقدرة الغير وإرادته كما إذا حرك زيد يد عمرو مثلا مع أن كل أحد يفرق بينهما بالضرورة.

والجواب عن الكل ، أنه إنما يرد على المجبرة النافين لقدرة العبد واختياره ، لا على من يجعل فعله متعلقا بقدرته وإرادته واقعا بكسبه ، وعقيب عزمه ، وإن كان بخلق الله تعالى عزوجل ، ولا على من يجعل قدرته مؤثرة (٣) لكن لا بالاستقلال بل بمرجح هو بمحض خلق الله تعالى ، على أن من الفسادات (٤) ما يلزم المعتزلة أيضا ، كبطلان استقلال العبد بناء على وجوب الفعل وامتناعه لوجود المرجح أو عدمه ، وتعلق علم الله بوقوعه (٥) أو لا وقوعه ، ومنها ما يندفع بطريق آخر ، فإن المدح والذم قد يكون باعتبار المحلية دون الفاعلية ، كالمدح والذم بالحسن والقبح وسائر الغرائز ، وأن

__________________

ـ رد كيده إلى الوسوسة ـ هي حديث النفس ورجل موسوس إذا غلبت عليه الوسوسة وفي حديث عثمان ـ رضي الله عنه ـ قبض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسوس ناس وكنت فيمن وسوس يريد أنه اختلط كلامه.

لسان العرب ج ٨ ص ١٤١ ، ١٤٢ ..

(١) سقط من (أ) لفظ (كان بقدرة).

(٢) في (ب) والنجاء وهو تحريف.

(٣) في (ب) مؤخرة بدلا من (مؤثرة).

(٤) في (ب) العبارات بدلا من (الفسادات).

(٥) سقط من (ب) لفظ (بوقوعه).

٢٥٤

الثواب والعقاب أيضا ، لما فعل الله وتصرفا فيما هو حقه لم يتوجه سؤال لميته كما لا يقال لم خلق الإحراق عقيب مس النار ، وأن التكليف والبعثة والتهديد والوعيد والوعد ، ونحو ذلك ، قد يكون دواعي إلى الفعل أو الترك فيخلقه الله تعالى ، وأن عدم افتراق الفعلين في المخلوقية لله تعالى لا ينافي افتراقهما بوجوه أخر.

الثاني : ـ أن كثيرا من أفعال العباد قبيحة كالظلم والشرك والفسق والقول باتخاذ الولد ونحو ذلك ، والقبيح لا يخلقه الحكيم لعلمه بقبحه ، وعلمه بغناه عن خلقه (١).

ورد بعد تسليم الحسن والقبح العقليين بأن خلق القبيح ، ربما تكون (٢) له عاقبة (٣) حميدة ، فلا يقبح بخلاف فعله. وما يقال إنه لا معنى لفاعل القبيح لا موجده (٤) ومحدثه ليس بشيء.

فإن الظالم من اتصف بالظلم لا من أوجده في محل آخر.

الثالث : أن فعل العبد في وجوب الوقوع وامتناعه تابع لقصد العبد وداعيته وجودا وعدما ، وكل ما هو كذلك لا يكون بخلق الخير وإيجاده. أما الصغرى فللقطع بأن من اشتد جوعه وعطشه ووجد الطعام والماء بلا صارف ، يأكل ويشرب البتة ، ومن علم أن دخول النار محرق ، ولم يكن له داع إلى دخولها لا يدخلها البتة.

وأما الكبرى فلأن ما يكون بإيجاد الغير لا يكون في الوجوب والامتناع تابعا لإرادة العبد لجواز أن لا يوجده عند إرادته أو يوجده عند كراهيته ، ولك أن تنظم القياس هكذا : لو كان فعل العبد بإيجاد الله تعالى لم يكن تابعا لإرادة العبد وجوبا وامتناعا ، لكن اللازم باطل وهكذا لو كان فعل العبد تابعا لإرادته لم يكن بإيجاد الله تعالى ، لكن الملزوم حق.

والجواب : أن ما ذكر في بيان الصغرى لا يفيد الوجوب والامتناع بل

__________________

(١) في (أ) بفناه بدلا من (بغناه).

(٢) في (ب) لا بدلا من (ربما).

(٣) سقط من (ب) لفظ (له).

(٤) في (ب) بزيادة أداة الاستثناء (إلا).

٢٥٥

الوقوع ، واللاوقوع في بعض الأفعال ، ورب فعل يتبع إرادة الغير كما للخدم والعبيد ، فينتقض الكبرى. ولو سلم الوجوب والامتناع ، فلم لا يجوز أن يكون بتبعية إرادة الله تعالى ، وقد وافقت إرادة العبد بطريق جري العادة.

الرابع : أن الله تعالى لو كان موجدا لأفعال العباد لكان فاعلا لها ، لأن معناهما واحد ، ولو كان فاعلا لها لكان متصفا بها لأنه لا معنى للكافر والظالم مثلا إلا فاعل الكفر والظلم وحينئذ يلزم أن يكون الباري تعالى وتقدس كافرا ظالما فاسقا آكلا شاربا قائما (١) قاعدا إلى غير ذلك من الفواحش التي لا يستطيع العاقل إجزاءها على اللسان ، بل إخطارها بالبال ، وهذه الشبهة كنا نسمعها من حمقى العوام والسوقية من المعتزلة فنتعجب حتى وجدناها في كتبهم المعتبرة ، فتحققنا أن التعصب يغطي على العقول ، وعنده تعمى القلوب التي في الصدور ، ولا أدري كيف ذهب عليهم أن مثل هذه الأسامي إنما تطلق على من قام به الفعل لا من أوجد الفعل أو لا يرون أن كثيرا من الصفات قد أوجدها الله تعالى في مجالها وفاقا ، ولا تتصف بها إلا المحال. نعم إذا ثبت بالدليل أن الموجد هو الله تعالى لزمهم صحة هذه التسمية بناء على أصلهم الفاسد في إطلاق المتكلم على الله تعالى لايجاده الكلام في بعض الأجسام ، وكأن قول القائل لخصمه : مذهبك باطل حجة لكونه كلام الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وهم لجهلهم يوردون مثل هذا الإلزام على أهل الحق ، ويجعلون قول السني للمعتزلي آذيتني ، أو طلبتك ، أو أقبل عليّ ، وما أشبه ذلك تركا للمذهب ، ويعتقدون أن إسناد الأفعال إلى العباد مجاز عند أهل السنة ـ [وتمادوا في ذلك حتى زعم بعض من يعتقده الشيعة (٢) أعلم الناس أن مثل طلعت الشمس مجاز عند أهل السنة]

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (قائما).

(٢) الشيعة : هم الذين شايعوا عليا ـ رضي الله عنه ـ وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصية ، إما جليا أو خفيا ، واعتقدوا أن الإمامة. لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو تقية من عنده وقالوا بأن الإمامة قضية أصولية ، وهي ركن الدين ويجمعهم القول : بوجوب التعيين والتنصيص ، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوبا عن الكبائر والصغائر.

راجع الملل والنحل ج ١ ص ١٤٦.

٢٥٦

الأدلة السمعية التي تمسك بها المعتزلة

على إيجاد العباد لأفعالهم

قال (وأما السمعيات فكثيرة جدا)

(قد ضبطها أنواع :

الأول : إسناد الأفعال إلى العباد وهو أكثر من أن يحصى لكنه غير المتنازع.

الثاني : الآيات الواردة في الأمر والنهي والمدح والذم والوعد والوعيد ، وقصص الماضين للإنذار والاعتبار وقد سبق جوابه.

الثالث : إسناد الألفاظ الموضوعة للإيجاد إلى العباد (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) (١) (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) (٢) (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٣) (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) (٤) (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) (٥) (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٦) (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧) (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) (٨).

قلنا : مجاز في المسند أو الإسناد وتوفيقا بين الأدلة أو المؤثر مجموع القدرة والإرادة المخلوق لله تعالى ، فلا إشكال ولا استقلال.

الرابع : الآيات الدالة على أنه لا مانع من الإيمان والطاعة ولا إلجاء على الكفر

__________________

(١) هذا جزء من آية من سورة النحل رقم ٩٧.

(٢) هذا جزء من آية من سورة البقرة رقم ١٩٧.

(٣) سورة يوسف آية رقم ٧٧.

(٤) سورة آل عمران آية رقم ٢٥.

(٥) سورة البقرة آية رقم ١٩.

(٦) سورة المؤمنون آية رقم ١٤.

(٧) سورة الكهف آية رقم ٧٠.

(٨) سورة الحديد آية رقم ٢٧.

٢٥٧

والمعصية (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) (١) (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢) (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (٣) (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (٤) (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٥) ونحو ذلك.

وردّ بأن المراد الموانع الظاهرة التي يعترف بها الكل أو المانع عن الغرم وصرف القدرة ، وما يتعلق بهم.

الخامس : تعليق أفعال العباد بمشيئتهم دون مشيئته (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٦) (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٧).

قلنا : نعم لكن مشيئتهم بمشيئته (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٨)).

حتى زعموا أنه ما من آية إلا وفيها دلالة على بطلان الجبر ، وقد بينه الإمام الرازيرحمه‌الله في سورة الفاتحة (٩) ، ليقاس عليه الباقي ، وبلغ الأمد الأقصى في التقرير والمعارضة من جانب أهل الحق ، ثم ضبط دلائلهم السمعية على كثرتها في عدة أنواع.

الأول : الآيات الدالة على إسناد الأفعال إلى العباد ، بإسناد الفعل إلى فاعله ، وهو أكثر من أن يحصى فليبدأ من قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) (١٠) إلى قوله تعالى (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (١١) وقد عرفت أن هذا

__________________

(١) هذا جزء من آية من سورة الاسراء رقم ٩٤.

(٢) سورة الانشقاق آية رقم ٢٠.

(٣) سورة آل عمران آية رقم ٧١.

(٤) هذا جزء من آية من سورة البقرة رقم ٢٨.

(٥) هذا جزء من آية من سورة آل عمران رقم ٩٩.

(٦) سورة الكهف آية رقم ٢٩.

(٧) جزء من آية من سورة فصلت رقم ٤٠.

(٨) سورة الإنسان آية رقم ٣٠.

(٩) يقول الفخر الرازي في تفسير سورة الفاتحة : إن ترتب الفعل على الإرادة ضروري ، لأن الإرادة الجازمة الخالية عن المعارض لا بد وأن يترتب عليها الفعل ، وترتب الإرادة على تألم القلب أيضا ضروري ، فإن من تألم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه .. الخ.

راجع تفسير سورة الفاتحة ج ١ ص ٥٠٨ من مفاتح الغيب المشتهر بالتفسير الكبير.

(١٠) سورة البقرة آية رقم ٣.

(١١) سورة الناس آية رقم ٥.

٢٥٨

ليس من المتنازع فيه (١) في شيء ، وزعم الإمام أنه لا (٢) محيص عنها إلا بالتزام أن مجموع القدرة ، والداعي مؤثر في الفعل ، وخالق ذلك المجموع هو الله تعالى. بهذا الاعتبار صح الإسناد وزال التناقض بينها وبين الأدلة القاطعة على أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره.

الثاني : الآيات الواردة في أمر العباد ببعض الأفعال ، ونهيهم عن البعض ، ومدحهم على الإيمان والطاعات ، وذمهم على الكفر والمعاصي ووعدهم الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ، وفي قصص الأمم الماضية للإنذار أن يحل بالسامعين ما حل بهم ، للاتعاظ والاعتبار بأحوالهم ، وكل هذا إما يصح إذا كان للعبد قدرة واختيار في إحداث الأفعال وقد عرفت الجواب.

الثالث : الآيات الصريحة في إسناد الألفاظ الموضوعة للإيجاد إلى العباد وهي العمل كقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (٣) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) (٤) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٥) (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٦) وهذا كثير جدا. والفعل كقوله تعالى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٧) (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) (٨). والصنع كقوله تعالى (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٩) والكسب كقوله تعالى (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) (١٠) (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (١١) (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (١٢). والجعل كقوله تعالى (يَجْعَلُونَ

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (فيه).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (لا).

(٣) سورة فصلت آية رقم ٤٦.

(٤) سورة النجم آية رقم ٣١.

(٥) سورة مريم آية رقم ٩٦.

(٦) سورة غافر آية رقم ٤٠.

(٧) سورة البقرة آية رقم ٢١٥ وقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل.

(٨) هذا جزء من آية من سورة الحج رقم ٧٧ وهي : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

(٩) هذا جزء من آية من سورة المائدة رقم ٦٣.

(١٠) سورة آل عمران آية رقم ٢٥.

(١١) سورة الطور آية رقم ٢١.

(١٢) سورة غافر آية رقم ١٧.

٢٥٩

أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) (١) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) (٢) والخلق كقوله تعالى (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٣) و (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) (٤) (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٥) والإحداث كقوله حكاية عن الخضر (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٦) والابتداع كقوله تعالى (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) (٧).

والجواب : أنه لما ثبت بالدلائل السالفة أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره. وجب جعل هذه الألفاظ مجازات عن التسبب العادي أي من صار سببا عاديا للأعمال الصالحة ، وعلى هذا القياس ، أو جعل هذه الإسنادات مجازات لكون العبد سببا لهذه الأفعال كما في بنى الأمير المدينة هذا في غير لفظ الكسب ، فإنه يصح على حقيقته. والخلق فإنه بمعنى التقدير ، والجعل بمعنى التصيير ، وهو لا يستلزم إيجاد أمر محقق مثل جعل الله الدرهم في الكيس ، وجعل لزيد شريكا. وأما على رأي الإمام وهو أن مجموع القدرة والداعية مؤثرة في الفعل ، وذلك المجموع بخلق الله تعالى من غير اختيار العبد فلا مجاز ولا إشكال ولا استقلال للعبد فلا اعتزال.

الرابع : الآيات الدالة على توبيخ الكفار والعصاة ، وأنه لا مانع من الإيمان والطاعة ولا ملجأ إلى الكفر والمعصية كقوله تعالى (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) (٨) (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (٩) (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (١٠) (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١١) (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (١٢) (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (١٣) (لِمَ تَصُدُّونَ

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٩.

(٢) سورة الأنعام آية رقم ١٠٠.

(٣) سورة المؤمنون آية رقم ١٤.

(٤) هذا جزء من آية من سورة آل عمران رقم ٤٩.

(٥) سورة المائدة آية رقم ١١٠.

(٦) سورة الكهف آية رقم ٧٠.

(٧) سورة الحديد آية رقم ٢٧.

(٨) سورة الإسراء آية رقم ٩٤.

(٩) هذا جزء من آية من سورة البقرة رقم ٢٨.

(١٠) سورة ص آية رقم ٧٥.

(١١) سورة الانشقاق آية رقم ٢٠.

(١٢) سورة المدثر آية رقم ٤٩ وقد جاءت هذه الآية محرفة بلفظ (معرضون) بدلا من (معرضين).

(١٣) سورة آل عمران. آية رقم ٧١.

٢٦٠