شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

المبحث الأول

فعل العبد واقع بقدرة الله تعالى

وإنما للعبد الكسب

٢٢١
٢٢٢

المبحث الأول

في خلق أفعال العباد

أولها : في خلق أفعال العباد (١) بمعنى أنه هل من جملة أفعال الله تعالى خلق الأفعال الاختيارية التي للعباد؟ بل لسائر الأحياء مع الاتفاق على أنها أفعالهم لا أفعاله ، إذ القائم والقاعد والآكل والشارب وغير ذلك هو الإنسان مثلا ، وإن كان الفعل مخلوقا لله تعالى ، فإن الفعل إنما يستند حقيقة إلى من قام به لا إلى من أوجده ، ألا ترى أن الأبيض مثلا هو الجسم ، وإن كان البياض بخلق الله وإيجاده ، ولا عجب في خفاء هذا المعنى على عوام القدرية وجهّالهم ، حتى شنعوا به على أهل الحق في الأسواق ، وإنما العجب خفاؤه على خواصهم وعلمائهم حتى سودوا به الصحائف والأوراق ، وبهذا يظهر أن تمسكهم بما ورد في الكتاب والسنة من إسناد الأفعال إلى العباد لا يثبت المدعى وهو كون فعل العبد واقعا بقدرته مخلوقا له وتحرير المبحث على ما هو في المواقف (٢). إن فعل العبد واقع عندنا بقدرة الله وحدها. وعند المعتزلة بقدرة العبد وحدها ، وعند الأستاذ بمجموع القدرتين على أن يتعلقا جميعا بأصل الفعل ، وعند القاضي على أن تتعلق قدرة الله تعالى بأصل الفعل ، وقدرة العبد بكونه طاعة أو معصية. وعند الحكماء بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد ، ولا نزاع للمعتزلة في أن قدرة العبد مخلوقة لله تعالى وشاع في كلامهم أنه خالق القوى والقدر ، فلا يمتاز مذهبهم عن مذهب الحكماء ، ولا يفيد ما أشار إليه في المواقف من أن المؤثر عندهم قدرة العبد. وعند الحكماء مجموع القدرتين (٣) على أن تتعلق قدرة الله بقدرة العبد

__________________

(١) راجع مقدمة خلق أفعال العباد للإمام البخاري تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة. الطبعة الثانية مطبعة دار عكاظ بالرياض وأيضا ما كتبه الإمام البخاري في كتابه هذا النفيس حيث جلى القضية بالكامل.

(٢) عبارة صاحب المواقف : أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا. الجزء ٨ المرصد السادس ص ١٤٥ وما بعدها.

(٣) في (أ) بزيادة : مجموع القدرتين.

٢٢٣

وهي بالفعل. وذكر الإمام الرازي وتبعه بعض المعتزلة أن العبد عندهم موجد لأفعاله على سبيل الصحة والاختيار. وعند الحكماء على سبيل الإيجاب بمعنى أن الله تعالى يوجب للعبد القدرة والإرادة ثم هما يوجبان وجود المقدور ، وأنت خبير بأن الصحة إنما هي بالقياس إلى القدرة. وأما بالقياس إلى تمام القدرة والإرادة فليس إلا الوجوب ، وأنه لا ينافي الاختيار ، ولهذا صرح المحقق في قواعد العقائد أن هذا مذهب المعتزلة والحكماء جميعا. نعم إن إيجاد (١) القوى والقدر عند المعتزلة بطريق الاختيار ، وعند الحكماء بطريق الإيجاب لتمام الاستعداد ، ثم المشهور فيما بين القوم ، والمذكور في كتبهم أن مذهب إمام الحرمين ، أن فعل العبد واقع بقدرته وإرادته إيجابا (٢) كما هو رأي الحكماء ، وهذا خلاف ما صرح به الإمام فيما وقع إلينا من كتبه ، قال في الإرشاد : اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله ، ولا خالق سواه ، وأن الحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى من غير فرق بين ما يتعلق قدرة العباد به ، وبين ما لا يتعلق ، فإن تعلق الصفة بشيء لا يستلزم تأثيرها فيه كالعلم بالمعلوم والإرادة بفعل الغير ، فالقدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها أصلا ، واتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الزيغ على أن العباد موجدون لأفعالهم ، مخترعون لها بقدرهم ثم المتقدمون منهم كانوا يمنعون من تسمية العبد خالقا لقرب عهدهم بإجماع السلف على أنه لا خالق إلا الله. واجترأ المتأخرون فسموا العبد خالقا على الحقيقة هذا كلامه ، ثم أورد أدلة الأصحاب ، وأجاب عن شبه المعتزلة ، وبالغ في الرد عليهم وعلى الجبرية (٣) ، وأثبت للعبد كسبا وقدرة مقارنة للفعل غير مؤثرة فيه ، وأما الأستاذ فإن أراد أن قدرة العبد غير مستقلة بالتأثير ، وإذا انضمت إليها قدرة الله تعالى صارت

__________________

(١) في (أ) بزيادة حرف (إن).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (إيجابا).

(٣) الجبرية : مذهب تقول به بعض الفرق الإسلامية اشتقت الجبرية من الجبر ، وهو نفي الفعل حقيقة من الإنسان ونسبته إلى الله تعالى لهذا تعتبر الجبرية ضد مذهب القدرية ، إذ أن الجبرية تنفي الإرادة الإنسانية حقيقة واختلف القائلون بالجبرية فمنهم من اعتنق الجبرية الخالصة كالجهمية وهؤلاء لا يثبتون للإنسان فعلا ولا قدرة على فعل شيء أصلا ، وبعض الجبرية تنسب للإنسان قدرة ولكنها غير مؤثرة أصلا إذ أن القدرة المؤثرة تعتبر كسبا وليست جبرا وبعض الجبرية يقولون : إن أفعال الإنسان أعمال لا فاعل لها.

راجع معجم القاموس الإسلامي ج ١ ص ٥٧٧.

٢٢٤

مستقلة بالتأثير بتوسط هذه الإعانة على ما قدره البعض ، فقريب من الحق ، وإن أراد أن كلّا من القدرتين مستقلة بالتأثير فباطل لما سبق. وكذا الجبر المطلق ، وهو أن أفعال الحيوانات بمنزلة حركات الجمادات لا تتعلق بها قدرتها لا إيجادا ولا كسبا ، وذلك لما نجد من الفرق الضروري بين حركة المرتعش وحركة الماشي ، فبقي الكلام بين الكسبية والقدرية. ولكن لا بد أولا من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال إنه اسم بلا مسمى. فاكتفى بعض أهل السنة ، بأنا نعلم بالبرهان أن لا خالق سوى الله تعالى ، ولا تأثير إلا للقدرة القديمة ، ونعلم بالضرورة أن القدرة الحادثة للعبد تتعلق ببعض أفعاله كالصعود دون البعض كالسقوط فيسمى أثر تعلق القدرة الحادثة كسبا وإن لم يعرف حقيقته (١).

قال الإمام الرازي : هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإن الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ، ويتمايزان بكون إحداهما طاعة ، والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به التمايز فأصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وهي المسماة بالكسب (٢) ، وقريب من ذلك ما يقال أن أصل الحركة بقدرة الله ، وتعينها بقدرة العبد وهو الكسب وفيه نظر. وقيل الفعل الذي يخلقه الله تعالى في العبد ، ويخلق معه قدرة للعبد متعلقة به يسمى كسبا للعبد بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة ـ وقيل إن للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ، ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي. فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ، ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب ، وهذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحة انفراد القادرية وما يقع في محل قدرته

__________________

(١) كما قال ذلك الإمام الأشعريّ وأتباع مذهبه.

(٢) الكسب : لغة طلب الشيء والحصول عليه. وفي اصطلاح المتكلمين ، حظ الإنسان من الاختيار فيما يصدر عنه من أعمال ، يراد بذلك أن الأفعال الإنسانية يخلقها الله بقدرة يحدثها. وليس للإنسان إلا أن يصرف هذه الأفعال إلى الخير أو الشر ويسمى أيضا (اكتسابا) قال بهذا الإمام الأشعريّ ، وصار رأي أهل السنة من بعده وهو مذهب وسط بين القول بالجبر الذي ينفي قدرة العبد على إيجاد الفعل أو توجيهه نحو غاية معينة. وبين مذهب المعتزلة الذي يعزو الى الإنسان قدرة تخلق الفعل وتبين وجهته من الخير أو الشر.

راجع الموسوعة العربية الميسرة ص ١٤٦٢.

٢٢٥

بخلاف الخلق ، فإنه ما يقع به المقدور مع صحة انفراد القادرية وما يقع لا في محل قدرته ، فالكسب لا يوجب وجود المقدور بل يوجب من حيث هو كسب اتصاف الفاعل بذلك المقدور ، ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ككون الفعل طاعة أو معصية حسنا أو قبيحا ، فالاتصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح بخلاف خلق القبيح فإنه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة ، بل ربما يشتمل عليهما. وملخص الكلام ما أشار إليه الإمام حجة الإسلام الغزالي ، وهو أنه لما بطل الجبر المحض بالضرورة وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا ، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه عندنا بالاكتساب ، وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع. إذ قدرة الله تعالى في الأزل متعلقة بالعالم من غير اختراع ، ثم تتعلق به عند الاختراع نوعا آخر من التعلق ، فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمى كسبا له ، وباعتبار نسبتها إلى قدرة الله تعالى خلقا ، فهي خلق للرب ووصف للعبد ، وكسب له ، وقدرته خلق للرب ووصف للعبد وليس بكسب له.

٢٢٦

الأدلة العقلية على أن فعل العبد

واقع بقدرة الرب

قوله (لنا عقليات وسمعيات)

(أما العقليات فوجوه :

الأول : أن فعل العبد لو كان بقدرته لزم اجتماع المؤثرين لما مرّ من شمول قدرة الله تعالى).

استدل على كون فعل (١) العبد واقعا بقدرة الله تعالى بوجوه عقلية وسمعية.

فالأول : من الوجوه العقلية أن فعل العبد ممكن ، وكل ممكن مقدور لله تعالى لما مرّ في بحث الصفات ، ففعل العبد مقدور الله تعالى ، فلو كان مقدورا للعبد أيضا على وجوه التأثير لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على أثر واحد ، وقد بين امتناعه في بحث العلل.

فإن قيل : اللازم من شمول قدرته كون فعل العبد مقدورا له بمعنى دخوله تحت قدرته وجواز تأثيره فيه ، ووقعه بها نظرا إلى ذاته ، لا بمعنى أنه واقع بها ليلزم المحال.

قلنا : جواز وقوعه بها مع وقوعه بقدرة العبد يستلزم جواز المحال وهو محال ، وفيه نظر ومن تلفيقات الإمام في بيان كون (٢) كل ممكن واقعا بقدرة الله تعالى ، إن الإمكان محوج إلى السبب ، ولا يجوز أن يكون محوجا الى سبب لا بعينه ، لأن غير المعين لا تحقق له ، وما لا تحقق له لا يصلح سببا لوجود شيء ، فتعين أن يكون محوجا إلى سبب معين ، ثم الإمكان أمر واحد في جميع الممكنات ، فلزم افتقارها كلها إلى ذلك السبب. والسبب الذي يفتقر إليه جميع الممكنات لا يكون ممكنا بل واجبا ليكون الكل بإيجاده. وقد ثبت أنه مختار لا موجب فيكون الكل واقعا بقدرته واختياره ، وفي بيان كون كل مقدور لله واقعا بقدرته وحده ، أنه لو لم يقع بقدرة الله تعالى وحده ،

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (فعل).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (كون).

٢٢٧

فإما أن يقع بقدرة الغير وحده (١) ، فيلزم ترجح أحد (٢) المتساويين ، بل ترجح المرجوح لأن التقدير استقلال القدرتين مع أن قدرة الله تعالى أقوى. وإما أن يقع بكل من القدرتين ، فيلزم اجتماع (٣) المستقلتين ، وإما أن لا يقع بشيء منهما وهو أيضا باطل ، لأن التقدير وقوعه في الجملة ولأن التخلف عن المقتضى لا يكون إلا لمانع وما ذاك إلا الوقوع بالقدرة الثانية فلا ينتفي الوقوع بهما إلا إذا وقع بهما وهو محال ، وأيضا لو وقع بقدرة الغير لما بقي لله تعالى قدرة على إيجاده لاستحالة إيجاد (٤) الموجود ، فيلزم كون العبد معجزا للرب وهو محال بخلاف ما إذا أوجده الله تعالى بقدرته فإنه يكون تقريرا لقدرته لا تعجيزا.

الدليل الثاني

قال (الثاني)

(الثاني لكان عالما بتفاصيله وبطلان اللازم يظهر في النائم والماشي والناطق والكاتب).

الوجه الثاني من الوجه العقلية : أن العبد لو كان موجدا لأفعاله لكان عالما بتفاصيلها ، واللازم باطل ، أما الملازمة فلأن الإتيان بالأزيد والأنقص والمخالف ممكن فلا بد لرجحان ذلك النوع وذلك المقدار من مخصص هو القصد إليه ، ولا يتصور ذلك إلى بعد العلم به ، ولظهور هذه الملازمة يستنكر الخلق بدون العلم كقوله تعالى (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (٥) ويستدل بفاعلية العالم على عالمية الفاعل ، وأما بطلان اللازم فلوجوه منها. أن النائم تصدر عنه أفعال اختيارية لا شعور له بتفاصيل كمياتها وكيفياتها ، ومنها أن الماشي إنسانا كان أو غيره يقطع مسافة معينة في زمان معين من غير شعور له بتفاصيل الأجزاء والأحياز التي بين المبدأ والمنتهى ، ولا بالآنات

__________________

(١) في (ب) العبد بدلا من (الغير).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (أحد).

(٣) سقط من (ب) من أول : مع أن إلى فيلزم اجتماع.

(٤) في (أ) بزيادة جملة (لاستحالة إيجاد).

(٥) سورة الملك آية رقم ١٤.

٢٢٨

التي منها يتألف ذلك الزمان ، ولا بالسكنات التي يتخللها تكون تلك الحركة ابطاء من حركة الفلك ، أو بالحد الذي لها من وصف السرعة والبطء ، ومنها أن الناطق يأتي بحروف مخصوصة على نظم مخصوص من غير شعور له بالأعضاء التي هي آلاتها ، ولا بالهيئات والأوضاع التي تكون لتلك الأعضاء عند الإتيان بتلك الحروف ، ومنها أن الكاتب يصور الحروف والكلمات بتحريك الأنامل من غير شعور له بما للأنامل من الأجزاء والأعضاء أعني العظام والغضاريف (١) والأعصاب والعضلات والرباطات ولا بتفاصيل حركاتها وأوضاعها التي بها يتأتى تلك الصور والنقوش.

الدليل الثالث

قال (الثالث)

(أنه لو كان فعل العبد بقدرته واختياره لكان متمكنا من فعله وتركه ، واللازم باطل لأنه لا بد من ترجح الفعل على الترك بلا مرجح لا يكون منه ، ويجب عنده الفعل لامتناع الترجح بلا مرجح ، وتسلسل المرجحات ووجود الأثر بدون الوجوب.

واعترض بأنه يرد على فعل الباري تعالى ، وبأن الوجوب بالاختيار لا ينافي الاستواء بحسب القدرة.

وأجيب بأن المرجح ثمة أزلي هي الإرادة القديمة المتعلقة في الأزل بأن يوجد الفعل في وقته ، وهاهنا حادث يفتقر إلى مرجح آخر يبطل استقلال العبد وتمكنه من الترك)

لو كان فعل العبد بقدرته واختياره لكان متمكنا من فعله وتركه ، إذ لو لم يتمكن من الترك لزم الجبر وبطل الاختيار. لكن اللازم ، أعني التمكن من الفعل والترك

__________________

(١) الغضروف : مادة مرنة متينة لؤلؤية المظهر. تكون جزءا من جهاز التدعيم أو الهيكل ، ويوجد الغضروف بالجنين قبل أن يتكون العظم ويظل في كثير من العظام في أطرافها النامية الى ما بعد سن البلوغ وتوجد الغضاريف في البالغ على أسطح المفاصل ، وفي الأنف والحنجرة والقصبة الهوائية ، وهو عبارة عن نسيج ضام من مادة ليفية صلدة تقع فيها الخلايا الغضروفية.

٢٢٩

باطل لأن رجحان الفعل على الترك ، إما أن يتوقف على مرجح أو لا. فعلى الثاني يلزم رجحان أحد طرفي الممكن بلا مرجح ، وينسد باب إثبات (١) الصانع ، ويكون وقوع الفعل بدلا عن الترك محض الاتفاق من غير اختيار للعبد (٢) ، وعلى الأول : إن كان ذلك المرجح من العبد ينقل الكلام إلى صدوره عنه فيلزم التسلسل وهو محال ، أو الانتهاء إلى مرجح لا يكون منه ، وإذا كان المرجح ابتداء أو بالآخرة لا من العبد بل من غيره ، ثبت عدم استقلال العبد بالفعل ، وعدم تمكنه من الترك ، لأن الترك لم يجز وقوعه مع التساوي ، فكيف مع المرجوحية ، ولأن وجود الممكن ما لم ينته رجحانه إلى حد الوجوب لم يتحقق على ما مر ، ولا يخفى أن هذا إنما يفيد إلزام المعتزلة القائلين باستقلال العبد ، واستناد الفعل إلى قدرته واختياره من غير جبر ، ولا يفيد أن العبد ليس بموجد لأفعاله.

وللمعتزلة هاهنا اعتراضات أحدها أن ما ذكرتم استدلال في مقابلة الضرورة فلا يستحق الجواب ، وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن لنا مكنة واختيارا ، وأنا إن شئنا الفعل فعلنا ، وإن شئنا الترك تركنا.

وثانيها : أنه جار في فعل الباري فيلزم أن يكون موجبا لا مختارا ، وذلك لأن جميع ما لا بد منه في إيجاد العالم إن كان حاصلا في الأزل ، لزم قدم العالم وصدوره عن الباري بطريق الوجوب من غير تمكن من الترك لامتناع التخلف عن تمام العلة ، وإن لم يكن حاصلا ينتقل الكلام إلى حدوث الأمر الذي لا بد منه ولا يتسلسل بل ينتهي إلى أمر أزلي يلزم معه المؤثر ويعود المحذور.

وثالثها : أن ترجيح المختار أحد المتساويين جائز كما في طريقي الهارب ، وقد حي العطشان لأن الإرادة صفة شأنها الترجيح والتخصيص من غير احتياج إلى مرجح ، وإنما المحال الترجح بلا مرجح.

ورابعها : أن المرجح الذي لا يكون من العبد هو تعلق الإرادة وخلوص الداعي ، ووجوب الفعل معه لا ينافي الاختيار والتمكن من الفعل والترك بالنظر إلى القدرة.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (إثبات).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (للعبد)

٢٣٠

وأجيب عن الأول : بأن كلامنا في حصول المشيئة والداعية التي يجب معه الفعل أو الترك ولا خفاء في أنه ليس بمشيئتنا واختيارنا وإليه الإشارة بقوله تعالى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) وقوله (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢). ولهذا ذهب المحققون إلى أن المآل هو الجبر ، وإن كان في الحال الاختيار ، وأن الإنسان مضطر في صورة مختار.

وعن الثاني : بأن للباري تعالى إرادة قديمة متعلقة في الأزل بأن يحدث الفعل في وقته ، فلا يحتاج إلى مرجح آخر ليلزم التسلسل أو الانتهاء إلى ما ليس باختياره بخلاف إرادة العبد ، فإنها حادثة يحدث تعلقها بالأفعال شيئا فشيئا ، ويحتاج إلى دواعي مخصوصة متجددة من عند الله من غير اختيار للعبد فيها.

وعن الثالث : بأنه إلزام على المعتزلة القائلين بوجوب المرجح في الفعل الاختياري لا القائلين بأنه يجوز للقادر ترجيح المساوي بل المرجوح ، فإن الهارب يتمكن من سلوك أحد الطريقين ، وإن كان مساويا للآخر أو أصعب منه ، وفيه نظر للقطع بأن ذلك لا يتصور إلا بداعية لا تكون بمشيئة العبد بل بمحض خلق الله تعالى. وحينئذ يجب الفعل ، ولا يتمكن العبد من تركه ، ولا نعني بالانتهاء إلى الجبر والاضطرار سوى هذا وبه يظهر الجواب عن الرابع.

الدليل الرابع

قال (الرابع)

(معلوم الله تعالى من فعل العبد. أما وقوعه فيجب أو لا وقوعه فيمتنع ، فلا يبقى في مكنة العبد ، وإن كان ممكنا في نفسه.

فإن قيل : المعلوم وقوعه بقدرة العبد واختياره.

قلنا : فيجب ذلك ويعود المحذور ونوقض بفعل الباري).

__________________

(١) سورة الإنسان آية رقم ٢٠.

(٢) سورة النساء آية رقم ٧٨.

٢٣١

قد ثبت أن الله تعالى عالم بالجزئيات (١) ما كان وما سيكون ، وأنه يستحيل عليه الجهل وكل ما علم الله أنه يقع يجب وقوعه ، وكل ما علم الله أنه لا يقع يمتنع وقوعه ، نظرا إلى تعلق العلم ، وإن كان ممكنا في نفسه ، وبالنظر إلى ذاته ، ولا شيء من الواجب والممتنع باقيا في مكنة العبد بمعنى أنه إن شاء فعله وإن شاء تركه.

فإن قيل : يجوز أن يعلم الله تعالى أن فعل العبد يقع بقدرته واختياره ، فلا يكون خارجا عن مكنته.

قلنا : فيجب أن يقع البتة بقدرته واختياره ، بحيث لا يتمكن من اختيار الترك ، وهذا هو المراد بالانتهاء إلى الاضطرار. غاية الأمر أن يكون بإيجاده لكن لا على وجه الاستقلال والاختيار التام كما هو مذهب المعتزلة. وقد أشرنا إلى أن القصد (٢) من بعض الأدلة إلى الإلزام دون الإتمام. نعم يرد نقض الدليل بفعل الباري تعالى ، لجريانه فيه مع الاتفاق على كونه بقدرته واختياره ، ويمكن دفعه بأن الاختياري ما يكون الفاعل متمكنا من تركه عند إرادة فعله لا بعده ، وهذا متحقق في فعل الباري ، لأن إرادته قديمة متعلقة في الأزل بأنه يقع في وقته ، وجائز أن يتعلق حينئذ بتركه (٣) ، وليس حينئذ سابقة علم ليتحقق الوجوب ، أو الامتناع. إذ لا قبل للأزل ، فالحاصل أن تعلق العلم والإرادة معا فلا محذور بخلاف إرادة العبد ، وتقرير الإمام في المطالب العالية (٤) هو أنه لما وجب في الأزل وقوع الفعل أو لا وقوعه في وقته لزم أن يكون لهذا الوجوب سبب ، وليس من العبد لأن الحادث لا يصلح سببا للأزلي. بل من الله تعالى. وليس هو العلم لأنه تابع للمعلوم ، لا مستتبع. بل القدرة والإرادة ، إذ بهما التأثير فثبت أن المؤثر في فعل العبد قدرة الله تعالى إما ابتداء أو بوسط وهو المطلوب ، وهذا ضعيف جدا ، لكن النقض مندفع عنه.

__________________

(١) قال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). سورة الأنعام آية رقم ٥٩.

(٢) في (أ) بزيادة حرف (أن).

(٣) سقط من (ب) لفظ (حينئذ).

(٤) هذا الكتاب يسمى المطالب العالية في الكلام للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍ وشرحه عبد الرحمن المعروف بجلب زاده.

راجع كشف الظنون ج ٢ ص ١٧١٤.

٢٣٢

قال (وأما التمسك)

(وأما التمسك بأن مراده تعالى إما الوقوع أو اللاوقوع ، فرد بتجويز أن لا يريد أحدهما وأن يقع خلاف مراده).

كما استدل على وجوب الفعل أو الترك بتعلق العلم ، فكذا يتعلق الإرادة ، وتقريره أن فعل العبد ما أن يريد الله تعالى وقوعه ، فيجب أو لا وقوعه فيمتنع ، فلا يكون باختيار العبد ، ورد أولا بمنع الحصر لجواز أن لا تتعلق إرادة الله تعالى بشيء من طرفي الفعل والترك.

وثانيا : بمنع وجوب وقوع ما أراده الله تعالى من العبد على ما هو المذهب عندهم كما سيجيء.

الدليل الخامس

قال (الخامس)

(الخامس لو كان فعله بقدرته ، فإذا أراد تحريك جسم ، وأراد الله سكونه. فإما أن يتفق المراد إن في الوقوع أو اللاوقوع وهو محال. وإما أن يختلفا وهو ترجيح بلا مرجح ، لأن التقدير استقلال القدرتين.

وأجيب : بأن التساوي في الاستقلال لا يمنع التفاوت في القوة فيقع مراد الله تعالى لكون قدرته أقوى.

لو كان العبد مستقلا بإيجاد فعله ، فإذا فرضنا أنه أراد تحريك جسم في وقت (١) ، وأراد الله تعالى سكونه في ذلك الوقت. فإما أن يقع المرادان جميعا وهو ظاهر الاستحالة قطعا أو لا يقع شيء منهما وهو أيضا محال لامتناع خلو الجسم في غير أن الحدوث عن الحركة والسكون ، ولأن التخلف عن المقتضى لا يكون إلا لمانع ، ولا مانع لكل من المرادين سوى وقوع الآخر ، فلو امتنعا جميعا لزم أن يقعا جميعا وهو ظاهر الاستحالة ،

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (قطعا).

٢٣٣

وإما أن يقع أحدهما دون الآخر فيلزم الترجح بلا مرجح ، لأن التقدير استقلال كل من القدرتين بالتأثير من غير تفاوت.

وأجيب : بأنه يقع مرادا لله تعالى لكون قدرته أقوى. إذ المفروض استواؤهما في الاستقلال بالتأثير وهو لا ينافي التفاوت في القوة والشدة : ودفعه الإمام الرازي بأن المقدور لا (١) يقبل التجزي ولا يتفاوت بالشدة والضعف فيمتنع أن يكون الاقتدار عليه قابلا لذلك ، بل يلزم تساوي القدرتين في القوة. غاية الأمر أن (٢) إحداهما تكون أعم وأشمل ، وهو لا يوجب كونه أشد وأقوى. وعليه منع ظاهر.

__________________

(١) في (أ) بزيادة (لا).

(٢) في (أ) بزيادة (أن).

٢٣٤

من أدلة المتقدمين القائلين أن فعل العبد

بقدرة الرب

قال (وقد يستدل)

(بأنه لو قدر على فعله لقدر على إعادته على مثله وعلى خلق الجسم إذ لا مصحح سوى الحدوث والإمكان ولكان فعله كخلق الإيمان أحسن من فعل الباري كخلق الشيطان ، ولما صح سؤال الإيمان ولا الشكر عليه).

للمتقدمين (١) على كون فعل العبد بقدرة الله دون قدرته وجوه : منها أن العبد لو كان قادرا على فعله إيجادا واختراعا لكان قادرا على إعادته ، واللازم منتف إجماعا وجه (٢) اللزوم أن إمكان القدرة منه يستلزم (٣) ماهيته لا يختلف باختلاف الأوقات ، ولهذا يصح الاستدلال على قدرة الله تعالى على الإعادة بقدرته على الابتداء كما نطق به التنزيل احتجاجا على منكري الإعادة بالنشأة الأولى. والاعتراض يمنع إمكان إعادة المعدوم مستندا بأنه يجوز أن يكون خصوصية البدء شرطا أو خصوصية العود مانعا أو يمنع عدم قدرة العبد على الإعادة ليس بشيء لأن الخصم معترف بالمقدمتين. ومنها أنّه لو كان قادرا على إيجاد فعله لكان قادرا على إيجاد مثله لأن حكم الأمثال واحد لكنا نقطع بأنه يتعذر علينا أن نفعل الآن مثل ما فعلناه سابقا بلا تفاوت ، وإن بذلنا الجهد في التدبر (٤) والاحتياط ، ومنها أنه لو كان قادرا على إيجاد فعله لكان قادرا على إيجاد كل ممكن من الأجسام والأعراض لأن المصحح للمقدورية هو الإمكان أو الحدوث ، والمقدور هو إعطاء الوجود ولا تفاوت في شيء منها باعتراف الخصم ، ولا يرد النقض

__________________

(١) في (ب) للمقدمتين بدلا من (للمقدمين).

(٢) سقط من (ب) لفظ (وجه).

(٣) في (ب) الشيء من لوازم بدلا من (القدرة منه يستلزم).

(٤) في (ب) النذير بدلا من (التدبر).

٢٣٥

بالقدرة الاكتسابية (١) لأنها تتعلق بالذوات ، وأحوالها ، وهي مختلفة ، ومنها أن من فعل العبد الإيمان والطاعات وكثير من الحسنات ومن خلق الله تعالى الأجسام والأعراض والشياطين وكثير من المؤذيات ، ولا شك أن الأول أحسن من الثاني وأشرف ، فلو كان العبد خالقا لفعله لكان أحسن وأشرف من الله تعالى خلقا وإصلاحا وإرشادا.

فإن قيل : القدرة على الإيمان أحسن وأوضح وأصلح من الإيمان لتوقفه عليها وهي بخلق الله تعالى.

قلنا : فيلزم أن تكون القدرة على الشر والتمكن منه شرا من الكفر وأقبح منه. ومنها أن الأمة مجموعة على صحة تضرع العبد إلى الله تعالى في أن يرزقه الإيمان والطاعة ، ويجنبه الكفر والمعصية ، ولو لا أن الكل بخلق الله تعالى لما صح ذلك.

إذ لا وجه لحمله على سؤال الإقدار والتمكين لأنه حاصل أو التقدير والتثبيت لأنه عائد إلى الحصول في الزمان الثاني ، وذلك عندهم بقدرة العبد ، ومنها أن (٢) الأمة مجمعون على صحة ذلك بل وجوب حمد الله وشكره على نعمة الإيمان نفسه ، ولا يتصور ذلك إلا إذا كان بخلقه وإعطائه ، وإن كان لكسب العبد مدخل فيه ، فأما الشكر على مقدماته من الإقدار والتمكين والتوفيق والتعريف ونحو ذلك فشيء آخر فإن قيل : لو استحق بخلق الإيمان المدح لاستحق بخلق الكفر الذم.

قلنا : ممنوع فإن من شأنه استحقاق المدح والشكر بخلق الحسنات ، وإيصال النعم لا الذم بخلق القبائح ، وإرسال النقم ، لأنه المالك فله الأمر كله ، لا يقبح منه خلق القبيح.

فإن قيل : فعندكم الإيمان مخلوق الله تعالى وعندهم مخلوق العبد ، وقد ذكر في بعض الفتاوى أن من قال : الإيمان مخلوق كفر ، فما وجهه ...؟

__________________

(١) في (ب) بالقوة بدلا من (بالقدرة).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (أن).

٢٣٦

قلنا : وجهه ما أشار إليه أبو المعين النسفي (١) رحمه‌الله من أن الإيمان ليس كله من الله إلى العبد على ما هو الجبر ، ولا من العبد على ما هو القدر ، بل من الله التعريف والتوفيق والهداية ، والإعطاء ومرجعها إلى التكوين ، وهو غير مخلوق ومن العبد المعرفة والقصد والاعتداد والقبول وهي مخلوقة. هذا ويمحى من الكتاب ويثبت ما هو الصواب ، ثم لا يخفى ما في الوجوه المذكورة من وجوه الضعف ، والأولى التمسك بالكتاب والسنة ، وإجماع أهل الحق من الأمة. لا بمعنى إثباته في نفسه بمحض الإجماع ، ليرد أن الحقائق العقلية مثل حدوث العام ، وقدم الصانع لا يثبت بالإجماع ، بل بمعنى أن إجماعهم عليه يدل على أن لهم قاطعا فيه وإن لم نعرفه على التفصيل.

__________________

(١) هو ميمون بن محمد بن محمد بن معبد بن مكحول أبو المعين النسفي الحنفي عالم بالأصول والكلام كان بسمرقند وسكن بخاري من كتبه (بحر الكلام) و (تبصرة الأدلة) و (التمهيد لقواعد التوحيد) و (العمدة في الأصول) توفي عام ٥٠٨ ه‍.

راجع الجواهر المضيئة. ٢ : ١٨٩.

٢٣٧

الأدلة السمعية على أن فعل العبد

واقع بقدرة الرب

قال (وأما السمعيات فكثيرة جدا)

فإن قيل : التمسك بالكتاب والسنة يتوقف على العلم بصدق كلام الله تعالى ، وكلام الرسول عليه‌السلام ، ودلالة المعجزة ، وهذا لا يتأتى مع القول بأنه خالق لكل شيء حتى الشرور والقبائح ، وأنه لا يقبح منه التلبيس (١) والتدليس والكذب وإظهار المعجزة على يد الكاذب ، ونحو ذلك مما يقدح في وجوب صدق كلامه ، وثبوت البنوة ، ودلالة المعجزات.

قلنا : العلم بانتفاء تلك القوادح ، وإن كانت ممكنة في نفسها من المعاديات الملحقة بالضروريات على أن هذا الاحتجاج اما هو على المعترفين بحجية الكتاب والسنة والمتمسكين بهما في نفي كونه خالقا للشرور والقبائح وأفعال العباد ، فلو توقف حجيتهما على ذلك كان دورا.

الدليل الأول

قال (منها ما ورد في معرض التمدح)

بأنه الخالق وحده كقوله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٣) (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤).

__________________

(١) في (ب) اللبس بدلا من (التلبيس).

(٢) سورة الأنعام جزء من آية رقم ١٠٢.

(٣) هذا جزء من آية سورة الأنعام ١٠١ والآية : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).

(٤) سورة القمر آية رقم ٤٩.

٢٣٨

جعل الأدلة السمعية على هذا المطلوب أنواعا باعتبار خصوصيات تكون للبعض ومنها دون البعض مثل الورود بلفظ الخلق لكل شيء ، أو لعمل العبد خاصة أو بلفظ لجعل(١) أو الفعل أو بغير ذلك. فمن الوارد بلفظ الخلق قوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) (٢) تمدحا واستحقاقا للعبادة ، فلا يصح الحمل على أنه خالق لبعض الأشياء كأفعال نفسه ، لأن كل حيوان عندكم كذلك ، بل يحمل على العموم فيدخل فيه أعمال العباد ، ويخرج القديم بدليل العقل والقطع ، بأن المتكلم لا يدخل في عموم مثل أكرمت كل من دخل الدار فيكون بمنزلة الاستثناء ، فلا يخل بقطعية العام عند من يقول بكونه قطعيا ، وكذا قوله تعالى (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣) تمسكا بالعموم وبأنه إذا جعل كخلقه في موضع المصدر كما هو الظاهر ، فقد يفيد (٤) خلق كل أحد مثل خلقه في الجملة ـ وقوله تعالى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٥) تمسكا بالعموم وبأن قوله «وخلق كل شيء» إزالة لما يتوهم من أن العبيد وإن لم يكونوا شركاء له في الملك على الإطلاق لكنهم يخلقون بعض الأشياء وإلا لكان ذكره بعد نفي الشريك مستدركا قطعا. وقوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٦) أي خلقنا كل موجود ممكن من الممكنات بتقدير وقصد أو على مقدار مخصوص مطابق للغرض والمصلحة ، ولإفادة هذا المعنى كان المختار نصب كل شيء ، إذ لو رفع لتوهم أن خلقنا صفة وبتقدير خبر ، والمعنى أن كل شيء خلقناه فهو بقدر ، فلم يفد أن كل شيء مخلوق له ، بل ربما أفاد أن من الأشياء (٧) ما لم يخلقه فليس بقدر. وبما أشرنا إليه من كون الشيء اسما للموجود ، أو مقيدا به ، اندفع ما قيل إنه لا بد من تقييد الشيء من مخلوق على تقدير النصب

__________________

(١) في (ب) الحبل بدلا من (الجعل).

(٢) سورة الأنعام آية رقم ١٠٢.

(٣) سورة الرعد آية رقم ١٦.

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (يفيد).

(٥) سورة الفرقان آية رقم ٢.

(٦) سورة القمر آية رقم ٤٩.

(٧) في (أ) بزيادة حرف الجر (من).

٢٣٩

أيضا لأنه لم يخلق ما لا يتناهى من الممكنات مع وقوع اسم الشيء عليه ، وحينئذ لا يبقى فرق بين النصب والرفع ، ولا بين جعل خلقنا خبرا أو منعه على أنه لو سلم التقييد بالمخلوق فالفرق ظاهر ، لأن الخبر يفيد أن كل مخلوق ، مخلوق له بخلاف الصفة.

الدليل الثاني

قال (ومنها قوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١)).

إما على المصدرية المستغنية عن الإضمار فظاهر ، وإما على الموصولية فلشمولها الأفعال التي يكتسبها العبد من الحركات والسكنات ، والأوضاع والهيئات كما في قوله تعالى (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) (يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) (٣) إذ فيها النزاع لا في الإيقاع.

أما إذا كانت (ما) مصدرية على ما اختاره سيبويه لاستغنائه عن الحذف والإضمار فالأمر ظاهر لأن المعنى وخلق عملكم ، وأما إذا كانت موصولة على حذف الضمير ، أي : وخلق ما تعملونه بقرينة قوله تعالى (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٤) توبيخا لهم على عبادة ما عملوه من الأصنام ، فلأن كلمة (ما) عامة تتناول ما يعملونها من الأوضاع ، والحركات والمعاصي والطاعات وغير ذلك. فإن المراد بأفعال العباد المختلف في كونها بخلق العبد ، أو بخلق الرب ، هو ما يقع بكسب العبد ، ويستند إليه مثل الصوم والصلاة والأكل والشرب والقيام والقعود ونحو ذلك مما يسمى الحاصل بالمصدر لا نفس الإيقاع الذي هو من الاعتبارات العقلية ، الا يرى إلى مثل يقيمون الصلاة ،

__________________

(١) سورة الصافات آية رقم ٤٩.

(٢) هذا جزء من آية من سورة البقرة آية ٢٥ ، وآل عمران آية ٥٧ ، والنساء ١٣٢.

(٣) هذا جزء من آية من سورة النساء آية ١٨ والعنكبوت آية رقم ٤.

(٤) جزء من آية من سورة الصافات رقم ٩٥.

٢٤٠