شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

المبحث الأول

في رؤيته تعالى في الآخرة

ذهب أهل السنة إلى أن الله تعالى يجوز أن يرى وأن المؤمنين في الجنة يرونه منزها عن المقابلة والجهة والمكان ، وخالفهم في ذلك جميع الفرق ، فإن المشبهة والكرامية ، إنما يقولون: برؤيته في الجهة والمكان لكونه عندهم جسما تعالى عن ذلك ، ولا نزاع للمخالفين في جواز الانكشاف التام العلمي ولا لنا في امتناع ارتسام صورة من المرئي في العين ، أو اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئي ، أو حالة إدراكية مستلزمة لذلك. وإنما محل (١) النزاع أنا إذا عرفنا الشمس مثلا بحد أو رسم كان نوعا من المعرفة ، ثم إذا أبصرناها وغمضنا العين كان نوعا آخر فوق الأول ، ثم أنا (٢) إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأولين نسميها الرؤية ولا تتعلق في الدنيا إلا بما هو في جهة ومكان فمثل هذه الحالة الإدراكية هل تصح أن تقع بدون المقابلة والجهة؟ وأن تتعلق بذات الله تعالى منزها عن الجهة والمكان؟ ولم يقتصر الأصحاب على أدلة الوقوع مع أنها تفيد الإمكان أيضا لأنها سمعيات ربما يدفعها الخصم بمنع امكان المطلوب ، فاحتاجوا إلى إثبات (٣) الإمكان أولا والوقوع ثانيا. ولم يكتفوا بما يقال : الأصل في الشيء سيما فيما ورد به الشرع هو الإمكان ما لم يزد عنه (٤) الضرورة أو البرهان. فمن ادعى الامتناع فعليه البيان لأن هذا إنما يحسن في مقام النظر والاستدلال دون المناظرة والاحتجاج.

فإن قيل : المعول عليه من أدلة الإمكان أيضا سمعي ، لأن إحدى مقدمتيه وهو

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (محل).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (أنا).

(٣) في (ب) بيان بدلا من (إثبات).

(٤) في (ب) لم يرد بدلا من (يزد).

١٨١

أن موسى عليه الصلاة والسلام طلب الرؤية ، وأن الرؤية علقت على استقرار الجبل ، إنما يثبت بالنقل دون العقل.

قلنا : نعم لكنه قطعي لا نزاع في إمكانه بل وقوعه لنا من المنقول قوله تعالى حكاية (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١) الآية والاستدلال فيها من وجهين :

أحدهما : أنه لو لم تجز الرؤية لم يطلبها موسى عليه الصلاة والسلام. واللازم باطل بالنص والإجماع والتواتر وتسليم الخصم. وجه اللزوم أنه إن كان عالما بالله تعالى ، وما يجوز عليه ، وما لا يجوز ، كان طلبه الرؤية عبثا وإجراء لا يليق بالأنبياء ، وإن كان جاهلا لم يصلح أن يكون نبيا كليما.

وثانيهما : أنه علق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في نفسه ضرورة والمعلق على الممكن ممكن ، لأن معنى التعليق أن المعلق يقع على تقدير المعلق (٢) عليه ، والمحال لا يقع على شيء من التقادير.

واعترضت المعتزلة بوجوه :

الأول : أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يطلب الرؤية ، بل عبر بها (٣) عن لازمها الذي هو العلم الضروري.

الثاني : أنه على حذف المضاف ، والمعنى أرني آية من آياتك ، أنظر إلى آياتك ، وكلاهما فاسد لمخالفته الظاهر بلا ضرورة ولعدم مطابقته الجواب أعني قوله : (لَنْ تَرانِي) لأنه نفي لرؤية الله تعالى بإجماع المعتزلة لا للعلم الضروري ، ولا لرؤية الآية ، والعلامة. كيف وموسى عليه الصلاة والسلام عالم بربه سمع كلامه ، وجعل يناجيه ويخاطبه ، واختص من عنده بآيات كثيرة؟ فما معنى طلب العلم الضروري ، واندكاك الجبل أعظم آية من آياته ، فكيف يستقيم نفي رؤية الآية ، وأيضا الآية إنما هي عند اندكاك الجبل لا استقراره ، فكيف يصح تعليق رؤيتها بالاستقرار؟ وأيضا الرؤية المقرونة بالنظر الموصول (بإلى) نص في الرؤية كذا في الإرشاد لإمام الحرمين ،

__________________

(١) سورة الأعراف آية رقم ١٤٣.

(٢) في (ب) تقرير بدلا من (تقدير).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (بها).

١٨٢

وما وقع في المواقف من أن الرؤية وإن استعملت للعلم لكنه بعيد جدا (١) إذا وصلت بإلى سهوا ، ومؤول بأن النظر بمعنى الرؤية فوصله وصلها وإلا فليس في الآية وصل الرؤية بإلى.

الثالث : للجاحظ (٢) وأتباعه. أن موسى عليه‌السلام إنما سأل الرؤية لأجل قومه حين قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (٣) وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ، حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (٤) وأضاف السؤال إلى نفسه (٥) ليمنع فيعلم امتناعها بالنسبة إلى القوم بالطريق الأولى.

ولهذا قال : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) (٦) وهذا مع مخالفته الظاهر حيث لم يقل أرهم ينظروا إليك فاسد. أما أولا : فلأن تجويز الرؤية باطل بل كفر عند أكثر المعتزلة ، فلا يجوز لموسى عليه الصلاة والسلام تأخير الرد ، وتقرير الباطل. ألا ترى أنهم لما قالوا (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (٧) ردّ عليهم من ساعته بقوله (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٨).

وأما ثانيا : فلأنه لم يبين الامتناع لهم بل غايته الإخبار بعدم الوقوع ، وإنما أخذتهم الصاعقة لقصدهم التعنت ، والإلزام على موسى عليه‌السلام لا لطلبهم الباطل.

وأما ثالثا : فلأنهم إن كانوا مؤمنين بموسى مصدقين لكلامه ، كفاهم إخباره بامتناع الرؤية من غير طلب للمحال ، ومشاهدة لما جرت من الأحوال والأهوال ،

__________________

(١) راجع كتاب المواقف المرصد الخامس ج ٨ ص ١١٥ وما بعدها.

(٢) هو عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الجاحظ ، رئيس فرقة الجاحظية من المعتزلة مولده عام ١٦٣ ه‍ فلج في آخر عمره ، وكان مشوه الخلقة ، مات والكتاب على صدره عام ٢٥٥ ه‍ قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه ، من تصانيفه الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير ، ومسائل القرآن. راجع الوفيات ١ : ٢٨٨ ولسان الميزان ١ : ٣٥٥ ودائرة المعارف الإسلامية ٦ : ٣٣٥.

(٣) سورة النساء آية رقم ١٥٣.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٥٥.

(٥) سقط من ب جملة (وأضاف السؤال إلى نفسه).

(٦) سورة الأعراف آية رقم ١٥٥ وقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل بزيادة (فاء)

(٧) سورة الأعراف آية رقم ١٣٨.

(٨) سورة الأعراف آية رقم ١٣٨.

١٨٣

وإلا لم يفد الطلب والجواب لأنهم وإن سمعوا الجواب فهو المخبر بأنه كلام الله تعالى.

والمعتزلة تحيروا (١) في هذا المقام ، فزعموا تارة أنهم كانوا مؤمنين ، لكن لم يعلموا مسألة الرؤية ، وظنوا جوازها عند سماع الكلام. واختار موسى عليه‌السلام في الرد عليهم طريق السؤال والجواب من الله ليكون أوثق عندهم وأهدى إلى الحق ، وتارة أنهم لم يكونوا مؤمنين حق الإيمان ، ولا كافرين ، بل مستدلين ، أو فاسقين أو مقلدين. فاقترحوا ما اقترحوا ، وأجيبوا بما أجيبوا ، وأضاف موسى عليه‌السلام الرؤية إلى نفسه دونهم لئلا يبقى لهم عذر ، ولا يقولوا لو سألها لنفسه لرآه لعلو قدره عند الله تعالى ، وكل ذلك خبط ، لأن السائلين القائلين : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، لم يكونوا مؤمنين ، ولا حاضرين عند سؤال الرؤية ليسمعوا جواب الله تعالى ، وإنما الحاضرون هم السبعون المختارون ولا يتصور منهم عدم تصديق موسى عليه الصلاة والسلام في الإخبار بامتناع الرؤية ، ولا فائدة للسؤال بحضرتهم على تقدير امتناع الرؤية ، إلا أن يطلعوا فيخبروا السائلين ، ولا شك أنهم إذا لم يقبلوه من موسى مع تأيده بالمعجزات فمن السبعين أولى.

الرابع : أنه سأل الرؤية مع علمه بامتناعها لزيادة الطمأنينة بتعاضد دليل العقل والسمع كما في طلب ابراهيم عليه‌السلام أنه يريه كيفية إحياء الموتى وردّ بأن هذا لا ينبغي أن يكون بطريق طلب المحال الموهم لجهله بما يعرفه آحاد المعتزلة.

الخامس : إن معرفة الله تعالى لا تتوقف على العلم بمسألة الرؤية ، فيجوز أن يكون لاشتغاله (٢) بسائر العلوم والوظائف الشرعية لم تخطر بباله هذه المسألة حين سألوها منه ، فطلب العلم ثم تاب عن تركه طريقة الاستدلال أو خطر بباله ، وكان ناظرا فيها طالبا للحق، فاجترءوا على السؤال ليتبين له جلية (٣) الحال ، وهذا تعبير

__________________

(١) في (ب) تجوزوا بدلا من (تحيروا).

(٢) في (ب) لاشتغلاله بدلا من (اشتغاله).

(٣) في (ب) جيلة بدلا من (جلية).

١٨٤

وتلطيف للعبارة في التعبير عن جهل كليم الله بما يجوز عليه ، وما لا يجوز ، وقصروه في المعرفة عن حثالة (١) المعتزلة. نعوذ بالله من الغباوة والغواية.

واعلم أن توجيه هذه الاعتراضات على قانون المناظرة. أنا لا نسلم أنه طلب الرؤية ، بل طلب العلم الضروري أو رؤية آية وعلامة. ولو سلم فلا نسلم لزوم الجهل أو العبث لجواز أن يكون لغرض إرشاد القوم أو زيادة اطمئنان القلب (٢) ولو سلم فلا نسلم استحالة جهل موسى عليه‌السلام بمثل هذه المسائل فعليك تطبيق الأجوبة ، وأما الاعتراض على الوجه الثاني من طريق الاستدلال فمن وجوه :

أحدها : أنا لا نسلم أنه علق الرؤية على استقرار الجبل مطلقا أو حالة السكون ليكون ممكنا بل عقيب النظر بدلالة الفاء وهو حالة (٣) تزلزل واندكاك ، ولا نسلم إمكان الاستقرار حينئذ.

والجواب : أن الاستقرار حالة الحركة أيضا ممكن بأن يحصل بدل الحركة السكون لأن الإمكان الذاتي لا يزول ولهذا صح جعله دكا. فإنه لا يقال جعله دكا إلا فيما يجوز أن لا يكون كذا ، وإنما المحال هو اجتماع الحركة والسكون ، وهذا كما أن قيام زيد حال قعوده يمكن وبالعكس واجتماعهما محال.

وما يقال : إن الاستقرار مع الحركة محال إن أريد به الاجتماع فمسلم ، لكن ليس هو المعلق عليه ، وإن أريد المقيد بالمعية فممنوع.

فإن قيل : قد جعلتم الأعمّ وهو الإمكان الذاتي مستلزما للأخص وهو الاستقبالي.

قلنا العموم والخصوص بينهما إنما هو بحسب المفهوم دون الوجود ، لأن الممكن الذاتي ممكن أبدا ، وقد يقال في الجواب إنه علقها على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد ، وهو ممكن في نفسه ، ويرد عليه أنه واقع في الدنيا فيلزم وقوع الرؤية فيها ،

__________________

(١) في (ب) خيالة بدلا من (حثالة).

(٢) سقط من (ب) من أول : ولو سلم الى اطمئنان القلب.

(٣) سقط من (ب) من أول : السكون إلى وهو حالة.

١٨٥

اللهمّ إلا أن يقال المراد استقرار الجبل من حيث هو لكن في المستقبل وعقيب النظر بدليل الفاء وإن (١) فلا يرد السكون السابق أو اللاحق.

فإن قيل : وجود الشرط لا يستلزم وجود المشروط.

قلنا : ذاك في الشرط بمعنى ما يتوقف عليه الشيء ولا يكون داخلا فيه وأما الشرط التعليقي (٢) فمعناه ما يتم به عليه العلة ، وآخر (٣) ما يتوقف عليه الشيء ، وما جعل بمنزلة الملزوم لما علق عليه.

وثانيها : أن ليس المقصد هاهنا إلى إثبات (٤) إمكان الرؤية أو امتناعها. بل إلى إثبات أنها لم تقع لعدم وقوع المعلق عليه.

وردّ بأن المدعي لزوم الإمكان قصد أو لم يقصد وقد ثبت.

وثالثها : أنه لما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط ، وهو الرؤية في المستقبل فانتفت أبدا لتساوي الأزمنة ، فكانت محالا ، وهذا في غاية الفساد.

ورابعها : أن التعليق بالجائز إنما يدل على الجواز إذا كان القصد إلى وقوع المشروط عند وقوع الشرط. وأما إذا كان القصد إلى الإقناط الكلي عن وجود المشروط بشهادة القرائن كما في هذه الآية فلا. وردّ بأن الآية على الإطماع أدل منها على الإقناط ، وسيجيء الكلام على القرائن. وقد يقال : إن في الآية وجهين آخرين من الاستدلال.

أحدهما : أنه قال : لن تراني (٥) ولم يقل : لست بمرئي على ما هو مقتضى المقام لو امتنعت الرؤية ، وأخطأ السائلون.

__________________

(١) في (أ) بزيادة حرف (إن).

(٢) في (ب) التغليبي بدلا من (التعليقي).

(٣) في (ب) به غلبة الغلبة بدلا من (به علية العلة).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (إثبات).

(٥) سورة الأعراف آية رقم ١٤٣.

١٨٦

والاخر : أنه ليس معنى التجلي للجبل أنه ظهر له عليه (١) بعد ما كان محجوبا عنه، بل إنه خلق فيه الحياة والرؤية ، فرآه على ما حكى ابن فورك (٢) عن الأشعريّ وضعفهما ظاهر.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (عليه).

(٢) هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاريّ الأصبهانيّ أبو بكر واعظ عالم بالأصول والكلام ، من فقهاء الشافعية ، سمع بالبصرة وبغداد وحدث بنيسابور وبنى بها مدرسة قتله محمود بن سبكتكين بالسم عام ٤٠٦ ه‍ لقوله : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا في حياته فقط.

من كتبه : مشكل الحديث وغريبه ، وفي أصول الدين ، وغير ذلك كثير.

راجع السبكي في الطبقات ٣ : ٥٢ ـ ٥٦ ووفيات الأعيان ١ : ٤٨٢ والنجوم الزاهرة ٤ : ٢٤٠.

١٨٧

الدليل العقلي على إمكان الرؤية

(قال : وثانيهما :

إنا نرى الجواهر والأعراض ضرورة ووفاقا فلا بد لصحة رؤيتهما من علة مشتركة وهي أن (١) الوجود أو الحدوث.

وهو عدمي لا يصح للعلية فتعين الوجود وهو مشترك بينهما وبين الواجب فيلزم صحة رؤيته والمعنى بعلة صحة الرؤية ما يصلح متعلقا للرؤية على ما صرح به إمام الحرمين وحينئذ (٢) يندفع اعتراضات الأول : أن صحة الرؤية أيضا (٣) عدمية فلتكن علتهما كذلك.

الثاني : أن من (٤) المشترك بينهما الإمكان فليكن هو العلة وذلك لأنه أيضا عدمي ومشترك بين الموجود والمعدوم مع امتناع رؤيته.

الثالث : أنه لو سلم تماثل الصحتين فالواحد النوعي قد يعلل بعلل مختلفة ، وذلك لأن الرؤية قد تتعلق بالشيء من غير أن تدرك جوهريته أو عرضيته فضلا عن زيادة كيف.

وقد نرى زيدا إبان تتعلق رؤية واحدة (٥) بهويته ثم ربما نفصله إلى جواهر وأعراض وربما نغفل عن ذلك بحيث لا نعلمه ولو بعد التأمل.

الرابع : أن مع الاشتراك في العلة قد لا يثبت الحكم لتفرد الأصل بشرط أو التفرع بمانع ، وذلك لأن صحة الرؤية عند تحقق ما يصلح متعلقا لها ضروري وأما منع اشتراك الوجود فمدفوع بما سبق ولزوم صحة رؤية كل موجود حتى الأصوات

__________________

(١) في (أ) و (ج) إما بدلا من (أن).

(٢) سقط من (أ) و (ب) لفظ (وحينئذ).

(٣) سقط من (أ) و (ب) أيضا.

(٤) سقط من (أ) و (ب) لفظ الجر (من).

(٥) سقط من (ج) لفظ (واحدة).

١٨٨

والطعوم والروائح والاعتقادات وغير ذلك ملتزم وانكارها استبعاد وعدم الرؤية متحقق كسائر العاديات).

وثانيهما : تمسك المتقدمون من أهل السنة في إمكان الرؤية بدليل عقلي. تقريره أنا نرى الجواهر والأعراض بحكم الضرورة كالأجسام والأضواء والألوان والأكوان (١) ، وباتفاق الخصوم. وإن زعم البعض منهم في بعض الأعراض أنها أجسام وفي الطول الذي هو جواهر ممتدة أنه عرضه. وردّ بأنه يدرك الطول بمجرد تأليف عدة من (٢) الجواهر في سمت ، وإن لم يخطر بالبال شيء من الأعراض.

وقد يستدل على رؤية القبيلين بأنا نميز بالبصر بين نوع ونوع من الأجسام كالشجر والحجر ، ونوع ونوع من الألوان كالسواد والبياض من غير أن يقوم شيء منها بآلة الإبصار.

وبالجملة لما صحت رؤيتهما وصحة الرؤية أمر يتحقق عند الوجوب ، وينتفي عند العدم لزم أن يكون لها علة لامتناع الترجح بلا مرجح ، وأن يكون تلك العلة مشتركة بين الجوهر والعرض لما مرّ من امتناع تعليل الواحد بعلتين وهي إما الوجود وإما الحدوث ، إذ لا ثالث يصح للعلية والحدوث أيضا غير صالح لأنه بالعدم وهو اعتباري محض أو عن الوجود بعد العدم. ولا مدخل للعدم فتعين الوجود ، وهو مما يشترك فيه الواجب لما مرّ في مبحث الوجود (٣) عبارة عن مسبوقية الوجود فلزم صحة رؤيته وهو المطلوب.

واعترض عليه بوجوه يندفع أكثرها بما دلّ عليه كلام إمام الحرمين من أن المراد بالعلة هاهنا ما يصلح متعلقا بالرؤية لا المؤثر في الصحة على ما فهمه الأكثرون.

فالاعتراض الأول : أن الصحة معناها الإمكان وهو أمر اعتباري لا يفتقر إلى علة موجودة بل يكفيه الحدوث الذي هو أيضا اعتباري. ووجه اندفاعه أن ما لا تحقق له في الأعيان لا يصلح متعلقا للرؤية بالضرورة.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (الأكوان).

(٢) في (ب) هذه بدلا من (عدة).

(٣) سقط من (ب) من أول : بالعدم وهو اعتباري إلى : في مبحث الوجود.

١٨٩

الثاني : أنه لا حصر للمشترك بينهما في الحدوث والوجود ، فإن الإمكان أيضا مشترك فلم لا يجوز أن يكون هو العلة ، ووجه اندفاعه أن الإمكان اعتباري لا تحقق له في الخارج ، فلا يمكن تعلق الرؤية به. كيف والمعدوم متصف بالإمكان فيلزم أن تصح رؤيته وهو باطل بالضرورة.

الثالث : أن صحة رؤية الجوهر لا تماثل صحة رؤية العرض. إذ لا يسد أحدهما مسد الآخر! فلم لا يجوز أن يعلل كل منهما بعلة على الانفراد. ولو سلّم تماثلهما فالواحد النوعي قد يعلل بعلتين مختلفتين كالحرارة بالشمس والنار ، فلا يلزم أن يكون له علة مشتركة ، ووجه اندفاعه أن متعلق الرؤية لا يجوز أن يكون من خصوصيات الجوهرية أو العرضية ، بل يجب أن يكون مما يشتركان فيه للقطع بأنا قد نرى الشيء وندرك أن له هوية ما من غير أن يدرك كونه جوهرا أو عرضا ، فضلا عن أن ندرك ما هو زيادة خصوصية لأحدهما ككونه إنسانا أو فرسا سوادا أو خضرة ، بل ربما قد نرى زيدا بأن يتعلق رؤية واحدة بهويته من غير تفصيل لما فيه من الجواهر والأعراض ، ثم قد نفصله إلى ما له من تفاصيل الجواهر والأعراض. وقد نغفل عن التفاصيل بحيث لا نعلمها عند ما سئلنا عنها ، وإن استقصينا في التأمل ، فعلم أن ما يتعلق به الرؤية هو الهوية المشتركة لا الخصوصيات التي بها الافتراق ، وهذا معنى كون علته صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض.

الرابع : أن بعد ثبوت كون الوجود هو العلة ، وكونه مشتركا بين الجوهر والعرض وبين الواجب لا يلزم من صحة رؤيتهما صحة (١) رؤيته لجواز أن تكون خصوصية الجوهرية أو العرضية شرطا لها أو خصوصية الواجبية مانعا عنها. ووجه اندفاعه أن صحة رؤيته الشيء الذي له الوجود الذي هو المتعلق للرؤية ضرورية بل لا معنى لصحة رؤيته إلا ذلك ، ثم الشرطية أو المانعية إنما يتصور لتحقق الرؤية لا لصحتها ، وقد يعترض بوجوه أخر.

الأول : منع اشتراك الوجود بين الواجب وغيره بل وجود كل شيء عين حقيقته ، ولا خفاء في أن حقيقة الواجب لا تماثل حقيقة الممكن ، وحقيقة الإنسان لا تماثل حقيقة الفرس.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (صحة).

١٩٠

وجوابه على ما (١) مرّ في بحث الوجود. غاية الأمر أن الاعتراض يرد على الأشعري التزاما ما دام كلامه محمولا على ظاهره. وأما بعد تحقيق أن الوجود هو كون الشيء له هوية فاشتراكه ضروري.

الثاني : أنه يلزم على ما ذكرتم صحة رؤية كل موجود حتى الأصوات والطعوم والروائح والاعتقادات ، والقدر والإرادات ، وأنواع الإدراكات وغير ذلك من لموجودات وبطلانه ضروري.

والجواب : منع بطلانه وأن ما لا يتعلق بها الرؤية بناء على جري العادة بأن الله تعالى لا يخلق فينا رؤيتها لا بناء على امتناع ذلك ، وما ذكره الخصم مجرد استبعاد.

الثالث : أن (٢) نقض الدليل بصحة المخلوقية ، فإنها مشتركة بين الجوهر والعرض ولا مشترك بينهما يصلح علة لذلك سوى الوجود فيلزم صحة مخلوقية الواجب وهو محال.

والجواب : أنها أمر اعتباري محض لا يقتضي علة. إذ ليست مما يتحقق عند الوجود وينتفي عند العدم كصحة الرؤية. سلمنا لكن الحدوث يصلح هاهنا علة. لأن المانع من ذلك في صحة الرؤية ، إنما هو امتناع تعلق الرؤية بما لا تحقق له في الخارج ، وأما النقض بصحة الملموسة فقوي ، والإنصاف أن ضعف هذا الدليل جلي ، وعلى ما ذكرنا من أن المراد بالعلة هاهنا متعلق الرؤية يكون المرئي من (٣) كل شيء وجوده.

وقال الإمام الرازي في نهاية العقول من أصحابنا من التزم أن المرئي هو الوجود فقط ، وأنا لا نبصر اختلاف المختلفات بل نعلمه بالضرورة ، وهذا مكابرة لا نرتضيها ، بل الوجود علة لصحة كون الحقيقة المخصوصة مرئية.

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (على).

(٢) في (ب) بزيادة حرف (أن).

(٣) في (ب) المرمي بدلا من (المرئي).

١٩١

أدلة وقوع الرؤية بالنص والإجماع

(وعلى الوقوع إجماع الأمة قبل حدوث المخالف والنص فمن الكتاب ، قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١)

والنظر الموصول بإلى إما بمعنى الرؤية ، أو ملزوم لها ، أو مجاز تتعين فيها شهادة العقل والاستعمال والعرف ، واعترض بأنه قد يكون بمعنى الانتظار كقول الشاعر

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن تأتي بالفلاح

وإلى قد تكون اسما بمعنى النعمة ، والنظر قد يتصف بما لا تتصف به الرؤية ، كالشدة والازورار ونحوهما ، وقد يوجد بدونها مثل نظرت إلى الهلال فلم (٢) أره ، وتقديره إلى ثواب ربها احتمال ظاهر منقول.

وأجيب بأن الانتظار لا يلائم سوق الآية ، ولا يليق بدار الثواب. وكون إلى هاهنا حرفا ظاهر لم يعدل عنه السلف. وجعل النظر الموصول بإلى للانتظار تعسف ، وكذا العدول عن الحقيقة أو المجاز المشهور إلى الحدث (٣) بلا قرينة تعين ، ومنه قوله تعالى في تعيير الكفار وتحقيرهم (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٤) وقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٥) أي الرؤية بدلالة الخبر وشهادة السلف.

ومن السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» (٦).

__________________

(١) سورة القيامة آيات رقم ٢٢ ، ٢٣.

(٢) سقط من (ج) جملة (فلم أره).

(٣) في (أ) و (ب) الحذف بدلا من (الحدث).

(٤) سورة المطففين آية رقم ١٥.

(٥) سورة يونس آية رقم ٢٦.

(٦) الحديث رواه البخاريّ في المواقيت ٣٦٠١٦ وآذان ١٢٩ وتفسير سورة ٥٠ ، وتوحيد ٢٤ ، وأبو داود في السنة ١٩ والترمذيّ في الجنة ١٦ وأحمد بن حنبل ٣ : ١٦ ، ١٧.

١٩٢

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله تعالى (١) عزوجل» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه») (٢).

قوله : وعلى الوقوع الإجماع والنص. أما الإجماع (٣) لا خفاء في أن إثبات وقوع الرؤية لا يمكن إلا بالأدلة السمعية. وقد احتجوا عليه بالإجماع والنص. أما الإجماع فاتفاق الأمة قبل حدوث المخالف على وقوع الرؤية. وكون الآيات والأحاديث الواردة فيها على ظواهرها حتى روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبار الصحابة ، وأما النص فمن الكتاب قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٤) فإن النظر الموصول بإلى إما بمعنى الرؤية ، أو ملزوم لها بشهادة النقل عن أئمة اللغة ، والتتبع لموارد استعماله وإما مجاز عنها لكونه عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي طلبا لرؤيته وقد تعذر هاهنا الحقيقة لامتناع المقابلة والجهة فتعين الرؤية لكونها أقرب المجازات بحيث التحق بالحقائق بشهادة العرف والتقديم بمجرد الاهتمام ورعاية الفاصلة دون الحصر أو للحصر ادعاء. بمعنى أن المؤمنين لاستغراقهم في مشاهدة جماله ، وقصر النظر على عظمة جلاله ، كأنهم لا يلتفتون إلى ما سواه ولا يرون إلا الله.

واعترض بأن (إلى) هاهنا ليست حرفا بل اسما بمعنى النعمة واحد الآلاء وناظرة من النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (٥) ولو سلم فالموصول (بإلى) أيضا قد يجيء بمعنى (٦) الانتظار كما في قول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتي الفلاح

وقوله :

وشعث ينظرون إلى بلال

كما نظر الظماء حيا الغمام

وقوله :

كل الخلائق ينظرون سجاله

نظر الحجيج إلى طلوع هلال

__________________

(١) (٢) الحديثان رواهما البخاريّ في التفسير سورة ٥٥ ، والتوحيد ٢٤ ، ومسلم في الأيمان ٢٩٦ والترمذيّ في الجنة ٣ ، وابن ماجه في المقدمة ١٣.

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (الإجماع).

(٤) سورة القيامة آية رقم ٢٢ ، ٢٣.

(٥) سورة الحديد آية رقم ١٣.

(٦) في (ب) يجب بدلا من (يجيء).

١٩٣

ولو سلّم ، فالنظر الموصول (بإلى) ليس بمعنى الرؤية ، ولا ملزوما لها (١) لاتصافه بما لم تتصف به الرؤية مثل الشدة والازورار والرضى والتحيز والذل والخشوع ولتحققه مع انتفاء الرؤية مثل : نظرت إلى الهلال فلم اره.

قال الله تعالى (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٢)

وجعله مجازا عن الرؤية ليس بأولى من حمله على حذف المضاف أي ناظرة إلى ثواب ربها على ما ذكره علي (٣) رضي الله عنه ، وكثير من المفسرين.

وبالجملة : فلا خفاء في أن ما ذكرنا احتمالات تدفع الاحتجاج بالآية.

وأجيب : بأن سوق الآية لبشارة المؤمنين ، وبيان أنهم يومئذ في غاية الفرح والسرور ، والإخبار بانتظارهم النعمة والثواب لا يلائم ذلك ، بل ربما ينافيه ، لأن الانتظار موت أحمر ، فهو بالغم والحزن والقلق وضيق الصدر أجدر ، وإن كان مع القطع بالحصول على أن كون (إلى) اسما بمعنى النعمة لو ثبت في اللغة فلا خفاء في بعده وغرابته وإخلاله بالفهم عند تعلق النظر به ، ولهذا لم يحمل الآية عليه (٤) أحد من أئمة التفسير في القرن الأول والثاني بل أجمعوا على خلافه : وكون النظر الموصول (بإلى) سيما المستند إلى الوجه بمعنى الانتظار مما لم يثبت عن الثقات ولم تدل عليه الآيات لجواز أن يحمل على تقليب الحدقة بتأويلات لا تخفى. وأما اعتبار حذف المضاف فعدول عن الحقيقة أو المجاز المشهور في (٥) الحذف الذي لا يظهر فيه قرينة تعيين المحذوف ، وتمام الكلام في الإشكالات الموردة من قبل المعتزلة على الاحتجاج بالآية. والتقصّي عنها من قبل أهل الحق مذكور في نهاية العقول (٦) للإمام الرازي.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (لها).

(٢) سورة الأعراف آية رقم ١٩٨.

(٣) هو الإمام علي بن ابي طالب بن عبد المطلب الهاشميّ أبو الحسن أمير المؤمنين ، رابع الخلفاء الراشدين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، وابن عم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصهره ، ولي الخلافة بعد مقتل عثمان ـ رضي الله عنه. وقتل عام ٤٠ ه‍ رضي الله عنه.

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (عليه).

(٥) في (ب) إلى بدلا من (في).

(٦) الكتاب يسمى نهاية العقول في الكلام في دراية الأصول ـ يعني أصول الدين : للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍ رتبه على عشرين أصلا راجع كتاب كشف الظنون ج ٢ ص ١٩٨٨.

١٩٤

لكن الاتصاف : أنه لا يفيد القطع ، ولا ينفي الاحتمال.

ومنه قوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١) حقر شأن الكفار وخصهم بكونهم محجوبين. فكأن المؤمنين غير محجوبين وهو معنى الرؤية والحمل على كونهم محجوبين عن ثوابه وكرامته خلاف الظاهر ومنه قوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٢) فسر جمهور أئمة أهل التفسير (٣) الحسنى بالجنة ، والزيادة بالرؤية على ما ورد في الخبر كما سيجيء (٤). وهو لا ينافي ما ذكره البعض من أن الحسنى هي الجزاء المستحق ، والزيادة هي الفضل.

فإن قيل : الرؤية أصل الكرامات وأعظمها فكيف يعبر عنها بالزيادة ...؟

قلنا : للتنبيه على أنها أجل من أن تعد في الحسنات وفي أجزئة الأعمال الصالحات. والنص من السنة قوله عليه الصلاة والسلام «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» (٥) ومنها ما روي عن صهيب أنه قال : قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٦) قال «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار نادى مناديا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يشتهي أن ينجزكموه. قالوا : ما هذا الموعد ..؟ ألم يثقل موازيننا ، وينضر وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويخرجنا من النار. قال فيرفع الحجاب ، فينظرون إلى وجه الله عزوجل فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر» (٧) ومنها قوله عليه الصلاة والسلام «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسروره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله تعالى من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية» (٨) ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٩).

وقد صحح هذه الأحاديث من توثق به من أئمة الحديث إلا أنها أخبار (١٠) آحاد

__________________

(١) سورة المطففين آية رقم ١٥.

(٢) سورة يونس آية رقم ٢٦.

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (أهل).

(٤) في (ب) على ما بدلا من (كما سيجيء).

(٥) سبق تخريج هذا الحديث.

(٦) سورة يونس آية رقم ٢٦.

(٧) الحديث رواه أحمد بن حنبل في مسنده : ٢ : ٤٢٢ ، ٣ : ٩.

(٨) الحديث رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٢ : ١٢.

(٩) سورة القيامة آية رقم ٢٢ ، ٢٣.

(١٠) في (أ) بزيادة لفظ (أخبار).

١٩٥

١ ـ أدلة المخالف على عدم الرؤية

(قال : تمسك المخالف بوجوه.

الأول : أنه لو كان مرئيا لكان بالضرورة مقابلا فكان في جهة جوهرا أو عرضا.

ـ قوله ـ تمسك المخالف بوجوه.

يعني للمعتزلة شبه عقلية وسمعية بعضها يمنع صحة الرؤية ، وبعضها وقوعها فالعقلية أصولها ثلاث :

الأولى : شبهة المقابلة وهي (١) أنه لو كان مرئيا لكان مقابلا للرائي حقيقة كما في الرؤية بالذات ، أو حكما لما في الرؤية بالمرآة. والحق أنه لا حاجة إلى هذا التفصيل. لأن المرئي بالمرآة هو الصورة المنطبعة فيها المقابلة للرائي حقيقة لا ماله الصورة كالوجه مثلا ، ويدعون في لزوم المقابلة الضرورة (٢) ويفرعون على ذلك وجوها من الاستدلال مثل أنه لو كان مرئيا لكان في جهة وحيز وهو محال ، ولكان جوهرا أو عرضا لأن المتحيز بالاستقلال جوهر وبالتبعية عرض. ولكان إما في البدن أو خارج البدن أو فيهما ، ولكان في الجنة أو خارج الجنة أو فيهما. إذ لا تعقل الرؤية إن لم تكن فيه ولا خارجة لانتفاء المقابلة ، ولكان المرئي إما كله فيكون محدودا متناهيا أو بعضه فيكون مبعضا متجزئا ، وهذا بخلاف العلم ، فإنه إنما يتعلق بالصفات ، ولا فساد في أن يكون المعلوم كلها أو بعضها ، ولكان إما على مسافة من الرائي فيكون في حيز وجهة أو لا فيكون في العين أو متصلا بها ، ولكان رؤية المؤمنين إياه ، إما دفعة فيكون متصلا بعين كل أحد بتمامه فيتكثر أو لا بتمامه فيتجزّى ، أو منفصلا عنها فيكون على مسافة ، وإما على التعاقب مع استوائهم في سلامة الحواس فيلزم الحجاب بالنسبة إلى

__________________

(١) في (ب) القابلة بدلا من (المقابلة).

(٢) في (ب) الصورة بدلا من (الضرورة).

١٩٦

البعض ، ولكان رؤيته إما مع رؤية شيء آخر مما في الجنة فيكون على جهة منه ضرورة.

إن رؤية الشيئين دفعة لا تعقل إلا كذلك ، وإما لا معها فيكون ما هو باطن في الدارين مرئيا وما هو ظاهر غير مرئي مع شرائط الرؤية ، وحديث غلبة شعاع أحد المرئيين إنما يصح في الأجسام.

والجواب : أن لزوم المقابلة والجهة ممنوع ، وإنما الرؤية نوع من الإدراك يخلقه الله تعالى متى شاء ، ولأي شيء شاء ، ودعوى الضرورة فما نازع فيه احم (١) الغفير من العقلاء غير مسموع.

ولو سلم في الشاهد ، فلا يلزم في الغائب لأن الرؤيتين مختلفتان ، إما بالماهية ، وإما بالهوية لا محالة ، فيجوز اختلافهما في الشروط واللوازم ، وهذا هو المراد بالرؤية بلا كيف بمعنى خلوها عن الشرائط ، والكيفيات المعتبرة في رؤية الأجسام والأعراض ، لا بمعنى خلو الرؤية أو الرائي أو المرئي عن جميع الحالات والصفات على ما يفهمه أرباب الجهالات ، فيعترضون بأن الرؤية فعل من أفعال العبد ، أو كسب من أكسابه فبالضرورة يكون واقعا (٢) بصفة من الصفات ، وكذا المرئي بحاسة العين ، لا بد أن يكون له كيفية من الكيفيات. نعم يتوجه أن يقال : نزاعنا إنما هو في هذا النوع من الرؤية ، لا في الرؤية المخالفة لها بالحقيقة المسماة عندكم بالانكشاف التام ، وعندنا بالعلم الضروري.

__________________

(١) في (ب) الجسم وهو تحريف.

(٢) في (ب) وفقا بدلا من (واقعا).

١٩٧

٢ ـ أدلة المخالف على عدم الرؤية

(إن الرؤية إما بالشعاع أو الانطباع وكلاهما ظاهر الامتناع قلنا لو سلم اللزوم ففي الشاهد خاصة).

ـ قوله ـ

الثاني : الشبهة الثانية شبهة الشعاع والانطباع وهي أن الرؤية إما باتصال شعاع العين بالمرئي ، وإما بانطباع الشبح من المرئي في حدقة الرائي على اختلاف المذهبين ، وكلاهما في حق الباري تعالى ظاهر الامتناع فتمتنع رؤيته.

والجواب : أن هذا مما نازع فيه الفلاسفة فضلا عن المتكلمين على ما سبق في بحث القوى. ولو سلّم فإنما هو في الشاهد دون الغائب. إما على تقدير اختلاف الرؤيتين بالماهية فظاهر ، وإما على تقدير اتفاقهما فلجواز أن يقع أفراد الماهية الواحدة بطريق مختلفة.

٣ ـ الشبهة الثالثة

(قال :

إنه لو صحت رؤيته لدامت في الجهة (١) بل في الدنيا والآخرة لتحقق الشرط الذي يعقل في رؤيته من سلامة الحاسة وكونه جائز الرؤية وإلّا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة وبحار هائلة لا نراها بعدم خلق الله الرؤية أو الانتفاء شرط خاص لها قلنا انتفاؤها ليس مبنيا على ذلك بل (٢) ضروريا كسائر العاديات ثم لو سلم

__________________

(١) في (ج) الجنة بدلا من (الجهة).

(٢) في (ج) بزيادة (بل).

١٩٨

الوجوب في الشاهد فعلها لا تجب في الغائب لاختلافها بالماهية ، أو لاشتراطها بزيادة قوة قد لا توجد).

قوله ـ الثالث : الشبهة الثالثة شبهة الموانع (١) وهي أنه لو جازت رؤيته لدامت لكل سليم الحاسة في الدنيا والآخرة ، فلزم أن نراه الآن وفي الجنة على الدوام ، والأول منتف بالضرورة ، والثاني بالإجماع ، وبالنصوص القاطعة الدالة على اشتغالهم بغير ذلك من اللذات.

وجه اللزوم أنه يكفي للرؤية في حق الغائب سلامة الحاسة وكون الشيء جائز الرؤية ، لأن المقابلة وانتفاء الموانع من فرط الصغر أو اللطافة أو القرب أو البعد وحيلولة الحجاب الكثيف أو الشعاع المناسب لضوء العين (٢) ، إنما يشترط في الشاهد أعني رؤية الأجسام والأعراض ، فعند تحقق الأمرين لو لم تجب الرؤية لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة لا نراها ، لأن الله تعالى لم يخلق رؤيتها أو لتوقفها على شرط آخر ، وهذا قطعي البطلان.

والجواب : أنه إن أريد جواز ذلك في نفسه بمعنى كونه من الأمور الممكنة فليس قطعي البطلان ، بل قطعي الصحة (٣) والشرطية المذكورة ليست لزومية بل اتفاقية بمنزلة قولنا : لو لم تجب الرؤية عند تحقق الشرائط لكان العالم ممكنا ، وإن أريد جوازه عند العقل بمعنى تجويزه ثبوت الجبال ، وعدم جزمه بانتفائها ، فاللزوم ممنوع. فإن انتفاءها من العاديات القطعية الضرورية ، كعدم جبل من الياقوت ، وبحر من الزئبق ، ونحو ذلك مما يخلق الله تعالى العلم (٤) الضروري بانتفائها ، وإن كان ثبوتها من الممكنات دون المحالات ، وليس الجزم به مبنيا على العلم ، بأنه تجب الرؤية عند وجود شرائطها ، لحصوله من غير ملاحظة ذلك ، بل مع الجهل(٥). بذلك سلمنا

__________________

(١) في ب المواقع بدلا من (الموانع).

(٢) في (ب) لصف العين بدلا من (ضوء).

(٣) في (ب) بل قطع بدلا من (قطعي).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (العلم).

(٥) في (ب) من بدلا من (مع).

١٩٩

وجوب الرؤية عند تحقق الشرائط المذكورة في حق الشاهد ، لكن لا نسلم وجوبها في الغائب عند تحقق الأمرين لجواز أن تكون الرؤيتان مختلفتين في الماهية ، فيختلفان في اللوازم أو تكون رؤية الخالق مشروطة بزيادة قوة إدراكية في الباصرة لا يخلقها الله تعالى إلا في الجنة في بعض الأوقات (١) ، ثم لا يخفى ضعف ما ذكره بعض المعتزلة من أن العينين أعني الدنيوية والأخروية ، لما كانت مثلين لزم تساويهما في الأحكام واللوازم والشروط ، وأن الشروط والموانع يجب أن تكون منحصرة فيما ذكرنا للدوران القطعي. ولأنه إذا قيل لنا إن هناك مرئيا آخر مقرونا بجميع ما ذكر من الشرائط ، وانتفاء الموانع إلا أنه لا يرى لانتفاء شرط أو تحقق مانع غير ذلك ، فنحن نقطع ببطلانه. واحتج الإمام الرازي على بطلان انحصار الشرائط فيما ذكروه بوجهين :

أحدهما : ومبناه على قاعدة المتكلمين. أعني تركب الجسم من أجزاء لا تتجزأ. أنا نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا ، وما ذاك إلا لرؤية بعض أجزائه دون البعض مع استواء الكل في الشرائط المذكورة ، فلو لا اختصاص البعض بشرط وارتفاع مانع لما كان كذلك.

وثانيهما : أنا نرى ذرات الغبار عند اجتماعها ولا نراها عند تفرقها مع حصول الشرائط المذكورة في الحالين. فعلمنا اختصاصها حالة التفرق بانتفاء شرط أو وجود مانع. لا يقال بل ذاك لانتفاء شرط الكثافة ، وتحقق مانع الصغر ، لأنا نقول : فحينئذ تكون رؤية كل ذرة مشروطة بانضمام الأخرى إليها وهو دور.

واجيب : عن الأول بمنع التساوي فإن أجزاء الجسم متفاوتة في القرب والبعد من الحدقة. فلعلّ بعضا منها يقع في حد البعد المانع من الرؤية بخلاف البعض.

وعن الثاني : بأنه دور معية لا تقدم.

__________________

(١) في (ب) الأزمان بدلا من (الأوقات).

٢٠٠