شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

قلنا : هو أراد أنه أمر واحد يعرض له التنوع بحسب التعلقات الحادثة من غير أن يتغير في نفسه.

وثانيها : أن وجود المخاطب إنما يلزم في الكلام الحسي. وأما النفسي فيكفيه وجوده العقلي.

أي الأمر في الأزل لا يجاب يحصل المأمور به في وقت وجود المأمور وصيرورته أهلا لتحصيله ، فيكفي وجود المأمور في علم (١).

وثالثها : أن السفه والعبث إنما يلزم لو خوطب المعدوم ، وأمر في عدمه ، وأما على تقدير وجوده بأن يكون طلبا للفعل ممن سيكون فلا كما في طلب الرجل تعلم ولده الذي أخبره صادق بأنه سيولد ، وكما في خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوامره ونواهيه وكل مكلف يولد إلى يوم القيامة ، إذ اختصاص خطاباته بأهل عصره ، وثبوت الحكم فيمن عداه بطريق القياس بعيد جدا. نعم لو قيل خطاب الحاضرين قصدا ، والغائبين والمعدومين ضمنا وتبعا ليس من السفه في شيء لكان شيئا. واعلم أن هذا الجواب هو المشهور من الجمهور ، وكلامهم متردد في أن معناه أن المعدوم مأمور في الأزل بأن يتمثل ، ويأتي بالفعل على تقدير الوجود أو المعدوم ، ليس بمأمور في الأزل لكن لما استمر الأمر الأزلي إلى زمان وجوده صار بغد الوجود مأمورا.

ورابعها : أن السفه هو أن يخلو عن الحكمة والعاقبة الحميدة ما يتعلق بها ، والقديم ليس كذلك ، إذ لا يطلب لثبوته حكمة وغرض.

وخامسها : أن السفه هو الخالي عن الحكمة بالكلية ، والأمر الأزلي ليس كذلك لترتب الحكمة عليه فيما لا يزال.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (أ).

١٦١

بقية الأدلة

(قال : الخامس.

لو كان أزليا لكان أبديا فيبقى التكليف في دار الجزاء.

السادس : يكون مكالمة موسى عليه‌السلام أبدا لا في الطور وحده.

السابع : يستوي نسبته إلى المتعلقات فيكون المأمور منهيا وبالعكس.

قلنا : التعلق حادث بالاختيار).

الخامس :

قال : الوجه الخامس والسادس : من تمسكات المعتزلة أن الأمر لو كان أزليا لكان التكليف باقيا أبدا حتى في دار الجزاء لأن ما يثبت قدمه امتنع عدمه ولما اختص مكالمة موسى عزم بالطور (١) ، بل استمر أزلا وأبدا واللازم باطل إجماعا.

وجوابهما : أن الكلام وإن كان أزليا لكن تعلقاته بالأشخاص والأفعال حادثة بإرادة من الله تعالى واختيار فيتعلق الأمر بصلاة زيد مثلا بعد بلوغه ، وينقطع عند موته ، ويتعلق الكلام بموسى عليه‌السلام ، في الطور ، على أنك إذا تحققت فالمختص بالطور سماع الكلام وظهوره ، وبهذا يخرج الجواب عن الوجه السابع وهو أن القديم يستوي نسبته إلى جميع ما يصح تعلقه به كما في العلم والقدرة ، فيتعلق الأمر والنهي بكل فعل حتى يكون المأمور منهيا وبالعكس ، واللازم باطل قطعا ، وهذا إلزامي علينا حيث لا يقول بالحسن والقبح لذات الفعل ليمنع صحة تعلق الأمر بما يتعلق به النهي وبالعكس ...

__________________

(١) الطور : اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، وأقسم الله به تشريفا له وتكريما ، وهو أحد جبال الجنة ، قال مجاهد : الطور هو بالسريانية الجبل ، والمراد به طور سينا ، وقاله السدي ؛ وقال مقاتل بن حيان هما طوران يقال لأحدهما : طور سينا ، والآخر طور زيتا ، لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل : إن الطور كل جبل أنبت ، وما لا ينبت فليس بطور. راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٥٨ وما بعدها.

١٦٢

خاتمة

(قال : خاتمة.

المذهب أن كلامه الأزلي واحد يتكثر بحسب التعلق لا على أنه إنما يتكثر بحسب التعلق لا على أنه إنما يتكثر فيما لا يزال ، كما زعم ابن سعيد ، ولا على أنه خبر ومرجع البواقي إليه كما زعم الإمام الرازي ، بل على أنه إنما ثبت بالسمع ولم يرد بالتعدد ، ولم يمتنع التكلم بالأمر والنهي والخبر وغيرها بكلام واحد كما في العلم والقدرة.

قال : خاتمة المذهب : أن كلامه الأزلي واحد. قال عبد الله بن سعيد : إنه في الأزل ليس شيئا من الأقسام ، وإنما يصير أحدهما فيما لا يزال وقد عرفت ضعفه.

وقال الإمام الرازي : هو في الأزل خبر ، ومرجع البواقي إليه ، لأن الأمر بالشيء إخبار باستحقاق فاعله الثواب ، وتاركه العقاب ، والنهي بالعكس ، وعلى هذا القياس وضعفه ظاهر ، لأن ذلك لازم الأمر والنهي لا حقيقتهما والأقرب ما ذكره إمام الحرمين ، وهو أن ثبوت الكلام إنما هو بالسمع ، دون العقل ، ولم يرد بالتعدد ، بل انعقد الإجماع على نفي كلام فان قديم ، ولم يمتنع التكلم بالأمر والنهي والخبر وغيرها بكلام واحد.

فحكمنا بأنه واحد يتعلق بجميع التعلقات كما في سائر الصفات ، وإن كانت العقول قاصرة عن إدراك كنه هذا المعنى ، وإذا تحققت فالأمر كذلك في الذات ، وجميع الصفات ، وقد يستدل على وحدة الكلام بأنه لو تعدد لم ينحصر في عدد لأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداد على السواء ، وقد مرّ ذلك في القدرة.

١٦٣

المبحث السابع

في الصفات المختلف فيها

(قال : المبحث السابع في صفات اختلف فيها.

إذ لا تنحصر الصفات فيما ذكر التمسك بأنه لا دليل على صفة أخرى فيجب نفيها وبأنها لو كانت لعرفت لوقوع التكليف بكمال المعرفة ضعيف فمنها البقاء أثبته الشيخ وأتباعه لأن الباقي بلا بقاء كالعالم بلا علم وليس نفس الوجود إذ قد يوجد الشيء ولا يبقى وخالفه الكثيرون لوجوه : ـ

الأول : أن المعقول منه استمرار لوجود ومعناها الوجود من حيث انتسابه إلى الزمان الثاني.

الثاني : أن البقاء (١) بالبقاء الذي ليس نفس الذات لا يكون واجبا لذاته لا (٢) سيما إذا فسر بصفة بها الوجود في الزمان الثاني ، وليس هذا من افتقار صفة إلى صفة كالإرادة إلى العلم بل من افتقار الوجود.

الثالث : إما أن يحتاج البقاء إلى الذوات فيدور أو بالعكس فيكون هو الواجب لا الذات أو لا يحتاج أحدهما إلى الآخر بل اتفق تحققهما معا فيتعدد الواجب مع أن استغناء الصفة عن الذات ليس بمعقول.

الرابع : إما أن يكون للبقاء بقاء فيلزم التسلسل وقيام المعنى بالمعنى أولى يكون (٣) فيكون كعالم بلا علم. فإن قيل بقاء البقاء نفسه قلنا : فلتكن الصفات مع الذات كذلك وقد يدفع بأنه محال لما مر (٤) بخلاف كون بقاء البقاء نفسه لكن يبقى إشكال قيام المعنى بالمعنى في بقاء الصفات ولا يندفع بما قيل نحن لا نقول الصفات باقية. بل الذات باق بصفاته أو بقاؤها نفسها أو نفس بقاء الذات لعدم التغاير لأن

__________________

(١) في (ج) الباقي بالبقاء.

(٢) في (ج) بزيادة (لا).

(٣) سقط من (أ) و (ب) لفظ (يكون).

(٤) في (ج) كما بدلا من (لما).

١٦٤

الأول باطل بالضرورة ، والثاني بإيجابه جواز كون بقاء الذات كذلك حتى لا يثبت قديم (١) آخر ، والثالث بامتناع قيام صفة الشيء بما ليس عينه وإن لم يكن غيره)

المبحث السابع :

في صفات اختلف فيها ، يعني اختلف فيها (٢) أهل الحق القائلون بالصفات الأزلية. زعم بعض الظاهرية (٣) أنه لا صفة لله تعالى وراء السبعة المذكورة لوجهين :

أحدهما : أنه لا دليل عليه ، وكل ما لا دليل عليه يجب نفيه ، ورد بمنع المقدمتين.

وثانيهما : أنا مكلفون بكمال المعرفة ، وذلك بمعرفة الذات وجميع الصفات فلو كانت له صفات أخرى لعرفناها معشر العارفين الكاملين ، واللازم منتف بالضرورة ، وبأنه لا طريق إلى معرفة الصفات سوى الاستدلال بالأفعال ، والتنزيه عن النقائص ، وهما لا يدلان على صفة أخرى ، ورد بالمنبع بل التكليف بقدر الوسع. ولو سلم فما أدراك أن الكاملين لم يعرفوا صفة أخرى ، ولا نسلم أنه لا طريق سوى ما ذكرتم. أليس الشرع طريقا قويما ، وصراطا مستقيما.؟

فمن الصفات المختلف فيها البقاء أثبته الشيخ الأشعري وأشياعه من أهل السنة. لأن الواجب باق بالضرورة ، فلا بد أن يقوم به معنى هو البقاء كما في العالم والقادر ، لأن البقاء ليس من السلوب والإضافات وهو ظاهر ، وليس أيضا عبارة عن الوجود ، بل زائدا عليه لأن الشيء قد يوجد ولا يبقى كالأعراض ، سيما السيالة ، وذهب الأكثرون إلى أنه ليس صفة زائدة على الوجود لوجوه :.

أحدها : أن المعقول منه استمرار الوجود ولا معنى لذلك سوى الوجود من حيث انتسابه إلى الزمان الثاني بعد الزمان الأول وثانيها : أن الواجب لو كان باقيا بالبقاء

__________________

(١) في (ج) قادم بدلا من (قديم).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (فيها).

(٣) هم الذين يحتكمون إلى النصوص ويرفضون الرأي وهم لم يأخذوا بالقياس ولا بالاستحسان ولا بالمصالح المرسلة ، ولا الذرائع بل يأخذون بالنصوص وحدها ، وإذا لم يكن نص أخذوا بحكم الاستصحاب الذي هو الإباحة الاصلية الثابتة بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ومؤسس هذا المذهب هو داود الأصبهانيّ الظاهريّ ت ٢٧٠ ه‍ وموضحه هو العالم ابن حزم الأندلسيّ الذي كان أشد استمساكا بالظاهرية من داود. توفي عام ٤٥٦ ه‍.

١٦٥

الذي ليس نفس ذاته ، لما كان واجب الوجود لذاته ، لأن ما هو موجود لذاته ، فهو باق لذاته ضرورة أن ما بالذات لا يزول أبدا ، وإذا فسر البقاء بصيغة بها الوجود في الزمان الثاني كان لزوم المحال أظهر لأنه يؤول إلى أن الواجب موجود في الزمان الثاني لأمر سوى ذاته.

واعترض صاحب الصحائف (١) بأن اللازم ليس إلا افتقار صفة إلى صفة أخرى نشأت من الذات ، ولا امتناع فيه كالإرادة تتوقف على العلم ، والعلم على الحياة ، وليس بشيء لأن الوجود ليس من الذات.

ولو سلم فافتقاره إلى أمر سوى الذات ينافي الوجوب بالذات (٢).

وثالثها : أن الذات لو كان باقيا بالبقاء لا بنفسه ، فإن افتقر صفة البقاء إلى الذات لزم الدور لتوقف ثبوت كل ما في الزمان الثاني على الآخر ، وإن افتقر الذات إلى البقاء مع استغنائه عنه ، كان الواجب هو البقاء لا الذات هذا خلف ، وإن لم يفتقر أحدهما على الآخر ، بل اتفق تحققهما معا كما ذكره صاحب المواقف لزم تعدد الواجب لأن كلّا من الذات والبقاء يكون مستغنيا (٣) عما سواه ، إذ لو افتقر البقاء إلى شيء لافتقر إلى الذات ضرورة افتقار الكل إليه والمستغني عن جميع ما سواه واجب قطعا هذا مع أن ما فرض من عدم افتقار البقاء إلى الذات محال ، لأن افتقار الصفة إلى الذات ضروري.

ورابعها : أن البقاء لو كانت صفة أزلية زائدة على الذات قائمة به كانت باقية بالضرورة ، وحينئذ فإن كان لها بقاء ينقل الكلام إليه بتسلسل وأيضا يلزم قيام المعنى بالمعنى وهو باطل عندكم ، وإن لم يكن لها بقاء كان كعالم بلا علم وقد بين بطلانه.

فإن قيل : هو باق بالبقاء إلا أن بقاءه نفسه لا زائدا عليه ليتسلسل قلنا : فحينئذ يجوز أن يكون الباري تعالى باقيا ببقاء هو نفسه عالما بعلم هو نفسه ، فلا يثبت زيادة

__________________

(١) صاحب الصحائف هو شمس الدين محمد السمرقنديّ المتوفى سنة ٦٠٠ ه‍ وهذا الكتاب شرحه البهشتيّ أيضا بشرحين. راجع كشف الظنون ج ٢ ص ١٠٧٥.

(٢) في (ب) الرب بدلا من (الوجوب).

(٣) في (ب) مستعتيا بدلا من (مستغتيا).

١٦٦

صفة البقاء على ما هو رأي الشيخ ولا زيادة العلم والقدرة وغيرهما على ما هو رأي أهل الحق.

واعترض على هذا الجواب بأن كون بقاء الباري أو علمه أو قدرته نفس ذاته محال لما مرّ في إثبات الصفات بخلاف كون بقاء البقاء كوجود الوجود وقدم القدم وغير ذلك ، فأورد الإشكال ببقاء الصفات ، فإن العلم القديم باق بالضرورة ، وكذا سائر الصفات مع امتناع أن يكون البقاء نفس العلم والقدرة وغيرهما فلزم قيام المعنى بالمعنى وثبوت قدماء أخر لم يقل بها أحد ، وللقوم في التقصي عن هذا الإشكال وجوه :

الأول : لبعض القدماء أنا نقول الذات باق بصفاته ، ولا نقول الصفات باقية ليلزم المحال وفساده بيّن لأن كون الصفة الأزلية باقية ضروري.

الثاني : لبعض الأشاعرة وينسب إلى الشيخ أن العلم باق ببقاء هو نفس العلم ، وكذا سائر الصفات كما ذكر في البقاء وأوضحه الأستاذ بأنه لما ثبت قدم الصفات ، ولزم كونها باقية ، وامتنع الباقي بلا بقاء ، وكونها باقية ببقاء زائد ، لاستحالة قيام المعنى بالمعنى ، ثبت أن كلّا منها باقية ببقاء هو نفسها فكان العلم مثلا صفة للذات بها يكون الذات عالما ، وبقاء لنفسه به يكون هو باقيا ، وكان بقاء الذات بقاء له ، وبقاء لنفسه أيضا ، ولم يكن العلم صفة لنفسه حتى يلزم كونه عالما ، وهذا كما أن الجسم كائن في المكان بكون يخصه ويزيد عليه ضرورة تحقق هذا الجسم بدون هذا التمكن ، ثم هذا الكون كائن بكون هو نفسه لا زائد عليه ، قائم به ، ولم يكن العلم علما لنفسه حتى يلزم كونه عالما ، ولا بقاؤه بقاء للذات ليلزم كونه عالما باقيا بشيء واحد.

فإن قيل : فقد لزم كون الذات عالما بما هو بقاء ، والعلم باقيا بما هو علم وهو محال.

قلنا : المستحيل أن يكون الشيء عالما بما هو بقاء له ، وباقيا بما هو علم له وهاهنا العلم علم للذات وليسا بقاء له ، والبقاء بقاء للعلم ، وليس علما له.

١٦٧

فإن قيل : إذا جاز كون العلم باقيا ببقاء هو نفسه ، فلم لا يجوز كون الذات عالما بعلم هو نفسه ، قادرا بقدرة هي نفسه إلى غير ذلك على ما هو رأي المعتزلة.

قلنا : لما سبق في بحث زيادة الصفات من لزوم الفسادات ويرد على هذا الوجه أنه إذا جاز كون بقاء العلم نفسه ، فلم لا يجوز أن يكون بقاء الذات نفسه ، ولا تثبت صفة زائدة؟

فإن قيل : الأصل زيادة الصفة إلا لمانع ، وهو هاهنا لزوم قيام المعنى بالمعنى ، ولم يوجد في بقاء الذات.

قلنا : خطأ ومعارضة بأن الأصل عدم تكثر القدماء إلا لقاطع.

الوجه الثالث للأشعريّ : أن الصفات باقية ببقاء هو بقاء الذات ، وجاز ذلك لعدم المغايرة بين الذات والصفات بخلاف الجوهر مع أعراضه فلذا لم يكن بقاؤه بقاء لها. ويرد عليه أن الصفات كما أنها ليست غير الذات فليست عينه أيضا ، وكما امتنع اتصاف الشيء بصفة قائمة بالغير فكذا بصفة قائمة بما ليس نفس ذلك الشيء. وأما الاعتراض بأنه لو كانت الصفات باقية ببقاء الذات لعدم التغاير لكانت عالمة بعلمه ، قادرة بقدرته إلى غير ذلك فليس بشيء لأن ذلك فرع صحة (١) من الانصاف وقد صح كون العلم مثلا باقيا بخلاف كونه قادرا.

(قال : ومنها التكوين.

أثبته بعض الفقهاء تمسكا بأنه تعالى خالق إجماعا فلا بد من قيام صفة به يسميها (٢) إلى التخليق والترزيق والإحياء والإماتة ونحو ذلك بحسب اختلاف المتعلقات وتكون أزلية كسائر الصفات. ورد بأن ذلك في الصفات الحقيقية وليس الإيجاد إلا معنى يعقل من تعلق المؤثر بالأثر وذلك فيما لا يزال.

قالوا : تمدح في كلامه الأزلي بأنه الخالق البارئ المصور فلو لم يكن ذلك إلا فيما

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (صحة).

(٢) في (خ) نسبتها إلى بدلا من (يسميها).

١٦٨

لا يزال لزم التمدح بما ليس فيه الكمال بعد النقصان قلنا كالتمدح بقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١) (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (٢).

وحقيقته أنه في الأزل بحيث يحصل له ذلك فيما لا يزال قالوا : اعترفتم بأنه يكون الأشياء في أوقاتها بكلمة أزلية هي (كن)

وهو المعنى بالتكوين. قلنا : فيعود إلى صفة الكلام. قالوا : صفة كمال. فالخلو عنه نقص. قلنا : نعم. حيث أمكن وإمكانه في الأزل ممنوع وعورضت الوجوه بأنه لا يعقل من التكوين إلا الإحداث والإخراج من العدم إلى الوجود كما فسرتموه. وهو من (٣) الإضافات الفعلية (٤) لا الصفات الحقيقية. كما مرّ. وبأنه لو كان قديما لزم قدم المكون ضرورة امتناع الانفكاك.

فإن قيل بل صفة بها تتكون الأشياء لأوقاتها وتخرج من العدم إلى الوجود وليست القدرة مقتضاها الصحة ، ومقتضى التكوين الوجود. على أنه لما دام وترتب عليه الأثر بعد حين لم يلزم الانفكاك ولم يكن كضرب بلا مضروب.

قلنا : ولما قلتم انها غير القدرة المقرونة بالإرادة؟ وهل القدرة إلا صفة تؤثر على وفق الإرادة؟ ولهذا قال الإمام الرازي : إن تلك الصفة إما أن تؤثر على سبيل الجواز فلا تتميز عن القدرة أو على سبيل الوجوب فلا يكون الواجب مختارا وما نقل عن الشيخ أن التكوين هو المكون فقيل : معناه أن المفهوم من اطلاق الخلق هو المخلوق أو أنه إذا أثر شيء في شيء فالذي حصل في الخارج هو الأثر لا غير).

ومنها : التكوين. اشتهر (٥) القول به عن الشيخ أبي منصور الماتريديّ وأتباعه وهم ينسبونه إلى قدمائهم الذين كانوا قبل الشيخ أبي الحسن الأشعريّ حتى (٦) قالوا : إن

__________________

(١) سورة الجمعة آية رقم ١ وسورة التغابن آية رقم ١.

(٢) سورة الزخرف آية رقم ٨٤.

(٣) سقط من (ج) حرف الجر (من).

(٤) في (ج) العقلية بدلا من (الفعلية).

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (اشتهر).

(٦) في (ب) حين بدلا من (حتى).

١٦٩

قول أبي جعفر الطحاويّ (١) له الربوبية ولا مربوب ، والخلقية ولا مخلوق. إشارة إلى هذا وفسروه بإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود ثم أطنبوا في إثبات أزليته ومغايرته للقدرة.

(وكونه غير الكون. وإن أزليته لا تستلزم أزلية المكونات ، إلا أنهم سكتوا عما هو أصل الباب أعني مغايرته للقدرة) (٢).

من حيث تعلقها بأحد طرفي الفعل والترك ، واقترانها بإرادته ، والعمدة في إثباته أن الباري تعالى مكون الأشياء إجماعا وهو بدون صفة التكوين محال ، كالعالم بلا علم ، ولا بد أن تكون أزلية لامتناع قيام الحوادث بذات الله تعالى ، ثم تختلف أسماؤها ، بحسب اختلاف الآثار فمن حيث حصول المخلوقات به تسمى تخليقا ، والأرزاق ترزيقا والصور تصويرا ، والحياة إحياء ، والموت إماتة إلى غير ذلك.

وأجيب بأن ذلك إنما يكون هو (٣) في الصفات الحقيقية كالعلم والقدرة.

ولا نسلم أن التأثير والإيجاد كذلك ، بل هو معنى يعقل من إضافة المؤثر إلى الأثر ، فلا يكون إلا فيما لا يزال ، ولا يفتقر إلا إلى صفة القدرة والإرادة ، وقد يستدل بوجوه أخر.

أحدها : أن الباري تعالى تمدح في كلامه الأزلي بأنه الخالق البارئ المصور فلو لم يثبت التخليق والتصور في الأزل ، بل فيما لا يزال لكان (٤) ذلك تمدحا من الله تعالى بما ليس فيه وهو محال ، ولزم اتصافه بصفة الكمال بعد خلوه عنها وهو عليه محال.

__________________

(١) الطحاويّ : هو أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاويّ ، أبو جعفر فقيه انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر ، ولد ونشأ في (طحا) من صعيد مصر وتفقه على مذهب الشافعي ، ثم تحول حنفيا ورحل إلى الشام سنة ٢٦٨ ه‍ توفي بالقاهرة عام ٣٢١ ه‍ من كتبه : شرح معاني الآثار ، ومشكل الآثار ، والعقيدة الطحاوية وغير ذلك ، راجع طبقات الحفاظ للسيوطي والفهرست لابن النديم وابن خلكان ١ : ١٩.

(٢) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (هو).

(٤) سقط من (أ) لفظ (ذلك).

١٧٠

وأجيب : بأنه كالتمدح بقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(١)

وقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (٢) أي معبود ، ولا شك أن ذلك بالفعل إنما يكون فيما لا يزال لا في الأزل والإخبار عن الشيء في الأزل لا يقتضي ثبوته فيه كذكر الأرض والسماء والأنبياء وغير ذلك. نعم هو في الأزل بحيث تحصل له هذه التعلقات والإضافات فيما لا يزال لما له (٣) من صفات الكمال.

وثانيها : أن الأشاعرة يقولون في قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤) أنه قد جرت العادة الإلهية أن تكون الأشياء لأوقاتها بكلمة أزلية هي كلمة (كن) ولا نعني بصفة التكوين إلا هذا.

وأجيب : بأنه حينئذ يعود إلى صفة الكلام ولا تثبت صفة أخرى على أن الأكثر يجعلونه مجازا عن سرعة الإيجاد والتكوين لما له من كمال العلم والقدرة والإرادة.

وثالثها : أن التكوين والإيجاد صفة كمال ، فلو خلا عنها في الأزل لكان نقصا وهو عليه محال.

وأجيب : بأن ذلك إنما هو فيما يصح اتصافه به في الأزل. ولا نسلم أن التكوين والإيجاد بالفعل ، كذلك. نعم هو في الأزل قادر عليه ولا كلام فيه ، ثم عورضت الوجوه المذكورة بوجهين :

أحدهما : لا يعقل من التكوين إلا الإحداث وإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود كما فسره القائلون بالتكوين الأزلي ولا خفاء في أنه إضافة يعتبرها العقل من نسبة المؤثر إلى الأثر فلا يكون عينيا موجودا ثابتا في الأزل.

__________________

(١) سورة الجمعة آية رقم ١ وسورة التغابن آية رقم ١.

(٢) سورة الزخرف آية رقم ٨٤.

(٣) في (ب) فيه بدلا من (له).

(٤) سورة النحل آية رقم ٤٠.

١٧١

وثانيهما : أنه لو كان أزليا لزم أزلية المكونات ضرورة امتناع التأثير بالفعل بدون الأثر.

فإن قيل : المراد بالتكوين صفة أزلية بها تتكون الأشياء لأوقاتها ، وتخرج من العدم إلى الوجود فيما لا يزال ، وليست نفس القدرة لأن مقتضى القدرة ، ومتعلقها ، إنما هو صحة المقدور ، وكونه ممكن الوجود ، ومقتضى التكوين ومتعلقه وجود المكون في وقته على أنه لو أريد بالتكوين نفس الإحداث والإخراج من العدم ، فأزليته لا تستلزم أزلية المخلوق ، لأنه لما كان دائما مستمرا إلى زمان وجود المخلوق ، وترتبه عليه لم يكن هذا من انفكاك الأثر عن المؤثر ، وتخلف المعلول عن العلة في شيء ، ولم يكن كالضرب بلا مضروب ، والكسر بلا مكسور ، وإنما يلزم ذلك في التكوين الذي يكون من الأعراض التي لا بقاء لها.

قلنا : وما الدليل على أن تلك الصفة غير القدرة المتعلقة بأحد طرفي الفعل والترك المقترنة بإرادته. كيف وقد فسروا القدرة بأنها صفة تؤثر على وفق الإرادة أي إنما (١) تؤثر بالفعل ، ويجب صدور الأثر عنه عند انضمام الإرادة ، وأما بالنظر إلى نفسها ، وعدم اقترانها بالإرادة المرجحة لأحد طرفي الفعل والترك ، فلا يكون إلا جائز التأثير ، فلهذا لا يلزم وجود جميع المقدورات ، ولما ذكرنا من أن القدرة جائز التأثير ، وإنما يجب بالإرادة ، قال الإمام الرازي : إن الصفة التي تسمونها التكوين يكون تأثيرها أي بالنظر إلى نفسها إما على سبيل الجواز ، فلا تتميز عن القدرة ، أو على سبيل الوجوب فلا يكون الواجب مختارا بل موجبا ، ولا يرد عليه اعتراض صاحب التلخيص بأن الوجوب اللاحق لا ينافي الاختيار. لأن معناه أنه تعالى إذا أراد خلق شيء من مقدوراته ، كان حصول ذلك الشيء منه واجبا. لأن هذا هو القسم الأول. أعني ما يكون تأثيره بالنظر إلى نفسه على سبيل الجواز ـ قوله ـ

وما نقل قد اشتهر عن الأشعريّ أن التأثير نفس الأثر ، والتكوين نفس المكون ، وهذا بظاهره فاسد ، وفساده غني عن التنبيه فضلا عن الدليل والذي يشعر به كلا

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (أي).

١٧٢

بعض الأصحاب أن معناه أن لفظ الخلق شائع في المخلوق بحيث لا يفهم منه عند الإطلاق غيره سواء جعلناه حقيقة فيه أو مجازا اشتهر من الخلق بمعنى المصدر ، وهذا لا يليق بالمباحث العلمية ، ويمكن أن يكون معناه أن الشيء إذا أثر في شيء وأوجده بعد ما لم يكن مؤثرا ، فالذي حصل في الخارج هو الأثر لا غير ، وأما حقيقة الإحداث والإيجاد فاعتبار عقلي لا تحقق له في الأعيان ، وقد سبق ذلك في الأمور العامة.

١٧٣

من الصفات المختلف فيها

(قال : ومنها القدم والرحمة والرضا والكرم عند أبي سعيد والجمهور على أنه تعالى قديم بذاته ومرجع البواقي إلى الإرادة).

قال : ومنها القدم أثبته ابن سعيد صفة يكون بها الباري قديما ، وأثبت الرحمة والكرم والرضا صفات وراء الإرادة ، وليس له على ذلك دليل يعود عليه. وأثبت القاضي إدراك الشم والذوق واللمس صفات وراء العلم.

(قال : ومنها ما ورد.

كالاستواء واليد والوجه والعين ونحو ذلك والحق أنها مجازات وتمثيلات).

قال : ومنها : ما ورد به ظاهر الشرع ، وامتنع حملها على معانيها الحقيقية مثل الاستواء في قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) واليد في قوله تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٢) (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٣) والوجه في قوله تعالى (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (٤) والعين في قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٥) (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (٦) فعن الشيخ أن كلّا منها صفة زائدة.

وعند الجمهور : وهو أحد قولي الشيخ أنها مجازات فالاستواء مجاز عن الاستيلاء أو تمثيل وتصوير لعظمة الله تعالى ، واليد مجاز عن القدرة ، والوجه عن الوجود ، والعين عن البصر.

__________________

(١) سورة طه آية رقم : ٥.

(٢) سورة الفتح آية رقم ١٠.

(٣) سورة ص آية رقم ٧٥ وقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل بزيادة (الواو) في (وما).

(٤) سورة الرحمن آية رقم ٢٧.

(٥) سورة طه آية رقم ٣٩.

(٦) هذا جزء من آية من سورة القمر رقم ١٤ وتكملتها : (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ).

١٧٤

فإن قيل : جملة المكونات مخلوقة بقدرة الله تعالى ، فما وجه تخصيص خلق آدم عليه الصلاة والسلام سيما بلفظ المثنى (١) ، وما وجه الجمع في قوله : بأعيننا ..؟

أجيب : بأنه أريد كمال القدرة ، وتخصيص آدم تشريف (٢) له وتكريم ومعنى تجري بأعيننا ، أنها تجري بالمكان المحوط بالكلاءة والحفظ والرعاية يقال : فلان بمرأى من الملك ومسمع إذا كان بحيث تحوطه عنايته وتكتنفه رعايته

وقيل : المراد الأعين التي انفجرت من الأرض وهو بعيد ، وفي كلام المحققين من علماء البيان أن قولنا : الاستواء مجاز عن الاستيلاء ، واليد واليمين عن القدرة ، والعين عن البصر ، ونحو ذلك ، إنما هو لنفي وهم التشبه والتجسم بسرعة ، وإلا فهي تمثيلات وتصويرات للمعاني العقلية بإبرازها في الصور الحسية ، وقد بينا ذلك في شرح التلخيص.

__________________

(١) في (ب) المعنى بدلا من (المثنى).

(٢) سقط من (ب) لفظ (له).

١٧٥
١٧٦

الفصل الرّابع

في أحوال الواجب تعالى

وفيه مبحثان :

١ ـ في رؤية الله تعالى

٢ ـ في العلم بحقيقته تعالى

١٧٧
١٧٨

الفصل الرابع

في أحوال الواجب تعالى

(قال : الفصل الرابع في أحواله :

ذهب أهل الحق إلى أنه تعالى مع تنزهه عن الجهة والمقابلة يصح أن يرى ، ويراه المؤمنون في الجنة ، خلافا لسائر الفرق ، ولا نزاع لهم في إمكان الانكشاف التام العلمي ، ولا لنا في امتناع ارتسام الصورة أو اتصال الشعاع ، أو حالة مستلزمة لذلك ، بل المتنازع أنا إذا نظرنا إلى البدر قلنا حالة إدراكية نسميها الرؤية مغايرة ، وكما إذا غمضنا العين ، وإن كان ذلك انكشافا جليا ، فهل يمكن أن يحصل للعباد بالنسبة إلى الله تعالى ، تلك الحالة ، وإن لم يكن هناك مقابلة؟ لنا على الإمكان وجهان :

أحدهما قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١) الآية.

وذلك أن موسى طلب الرؤية ، ولم يكن عابثا ولا جاهلا والله تعالى علقها على استقرار الجبل ، وهو ممكن في نفسه واعترض على الأول بأنه : إنما طلب العلم الضروري ، أو رؤية آية ، ولو سلم فالجهل بمسألة الرؤية لا يخل بالمعرفة ، ورد بأن «لن تراني» نفي للرؤية لا للعلم ، أو رؤية الآية كيف والعلم حاصل ..؟

والآيات كثيرة ، والحاصل منها حينئذ إنما هو على تقدير الاندكاك دون الاستقرار ، والرؤية المقرونة بالنظر الموصول (بإلى) نص في معناها ، والقوم إنما يصدقون للنبي فيكفيهم إخباره بامتناع الرؤية أو لا ، فلا يفيد حكايته عن الله تعالى ولا يليق بالنبي تأخر رد الباطل كما في طلب جعل الإله.

ولا طلب الدليل بهذا الطريق ، ولا الجهل في الإلهيات بما يعرفه آحاد المعتزلة.

وعلى الثاني : بأن المعلق عليه استقرار الجبل عقب النظر ، وهو حالة اندكاك

__________________

(١) سورة الأعراف آية رقم ١٤٣.

١٧٩

يستحيل معها الاستقرار ، ورد بأنه يمكن ضرورة وإن لم يقع ليلزم وقوع الرؤية وإنما المستحيل اجتماعهما).

قال : الفصل الرابع : في أحواله من أنه هل يرى ، وهل يمكن العلم بحقيقته ..؟

وفيه مبحثان.

١٨٠