شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

أنه علم بالمحسوس على ما سبق ذكره لجواز أن يكون مرجعهما إلى صفة العلم ، ويكون السمع علما بالمسموعات ، والبصر علما بالمبصرات.

فإن قيل : هذا إنما يتم لو كان الكل نوعا واحدا من العلم لا أنواعا مختلفة على ما مرّ في بحث العلم.

قلنا : يجوز أن يكون له صفة واحدة هي العلم ، لها تعلقات مختلفة هي الأنواع المختلفة ، بأن تتعلق بالبصر (١) مثلا تارة بحيث تحصل له حالة (٢) إدراكية تناسب تعلقنا إياه ، وتارة (٣) بحيث تحصل حالة إدراكية تناسب إبصارنا إياه.

(قال :

وعند الفلاسفة وبعض المعتزلة حياته كونه يعلم ويقدر ، وسماعه وإبصاره علمه بالمسموعات والمبصرات).

قال : وعند الفلاسفة على هذا لا يلزم ثبوت صفة زائدة فضلا عن تعددها ، وإلى هذا ذهب الكعبيّ وجماعة من معتزلة بغداد ، والأكثرون على أن كونه سميعا بصيرا غير كونه عالما.

واتفق كلهم على نفي الصفة الزائدة على الذات.

__________________

(١) في (ب) بالمبصر بدلا من (البصر).

(٢) سقط من (ب) لفظ (له).

(٣) في (ب) وتأثره بدلا من (تارة).

١٤١

خاتمة

(قال : خاتمة.

المذهب أنه تعالى يدرك الروائح والطعوم ومثل الحرارة والبرودة إلا أن الشرع لم يرد بذلك ولم يجوز العقل كونه شاما ذائقا لامسا لكونها من صفات الأجسام مع أنها لا تنبئ عن حقيقة الإدراك لصحة قولنا شممته فلم أدرك ريحه).

قال : خاتمة. قال إمام الحرمين رحمه‌الله الصحيح المقطوع به عندنا : وجوب وصف الباري تعالى بأحكام الإدراكات الأخر. أعني الإدراك المتعلق بالطعوم والمتعلق بالروائح ، والمتعلق بالحرارة والبرودة ، واللين والخشونة ، إذ كل ادراك يعقبه (١) ضد هو آفة (٢) فما دل على وجوب وصفه بحكم السمع والبصر ، دل على وجوب وصفه بأحكام الإدراكات ، ثم يتقدس الباري تعالى عن كونه ، شاما ، ذائقا ، لامسا ، فإن هذه الصفات تنبئ عن اتصالات يتعالى الرب عنها ، مع أنها لا تنبئ عن حقائق الإدراكات. فإنك تقول : شممت تفاحة ، فلم أدرك ريحها ، وكذلك الذوق واللمس.

__________________

(١) في (ب) ينفيه بدلا من (يعقبه)

(٢) سقط من (ب) لفظ (آفة).

١٤٢

المبحث السادس

في أنه متكلم

(قال : المبحث السادس.

في أنه تعالى متكلم تواتر القول بذلك عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع ثبوت صدقهم بالمعجزات من غير توقف على الكلام وقد يستدل بأن ضده في الحي نقص أو قصور في الكمال على ما قد مرّ ثم كلامه عندنا صفة أزلية منافية للسكوت والآفة يدل عليها بالعبارة أو الكتابة ليست من جنس الأصوات والحروف ، وخالفنا في ذلك جميع الفرق ذهابا إلى أن المعقول من الكلام هو الحي دون النفي ولم يقل بقدمه إلا (١) الحنابلة (٢) والحشوية (٣) جهلا منهم أو عنادا إذ لا خفاء في ترتب أجزائه وامتناع بقائه وزعم الكرامية أنه مع حدوثه قائم بذات الله تعالى وسموه قوله. وجعلوا كلامه عبارة عن القدرة على (٤) إيجاد القول.

وعند المعتزلة هو حادث في جسم ما ، ومعنى تكلم الباري تعالى به خلقه فيه).

المبحث السادس :

في أنه متكلم ، تواتر القول بذلك عن الأنبياء ، وقد ثبت صدقهم بدلالة

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) لفظ (إلا).

(٢) الحنابلة أتباع أحمد بن حنبل ، وهم يعتمدون على نصوص الكتاب والسنّة ، وفكرة العالم الإسلاميّ عنهم أنهم يتشددون في أمر العقيدة ويقول عنهم المستشرق (لاوست) ما من مرة هوجم الإسلام سياسيا أو عسكريا إلا اتجه نحو المذهب الحنبلي الذي ينادي في قوة وحماس بالرجوع إلى السنّة.

(٣) الحشوية : فرقة من فرق المعتزلة ، سموا كذلك نسبة إلى الحشو ، ويقصد به أسافل الناس ، كما يقصد به الزائد من الكلام. أي اللغو ، ذلك أن الحشوية أو أهل الحشو أخذوا بظواهر القرآن دون تبصر حتى وقعوا في الاعتقاد بالتجسيم.

راجع القاموس الإسلاميّ ج ٢ ص ١٠٢.

(٤) في (ب) علم بدلا من (على).

١٤٣

المعجزات من غير توقف على إخبار الله تعالى عن صدقهم بطريق التكلم ليلزم الدور ، وقد يستدل على ذلك بدليل عقلي على قياس ما مرّ في السمع والبصر ، وهو أن عدم التكلم ممن يصح اتصافه بالكلام. أعني الحي العالم القادر نقص ، واتصاف بأضداد الكلام ، وهو على الله تعالى محال. وإن نوقش في كونه نقصا ، سيما إذا كان مع قدرة على (١) الكلام ، كما في السكوت ، فلا خفاء في أن المتكلم أكمل من غيره. ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق والاعتراض.

والجواب : هنا كما مرّ في السمع والبصر وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والمذاهب في كون الباري تعالى متكلما. وإنما الخلاف في معنى كلامه ، وفي قدمه وحدوثه ، فعند أهل الحق كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف. بل صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى منافيه للسكوت ، والآفة كما في الخرس والطفولة هو بها آمر ناه مخبر وغير ذلك ، يدل عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة ، فإذا عبر عنها بالعربية فقرآن ، وبالسريانية فإنجيل ، وبالعبرانية فتوراة. والاختلاف على العبارات دون المسمى كما إذا ذكر الله تعالى بألسنة متعددة ، ولغات مختلفة. وخالفنا في ذلك جميع الفرق. وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدال على المعاني المقصودة ، وأن الكلام النفسي غير معقول.

ثم قالت الحنابلة (٢) والحشوية (٣) : إن تلك الأصوات والحروف مع تواليها وترتب بعضها على البعض ، وكون (٤) الحرف الثاني من كل كلمة مسبوقا بالحرف المتقدم عليه كانت ثابتة في الأزل ، قائمة بذات الباري تعالى وتقدس ، وأن المسموع من أصوات القراء والمرئي (٥) من أسطر الكتاب نفس كلام الله تعالى القديم ، وكفى شاهدا على جهلهم ما نقل عن بعضهم أن الجلدة والغلاف أزليان ، وعن بعضهم أن الجسم

__________________

(١) راجع في ذلك كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج ٣ ص ٤ إلى ١٤ وكتاب المواقف المقصد السابع من الجزء الثامن ص ٩١ إلى ١٠٤.

(٢) سبق التعريف بفرقة الحنابلة.

(٣) سبع التعريف بالحشوية.

(٤) في (ب) يكون بدلا من (وكون).

(٥) في (ب) القرآن الذي بدلا من (القراء والمرئى).

١٤٤

الذي كتب به القرآن ، فانتظم حروفا ورقوما هو بعينه كلام الله تعالى ، وقد صار قديما ، بعد ما كان حادثا ، ولما رأت الكرامية أن بعض الشر أهون من البعض ، وأن مخالفة الضرورة أشنع من مخالفة الدليل ، ذهبوا إلى أن المنتظم من الحروف المسموعة مع حدوثه قائم بذات الله تعالى ، وأنه قول الله تعالى لا كلامه ، وإنما كلامه قدرته على التكلم وهو قديم ، وقوله حادث لا محدث ، وفرقوا بينهما ، بأن كل ما له ابتداء إن كان قائما بالذات فهو حادث بالقدرة غير محدث ، وإن كان مباينا للذات فهو محدث بقوله كن لا بالقدرة ، والمعتزلة لما قطعوا بأنه المنتظم من الحروف ، وأنه حادث ، والحادث لا يقوم بذات الله تعالى. ذهبوا إلى أن (١) معنى كونه متكلما أنه خلق الكلام في بعض الأجسام ، واحترز بعضهم عن إطلاق لفظ المخلوق عليه لما فيه من إيهام الخلق (٢) والافتراء ، وجوزه الجمهور ثم المختار عندهم ، وهو مذهب أبي هاشم (٣) ومن تبعه من المتأخرين أنه من جنس الأصوات والحروف ، ولا يحتمل البقاء حتى إن ما خلق مرقوما (٤) في اللوح المحفوظ أو كتب في المصحف لا يكون قرآنا ، وإنما القرآن ما قرأه القارئ ، وخلقه الباري من الأصوات المتقطعة والحروف المنتظمة ، وذهب الجبائيّ إلى أنه من جنس غير الحروف تسمع عند سماع الأصوات ، وتوجد بنظم الحروف ، وبكتبها ، ويبقى عند المكتوب والحفظ ، ويقوم باللوح المحفوظ وبكل مصحف ، وكل لسان ، ومع هذا فهو واحد لا يزداد بازدياد المصاحف ، ولا ينقص بنقصانها ، ولا يبطل ببطلانها.

والحاصل أنه انتظم من المقدمات القطعية والمشهورة قياسان ينتج أحدهما : قدم كلام الله تعالى. وهو أنه من صفات الله تعالى ، وهي قديمة. والآخر حدوثه ، وهو أنه من جنس الأصوات وهي حادثة ، فاضطر القوم إلى القدح في أحد القياسين ، ومنع

__________________

(١) سقط من (ب) حرف (أن)

(٢) في (ب) الخلف بدلا من (الخلق).

(٣) هو : عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ من أبناء أبان مواي عثمان من كبار المعتزلة له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميت (البهشمية) نسبة إلى كنية أبي هاشم وله مصنفات في الاعتزال كما لأبيه من قبله توفي سنة ٣٢١ ه‍.

راجع المقريزي ٢ : ٣٤٨ ، ووفيات الأعيان ١ : ٢٩٢ والبداية والنهاية ١١ : ١٧٦

(٤) في (ب) برقومة بدلا من (مرقوما).

١٤٥

بعض المقدمات ضرورة امتناع حقية النقيضين ، فمنعت المعتزلة كونه من صفات الله تعالى ، والكرامية كون كل صفة قديمة ، والأشاعرة كونه من جنس الأصوات والحروف ، والحشوية كون المنتظم من الحروف حادثا ، ولا عبرة بكلام الحشوية والكرامية ، فبقي النزاع بيننا وبين المعتزلة ، وهو في التحقيق عائد إلى إثبات كلام النفس ، ونفيه (١) وأن القرآن هو المتلو (٢) هذا المؤلف من الحروف الذي هو كلام حسي ، وإلا فلا نزاع لنا في حدوث كلام الحس ، ولا لهم في قدم النفس لو ثبت وعلى البحث والمناظرة في ثبوت الكلام النفسي ، وكونه هو القرآن ينبغي أن يحمل ما نقل عن (٣) مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف (٤) رحمهما‌الله ستة أشهر ، ثم اشتهر رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر.

__________________

(١) سقط من (ب) ونفيه.

(٢) في (أ) بزيارة (المتلو).

(٣) في (ب) عن بدلا من (من).

(٤) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفيّ البغداديّ أبو يوسف : صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه وأول من نشر مذهبه كان فقيها علامة. من حفاظ الحديث ولد بالكوفة عام ١١٣ ه‍ لزم أبا حنيفة فغلب عليه الرأي وولى القضاء ببغداد كان يقال له : قاضي قضاة الدنيا وأول من وضع الكتب في أصول الفقه توفى عام ١٨٢ ه‍

راجع مفتاح السعادة ٢ : ١٠٠ ، ١٠٧

وابن النديم ٢٠٣ ، وأخبار القضاة لوكيع ٣ : ٢٥٤

١٤٦

الاستدلال على قدم الكلام

(قال لنا :

إن معنى المتكلم من قام به الكلام ، والمنتظم من الحروف حادث يمتنع قيامه بذات الله تعالى فتعين المعنى إذ لا ثالث. فإن قيل قد يطلق المتكلم ولا بقاء للكلام ليقوم ولو سلم فبلسانه لا به بل بلسان غيره ، والنظم قد يكون دفعي الأجزاء كما في نفس الحافظ ونقش الطابع فلا يمتنع قدمه وقيامه بالذات ، قلنا لا يشترط في القيام البقاء ولا التلبس بجميع الأجزاء والتكلم بلسان الغير ، مجاز عن إلقاء الكلام إليه ، وكونه النظم مرتب الأجزاء ممتنع البقاء ضروري وهو غير الصورة المرسومة أو المرقومة منه).

قوله لنا :

استدل على قدم كلام الله تعالى وكونه نفسيا لا حسيا بوجهين :

أحدهما : أن المتكلم من قام به الكلام لا من أوجد الكلام ، ولو في محل آخر ، للقطع بأنه موجد الحركة في جسم آخر لا يسمى متحركا ، وأن الله تعالى لا يسمى بخلق الأصوات مصوتا ، وأنا (١) إذا سمعنا قائلا يقول : أنا قائم نسميه متكلما ، وإن لم نعلم أنه الموجد لهذا الكلام. بل وإن علمنا أن موجده هو الله تعالى كما هو رأي أهل الحق وحينئذ فالكلام القائم بذات الباري تعالى لا يجوز أن يكون هو الحس أعني المنتظم من الحروف المسموعة ، لأنه حادث ضرورة ، أن له ابتداء وانتهاء ، وأن الحرف الثاني من كل كلمة مسبوق بالأول مشروط بانقضائه ، وأنه يمتنع اجتماع أجزائه في الوجود ، وبقي شيء (٢) منها بعد الحصول على ما سبق لنا (٣) نبذ من ذلك في

__________________

(١) في (ب) وأما بدلا من (وأنا)

(٢) في (أ) وبقاء شيء بدلا من (وبقى).

(٣) في (أ) بزيارة لفظ (لنا)

١٤٧

بحث الكم. والحادث يمتنع قيامه بذات الباري تعالى لما سبق ، فتعين أن يكون هو المعنى (١) ، إذ لا ثالث يطلق عليه اسم الكلام ، وأن يكون قديما لما عرفت ، فإن اعترض من قبل المعتزلة ، أنه لو كان المتكلم من قام به الكلام ، لما صح إطلاقه حقيقة على المتكلم بالكلام الحسي ، لأنه لا بقاء له ولا اجتماع لأجزائه ، حتى يقوم بشيء.

ولو سلّم ، فإنما يقوم بلسانه لا بذاته ، وأيضا لما صح قولهم : الأمير يتكلم بلسان الوزير ، والجني يتكلم بلسان المصروع (٢). ومن قبل الحنابلة أن المنتظم من الحروف قد لا يكون مترتب الأجزاء بل دفعيا كالقائم بنفس الحافظ ، وكالحاصل على الورقة من طابع فيه نقش الكلام. وإنما لزوم الترتيب في التلفظ والقراءة لعدم مساعدة الآلة. فالقرآن الذي هو اسم للنظم والمعنى جميعا لا يمتنع أن يكون قديما (٣) قائما بذات الباري تعالى أجيب : بأن كون المتكلم من قام به الكلام ثابت عرفا ولغة ، وكون المنتظم من الحروف المسموعة مترتب الأجزاء ممتنع البقاء ثابت ضرورة ، وما ذكرتم سندا (٤) لمنعها تمويه.

أما الأول : فلأن المعتبر في اسم الفاعل وجوب المعنى لا بقاؤه (٥) سيما في الأعراض السيالة ، كالمتحرك والمتكلم.

ولو سلّم فيكفي التلبس ببعض أجزائه ولا يشترط القيام بكل جزء من أجزاء

__________________

(١) في (ب) المعين بدلا من (المعنى).

(٢) هو الذي يصاب بداء عصبي يتميز بنوبات فجائية من فقدان الوعي تقترن غالبا بالتشنج ، وتتفاوت هذه النوبات في شدتها ومعدل ترددها ، وفي فترة الوقت الذي تستغرقه ، وقد تكون النوبة هينة عابرة لا تكاد تلحظ ، أو قد تكون بالغة الشدة ، وتتملك المصروع رعدة تتصلب فيها العضلات وقد يتوقف فيها النفس مؤقتا ، ويعص المريض لسانه في أثناء النوبة .. الخ.

راجع الموسوعة العربية الميسرة ص ١١٢٢ ، ١١٢٣.

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (قديما).

(٤) في (ب) مسندا بدلا من (سندا).

(٥) في (ب) المعين لا نفاؤه بدلا من (المعنى لا بقاؤه)

١٤٨

المحل كالسامع والباصر والذائق وغير ذلك ، ومعنى التكلم بلسان الغير إلقاء الكلام إليه مجازا.

وأما الثاني : فلأن الكلام في المنتظم من الحروف المسموعة لا في الصورة المرسومة في الخيال ، أو المخزونة في الحافظة ، أو المنقوشة بأشكال الكتابة على أن قيام الحرف والصوت بذات الله تعالى ليس بمعقول. وإن كانت غير مترتب الأجزاء لحرف واحد مثلا.

(قال : وإن من يأمر وينهى ويخبر ،

يجد في نفسه معنى غير العلم والإرادة يدل عليه بالعبارة أو الكتابة أو نحوهما ، وشاع عند أهل اللسان إطلاق اسم الكلام عليه).

وأن الوجه الثاني : أن من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك ، يجد في نفسه معان ، ثم يعبر عنها بالألفاظ التي نسميها بالكلام الحسي ، فالمعنى الذي يجده في نفسه ، ويدور في خلده ، لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ، ويقصد المتكلم حصولها في نفس السامع ليجري على موجبها. هو الذي نسميه كلام النفس وحديثها.

وربما يعترف به أبو هاشم ويسميه (١) الخواطر ومغايرته للعلم والإرادة سيما في الأخبار والإنشاء الغير الطلبي في غاية الظهور.

نعم. قد يتوهم أن الطلب النفسي هو الإرادة. وأن قولنا : أريد منك هذا الفعل ، ولا أطلبه في نفسي ، أو أطلبه ولا أريده تناقض.

وسيأتي في فصل الأفعال ، واستدل القوم على مغايرته للعلم ، بأن الرجل قد يخبر عما لا يعلمه ، بل يعلم خلافه ، وللإرادة بأن السيد قد يأمر العبد بالفعل ويطلبه منه ولا يريده ، وذلك عند الاعتذار من ضربه بأنه يعصيه.

قال صاحب المواقف : لو قالت المعتزلة إنه إرادة (٢) فعل تصير سببا ، لاعتقاد

__________________

(١) في (ب) وسميه بدلا من (ويسميه).

(٢) في (ب) أن بدلا من (أنه).

١٤٩

المخاطب علم المتكلم بما أخبر عنه أو إرادته لما أمر به (١) لم يكن بعيدا ، لكنني لم أجده في كلامهم ، وأنا قد وجدت في كلام الإمام الزاهديّ من (٢) المعتزلة ما يشعر (٣) بذلك حيث قال :

لا نسلّم وجود حقيقة الأخبار والطلب في الصورتين المذكورتين (٤) بل إنما هو مجرد إظهار أماراتها ، وقريب من ذلك ما قال إمام الحرمين في الإرشاد (٥). فإن قالوا : الذي يجده في نفسه هو إرادة جعل اللفظة الصادرة عنه أمرا على جهة ندب أو إيجاب فهذا باطل. لأن اللفظ يتصرم مع أن الطلب بحاله ، والماضي لا يراد ، بل يتلهف عليه ، وبالضرورة نعلم أن ما نجده بعد انقضاء اللفظ ليس تلهفا ، ولأن اللفظة تكون ترجمة عمّا في الضمير ، وبالضرورة نعلم ، أنها ليست ترجمة عن إرادة جعلها على صفة بل عن الاقتضاء (٦) والإيجاب ، ونحو ذلك ثم شاع فيما بين أهل اللسان إطلاق اسم الكلام والقول على المعنى القائم بالنفس : يقولون : في نفسي كلام ، ؛ وزورت في نفسي مقالة ، وقال الأخطل(٧) :.

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

__________________

(١) في (ب) مر به بدلا من (أمر به)

(٢) في (ب) بعض بدلا من (الإمام الزاهدي)

(٣) في (ب) ما يشبه بدلا من (ما يشعر)

(٤) سقط من (ب) المذكورتين

(٥) كتاب الإرشاد في الكلام : للإمام أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجوينيّ المتوفي سنة ٤٧٨ ه‍ شرحه تلميذه أبو القاسم سليمان بن ناصر الأنصاريّ المتوفي سنة ٥١٢ ه‍ وقام بتحقيقه والتعليق عليه الدكتور محمد يوسف موسى والدكتور على عبد المنعم.

(٦) في (ب) الاقتصار بدلا من (الاقتضاء).

(٧) هو غياث بن غوث بن الصلت بن طارق ـ بن عمرو من بني تغلب أبو مالك شاعر اشتهر في عهد بني أمية بالشام وأكثر من مدح ملوكهم نشأ على المسيحية في أطراف الحيرة واتصل بالامويين فكان شاعرهم له ديوان شعر مطبوع ولعبد الرحيم بن محمود مصطفى «رأس الأدب الكمل في حياة الاخطل». توفي عام ٩٠ ه‍ راجع دائرة المعارف الإسلامية ١ : ٥١٥

١٥٠

وفي التنزيل (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) (١).

وإذا ثبت أن الباري تعالى متكلم أنه ممتنع عليه قيام الكلام الحسي بذاته ، تعين أن يكون هو النفس ، ويكون قديما لما مرّ ـ قوله ـ

تمسكوا بوجوه :

الأول : أنه علم بالضرورة من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى العوام والصبيان أن القرآن هو هذا الكلام (٢) المؤلف المنتظم من الحروف المسموعة المفتتح بالتحميد المختتم بالاستعاذة. وعليها انعقد إجماع السلف وأكثر الخلف.

الثاني : أن ما اشتهر وثبت بالنص (٣) والإجماع من خواص القرآن ، إنما يصدق على هذا المؤلف الحادث لا المعنى القديم.

وجوابهما أنه لا نزاع في إطلاق اسم (٤) القرآن وكلام الله تعالى بطريق الاشتراك (٥) أو المجاز المشهور شهرة الحقائق على هذا المؤلف الحادث وهو المتعارف عند العامة والقراء والأصوليين والفقهاء ، وإليه ترجع الخواص التي هي من صفات الحروف وسمات الحدوث ـ قوله ـ

__________________

(١) هذا جزء من آية من سورة المجادلة رقم ٨ والتكملة : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ).

(٢) سقط من (أ) لفظ (الكلام).

(٣) في (ب) بالنصف بدلا من (بالنص)

(٤) سقط من (ب) لفظ (اسم)

(٥) في (ب) الأثر من (الاشتراك)

١٥١

صفات القرآن الكريم

(قال : وذلك :

أن ما اشتهر من خواص القرآن إنما يصدق على اللفظ الحادث ، دون المعنى القديم ، مثل كونه ذكرا عربيا منزلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقروءا بالألسن مسموعا بالآذان ، مكتوبا في المصاحف مقرونا بالتحدي مفصلا إلى السور والآيات قابلا للنسخ واقعا عقيب إرادة التكوين.

قلنا كلامه تعالى ما بالاشتراك والمجاز المشهور على النظم المخصوص لا لمجرد أنه دال على كلامه القديم).

وذلك إشارة إلى ما اشتهر من الخواص فالقرآن ذكر لقوله تعالى :

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) (١) وقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٢) والذكر محدث لقوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) (٣) (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (٤).

وعربي لقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٥).

والعربي اللفظ لاشتراك اللغات في المعنى ، ومنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادة النص والإجماع ، ولا خفاء في امتناع نزول المعنى القديم القائم بذات الله تعالى بخلاف اللفظ ، فإنه وإن كان عرضا ، لا يزول عن محله ، لكن قد ينزل نزول الجسم

__________________

(١) سورة الأنبياء آية رقم ٥٠

(٢) سورة الزخرف آية رقم ٤٤

(٣) سورة الشعراء آية رقم ٥

(٤) سورة الأنبياء آية رقم ٢

(٥) سورة الزخرف آية رقم ٣

١٥٢

الحاصل له. وقد روي أن الله تعالى أنزل القرآن دفعة إلى سماء الدنيا فحفظته الحفظة ، أو كتبته الكتبة ، ثم منزل منها بلسان جبريل (١) على النبي (٢) عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا فشيئا بحسب المصالح.

فإن قيل : المكتوب في المصحف هو الصور والأشكال لا اللفظ ولا المعنى.

قلنا : بل اللفظ لأن الكتابة تصوير اللفظ بحروف هجائية.

نعم المثبت في المصحف هو الصور والأشكال.

فإن قيل : القديم دائم فيكون مقارنا للتحدي ضرورة ، فلا يكون ذلك من خواص الحادث.

قلنا معناه : أن يدعو العرب إلى المعارضة والإتيان بالمثل وذلك (٣) لا يتصور ، وذلك في الصفة القديمة.

فإن قيل : النسخ كما يكون للفظ يكون للمعنى.

قلنا : نعم لكن يخص الحادث. لأن القديم لا يرتفع ولا ينتهي.

فإن قيل : وقوع كلمة «كن» عقيب إرادة تكوين الأشياء على ما تعطيه كلمة الجزاء ، وإن دل على حدوثها لكن عموم لفظ شيء (٤) من حيث وقوعه في سياق النفي معنى. أي ليس قولنا لشيء مما يقصد إيجاده وإحداثه كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وإنما لكل

__________________

(١) جبريل : أحد الملائكة الأربعة الذين يعرفون بحملة العرش ، وهم إسرافيل وجبريل وميكائيل وعزرائيل. وقد جاء ذكر جبريل في القرآن بالنص وبالإشارة قال تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله. ولجبريل أسماء ونعوت منها : جبريل الأمين ، وأمين الوحي ، وخازن القدس ، والروح الامين ، والناموس الاكبر ، وطاوس الملائكة ، وقد أشير إليه في القرآن ببعض هذه النعوت.

(٢) في (أ) بزيادة (على النبي) راجع القاموس الإسلامي ج ١ ص ٥٧٦

(٣) في (أ) بزيادة (وذلك).

(٤) في (ب) شاء بدلا من (شيء).

١٥٣

امرئ ما نوى» (١). يقتضي قدمها. إذ لو كانت حادثة لكانت واقعة بكلمة كن أخرى سابقة ويتسلسل. وإن جعلتم هذا الكلام لا على حقيقة ، بل مجازا عن سرعة الإيجاد ، فلا دلالة فيه على حدوث «كن» ـ قوله ـ

حقيقته إذ ليس قولنا لشيء من الأشياء عند تكوينه إلّا هذا القول وهو لا يقتضي ثبوت هذا القول لكل شيء.

ألا ترى أنك إذا قلت ما قولي لأحد من الناس عند إرشاده إلا أن أقول له تعلم لم تدل على أنك تقول : تعلم لكل أحد بل على أنك لو قلت في حقه شيئا لم يكن إلا هذا القول ـ قوله ـ.

(قال :

لا لمجرد أنه دال على كلامه القديم بل لأنه إنشاءه لرقمه في اللوح أو لحروفه في الملك ويخص العربية منه باسم القرآن وهو المتعارف عند العامة ، وفي علم الأصول ، وإليه يرجع الخواص المذكورة ثم الصحيح أن المعتبر خصوص التأليف لا يغير المحل مما نقرؤه يكون نفس القرآن لا مثله ويثبت القول بقدر حصوله في اللسان أو المصحف للتأدب ودفع الوهم.

هذا لا بمجرد أنه ذاك المشهور في كلام الأصحاب. أنه ليس إطلاق كلام الله تعالى على هذا المنتظم من الحروف المسموعة إلا بمعنى أنه دال على كلامه القديم حتى لو كان مخترع هذه الألفاظ غير الله تعالى لكان هذا الإطلاق بحاله ، لكن المرضي عندنا أن له اختصاصا آخر بالله تعالى ، وهو أنه أخبر (٢) عنه بأن أوجد أولا الأشكال في اللوح المحفوظ لقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٣).

__________________

(١) الحديث رواه البخاريّ في بدء الوحي ١ وإيمان ٤١ والنكاح ٥ والطلاق ١١ ومناقب الأنصار ٤٥ ورواه مسلم في الإمارة ١٥٥ وأبو داود في الطلاق ١١ والترمذيّ في فضائل الجهاد ١٦ والنسائيّ في الطهارة ٥٩ والطلاق ٣٤ وابن ماجه في الزهد ٢٦ ، وأحمد بن حنبل ١ : ٢٥ ، ٤٣.

(٢) في (ب) اخترعه بدلا من (أخبر عنه).

(٣) سورة البروج آية رقم ٢١ ، ٢٢.

١٥٤

أو الأصوات في لسان الملك لقوله تعالى :

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١) الآية أو لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى :

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٢).

والمنزل على القلب هو المعنى دون اللفظ ثم اختلفوا. فقيل : هو اسم لهذا المؤلف المخصوص القائم بأول لسان اخترعه الله تعالى فيه حتى إن كل أحد بكسبه يكون مثله لا عينه ، والأصح (٣) أنها اسم له لا من حيث تعين المحل فيكون واحدا بالنوع ويكون ما يقرأه القارئ نفسه لا مثله ، وهكذا الحكم في كل شيء أو كتاب نسب إلى مؤلفه ، وعلى التقديرين ، فقد تجعل اسما للمجموع بحيث لا يصدق على البعض ، وقد يجعل اسما لمعنى كلي صادق على المجموع ، وعلى كل بعض من أبعاضه ، ولهذا المقام زيادة توضيح في شرح التنقيح.

وبالجملة : فما يقال إن المكتوب في كل مصحف والمقروء بكل لسان كلام الله تعالى. فباعتبار الوحدة النوعية. وما يقال إنه حكاية كلام الله (٤) ومماثل له ، إنما الكلام هو المخترع في لسان الملك. فباعتبار الوحدة الشخصية ، وما يقال ان كلام الله تعالى ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالا في مصحف أو لوح ، فيراد به الكلام الحقيقي الذي هو الصفة الأزلية ، ومنعوا من القول بحلول كلامه في لسان أو قلب مصحف ، وإن كان المراد هو اللفظي (٥) رعاية للتأديب ، واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الحقيقي الأزلي. قوله ـ.

(قال : وإجراء صفة الدال على المدلول شايع مثل : سمعت هذا المعنى وقرأته وكتبته واختصاص موسى عليه‌السلام بالمكالمة من حيث أنه سمع بلا

__________________

(١) سورة التكوير آية رقم ١٩.

(٢) سورة الشعراء آية رقم ١٩٣.

(٣) سقط من (ب) قوله (والأصح).

(٤) سقط من (ب) جملة (كلام الله).

(٥) في (ب) النظر بدلا من (اللفظي).

١٥٥

صوت وحرف كما يرى في الآخرة بلا كم وكيف ، أو أنه سمع بصوت من جميع الجهات أو من جهة بلا اكتساب).

هذا جواب آخر لأصحابنا تقريره ، أن المراد بالمذكور العربي المنزل المقروء المسموع المكتوب إلى آخر الخواص هو المعنى القديم ، إلا أنه وصف بما هو من صفات الأصوات والحروف الدالة عليه مجازا أو وصفا للمدلول بصفة الدال عليه (١) كما يقال : سمعت هذا المعنى من فلان وقرأته في بعض الكتب ، وكتبته بيدي. وهذا ما قال أصحابنا : إن القراءة حادثة أعني أصوات القارئ التي هي من اكتسابه يؤمر بها تارة إيجابا أو ندبا ومنهى عنها حينا! وكذا الكتابة : أعني حركات الكاتب ، والأحرف المرسومة ، وأما المقروء بالقراءة المكتوب في المصاحف ، المحفوظ في الصدور ، المسموع بالآذان فقديم ، ليس حالا في لسان ولا قلب ولا مصحف ، لأن المراد به المعلوم بالقراءة المفهوم من الخطوط ومن الأصوات المسموعة ، وكذا المنزل. إذ معنى الإنزال أن جبريل عليه الصلاة والسلام أدرك كلام الله تعالى وهو في (٢) مقامه ثم نزل إلى الأرض وأفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فهمه عند سدرة المنتهى من غير نقل لذات الكلام.

فإن قيل : إذا أريد بكلام الله تعالى المنتظم من الحروف المسموعة من غير اعتبار تعين المحل ، فكل أحد منا يسمع كلام الله تعالى ، وكذا إذا أريد به المعنى الأزلي ، وأريد بسماعه فهمه من الأصوات المسموعة! فما وجه اختصاص موسى عليه الصلاة والسلام بأنه كليم الله تعالى.

فإن قلنا فيه أوجه : أحدهما وهو اختيار الإمام حجة الإسلام رحمه‌الله ، أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف ، كما ترى ذاته في الآخرة بلا كم ، ولا كيف ، وهذا على مذهب من يجوز تعلق الرؤية والسماع بكل موجود حتى الذات والصفات ، لكن سماع غير الصوت والحرف لا يكون إلا بطريق خرق العادة.

وثانيها : أنه سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (عليه).

(٢) في (ب) من بدلا من (في).

١٥٦

وثالثها : أنه سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا ، وحاصله أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام ، فأفهمه كلامه بصوت تولى بخلقه(١) من غير كسب لأحد من خلقه ، وإلى هذا ذهب الشيخ أبو منصور الماتريديّ (٢) ، والأستاذ أبو إسحاق الأسفراينيّ (٣).

قال الأستاذ : اتفقوا على أنه لا يمكن سماع غير الصوت إلا أن منهم من بت القول بذلك ، ومنهم من قال لما كان (٤) المعنى القائم بالنفس معلوما بواسطة سماع الصوت كان مسموعا ، فالاختلاف لفظي لا معنوي ـ قوله ـ.

__________________

(١) في (أ) بخلق بدلا من (بخلقه).

(٢) هو محمد بن محمد بن محمود ، أبو منصور الماتريديّ من أئمة علماء الكلام نسبته إلى ما تريد (محلة بسمرقند) من كتبه التوحيد ، وأوهام المعتزلة والرد على القرامطة ، وكتاب الجدل. مات بسمرقند عام ٣٣٣ ه‍ راجع مفتاح السعادة ٢ : ٢١ والجواهر المضيئة ٢ : ١٣ ، وفهرس المؤلفين ٢٦٤.

(٣) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران أبو إسحاق : عالم بالفقه والأصول كان يلقب بركن الدين نشأ في اسفرايين ثم خرج إلى نيسابور وبنيت له مدرسة عظيمة فدرس فيها ورحل إلى خراسان وبعض أنحاء العراق فاشتهر له كتاب الجامع في أصول الدين خمسة مجلدات له مناظرات مع المعتزلة مات نيسابور عام ج ٤١ ه‍ راجع وفيات الأعيان ١ : ٤ وشذرات الذهب ٢ : ٢٠٩.

(٤) في (ب) كما بدلا من (لما).

١٥٧

الدليل الثالث

(قال : الثالث.

إن الإخبار بطريق المعنى في الأزل يكون كذبا وهو على الله تعالى محال بالإجماع وأخبار الأنبياء عليهم‌السلام ، ولكونه نقصا عند العقلاء ، ولأنه يوجب امتناع صدقه في ذلك الخبر ، لأن الأزلي لا يزول وهذا باطل قطعا قلنا خبره إنما يصير ماضيا ، ومستقبلا وحالا فيما لا يزال إذ لا زمان في الازل).

الوجه الثالث : أن كلامه لو كان أزليا لزم الكذب في إخباره ، لأن الإخبار بطريق المضي (١) كثير في كلام الله تعالى مثل : (إِنَّا أَرْسَلْنا) (٢) (وَقالَ مُوسى) (٣) (فَعَصى فِرْعَوْنُ) (٤) إلى غير ذلك ، وصدقه يقتضي سبق وقوع النسبة! ولا يتصور السبق على الأزل ، فتعين الكذب وهو محال.

أما أولا فبإجماع العلماء.

وأما ثانيا : فبما تواتر من أخبار الأنبياء عليهم‌السلام الثابت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقف على ثبوت كلام الله تعالى فضلا عن صدقه.

وأما ثالثا : فلأن الكذب نقص باتفاق العقلاء وهو على الله محال ، لما فيه من أمارة العجز أو الجهل أو العبث (٥).

وأما رابعا : فلأنه لو اتصف في الأزل بالكذب في خبر ما (٦) لامتنع صدقه فيه ،

__________________

(١) في (ب) المعنى بدلا من (المضى)

(٢) سورة القمر آيات رقم ١٩ ، ٣١ ، ٣٤.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ١٠٤ وهذا جزء من آية وتكملتها : (يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

(٤) سورة المزمل آية رقم ١٦ وهذا جزء من آية وتكملتها : (الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً).

(٥) في (ب) العيب بدلا من (العبث).

(٦) في (أ) بزيادة لفظ (ما).

١٥٨

لأن ما يثبت قدمه امتنع عدمه. لكنا نعلم بالضرورة. أن من علم النسبة لا يمتنع عليه أن يخبر عنها على ما هي عليه ، وطريق اطراد هذا الوجه في كلامه المنتظم من الحروف المسموعة أنه عبارة عن كلامه الأزلي ، ومرجع الصدق والكذب إلى المعنى. وأما وجه استحالة النقص ففي كلام البعض أنه لا يتم إلا على رأي المعتزلة القائلين بالقبح العقلي. قال إمام الحرمين :

لا يمكن التمسك في تنزيه الرب تعالى عن الكذب بكونه نقصا لأن الكذب عندنا لا يقبح لعينه ، وقال صاحب التلخيص (١) : الحكم بأن الكذب نقص إن كان عقليا كان قولا بحسن الأشياء وقبحها عقلا ، وإن كان سمعيا لزم الدور ، وهذا مبني على أن مرجع الأدلة السمعية إلى كلام الله تعالى وصدقه وأن تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزة ، إخبار خاص. وقد عرفت ما فيه. وقال صاحب المواقف لم يظهر لي فرق بين النقص في العقل وبين القبح في العقل بل هو هو بعينه وأنا أتعجب من كلام هؤلاء المحققين (٢) الواقفين على محل النزاع في مسألة الحسن والقبح.

والجواب : أن كلامه في الأزل لا يتصف بالماضي والحال والمستقبل لعدم الزمان ، وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلقات ، وحدوث الأزمنة والأوقات ، وتحقيق هذا مع القول بأن الأزلي مدلول اللفظي عسر جدا ، وكذا (٣) القول بأن المتصف بالماضي (٤) وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم.

__________________

(١) هو محمد بن عبد الكريم الشهرستاني المتوفى سنة ٥٤٨ ه‍ وصاحب كتاب الملل والنحل

(٢) سقط من (ب) من أول : النقص في العقل إلى : هؤلاء المحققين.

(٣) في (ب) وكأن بدلا من (وكذا).

(٤) في (ب) بالماضي بدلا من (بالمضي).

١٥٩

الدليل الرابع

(قال : الرابع.

إن الأمر والنهي والخبر حيث لا مخاطب ولا سامع سفه وعبث ، وأجيب بأن كلامه إنما يصير أحد الأقسام فيما لا يزال ولو سلم ففي الكلام النفسي يكفي مجرد مخاطب معقول ، وإلى هذا يؤول ما قاله الجمهور إن المعدوم مأمور على تقدير الوجود ، فالأمر الأزلي اقتضاء ممن سيكون كطلب (١) التعلم من ابن سيولد ، وكأوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لمن يوجد ، وأيضا السفه أن يخلو عن الحكمة ما يتعلق بها ، والقديم ليس كذلك ولو سلم فيكفي وجود الحكمة ولو بعد حين).

ـ قوله ـ

الرابع : تقديره (٢) أن كلامه يشتمل على أمر ونهي وإخبار واستخبار ونداء وغير ذلك ، فلو كان أزليا لزم الأمر بلا مأمور والنهي بلا منهي ، والإخبار بلا سامع والنداء (٣) والاستخبار بلا مخاطب ، وكل ذلك سفه وعبث لا يجوز أن ينسب إلى الحكيم تعالى وتقدس.

وأجيب بوجوه : أحدها لعبد الله بن سعيد القطان وهو أن كلامه في الأزل ليس بأمر ولا نهي ، ولا خبر ذلك وإنما يصير أحد الأقسام فيما لا يزال.

فإن قيل : وجود الجنس من غير أن يكون أحد الأنواع ليس بمعقول ، وأيضا التغيير على القديم (٤) محال.

__________________

(١) سقط من (ج) لفظ (كطلب).

(٢) في (ب) تقريره بدلا من (تقريره).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (والنداء).

(٤) في (ب) التفسير بدلا من (التغيير).

١٦٠