شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

ادعاء الفلاسفة أن الله تعالى لا يعلم الجزئيات

(قال : والفلاسفة في العلم بالجزئيات.

على وجه الجزئية لاستلزامه التغير في القديم كما إذا علم أن زيدا سيدخل ثم دخل فإنه ينقلب جهلا أو يزول إلى علم آخر ، ورد بأن من الجزئيات ما لا يتغير كذات الله تعالى. وإن تغير الإضافة لا يوجب تغير المضاف إليه (١) كالقديم يوجد قبل الحادث ثم معه ثم بعده فمن جعل العلم إضافة لم يلزمه تغير الذات ومن جعله صفة ذات إضافة لم يلزمه تغيره فضلا عن الذات ، وإلى هذا يشير (٢) ما قيل : إن علم الباري بأن الشيء سيوجد نفس علمه بأنه وجد فإن من استمر إلى الغد على أن زيدا يدخل الدار غدا فهو بهذا العلم بعينه يعلم في الغد أنه دخل والعلم لا يتغير بتغير المعلوم (٣) كما لا يتكثر بمنزلة مرآة تنكشف بها الصور ، وإنسان ينتقل الجالس عن يمينه إلى يساره.

ولظهور أن هذا لا يصح على القول (٤) بكون العلم تعلقا بأن العالم والمعلوم ، رد أبو الحسين على ما قال به من المعتزلة :

أولا : بأن من استمر على أن زيدا يدخل البلد غدا وجلس في بيت مظلم بحيث لم يعلم دخول الغد لم يكن (٥) عالما بأنه دخل.

وثانيا : بأن متعلقهما مختلفان وشرطهما متنافيان إذ العلم بأنه وجد مشروط بوجوده ، وبأنه سيوجد مشروط بعدمه وإلا لكان جهلا.

__________________

(١) سقط من (ب) و (أ) لفظ (إليه).

(٢) في (ج) نسبه.

(٣) سقط من (ب) و (أ) لفظ (المعلوم).

(٤) سقط من (ب) و (أ) لفظ (على القول).

(٥) في (ج) لم يصر بدلا من (لم يكن).

١٢١

وثالثا : بأنهما قد يفترقان كما إذا علم أن زيدا سيقدم وعند قدومه لم يعلم أنه قدم وبالعكس).

قال : والفلاسفة في العلم بالجزئيات المشهور من مذهبهم. أنه يمتنع علمه بالجزئيات على وجه كونها جزئيات. أي من حيث كونها جزئيات (١) يلحقها التغير ، لأن تغير المعلوم يستلزم تغير العلم ، وهو على الله تعالى محال في ذاته وصفاته. وأما من حيث انها غير متعلقة بزمان فتعلقها يعقل بوجه كلي لا يلحقه التغير ، فالله تعالى يعلم جميع الحوادث الجزئية ، وأزمنتها الواقعة هي فيها ، لا من حيث أن بعضها واقع الآن ، وبعضها في الزمان الماضي ، وبعضها في الزمان المستقبل. ليلزم تغيره بحسب تغير الماضي والحال والمستقبل بلا علما.

ثانيا : أبد الدهر غير داخل تحت (٢) الأزمنة. مثلا يعلم أن القمر يتحرك كل يوم كذا درجة ، والشمس كذا درجة. فيعلم أنه يحصل لهما مقابلة في يوم كذا ، وينخسف القمر في أول الحمل (٣) مثلا ، وهذا العلم ثابت له ، حال المقابلة وقبلها وبعدها ، ليس في علمه كان ، وكائن ، ويكون ، بل هي حاضرة عنده في أوقاتها أزلا وأبدا ، وإنما التعلق بالأزمنة في علومنا. والحاصل أن تعلق العلم بالشيء الزمانيّ المتغير لا يلزم أن يكون زمانيا ليلزم تغيره.

وقال الإمام : إن اللائق بأصولهم ، أن الجزء إن كان متغيرا ، أو متشكلا يمتنع أن يتعلق به علم الواجب لما يلزم في الأول من تغير العلم ، وفي الثاني من الافتقار إلى

__________________

(١) في (ب) زمانية بدلا من (جزئيات).

(٢) في (ب) بحسب بدلا من (تحت).

(٣) اسم اطلقه الفلكيون العرب على أول البروج أو منازل الشمس الاثني عشر وقد عين بطليموس في كتابه المجسطي المنقول إلى العربية مواقع ١٨ كوكبا من كواكب برج الحمل ، ونقل العرب عنه ذلك وذكروا أن صورة الحمل تتكون من ١٣ كوكبا بينما توجد خمسة كواكب خارج الصورة واعتبروا بطن الحمل منزلا من منازل القمر ومقدم صورة الحمل تقع إلى الغرب ، ومؤخره إلى الشرق ، ووجهه إلى ظهره ، وسموا الكوكبين اللذين على قرنه الشرطين ، والخارج عن الصورة الناطح.

راجع القاموس الإسلامي ج ٢ ص ١٦٠.

١٢٢

الآلة الجسمانية ، وذلك كالأجرام (١) الفلكية ، فإنها متشكلة ، وإن لم تكن متغيرة في ذواتها ، وكالصور والأعراض فإنها متغيرة ، وكالأجرام الكائنة الفاسدة ، فإنها متغيرة ومتشكلة ، وأما ما ليس بمتغير ، ولا متشكل كذات الواجب ، وذوات المجردات ، فلا يستحيل ، بل يجب العلم به على ما يقرره (٢) الحكماء من أنه عالم بذاته الذي هو مبدأ العقل الأول بالذات ، ولا شك أن كلا منهما جزئي والعمدة في احتجاج الفلاسفة ، أنه لو علم أن زيدا يدخل الدار (٣) غدا فإذا دخل زيد الدار في الغد ، فإن نفى (٤) العلم بحاله ، بمعنى أنه يعلم أن زيدا يدخل غدا فهو جهل لكونه غير مطابق للواقع ، وإن زال وحصل العلم بأنه دخل لزم التغير للعلم الأول من الوجود إلى العدم. والثاني من العدم إلى الوجود ، وهذا على القديم محال. لا يقال كما أن الاعتقاد الغير مطابق جهل ، فكذا الخلو عن الاعتقاد المطابق بما هو واقع.

لأنا نقول : لو سلّم ، فإذا لم يعلمه على وجه كلي.

والجواب : إن من الجزئيات ما لا يتغير كذات الباري تعالى ، وصفاته الحقيقية ، عند من يثبتها ، وكذوات العقول فلا يتناولها الدليل ، وتخصيص الحكم بالبعض على ما يشير إليه كلام الإمام ، إنما يصح في القواعد الشرعية دون (٥) العقلية ، ولما أمكن البعض التقصي (٦) عن هذا بأنه يجوز أن يكون المدعي العام ، هو أنه لا يعلم شيئا من المتغيرات ، أو أن يبين الامتناع في الجزئيات المتغيرة بهذا الدليل. وفي غير المتغيرة ، بدليل آخر ، وأن يقصدوا إبطال كلام الخصم ، وهو أنه عالم بجميع الجزئيات على وجه الجزئية (٧).

__________________

(١) الجرم (بكسر الأول) جسم الشيء قدّر الجغرافيون العرب جرم الأرض بالعمليات الحسابية فذكروا أن طول قطر الأرض يساوي ٣ / ٢ ١١٦٣ فرسخا ودورها محيطها ٦٨٠٠ فرسخا فعلى ذلك تكون مساحة سطحها الخارجي ٥ / ٢ ٢٤٢ و ٧٤٤ ، ١٤ فرسخا. راجع القاموس الإسلامي ج ١ ص ٥٩٥.

(٢) في (ب) في ما تقدره بدلا من (ما يقرره).

(٣) سقط من ب من (يدخل) إلى (دخل زيد).

(٤) في (ب) بقي بدلا من (نفى).

(٥) سقط من (ب) لفظ (دون).

(٦) في (ب) البعض بدلا من (التقصي).

(٧) سقط من (أ) الجزئية.

١٢٣

اقتصر الجمهور في الجواب على منع الملازمة مستندا بأن العلم إما إضافة ، أو صفة ذات إضافة ، وتغير الإضافة لا يوجب تغير المضاف كالقديم يتصف بأنه قبل الحادث ، إذا لم يوجد الحادث ، ومعه إذا وجد وبعده إذا فني من غير تغير في ذات القديم. فعلى تقدير كون العلم إضافة لا يلزم من تغير المعلوم إلا تغير العلم دون الذات ، وعلى تقدير كونه صفة ذات إضافة لا يلزم تغير العلم فضلا عن الذات.

وأجاب كثير من المعتزلة وأهل السنة : بأن علم الله تعالى بأن الشيء سيحدث هو نفس علمه بأنه حدث للقطع بأن من علم أن زيدا يدخل الدار غدا ، واستمر على هذا العلم إلى مضي الغد ، علم بهذا العلم أنه دخل الدار من غير افتقار إلى علم مستأنف فعلى هذا لا تغير في العالمية التي يثبتها المعتزلة ، والعلم الذي أثبته الصفاتية ، وهذا بخلاف علم المخلوق ، فإنه لا يستمر ومرجع هذا الجواب إلى ما سبق من كون العلم أو العالمية غير الاضافة إذ لا شبهة في تغير الإضافة بتغير المضاف إليه. ولهذا أوضحوا هذا المعنى (١) المدعى بأن العلم لو تغير بتغير المعلوم لتكثر بتكثره ضرورة. فيلزم كثرة الصفات بل لا تناهيها بحسب لا تناهي المعلومات. وبأن العلم صفة تنجلي بها المعلومات بمنزلة مرآة تنكشف بها الصور ، فلا يتغير بتغير المعلوم ، كما لا تتغير المرآة بتغير الصور ، وبأنه صفة يعرض لها إضافات ، وتعلقات بمنزلة إنسان جلس زيد عن يساره ، ثم قام يجلس عن يمينه ، فإنه يصير متيامنا لزيد بعد ما كان متياسرا له من غير تغير فيه أصلا ، فظاهر أن هذا لا يتم على القول ، بكون العلم تعلقا بين العالم والمعلوم على ما يراه جمهور المعتزلة. فلهذا رده أبو الحسين البصري بوجوه :

أحدها : بأن من علم أن زيدا يدخل البلد غدا ، وجلس مستمرا على هذا الاعتقاد إلى الغد في بيت مظلم ، بحيث لم يعلم دخول الغد ، فإنه لا يصير عالما بدخول زيد ، ولو كان العلم بأنه سيدخل نفس العلم بأنه دخل ، لوجب أن يحصل هذا العلم في هذه الصورة ، فإذا لم يحصل لم يكن ، بل الحق أن العلم بأنه دخل

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (المعنى).

١٢٤

علم (١) ثالث (٢) متولد من العلم بأنه سيدخل غدا ، ومن العلم بوجود الغد.

وثانيها : أن متعلق العلم الأول هو أنه سيدخل وشرطه عدم الدخول ومتعلق العلم الثاني أنه دخل وشرطه تحقق الدخول ، ولا خفاء في أن الإضافة إلى أحد المتخلفين أو الصورة المطابقة له ، تغاير الإضافة إلى الآخر أو الصورة المطابقة له (٣) وكذا المشروط بأحد المنافيين تغاير المشروط بالآخر.

وثالثها : أن كلا من العلمين قد يحصل بدون الآخر ، كما إذا علم أن زيدا سيقدم البتة ، لكن عند قدومه لم يعلم أنه قدم من غير سابقة علم له بأنه سيقدم. والحق أن العلمين متغايران ، وأن التغير في الإضافة أو العالمية لا يقدح في قدم (٤) الذات ، ومن المعتزلة من سلّم تغاير العلمين ، ومنع تغيرهما ، وقال : تعلق عالمية الباري بعدم دخول زيد يوم الجمعة ، وبدخوله يوم السبت تعلقان مختلفان أزليان لا يتغيران أصلا ، فإنه في يوم الجمعة يعلم دخوله في السبت ، وفي يوم السبت يعلم عدم (٥) دخوله في يوم الجمعة ، غاية الأمر أنه يمكن التعبير عن العدم في الحال ، والوجود في الاستقبال سيوجد ، وبعد الوجود لا يمكن ، وهذا تفاوت وصفي لا يقدح في الحقائق ، وكذا عالميته بعدم العالم (٦) في الأزل لا يتغير بوجود العالم فيما لا يزال.

فإن قيل : الكلام في العلم التصديقي. ولا خفاء في أن تعلق عالميته بهذه النسبة ، وهو أنه يحصل له الدخول يوم السبت وللعالم الوجود فيما لا يزال لو بقي (٧) يوم السبت ، وفيما لا يزال لكان جهلا لانتفاء متعلقه الذي هو النسبة الاستقلالية.

أجيب : بالمنع فإن ذلك التعلق حال عدمه بأنه سيوجد وهذه النسبة بحالها ، وإنما

__________________

(١) في (ب) أعلم بدلا من (علم).

(٢) سقط من (ب) لفظ (ثالث).

(٣) سقط من (ب) من أول : تغاير إلى (المطابقة له).

(٤) في (أ) بزيادة (قدم).

(٥) سقط من (ب) لفظ (عدم).

(٦) في (أ) بزيادة بعدم العالم.

(٧) في (ب) نفى بدلا من (بقي).

١٢٥

الجهل هو أن يحصل التعلق حال وجوده بأنه سيوجد ، وهو غير التعلق الثاني (١) ، والحاصل أن التعلق بالعدم في حال معينة ، والوجود في حالة أخرى باق أزلا وأبدا (٢) لا ينقلب جهلا أصلا. فقد علم الباري في الأزل عدم العالم في الأزل ، ووجوده فيما لا يزال ، وفناه بعد ذلك ويوم القيامة أيضا بعلمه كذلك ، من غير تغير أصلا ، وهذا الكلام يدفع اعتراض الإمام ، بأن الباري تعالى إذا أوجد العالم ، وعلم أنه موجود في الحال ، فإما أن يبقى علمه في الأزل بأنه معدوم في الحال ، فيلزم الجهل والجمع بين الاعتقادين المتنافيين ، وإما أن يزول (٣) فيلزم زوال القديم ، وقد تقرر أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

(قال : والتزم تغير علمه بالجزئيات المتغيرة كما ذهب إليه هشام من أنه عالم في الأزل بالحقائق والماهيات ، وإنما يعلم الأشخاص والأحوال بعد حدوثها).

والتزم يعني ذهب أبو الحسين إلى أن علم الباري بالجزئيات يتغير بتغيرها ، ويحدث بعد وقوعها ، ولا يقدح ذلك في قدم الذات كما هو مذهب جهم بن صفوان (٤) ، وهشام بن الحكم (٥) من القدماء ، وهو في أنه في الأزل إنما يعلم الماهيات والحقائق ، وأما التصديقات ، أعني الأحكام بأن هذا قد وجد ، وذلك قد عدم ، فإنما يحدث فيما لا يزال ، وكذا تصور الجزئيات الحادثة. وبالجملة فذاته توجب العلم

__________________

(١) في (ب) الباقي بدلا من (الثاني).

(٢) في (أ) بزيادة (وابدأ).

(٣) سقط من (ب) من أول (فيلزم) إلى قوله (أن يزول).

(٤) جهم بن صفوان السمرقنديّ ، أبو محرز ، من موالي بني راسب رأس الجهمية قال الذهبيّ : الضال المبتدع ، هلك في زمان صغار التابعين ، وقد زرع شرا عظيما كان يقضي في عسكر الحارث بن سريج الخارج على أمراء خرسان فقبض عليه نصر بن سيار وأمر بقتله عام ١٢٨ ه‍ راجع ميزان الاعتدال ١ : ١٩٧ ، ولسان الميزان ٢ : ١٤٢ وخطط المقريزي ٢ : ٣٤٩ / ٣٥١.

(٥) هشام بن الحكم الشيبانيّ بالولاء ، أبو محمد متكلم مناظر ، كان شيخ الإمامية في وقته ولد بالكوفة ونشأ بواسط وسكن بغداد وانقطع إلى يحيي بن خالد البرمكيّ ، صنف كتبا منها «الإمامة» و «القدر» و «الرد على المعتزلة» والرد على الزنادقة وغير ذلك مات نحو ١٩٠ ه‍ راجع لسان الميزان ٢ : ١٩٤.

١٢٦

بالشيء بشرط وجوده ، فلا يحصل قبل وجوده ، ولا يبقى بعد فنائه ، ولا امتناع في اتصاف الذات بعلوم حادثة هي تعلقات وإضافات ، ولا في حدوثها مع كونها مستندة إلى القديم بطريق الإيجاب دون الاختيار لكونه مشروطة بشروط حادثة.

وأما اعتراض الإمام بأن كل صفة تعرض للواجب ، فذات الواجب إما أن يكفي في ثبوتها أو انتفائها ، فيلزم دوام ثبوتها أو انتفائها بدوام الذات من غير تغير ، وإما أن لا تكفي فيتوقف ثبوتها أو انتفاؤها على أمر منفصل ، وبالذات لا تنفك عن ثبوت تلك الصفة أو انتفائها الموقوف على ذلك الأمر. فيلزم توقف الذات عليه ، لأن الموقوف على الموقوف على الشيء موقف على ذلك الشيء ؛ فيلزم إمكان الواجب ، لأن الموقوف على الممكن أولى بأن يكون ممكنا ، ففي غاية الضعف لأن ما لا ينفك عن الشيء لا يلزم أن يكون متوقفا عليه ، كما في وجود زيد مع وجود عمرو أو عدمه إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وقد يستدل على علمه بالجزئيات ، بأن الخلو عنه جهل ، ونقص ، وبأن كل أحد من المطيع والعاصي يلجأ إليه في كشف الملمات ، ودفع البليات ، ولو لا أنه مما تشهد به فطرة جميع العقلاء لما كان كذلك ، وبأن الجزئيات مستندة إلى الله تعالى ابتداء وتوسطا. وقد اتفق الحكماء على أنه عالم بذاته ، وأن العلم بالعلة ، يوجب العلم بالمعلول.

١٢٧

المبحث الرابع

في أنه تعالى مريد

(قال :

في أنه مريد ، اتفقوا على ذلك ودل عليه كونه فاعلا بالاختيار ، فعندنا بصفة قديمة قائمة بذاته على قياس سائر الصفات للقطع بأن تخصيص أحد طرفي المقدور بالوقوع يكون لصفة خاصة نجدها من أنفسنا ليست هي العلم والقدرة ونحوهما ، وتعلقها لذاتها فلا يلزم تسلسل الإرادات ووجوب المراد بها لا ينافي الاختيار وقدمها لا يوجب قدمه ، ولا ينافي حدوث تعلقها).

المبحث الرابع :

اتفق المتكلمون والحكماء وجميع الفرق على إطلاق القول بأنه مريد ، وشاع ذلك في كلام الله تعالى وكلام الأنبياء عليهم‌السلام (١) ، ودل عليه ما ثبت من كونه تعالى فاعلا بالاختيار ، لأنه معناه القصد والإرادة مع ملاحظة ما للطرف الآخر ، فكأن المختار ينظر إلى الطرفين ويميل إلى أحدهما ، والمريد ينظر إلى الطرف الذي يريده ، لكن كثرة الخلاف في معنى إرادته.

فعندنا صفة قديمة زائدة على الذات قائمة به على ما هو شأن سائر الصفات الحقيقية. وعند الجبائية (٢) صفة زائدة قائمة لا بمحل ، وعند الكرامية صفة حادثة

__________________

(١) في (أ) بزيادة (عليهم‌السلام).

(٢) الجبائية : أصحاب أبي محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ ، وابنه أبي هاشم عبد السلام وهما من معتزلة البصرة ، انفردا عن أصحابها بمسائل : فمنها : أنهما؟؟؟؟ إرادات حادثة لا في محل ، يكون الباري تعالى بها موصوفا مريدا وتعظيما لا في محل إذا أراد ان يعظم ذاته وفناء لا في محل إذا اراد ان يفنى العالم ، وأخص أوصاف هذه الصفات يرجع إليه من حيث أنه تعالى أيضا لا في محل.

راجع الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ص ٨٠.

١٢٨

قائمة بالذات ، وعند ضرار (١) نفس الذات ، وعند النجار (٢) صفة سلبية هي كون الفاعل ليس بمكره ، ولا ساه ، وعند الفلاسفة العلم بالنظام الأكمل ، وعند الكلبيّ إرادته لفعله تعالى العلم به ولفعل غيره الأمر به ، وعند المحققين من المعتزلة هي العلم بما في الفعل من المصلحة ، تمسك أصحابنا بأن تخصيص بعض الأضداد بالوقوع دون البعض ، وفي بعض الأوقات دون البعض مع استواء نسبة الذات إلى الكل ، لا بدّ أن يكون لصفة شأنها التخصيص لامتناع التخصيص بلا مخصص ، وامتناع احتياج الواجب في فاعليته إلى أمر منفصل وتلك الصفة هي المسماة بالإرادة ، وهو معنى واضح عند العقل ، مغاير للعلم والقدرة وسائر الصفات شأنه التخصيص والترجيح لأحد طرفي المقدور من الفعل والترك على الآخر ، وينبه على مغايرتها للقدرة أن نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء بخلافها وللعلم أن مطلق العلم نسبته إلى الكل على السواء ، والعلم بما فيه من المصلحة. أو بأنه سيوجد في وقت كذا ، سابق على الإرادة والعلم بوقوعه تابع للوقوع المتأخر عنها وفيه نظر. إذ قد لا يسلم الخصم سبق العلم بأنه يوجده في وقت كذا على (٣) إرادته ذلك ، ولا تأخر علمه بوقوعه حالا عن إرادته ، الوقوع حالا. وما يقال أن العلم تابع للوقوع ، فمعناه أنه يعلم الشيء كما يقع ، وأن المعلوم هو الأصل في التطابق لأنه مثال وصورة له ، لا بمعنى تأخره عنه في الخارج البتة. والحق أن مغايرة الحالة التي نسميها بالإرادة ، للعلم والقدرة وسائر الصفات ضرورية ، ثم لقد (٤) تبين قدمها ، وزيادتها على الذات

__________________

(١) ضرار بن عمرو صاحب فرقة الضرارية من المعتزلة ، وافق الأشاعرة في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وإكساب للعباد وفي إبطال القول بالتولد ، ووافق المعتزلة في أن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل ، وأنها بعض المستطيع ووافق النجار في دعواه أن الجسم أعراض مجتمعة من لون وطعم ورائحة ونحوها.

(٢) النجار : هو الحسين بن محمد بن عبد الله النجار الرازي أبو عبد الله : رأس الفرقة النجارية من المعتزلة ، كان حائكا وقيل : كان يعمل الموازين من أهل قم وهو من متكلمي المجبرة وله مع النظام عدة مناظرات ، والنجارية يوافقون أهل السنة في مسألة القضاء والقدر ويوافقون المعتزلة في نفي الصفات وخلق القرآن وفي الرؤية له كتب : منها البدل في الكلام و «المخلوق» و «الإرجاء» توفي سنة ٣٢٠ ه‍.

راجع فهرست ابن النديم واللباب ٣ : ٢١٥ ، والمقريزي ٢٠ : ٣٥٠.

(٣) في (ب) عن بدلا من (على).

(٤) سقط من (ب) لفظ (لقد).

١٢٩

بمثل ما مرّ في العلم والقدرة ، وقد يرد هاهنا إشكالات :

الأول : أن نسبة الإرادة أيضا إلى الفعل والترك وإلى جميع الأوقات على السواء ، إذ لو لم يجز تعلقها بالطرف الآخر ، وفي الوقت الآخر لزم نفس القدرة والاختيار ، وإذا كانت على السواء فتعلقها بالفعل دون الترك ، وفي هذا الوقت ، دون غيره ، يفتقر إلى مرجح ومخصص (١) لامتناع وقوع الممكن بلا مرجح كما ذكرتم ، ويلزم تسلسل الإرادات.

والجواب : أنها إنما (٢) تتعلق بالمراد لذاتها من غير افتقار إلى مرجح آخر لأنها صفة شأنها التخصيص والترجيح ، ولو للمساوي ، بل المرجوح ، وليس هذا من وجود الممكن بلا موجد ، وترجيحه بلا مرجح في شيء.

فإن قيل : مع تعلق الإرادة لا يبقى (٣) التمكن من الترك وينتفي (٤) الاختيار.

قلنا : قد مرّ (٥) غير مرة أن الوجوب بالاختيار محض الاختيار.

الثاني : أن الإرادة لا تبقى بعد الإيجاد ضرورة ، فيلزم زوال القديم وهو محال.

والجواب : أنها صفة قد تتعلق بالفعل ، وقد تتعلق بالترك ، فيخصص ما تعلقت به ويرجحه ، وعند وقوع المراد يزول تعلقها الحادث ، وبهذا يندفع ما يقال : إنها لا تكون بدون المراد فيلزم من قدمها قدم المراد ، فيلزم قدم العالم على أن قدم المراد لا يوجب قدم العالم ، لأن معناه : أن يريد الله تعالى في الأزل إيجاد العالم وإحداثه في وقته ، ويشكل بإيجاد الزمان ، إلا أن يجعل أمرا مقدورا لا تحقق له في الأعيان.

فإن قيل : نحن نردد في الأثر الذي هو المراد كالعالم مثلا ، بأنه إما لازم للإرادة فيلزم قدمه أو لا فيكون مع الإرادة جائز الوجود والعدم ، فلا تكون الإرادة مرجحة.

قلنا : هو جائز الوجود والعدم بالنظر إلى نفس الإرادة ، وأما مع تعلقها بالوجود ،

__________________

(١) في (ب) تخصص بدلا من (مخصص).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (إنما).

(٣) في (ب) لا ينفي بدلا من (لا يبقى).

(٤) في (ب) ويتعين بدلا من (وينتفي).

(٥) في (ب) قدم وهو تحريف.

١٣٠

فالوجود مترجح بل لازم ، (١) وقد يمنع استحالة زوال القديم ، وهو مدفوع بما سبق من البرهان ، والاستناد بأنه (٢) لا يعلم في الأزل أن العالم معدوم سيوجد ، وبعد الإيجاد لا يبقى ذلك التعلق الأزلي مدفوعا بما عرفت في المبحث (٣) السابق.

الثالث : أن تعلق إرادته إما أن يكون أولى فيلزم استكماله بالغير ، أو لا فيلزم العبث. والجواب : ما مرّ في بحث قدرته.

__________________

(١) في (ب) بلا بدلا من (بل).

(٢) في (ب) (والإسناد بأنه).

(٣) في (ب) البحث بدلا من (المبحث).

١٣١

القائلون بحدوث الإرادة

والرد عليهم

(قال :

وحدوثها مع قيامها بذاته على ما هو رأي الكرامية يوجب التسلسل وكونه محل الحوادث. ومع قيامها بنفسها على ما هو رأي الجبائية ضروري البطلان.

وقول الحكماء إنه العلم بالنظام الأكمل نفي لما نسميه الإرادة.

وكذا قول النجار أنه كونه غير مكره ، ولا ساه ، وقول الكعبيّ : إنه في فعله العلم وفي فعل غيره الأمر ، وذهب كثير من المعتزلة إلى أنها الداعية فقيل في الغائب خاصة ، وقيل فيهما جميعا ، ومعنى الداعية في الشاهد العلم والاعتقاد أو الظن بنفع زاد في الفعل ، وفي الغائب العلم بذلك ، واحتجوا بأن الإرادة فعل المريد قطعا ، والفاعل يجب أن يكون له شعور ، لفعله ، ولا شعور لنا إلا بالداعي الخالص أو المرجح على الصادق. ورد بأن لا نسلم أنه اختياري ، وأنه لا شعور بغير الداعي بل الشعور بحالة بعقبه ، وعرض بأن العطشان والهارب يميل إلى أحد الماءين أو الطريقين عند التساوي).

قوله : وحدوثها يشير إلى نفي مذاهب المبطلين ، فمنها قول الكرامية إن إرادة الله تعالى حادثة قائمة بذاته وهو فاسد لما مرّ من استحالة قيام الحوادث بذات الله تعالى ، ولأنه صدور الحادث عن الواجب لا يكون إلا بالاختيار ، فيتوقف على الإرادة ، ويلزم الدور أو التسلسل.

فإن قيل : استناد الصفات إلى الذات إنما هو بطريق الإيجاب دون الاختيار فلم لا يجوز أن يكون البعض منها موقوفا على شرط حادث فيكون حادثا.

قلنا : لما يلزم من تعاقب حوادث لا بداية لها ، وقد بينا استحالته ، ولأن تلك الشروط ، إما صفات للباري ، فيلزم حدوثه ، لأن ما لا يخلو عن الحادث حادث ،

١٣٢

أو لا فيلزم افتقاره في صفاته وكمالاته إلى الغير ، ومنها قول أكثر معتزلة البصرة (١) : إن إرادته حادثة قائمة بنفسها لا بمحل ، وبطلانه ضروري فإن ما يقوم (٢) بنفسه لا يكون صفة ، وهذا أولى من أن يقال : إن العرض لا يقوم إلا بمحل للإطباق على أن صفات الباري ليست من قبيل الأعراض ، وفي كلام بعض المعتزلة. أن العرض نفسه ليس بضروري ، بل استدلالي فكيف حكمه الذي هو استحالة قيامه بنفسه ، وفساده بيّن؟.

ومنها قول الحكماء : إن إرادته تعالى ، ويسمونها العناية بالمخلوقات. هو تمثل نظام جميع وجود الموجودات (٣) من الأزل إلى الأبد في علمه السابق على هذه الموجودات مع الأوقات المترتبة غير المتناهية التي تجب وتليق أن يقع كل موجود منها في واحد من تلك الأوقات.

قالوا : وهذا هو المقتضى لإفاضته (٤) ذلك النظام على ذلك التركيب ، والتفصيل ، إذ لا يجوز أن يكون صدوره عن الواجب ، وعن العقول المجردة بقصد الإرادة ، ولا بحسب طبيعته ، ولا على سبيل الاتفاق والجزاف ، لأن العلل العالية لا تفعل لغرض (٥) في الأمور السافلة ، فقد صرحوا في إثبات هذه العناية بنفي ما نسميه الإرادة ، وقد عرفت مرادهم بإحاطة علم الله تعالى بالكل ، ولأنها ليست إلا وجود الكل ، ومنها قول النجار من المعتزلة: إن إرادة الله تعالى كونه غير مكره ولا ساه ، وقول الكعبيّ : وكثير

__________________

(١) قال ابن الأنباريّ : البصرة في كلام العرب الأرض الغليظة وقال قطرب : البصرة الأرض الغليظة التي فيها حجارة تقلع وتقطع حوافر الدواب. وقال ابن الاعرابيّ : البصرة حجارة صلاب. وقال : وإنما سميت بصرة لغلظها وشدتها. والمسلمون هم الذين بنوا مدينة البصرة وأول مولود ولد فيها للمسلمين عبد الرحمن بن أبي بكرة. وكان أبو بكرة أول من غرس النخل بالبصرة ، وقال : هذه أرض نخل ، ثم غرس الناس بعده وأول دار بنيت بها دار نافع بن الحارث ثم دار معقل بن يسار المزنيّ الخ راجع معجم البلدان ج ص ٤٣١ / ٤٣٢

(٢) في (أ) ما يقوم به بدلا من (ما يقع).

(٣) في (ب) المخلوقات بدلا من (الموجودات).

(٤) في (ب) لإضافة بدلا من (لإفاضته).

(٥) في (ب) لا تعقل إلا بدلا من (لا تفعل لغرض).

١٣٣

من معتزلة بغداد (١). أن إرادته لفعله هو علمه به ، أو كونه غير مكره ولا ساه ، ولفعل غيره هو الآمر به ، حتى (٢) إن ما لا يكون مأمورا به لا يكون مرادا له ، ولا خفاء في أن هذا موافقة للفلاسفة في نفي كون الواجب تعالى مريدا ، أي فاعلا على سبيل القصد والاختيار ومخالفة للنصوص الدالة على أن (٣) إرادته ، تتعلق بشيء دون شيء ، وفي وقت دون وقت ، وأنه قد أمر العباد بما لم يشا منهم.

قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤).

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) (٥) (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٦).

إلى غير ذلك مما لا يحصى ، ولا فرق بين المشيئة والإرادة إلا عند الكرامية ، حيث جعلوا المشيئة صفة واحدة أزلية ، تتناول ما يشاء الله بها من حيث تحدث ، والإرادة حادثة متعددة ، بعدد المرادات ، وأما الاعتراض على قول النجار بأنه يوجب كون الجماد مريدا ، فليس بشيء لأنه إنما يفسر بذلك إرادة الله تعالى.

وذهب كثير من المعتزلة إلى أن الإرادة ليست سوى الداعي إلى الفعل وهو اختيار ركن الدين الخوارزميّ في الشاهد والغائب جميعا ، وأبي الحسين البصري في الغائب خاصة.

__________________

(١) بغداد : قال ابن الانباري : أصل بغداد للاعاجم. والعرب تختلف في لفظها إذ لم يكن أصلها من كلامهم ولا اشتقاقها من لغاتهم. قال بعض الاعاجم : تفسيره بستان رجل وقال الحسن. بغداد اسم فارسي معرب عن باغ داذويه ، ويقال لها مدينة السلام وسميت كذلك لأن دجلة يقال لها : وادي السلام ، وكان أول من مصرها وجعلها مدينة المنصور بالله أبو جعفر قال بعضهم : بغداد جنة الأرض ومدينة السلام ، وقبة الاسلام ومجمع الرافدين ، وغرة البلاد ، ودار الخلافة الخ راجع معجم البلدان ج ص ٤٥٨ ـ ٤٦٠

(٢) في (ب) حيث بدلا من حتى.

(٣) سقط من (ب) حرف أن.

(٤) سورة البقرة آية رقم ١٨٥.

(٥) سورة النحل آية رقم ٤.

(٦) سورة يونس آية رقم ٩٩.

١٣٤

قالوا : وهو العلم أو الاعتقاد أو الظن باشتمال الفعل والترك على المصلحة ولما امتنع في حق الباري تعالى الظن ، والاعتقاد كان الداعي في حقه تعالى ، الداعي هو العلم بالمصلحة ، واحتجوا بأن الإرادة فعل المريد قطعا واتفاقا. يقال فلان يريد هذا ، ويكره ذاك ، ولهذا يمدح بها ، ويذم ويثاب عليها ويعاقب.

قال الله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (١).

وقال : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (٢).

فهذا الفعل لو كان غير الداعي لكان للفاعل شعور به ضرورة أن الفاعل هو المؤثر بالشيء بالقصد والاختيار ، وذلك لا يكون إلا بعد الشعور لكن اللازم باطل ، لأنا لا نشعر عند الفعل أو الترك بمرجح سوى الداعي الخالص ، أو المترجح على الصافي.

والجواب : أنه إن أريد بكونها فعلا للمريد مجرد استنادها إليه ، كما في قولنا : فلان يقدر على كذا ، ويعجز عن كذا ، فهذا لا يقتضي كونه أثرا صادرا عنه بالقصد والاختيار ليلزم الشعور به ، وإن أريد أنه أثر له بطريق القصد والاختيار فممنوع ، ولا يبعد دعوى الاتفاق على نقيض ذلك.

كيف ولو كان كذلك لاحتاجت إلى إرادة أخرى وتسلسلت ثم (٣) ترتب الثواب والعقاب على الإرادة إنما هو باعتبار ما يلزمها من الأفعال ، أو تحصيل الدواعي ، أو نفي الصوارف أو نحو ذلك مما للقصد فيه مدخل ، واما المدح والذم على الشيء فلا يقتضيان كونه فعلا اختياريا وهو ظاهر. ثم لا نسلم أنه لا شعور لنا بمرجح سوى الداعي بمعنى اعتقاد المصلحة والمنفعة ، بل نجد من أنفسنا حالة ميلانية منبعثة عن

__________________

(١) سورة الأنفال آية رقم ٦٧ ، ولقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل حيث ذكرت : ثواب الدنيا بدلا من : تريدون عرض الدنيا.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ١٥٢.

(٣) سقط من (ب) لفظ (ثم).

١٣٥

الدواعي (١) ، أو غير (٢) منبعثة مع (٣) السبب الغريب في الترجيح والتخصيص ، فدعوى كون الإرادة مغايرة للداعي ، أجدر بأن تكون ضرورية ، ثم أورد بطريق المعارضة أن الإرادة لو كانت هي الشعور بما في الفعل أو الترك من المصلحة لما وقع الفعل الاختياري بدونه ضرورة ، واللازم باطل ، لأن العطشان يشرب أحد القدحين ، والهارب يسلك أحد الطريقين من غير شعور بمصلحة راجحة من (٤) فعل هذا ، أو ترك ذاك عند فرص التساوي في نظر العقل.

وبالجملة. فكون مسمى لفظ الإرادة مغايرا للشعور بالمصلحة في الفعل أو الترك مما (٥) لا ينبغي أن يخفى على العاقل العارف بالمعاني والأوضاع. نعم ، لو ادعى في حق الباري تعالى انتفاء مثل هذه الحالة الميلانية ، والاقتصار على العلم بالمصلحة ، فذلك بحث آخر.

__________________

(١) في (أ) الداعي بدلا من (الدواعي).

(٢) في (ب) عن بدلا من (غير).

(٣) في (ب) هي بدلا من (مع).

(٤) في (أ) في بدلا من (من).

(٥) في (ب) بما بدلا من (مما).

١٣٦

خاتمة

(قال : خاتمة.

إرادته تعمّ (١) جميع الكائنات وبالعكس خلافا للمعتزلة في الأصلين وسيجيء في بحث الأفعال).

قال : خاتمة. مذهب أهل الحق أن كل ما أراد الله تعالى فهو كائن ، وأن كل كائن فهو مراد له ، وإن لم يكن مرضيا ، ولا مأمورا به ، بل منهيا عنه ، وهذا ما اشتهر من السلف أن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وخالفت المعتزلة في الأصلين ذهابا إلى أنه يريد من الكفار والعصاة الإيمان والطاعة ولا يقع مراده ، ويقع منهم الكفر والمعاصي ، ولا يريدها ، وكذا جميع ما يقع في العالم من الشرور والقبائح ، وأخرنا (٢) الكلام في ذلك إلى بحث الأفعال لما له من زيادة التعلق بمسألة خلق الأعمال.

__________________

(١) في (ج) مع تغير بدلا من (تعم).

(٢) في (ب) وآخر بدلا من (وأخرنا).

١٣٧

المبحث الخامس

في أنه سميع بصير حي

(قال

في أنه حي سميع بصير شهدت به (١) الكتب الإلهية وأجمع عليه الأنبياء ، بل جمهور العقلاء ، ودل العلم والقدرة على الحياة والحياة على صحة السمع والبصر فيثبتان بالفعل (٢) ولا خفاء في أن الخلو عن هذه الصفات في حق من يصح اتصافه بها نقيصة وقصور في الكمال لا أقل ، وباطل أن يتسم الواجب تعالى بالنقصان أو بكونه أقل كمالا من الإنسان فهذه بجملتها تفيد القطع ، وإن كان في البعض للجدال مجال (٣) ويثبت على أصل أصحابنا صفات قديمة هي الحياة والسمع والبصر ، ولا يلزم قدم المسموع والمبصر لجواز حدوث التعلق وما يقال إنها نفس اعتدال المزاج وتأثير الحاسة أو مشروطة بذلك ممنوع (٤) في الشاهد فكيف في الغائب ...؟).

المبحث الخامس :

قد علم بالضرورة من الدين ، وثبت في الكتاب والسنة بحيث لا يمكن إنكاره ، ولا تأويله أن الباري تعالى حيّ سميع بصير ، وانعقد إجماع أهل الأديان بل جميع العقلاء على ذلك ، وقد يستدل على الحياة ، بأنه عالم قادر لما مرّ ، وكل عالم قادر حي بالضرورة وعلى السمع والبصر بأن كل حي يصح كونه سميعا بصيرا ، وكل ما يصح للواجب من الكمالات ، يثبت بالفعل لبراءته عن أن يكون له ذلك (٥) بالقوة والإمكان ، وعلى الكل بأنها صفات كمال قطعا ، والخلو عن صفات الكمال في حق من يصح اتصافه بها نقص ، وهو على الله تعالى محال لما مرّ. وهذا التقرير لا يحتاج إلى

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) لفظ (به).

(٢) في (ج) بالعقل بدلا من (بالفعل).

(٣) في (ب) و (أ) بحال بدلا من (مجال).

(٤) في (أ) و (ب) مما بدلا من (ممنوع).

(٥) سقط من (ب) جملة (له ذلك).

١٣٨

بيان ؛ أن الممات والصمم والعمى أضداد للحياة والسمع والبصر ، لا إعدام ملكات وأن من يصح اتصافه بصفة لا يخلو عنها وعن ضدها ، لكن لا بد من بيان أن الحياة في الغائب أيضا تقتضي صحة السمع والبصر ، وغاية متشبسهم (١) في ذلك على ما ذكره إمام الحرمين طريق السبر والتقسيم. فإن الجماد لا يتصف بقبول السمع والبصر ، وإذا صار حيا يتصف به ، إن لم يقم به آفات ، ثم إذا صيرنا صفات الحي لم نجد ما يصحح قبوله للسمع والبصر سوى كونه حيا ، ولزم القضاء بمثل ذلك في حق الباري تعالى. وأوضح من هذا ما أشار إليه الإمام حجة الإسلام (٢). أنه لا خفاء في أن المتصف بهذه الصفات أكمل ممن لا يتصف بها ، فلو لم يتصف الباري بها ، لزم أن يكون الإنسان بل غيره من الحيوانات أكمل منه ، وهو باطل قطعا ، ولا يرد عليه النقص بمثل الماشي ، والحسن الوجه ، لأن استحالته في حق الباري تعالى يعلم (٣) مما لا علم قطعا بخلاف السمع والبصر. والغرض من تكثير وجوه الاستدلال في أمثال هذه المقامات زيادة التوثيق والتحقيق ، وأن الأذهان متفاوتة في القبول والإذعان ربما (٤) يحصل للبعض منها الاطمئنان ببعض الوجوه دون البعض ، أو باجتماع الكل أو عدمه منها (٥) مع ما في كل واحد من محال المناقشة ، وأما الاعتراض بأنه لا سبيل إلى استحالة النقص والآفة على الباري تعالى (٦) سوى الإجماع المستند حجيته إلى الأدلة السمعية ، ولا خفاء في ثبوت الإجماع وقيام الأدلة السمعية القطعية على كونه تعالى حيا سميعا بصيرا ، فأي حاجة إلى سائر المقدمات التي ربما يناقض فيها (٧) ..؟.

فجوابه : المنع إذ ربما يجزم بذلك من لا (٨) يلاحظ الإجماع عليه ، أو لا يراه حجة أصلا أو يعتقد أنه لا يصح في مثل هذا المطلوب التمسك به ، وسائر الأدلة السمعية

__________________

(١) في (ب) متشبهم بدلا من (متشبسهم).

(٢) هو الإمام حجة الإسلام الغزالي. وقد سبق الترجمة له.

(٣) سقط من (ب) جملة (تعالي يعلم).

(٤) في (ب) بها بدلا من (ربما).

(٥) في (ب) عودة بدلا من (عدمه).

(٦) سقط من (ب) لفظ (تعالى).

(٧) في (أ) يناقش بدلا من (يناقص).

(٨) سقط من (ب) لفظ (لا).

١٣٩

لكون إنزال الكتب ، وإرسال الرسل فرع كون الباري حيا سميعا بصيرا.

وبالجملة لما ثبت كونه حيا سميعا بصيرا ثبت (١) على قاعدة أصحابنا. له صفات قديمة : هي الحياة والسمع والبصر على ما بينا في العلم والقدرة.

فإن قيل : لو كان السمع والبصر قديمين ، لزم قدم كون المسموع والمبصر كذلك لامتناع السمع بدون المسموع والإبصار بدون المبصر.

قلنا : ممنوع لجواز أن يكون كل منهما صفة قديمة لها تعلقات حادثة كالعلم والقدرة ، ويمكن أن يجعل هذا شبهة من قبل المخالف ، بأنه لو كان فإما أن يكون السمع والبصر قديمين فيلزم قدم المسموع والمبصر أو حادثين فيلزم كونه محلا للحوادث وشبهة أخرى وهي أنه لو كان حيا سميعا بصيرا (٢) لكان جسما ، واللازم باطل. وجه اللزوم أن الحياة اعتدال نوعي للمزاج الحيواني على ما سبق ، أو صفة تتبعها مقتضية للحس والحركة الإرادية وقد عرفت أن المزاج من الكيفيات الجسمية ، وأن السمع والبصر وسائر الإحساسات تأثر للحواس عن المحسوسات ، أو حالة إدراكية تتبعه ، وليست الحواس الأقوى جسمانية.

والجواب : أنّا لا نسلم كون الحياة والسمع والبصر عبارة عما ذكرتم أو مشروطة به في الشاهد ، فضلا عن الغائب. غاية الأمر أنها في الشاهد تقارن ما ذكرتم ، ولا حجة على الاشتراط ، وقد تكلمنا على ذلك فيما سبق.

(قال :

على ما نقل عن الشيخ أن الإحساس علم بالمحسوس ، وإن كان نوعا آخر من العلم لا يلزم ثبوت صفة أخرى لجواز أن يكون الأنواع المختلفة هي التعليقات).

قال : وعلى ما نقل المشهور من مذهب الأشاعرة أن كلا من السمع والبصر صفة مغايرة للعلم ، إلا أن ذلك ليس بلازم على قاعدة الشيخ أبي الحسن في الإحساس من

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (ثبت).

(٢) سقط من (ب) من أول : (فإما أن يكون إلى : سميعا بصيرا).

١٤٠