شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

١

٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة الجزء الرابع

من شرح المقاصد

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين جاء بالتوحيد الخالص ، الذي شرعه الله تعالى للأنبياء والرسل من قبله قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (١).

كان من رعاية الله وحسن عنايته بنا أن وفقنا في إنجاز الجزء الرابع من كتاب شرح المقاصد لسعد الدين التفتازاني.

وهذا الجزء يشمل «المقصد الخامس في الإلهيات» ويعتبر هذا الجزء أهم ما في الكتاب ، بل يعتبر ما تقدم من المقاصد الأربعة مقدمة أو تمهيدا وصل بها إلى ما يتعلق بذات الله تعالى وكمالاته.

ولقد قسم المؤلف هذا المقصد إلى «سبعة فصول» يندرج تحتها العديد من المباحث والتعليقات.

ونرى أن الفصل الأول ينقسم إلى أربعة مباحث ، الأول منها خصصه لإثبات وجود الله تعالى وسلك في ذلك طريقين :

الأول : للحكماء ، وهو أنه لا شك في وجود موجود ... الخ.

والثاني : للمتكلمين ، وهو أنه قد ثبت حدوث العالم ، إذ لا شك في وجود حادث ، وكل حادث فيها لضرورة له محدث ... الخ.

المبحث الثاني : الاستدلال بعالم الأجسام على وجود الصانع وفيه يشير إلى

__________________

(١) سورة الشورى آية رقم ٤٢ ، الجزء ١٥.

٥

وجوه إقناعية ، وإلى كونه من المشهورات التي لم يخالف فيها أحد ممن يعتد به بذلا للمجهود في إثبات ما هو أعظم المطالب العالية.

المبحث الثالث : وفيه يثبت أن الواجب تعالى يخالف الممكنات في الذات والحقيقة ، وما ذهب إليه بعض المتكلمين أن ذات الواجب تماثل سائر الذوات وإنما تمتاز بأحوال أربعة.

يرى صاحب «شرح المقاصد» أن هذا غلط من باب اشتباه العارض بالمعروض.

المبحث الرابع : وفيه يثبت أن الصانع أزلي أبدي لأنه يرى أنه لو كان حادثا لكان له محدث ويتسلسل ، والثاني : رأيه بأن القديم يمتنع عليه العدم لكونه واجبا أو منتهيا إليه بطريق الإيجاب ، لأن الصادر بطريق الاختيار يكون مسبوقا بالعدم.

وبعد الانتهاء من الفصل الأول الذي خصصه لإثبات وجود الله تعالى ، ينتقل إلى الفصل الثاني والذي جعله خاصا بتنزيهات الله سبحانه وتعالى وقسمه إلى أربعة مباحث.

الأول : جعله في التوحيد الواجب ، وهو نفي الكثرة عنه بحسب الأجزاء ، واستدل على نفي التركيب بأن كل مركب محتاج إلى الجزء الذي هو غيره ، وكل محتاج إلى الغير ممكن.

وساق طرق المتكلمين في نفي التعدد والكثرة ، وختم هذا المبحث بكلمة عن حقيقة التوحيد ، وعدم الشريك.

المبحث الثاني : إثبات أن الواجب ليس بجسم لأن كل جسم مركب من أجزاء عقلية ، هي الجنس والفصل ، ووجودية هي الهيولي والصورة .. الخ.

ثم رد على هؤلاء الأدعياء المخالفين في تنزيه الله تعالى.

المبحث الثالث : وخصصه في الاستدلال على أن الواجب لا يتحد بغيره ، ولا يحل فيه ، أما الاتحاد فلأنه يمتنع اتحاد الاثنين. اما الحلول ، فهو يرى أن الحال في الشيء يفتقر إليه في الجملة سواء كان حلول جسم في مكان أو عرض في جوهر أو

٦

صورة في مادة كما هو رأي الحكماء ، أو صفة في موصوف كصفات المجردات والافتقار إلى الغير ينافي الوجوب.

وأثبت بالدليل القاطع أن فكرتي الحلول والاتحاد محكية عن النصارى.

المبحث الرابع : وخصصه في الاستدلال على امتناع اتصاف الواجب بالحوادث خلافا للكرامية.

وأنهى بهذا المبحث الفصل الثاني الذي خصصه لتنزيهات الله سبحانه وتعالى.

الفصل الثالث : والذي خصصه للصفات الوجودية وجعله في سبعة مباحث :

الأول : صفات الله زائدة على الذات ، فهو عالم له علم ، قادر له قدرة ، حي له حياة إلى غير ذلك خلافا للفلاسفة والمعتزلة. ثم تناول أوجه المخالفين في زيادة الصفات على الذات وهي شبه بعضها على أصول الفلسفة تمسكا للفلاسفة ، وبعضها على قواعد الكلام تمسكا للمعتزلة ، وبعضها من مخترعات أهل السنة

ثم رد على المعتزلة في ادعائهم نفي القدرة والعلم عن الله تعالى.

المبحث الثاني : وخصصه في إثبات القدرة لله تعالى : وبين أن المشهور عن القادر أنه هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك ومعناه أنه يتمكن من الفعل والترك.

وذكر في هذا المبحث الأدلة على قدرة الله تعالى. وتناول أدلة المخالفين بالتفنيد والتكذيب.

وختم هذا المبحث بأن قدرة الله تعالى غير متناهية ـ بمعنى أنها ليست لها طبيعة امتدادية تنتهي إلى حد ونهاية.

المبحث الثالث في أنه تعالى عالم : ويرى أن جمهور العقلاء والمشهور من استدلال المتكلمين وجهان ، الأول : أنه فاعل فعلا محكما متقنا وكل من كان ذلك فهو عالم ، والثاني أنه قادر أي فاعل بالقصد والاختيار ، ولا يتصور ذلك إلا مع العلم بالمقصود.

٧

وختم هذا المبحث بأن علم الله تعالى غير متناه بمعنى أنه لا ينقطع ولا يصير بحيث لا يتعلق بالمعلوم ، ومحيط بما هو غير متناه كالأعداد والأشكال.

المبحث الرابع في أنه تعالى مريد وهو اتفاق بين المتكلمين والحكماء وجميع الفرق على إطلاق القول بأنه مريد ، وشاع ذلك في كلام الله تعالى ، وكلام الأنبياء عليهم‌السلام ودل عليه ما ثبت من كونه تعالى فاعلا بالاختيار.

وختم هذا المبحث بقوله : مذهب أهل الحق أن كل ما أراد الله تعالى فهو كائن وأن كل كائن فهو مراد له وإن لم يكن مرضيا ولا مأمورا به بل منهيا عنه وهذا ما اشتهر من السلف أنّ ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن وخالفت المعتزلة في الأصلين.

المبحث الخامس : في أنه تعالى سميع بصير حي وقال : قد علم بالضرورة من الدين ، وثبت في الكتاب والسنة بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله أن الباري تعالى حي سميع بصير وانعقد إجماع أهل الأديان بل جميع العقلاء على ذلك.

وختم هذا المبحث بما قاله إمام الحرمين في هذا الشأن.

المبحث السادس : في أنه متكلم ـ وقد تواتر القول بذلك عن الأنبياء وقد ثبت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقف على إخبار الله تعالى عن صدقهم بطريق التكلم ليلزم الدور وقد يستدل على ذلك بدليل عقلي على قياس ما مر في السمع والبصر واستدل على قدم الكلام بوجهين.

أحدهما : أن المتكلم من قام به الكلام لا من أوجد الكلام ولو في محل آخر.

وأما الثاني : فلأن الكلام في المنتظم من الحروف المسموعة لا في الصورة المرسومة في الخيال أو المخزونة في الحافظة أو المنقوشة بأشكال الكتابة.

ثم تناول صفات القرآن الكريم فقال بأنه ذكر.

قال تعالى :

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ..)

٨

وعربي لقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)

ونزل به جبريل لقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ).

ثم ذكر أدلة علماء الكلام في هذه القضية ، وذكر الخاتمة بأن كلامه الأزلي واحد.

قال عبد الله بن سعيد : إنه في الأزل ليس شيئا من الأقسام ، وإنما يصير أحدهما فيما لا يزال. وقد ضعّف هذا الرأي ، ثم ذكر رأي الإمام الرازي (وهو في الأزل خبر ومرجع البواقي إليه). وقد ضعّف صاحب المقاصد هذا الرأي أيضا.

المبحث السابع : في الصفات المختلف فيها. يعني أهل الحق القائلين. بالصفات الأزلية. فاستعرض آراء الظاهرية والأشاعرة ، وعرض أقوالهم وأدلتهم. ثم ذكر بعض هذه الصفات ومنها القدم ، ومنها ما ورد كالاستواء واليد والوجه. ويعتبر هذا المبحث خاتمة الفصل الثالث.

الفصل الرابع : في أحوال الواجب تعالى. وفيه مبحثان.

المبحث الأول : في رؤيته تعالى في الآخرة. وذكر أقوال أهل السنة بجواز أن يراه المؤمنون في الآخرة. وفند اعتراض المعتزلة في ذلك ، وقدم الدليل العقلي على إمكان الرؤية. وذكر أيضا أدلة وقوع الرؤية بالنص والإجماع ، واقتضته الأمانة العلمية أن يذكر أدلة المخالف على عدم الرؤية والتي تكاد تكون محصورة في سبع شبه أضربنا عن ذكرها منعا من التطويل.

المبحث الثاني : في العلم بحقيقته تعالى. وذكر أدلة المجوزين والمخالفين في ذلك. وختم هذا المبحث بقوله : (بأنا لا نسلم انحصار طرق التصور في ذلك. بل قد يحصل بالإلهام أو بخلق الله تعالى العلم الضروري بالكسبيات أو بصيرورة الأشياء مشاهدة للنفس عند مفارقتها البدن كسائر المجردات).

ثم الفصل الخامس ، في الأفعال وفيه أربعة مباحث :

الأول : فعل العبد واقع بقدرة الله تعالى ، وإنما للعبد الكسب.

٩

الثاني : في عموم إرادته.

الثالث : لا حكم للعقل بالحسن والقبح. بمعنى استحقاق المدح والذم.

الرابع : لا قبيح من الله تعالى.

الفصل السادس : في تفاريع الأفعال. وفيه ستة مباحث :

الأول : الهدى قد يراد به الامتداد.

الثاني : في اللطف والتوفيق.

الثالث : في الأجل والوقت.

الرابع : الرزق ما ساقه الله فانتفع به.

الخامس : السعر تقدير ما يباع الشيء.

السادس : ادعاء المعتزلة في أمور تجب على الله سبحانه وتعالى.

وهذا المبحث الأخير يعتبر في غاية النفاسة. ولقد رد على المعتزلة رد الحكيم العالم الفاهم كل الفهم لشرع الله سبحانه وتعالى.

الفصل السابع : في أسماء الله تعالى ، وفيه مباحث :

ثم بعد ذلك عرج في الفصل السابع والأخير على أسماء الله تعالى. وذكر أن الكثير من العلماء تناولوا هذا الموضوع بالشرح والتحليل. وكان عمله فيه التوفيق بين الآراء وتوضيح نقاط الخلاف بينهم على أنه خلاف لفظي ما دام الجميع يسعى إلى تقديس الله سبحانه وتعالى ، وتحقيق العبودية الكاملة لخالق الأرض والسماء.

ولا يسعنا في ختام هذه المقدمة إلا أن نقدم خالص التحية والتقدير لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب إلى النور بالصورة التي أرضت الكثيرين من طلاب المعرفة والمشتغلين بالفكر الجاد الذي يثري الحياة ويكتسح أمامه فلول الكفر والإلحاد.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وبالله التوفيق.

القاهرة في ٢٣ من ذي القعدة سنة ١٤٠٥ ه‍

الموافق ٩ من أغسطس سنة ١٩٨٥ م

د. عبد الرحمن عميرة

١٠

المقصد الخامس

في الإلهيات

وفيه فصول

الأول : في الذات.

الثاني : في التنزيهات.

الثالث : في الصفات الوجودية

الرابع : في أحواله.

الخامس : في أفعاله.

السادس : في تفاريع الأفعال

السابع : في أسمائه تعالى.

١١
١٢

الفصل الأوّل

في الذات

وفيه مباحث :

١ ـ في إثباته وفيه طريقان.

٢ ـ الاستدلال بعالم الأجسام على وجود الصانع.

٣ ـ ذات الواجب تخالف الممكنات.

٤ ـ الواجب لا يحتاج إلى إثبات كونه أزليا أبديا.

١٣
١٤

المبحث الأول

في إثباته

وفيه طريقان :

قال :

(المبحث الأول في إثباته (١) وفيه طريقان ، للمتكلمين والحكماء حاصلها أنه لا بد للموجودات الممكنة من موجد واجب ، والمحدثة من محدث قديم لاستحالة الدور والتسلسل ، وقد يتوهم الاستغناء عن بطلان الترجيح بدون مرجح. فيقال :

لا بد من موجود لا يحتاج إلى الغير دفعا للدور والتسلسل أو عن بطلان الدور والتسلسل فيذكر وجوه.

الأول : لو لم يكن في الموجودات واجب لزم وجود الممكن من ذاته وفساده بيّن.

الثاني : مجموع الممكنات أعني المأخوذ بحيث لا يخرج عنها واحد ، لا بد لها لإمكانها من مستقل بالفاعلية ، وهو لا يجوز أن يكون نفسها ، ولا كل جزء منها ، وهو

__________________

(١) يرى بعض العلماء : أن وجود الله : إنما هو أمر بديهي لا ينبغي أن يتحدث فيها المؤمنون نفيا أو إثباتا ولا سلبا ولا إيجابا ، ويرون أن وجود الله من القضايا المسلمة التي لا توضع في الأوساط الدينية موضع البحث ، لأنها فطرية. وأن كل شخص يحاول وضعها موضع البحث إنما هو شخص في إيمانه دخل وفي دينه انحراف فما خفى الله قط حتى يحتاج إلى أن يثبته البشر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ومن المعروف أن الدين الإسلامي لم يجيء لإثبات وجود الله وإنما جاء لتوحيد الله.

والقرآن يتحدث عن بداهة وجود الله حتى عند ذوي العقائد المنحرفة يقول سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). إنهم يقولون إن الخالق هو الله مع أنهم مشركون أو منحرفون بوجه من الوجوه في إيمانهم بالله.

سئل أحد العارفين عن الدليل على الله.

فقال : الله.

فقيل له فما بالعقل ..؟ فقال العقل عاجز لا يدل إلا على عاجز مثله.

راجع الإسلام والعقل ص ١٥٠ والطريق إلى الله ص ٨.

١٥

ظاهر ، ولا بعض الأجزاء لأنه كونه علة لنفسه ولعلله ، ولأنه يفتقر إلى بعض آخر ، فلا يستقل ، ولأن كل جزء ففرض فعلته أولى فتعين كونه خارجا وهو الواجب تعالى.

الثالث : لا بد لمجموع الممكنات من علة بها يجب وجوده ، ويمتنع عدمه ، ولا شيء من آحاد الجملة كذلك ، لأن كل أحد منها محتاج إلى آخر ، فلا وجوب بالنظر إليه.

الرابع : مبدأ الحوادث بالاستقلال لو لم يكن واجبا أو مشتملا عليه ، فإن كان له علة من خارج بطل الاستقلال ، وإلا فإن امتنع قبل وجود الحادث لزم الانقلاب.

وإن أمكن لزم الترجيح ولا مرجح ، وفي استغناء هذه الوجوه عن إبطال التسلسل نظر).

قوله : المقصد الخامس في الإلهيات أي المباحث المتعلقة بذات الله تعالى ، وتنزيهاته وصفاته ، وما يجوز عليه ، وما لا يجوز وأفعاله وأسمائه. فلذا (١) جعل المقصد ستة فصول.

يشتمل الأول منها على تقرير الأدلة على وجود الواجب ، وعلى تحقيق أن ذاته هل تخالف سائر الذوات ..؟

وطريق إثبات الواجب عند (٢) الحكماء. انه لا شك في وجود موجود ، فإن كان واجبا فهو المرام ، وإن كان ممكنا فلا بد له من علة بها يترجح وجوده ، وينقل الكلام إليه. فإذن يلزم الدور أو التسلسل وهو محال ، أو ينتهي إلى واجب وهو المطلوب.

وعند المتكلمين (٣). أنه قد ثبت حدوث العالم. إذ لا شك في وجود حادث ،

__________________

(١) في (ب) فلهذا.

(٢) ذكر صاحب كتاب المواقف : أن للقوم في إثبات الصانع مسالك خمسة ، وجعل المسلك الثاني للحكماء. راجع ما كتبه عنهم في الموقف الخامس ج ٨ ص ٥ ، ٦.

(٣) قال صاحب المواقف : ما ذكره المتكلمون من حدوث العالم. وهو الاستدلال بحدوث الجواهر هي طريقة الخليل صلوات الله عليه حيث قال : (لا أحب الآفلين) أي لا أحبهم فضلا عن عبادتهم ، لأن ـ

١٦

وكل حادث ، فيها لضرورة له محدث ، فإما أن يدور أو يتسلسل وهو محال ، وإما أن ينتهي إلى قديم لا يفتقر الى سبب أصلا وهو المراد بالواجب ، فكلا (١) الطريقين مبني على امتناع وجود الممكن (٢) أو الحادث بلا موجد ، وعلى استحالة الدور والتسلسل. والمتكلمون لما لم يقولوا بقدم شيء من الممكنات ، كان إثبات القديم ، إثباتا للواجب. ولا يرد عليهما ما جوزه الحكماء من تعاقب الحوادث من غير بداية ، كالحركات والأوضاع الفلكية.

أما أولا : فلما مر في مسألة حدوث العالم.

وأما ثانيا : فلأن ذلك إنما هو في المعلات دون العلل الموجدة التي لا بد من وجودها مع وجود المعلول ، وتوهم بعضهم أنه يمكن الاستدلال على وجود الواجب بحيث لا يتوقف على امتناع الترجيح بلا مرجح.

بأن يقال : لا بد أن يكون في الموجودات موجود لا يفتقر الى الغير ، دفعا للدور والتسلسل ، ولا معين (٣) للواجب سوى هذا وفيه نظر لأن مجرد الاستغناء عن الغير لا يقتضي الوجوب وامتناع العدم إلا على تقدير بطلان الترجيح (٤) بلا مرجح ، وإلا لجاز أن يكون المستغني عن الغير يوجد تارة ويعدم أخرى من غير أن يكون ذلك الوجود والعدم (٥) لذاته ولا لغيره بل بمجرد الاتفاق ، ومنهم من توهم صحة الاستدلال بحيث لا يفتقر الى إبطال الدور أو التسلسل وذلك لوجوه :

__________________

ـ الأفل حادث لحدوث عارضه الدال على حدوثه أعني الأفول. وما هو حادث فله محدث غيره فلا يكون مبدأ لجميع الحوادث فلا يكون صانعا للعالم.

راجع المواقف ج ٨ ص ٢ ، ٣.

(١) في (ب) وكلا بدلا من (فكلا).

(٢) الممكن هو الذي يتساوى فيه الوجود والعدم ، وهو إحدى مقولات الجهة ويقابله الممتنع والضروري. قال ابن سينا : الممكن الوجود : هو الذي ، متى فرض غير موجود أو موجودا لم يعرض منه محال والواجب الوجود : هو الضروري الوجود ، والممكن الوجود. هو الذي لا ضرورة فيه بوجه. أي لا في وجوده ، ولا في عدمه. راجع النجاة ص ٣٦٦.

(٣) في (ب) ولا معنى.

(٤) في (ب) الترجح.

(٥) سقط من (١) لفظ (الوجود).

١٧

الأول : لو لم يكن في الموجودات واجب لكانت بأسرها ممكنة ، فيلزم وجود الممكنات لذواتها ، وهو محال ، وفيه نظر لأن وجود الممكن من ذاته. أنه يلزم لو لم يكن كل ممكن مستند الى ممكن آخر إلى (١) ما لا نهاية وهو معنى التسلسل ، وإن أريد مجموع الممكنات من حيث هي فلا بد من بيان أن علتها ليس نفسها (٢) ولا جزء عنها بل خارجا عنها وذلك أحد أدلة إبطال التسلسل ، وبهذا يظهر أن الوجه الثاني مشتمل على إبطال التسلسل وتقريره أن مجموع الممكنات أعني المأخوذ بحيث لا يخرج عنه واحد منها ممكن بطريق الأولى ، وكل ممكن فله بالضرورة فاعل مستقل أي مستجمع لجميع شرائط التأثير ، وفاعل مجموع الممكنات ، لا يجوز أن يكون نفسها ، وهو ظاهر ولا كل جزء منه ، وإلا لزم توارد العلل المستقلة على معلول واحد ، مع لزوم كون الشيء علة (٣) لنفسه ولعلله ، لأن المستقل بعلة المركب يجب أن يكون علة لكل جزء منه ، إذ لو وقع شيء من الأجزاء بعلة أخرى بطل الاستقلال ، ولا بعض الأجزاء منه.

أما أولا : فلأنه يلزم أن يكون علة لنفسه ، ولعلله على ما مر.

وأما ثانيا : فلأنه معلول لجزء آخر لأن التقدير أن كل جزء فرض فهو ممكن يستند إلى ممكن آخر ، فلا يكون مستقلا بالفاعلية (٤).

وأما ثالثا : فلأن كل جزء فرض كونه مستقلا بفاعلية ذلك الجموع فعلته أولى بذلك لكونه أقدم وأكثر تأثيرا ، وأقل احتياجا ، فلا يتعين شيء من الأجزاء لذلك ، فتعين كون المستقل بفاعلية جميع (٥) الممكنات خارجا عنها والخارج عن مجموع (٦) الممكنات يكون واجبا بالضرورة ، وأنت خبير بأن هذا أول الأدلة المذكورة لبطلان

__________________

(١) في (ب) لا الى نهاية.

(٢) سقط من (ب) من أول : وان أريد الى (ابطال التسلسل).

(٣) سقط من (ج) لفظ (علة).

(٤) في (ب) كونه بدلا من أن يكون).

(٥) الفاعلية : هي النشاط ، أو الممارسة ، أو استخدام الطاقة ، تقول فاعلية الفكر : أي نشاطه.

راجع المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية.

(٦) في (ب) مجموع بدلا من جميع.

١٨

التسلسل ، وقد سبق الكلام فيه تقريرا واعتراضا وجوابا ، فلا حاجة إلى الإعادة.

الوجه الثالث : مجموع الممكنات ممكن ، وكل ممكن فله علة بها يجب وجوده لأن الممكن ما لم يجب وجوده لم يوجد على ما مر والعلة التي بها يجب وجود المجموع المركب من الممكنات الصرفة لا يجوز أن يكون بعضا من جملتها لأن كل بعض يفرض فله علة يفتقر هو إليها. فلا يتحقق وجوب الوجود بالنظر الى مجرد وجوده ، فتعين أن يكون خارجا عنها وهو الواجب ، وهذا (١) بخلاف المجموع المفروض (٢) عن الواجب والممكنات ، فإن بعضا (٣) منه أعني الواجب بحيث يتعين للعلية ، ويتحقق الوجوب بالنظر إليه ، ولما كان وجوب الوجود في قوة امتناع العدم ، كان بهذا تقريرا آخر ، وهو أنه لا بد لمجموع الممكنات من فاعل مستقل يمتنع عدمها بالنظر الى وجوده ، ولا شيء من أجزاء المجموع كذلك. ولا خفاء في رجوع هذا إلى بعض أدلة إبطال التسلسل ، وورود المنع بأن ما بعد المعلول المحض إلى (٤) ما لا نهاية. كذلك. أي يجب به وجود المجموع ويمتنع عدمه.

الوجه الرابع : أن العلة التامة للحادث المقارنة له في أن حدوثه ضرورة امتناع تخلف المعلول عن العلة ، أو تقدمه عليها ، لو لم يكن واجبا أو مشتملا عليه لزم المحال (٥) لأنها لو كانت ممكنة بتمامها ، فإما أن يكون لها علة من خارج ، فلا تكون تامة لاحتياج الحادث إلى تلك العلة الخارجة أيضا ، وقد فرضناها تامة هذا خلف.

وإما أن لا يكون لها علة من خارج وحينئذ (٦) إما أن يمتنع وجودها قبل ذلك الحادث فيلزم الانقلاب من الامتناع الذاتي (٧) إلى الإمكان الذاتي (٨) ، وإما أن

__________________

(١) في (أ) الخلاف بدلا من (بخلاف).

(٢) في (أ) عن وفي (ب) (من).

(٣) في (أ) بعضها.

(٤) في (ب) لا إلى نهاية.

(٥) في (ب) الحال.

(٦) في (ب) وهي.

(٧) سقط من (ج) الذاتي.

(٨) في (أ) بزيادة لفظ (الذاتي).

١٩

يمكن فيكون اختصاصها بالزمن المعين ترجيحا بلا مرجح وفيه نظر.

أما أولا : فانتقاضه بالجملة المشتملة على الواجب والدفع الدفع.

وأما ثانيا : فلأنا نختار أن وجود تلك العلة قبل الحادث ممتنع دائما ومعه ممكن دائما ولا انقلاب ، وإنما يلزم الانقلاب لو امتنع الحادث وأمكن معه على أن الظرف متعلق بالامتناع ، وقد سبق مثل ذلك.

٢٠