شرح المقاصد - ج ٤

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٤

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٥

خاتمة

(قال : خاتمة.

قدرة الله تعالى غير متناهية. بمعنى أن جواز تعلقها لا ينقطع ، وشاملة للكل بمعنى أن تعلقها لا يقتصر على البعض ، لأن المقتضى للقادرية هو الذات. والمصحح للمقدورية هو الإمكان ، ولا تمايز قبل الوجود يخصص البعض ، والأولى التمسك بمثل : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١)).

قال : خاتمة قدرة الله تعالى غير متناهية. إما بمعنى أنها ليست لها (٢) طبيعة امتدادية تنتهي إلى حد ونهاية ، أو بمعنى أنها لا يطرأ عليها العدم ، فظاهر لا يحتاج إلى التعرض ، وإما بمعنى أنها لا تصير بحيث يمتنع تعلقها فلأن ذلك عجز ونقص (٣) ولأن كثيرا من مخلوقاته أبدية كنعيم الجنان ، وذلك بتعاقب جزئيات لا نهاية لها بحسب القوة والإمكان ، ولأن المقتضى للقادرية هو الذات ، والمصحح للمقدورية هو الإمكان ، ولا انقطاع لهما ، وبهذا استدلوا على شمول قدرة الله تعالى لكل موجود ممكن بمعنى أنه يصح تعلقها به ، ولما توجه عليه أنه لم لا يجوز اختصاص بعض الممكنات بشرط التعلق القدرة ، أو مانع عنه ، ومجرد (٤) وجوده (٥) المقتضى ، والمصحح لا يكفي بدون وجود الشرط وعدم المانع.

أجيب : بأنه لا تمايز للممكنات قبل الوجود ليختص البعض بشرائط التعلق وموانعه دون البعض ، وهذا ضعيف على ما سبق ، فالأولى التمسك بالنصوص الدالة على شمول قدرته مثل : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦).

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٨٤.

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (لها).

(٣) في (ب) ونقص بدلا من (نقص).

(٤) في (ب) وتجرد بدلا من (ومجرد).

(٥) سقط من (أ) لفظ (وجوده).

(٦) سورة البقرة آية رقم ٢٨٤.

١٠١

مخالفة المجوس في شمول القدرة

(قال : وخالف المجوس.

في الشرور حتى الأجسام المؤذية والنظام في خلق الجهل والكذب وسائر القبائح ، وعبّاد فيما علم تعالى. أنه لا يقع لامتناع وقوعه عنه ، والبلخي في مثل مقدور العبد لكونه عبثا أو سفها أو تواضعا. ورد بعد تسليم الحصر بأنها عوارض لا تمنع التماثل والجبائي في عينه لأن المقدور بين قادرين يستلزم صحة مخلوق بين خالقين ، ونحن نمنع اللزوم بناء على أن قدرة العبد غير مؤثرة ، وأبو الحسن بطلان اللازم كما في حركة جوهر ملتصق بكفي جاذب. ودافع معا).

قال : وخالف المجوس (١) المنكرون لشمول قدرة الله تعالى. طوائف منهم المجوس القائلون بأنه لا يقدر على الشرور حتى خلق الأجسام المؤذية. وإنما القادر على ذلك فاعل آخر عندهم (أهرمن) لئلا يلزم كون الواحد خيرا شريرا ، وقد عرفت ذلك. ومنهم النظّام (٢) وأتباعه القائلون بأنه لا يقدر على خلق الجهل والكذب والظلم ، وسائر القبائح ، إذ لو كان خلقها مقدورا له لجاز صدورها عنه ، واللازم باطل

__________________

(١) المجوس : هم عبدة النيران القائلين أن للعالم أصلين ، نور وظلمة ، قال قتادة : الأديان خمسة. أربعة للشيطان وواحد للرحمن ، وقيل المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات. والميم والنون. يتعاقبان كالغيم والغين ، والأيم والأين.

راجع تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢٣.

(٢) هو إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري أبو إسحاق النظام : من أئمة المعتزلة قال الجاحظ «الأوائل يقولون في كل الف سنة رجل لا نظير له فان صح ذلك فأبو اسحاق من أولئك «تبحر في علوم الفلسفة واطلع على أكثر ما كتبه رجالها صاحب فرقة تسمى (النظامية) نسبة إليه في لسان الميزان : أنه منهم بالزندقة وكان شاعرا اديبا ولمحمد عبد الهادي أبي ربدة كتاب (إبراهيم بن سيار) توفي سنة ٢٣١ ه‍.

راجع اللباب ٣ : ٢٣٠ وخطط المقريزي ١ : ٣٤٦ والنجوم الزاهرة ٢ : ٢٣٤.

١٠٢

لإفضائه إلى السفه (١) إن كان عالما بقبح ذلك ، وباستغنائه عنه وإلى الجهل إن لم يكن عالما.

والجواب : لا نسلم قبح الشيء بالنسبة إليه ، كيف وهو تصرف في ملكه؟. ولو سلم : فالقدرة عليه لا تنافي امتناع صدوره عنه نظرا إلى وجود الصارف وعدم الداعي ، وإن كان ممكنا في نفسه ، ومنهم ابن عبّاد (٢) وأتباعه القائلون بأنه ليس بقادر على ما علم أنه لا يقع لاستحالة وقوعه. قال في المحصل (٣) وكذا ما علم (٤) أنه يقع لوجوبه.

والجواب : أن مثل هذه الاستحالة لا تنافي المقدورية ومنهم أبو القاسم البلخي المعروف بالكعبي ، وأتباعه القائلون ، بأنه لا يقدر على مثل مقدور العبد حتى لو حرك جوهرا إلى حيز وحركه العبد إلى ذلك الحيز لم تتماثل الحركتان ، وذلك لأن فعل العبد إما عبث أو سفه أو تواضع بخلاف فعل الرب. وفي عبارة المحصل بدل التواضع الطاعة. وعبارة المواقف ، إما طاعة أو معصية ، أو سفه ، وليست على ما ينبغي لأن السفه ، وإن جاز أن يجعل شاملا للعبث ، فلا خفاء في شمولية المعصية أيضا.

والجواب : منع الحصر ككثير من المصالح الدنيوية.

فإن قيل : المشتمل على المصلحة المحضة ، أو الراجحة طاعة وتواضع.

قلنا : ممنوع. بل إذا كان فيه امتثال وتعظيم للغير ، وهذا لا يتصف به فعل الرب ، وإن اشتمل على المصلحة.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (السفه).

(٢) هو معمر بن عباد السلمي : معتزلي من الغلاة ، من أهل البصرة. سكن بغداد ، وناظر النظام ، وكان أعظم القدرية غلوا ، انفرد بمسائل منها أن الإنسان يدبر الجسد وليس بحال فيه. ووصف الإنسان بوصف الإلهية تنسب إليه طائفة تسمى (بالمعمرية) توفي سنة ٢١٥ ه‍ راجع خطط المقريزي ٢ : ٣٤٧.

ولسان الميزان ٦ : ٧١ واللباب ٣ : ١٦١.

(٣) سبق التعريف بهذا الكتاب.

(٤) في (ب) المعلم بدلا من (ما علم).

١٠٣

ولو سلّم الحصر ، فالمقدور في نفسه حركات وسكنات ، وتلحقه هذه الأحوال والاعتبارات بحسب قصد العبد وداعيته. وليست من لوازم الماهية. فانتفاؤها لا يمنع التماثل ، ومنهم الجبائيّ (١) وأتباعه القائلون بأنه لا يقدر على نفس مقدور العبد ، لأنه لو صح مقدور بين قادرين لصح مخلوق بين خالقين ، لأنه يجب وقوعه بكل منهما عند تعلق الإرادة لما سبق من وجوب حصول الفعل عند خلوص القدرة والداعي. وقد عرفت امتناع اجتماع المؤثرين على أثر واحد.

والجواب عندنا : منع الملازمة بناء على أن قدرة العبد ليست بمؤثرة وسيجيء إن شاء الله تعالى.

ولو سلّم : فإنما يتم خلوص الداعي والقدرة لو لم يكن تعلق القدرة أو الإرادة للآخرة مانعا.

ولو سلّم فيجوز أن يكون واقعا بهما جميعا ، لا بكل منهما ليلزم المحال. وعند أبي الحسين البصريّ (٢) ، منع بطلان اللازم ، فإنا إذا فرضنا التصاق جوهر واحد بكفي إنسانين ، فجزية أحدهما حال ما دفعه الآخر ، فإن الحركة الحاصلة فيه مستندة إلى كل منهما وفيه نظر.

__________________

(١) هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائيّ ابو علي : من أئمة المعتزلة ، ورئيس علماء الكلام في عصره. وإليه نسبة الطائفة المعروفة بالجبائية له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب نسبته إلى (جبي) من قرى البصرة ، اشتهر في البصرة ومات سنة ٣٠٣ ه‍ ودفن بجبّى ، له تفسير حافل مطول رد عليه الأشعرىّ.

راجع المقريزي ٢ : ٣٤٨ ، ووفيات الأعيان ١ : ٤٨٠ والبداية والنهاية ١١ : ١٢٥. ومفتاح السعادة ٢ : ٣٥.

(٢) ـ سبق الترجمة له.

١٠٤

شمول قدرة الله تعالى

(قال : وأما شمول قدرته

بمعنى أن الكل بإيجاده ابتداء أو بواسطة (١) فلم يقع من القائلين بالصانع نزاع في ذلك. بل في تفاصيله وبمعنى أنه لا مؤثر سواه أصلا فلم يذهب إليه إلا البعض من المتكلمين. تمسكا بظواهر النصوص ، وهو الحق. وبدليل التوارد والتمانع ، وفيهما ضعف).

قال : وأما شمول قدرته ما مرّ من الاختلاف كان في شمول قدرة الله تعالى بمعنى كونه قادرا على كل ممكن سواء تعلق به القدرة والإرادة فوجد أم لا؟ فلم يوجد أصلا ، أو وجد بقدرة مخلوق ، وعلى هذا لا يتأتى اختلافات والفلاسفة ومن يجري مجراهم ممن لا يقول بكونه قادرا مختارا ، وقد يفسر شمول قدرته بأن كل ما يوجد من الممكنات فهو معلول له بالذات أو بالواسطة ، وهذا مما لا نزاع فيه لأحد من القائلين بوحدة الواجب. وإنما الخلاف في كيفية الاستناد ووجود الوسائط وتفاصيلها ، وأن كل ممكن (٢) أي إلى أي ممكن يستند حتى ينتهي إلى الواجب ، وقد تفسر شمول قدرته بأن ما سوى الذات والصفات من الموجودات واقع بقدرته وإرادته ابتداء بحيث لا مؤثر سواه ، وهذا مذهب أهل الحق من المتكلمين ، وقليل ما هم ، وتمسكوا بوجوه.

الأول : النصوص الدالة إجمالا على أنه خالق الكل لا خالق سواه (٣) وتفصيلا على أنه خالق السموات والأرض ، والظلمات والنور (٤) ، والموت والحياة ، وغير ذلك من الجواهر والأعراض.

__________________

(١) في (ج) أو بوسط.

(٢) في (أ) بزيادة (أي).

(٣) قال تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ). الأنعام آية ١٠٣.

(٤) قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) الأنعام آية رقم ١

١٠٥

الثاني : دليل التوارد وهو أنه لو وقع شيء بقدرة الغير ، وقد عرفت أنه مقدور لله تعالى أيضا ، فلو فرضنا تعلق الإرادتين به معا فوقوعه إما بإحدى القدرتين ، فيلزم الترجيح بلا مرجح ، وإما بهما فيلزم توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد ، لأن التقدير أن كلا منهما مستقل بالإيجاد ، فلا يجوز أن تكون العلة هي المجموع ، وهذا بخلاف حركة الجوهر الملتصق بكفي جاذب ودافع ، فإنه لا دليل على استقلال كل منهما بإيجاد تلك الحركة على الوجه المخصوص.

نعم : يرد عليه أن قدرة الله تعالى أكمل فيقع بها ، وتضمحل قدرة العبد.

الثالث : دليل التمانع ، وهو أنه لو وقع شيء بإيجاد الغير ، وفرضنا تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بضد ذلك الشيء في حال إيجاد الغير ذلك الشيء كحركة جسم وسكونه في زمان بعينه ، فإن وقع الأمران جميعا لزم اجتماع الضدين ، وإن لم يقع شيء منهما لزم عجز الباري ، وتخلف المعلول عن تمام العلة ، وخلو الجسم عن الحركة والسكون ، وإن وقع أحدهما لزم الترجيح بلا مرجح ، وفيه ما قد عرفت ، لا يقال معنى كون قدرته أكمل أنها أشمل أي أكثر إيجادا ، ولا أثر لهذا التفاوت في المقدور المخصوص ، بل نسبة القدرتين إليه على السواء. لأنا نقول : بل معناه أنها أقوى ، وأشد تأثيرا ، فيترجح على قدرة العبد ، ويظهر أثرها.

١٠٦

مخالفة الفلاسفة

(قال : وخالفت الفلاسفة :

في الأفلاك والعناصر وما فيها من الحوادث بل فيما سوى العقل الأول. وقد سبق والصائبة والمنجمون في حوادث هذا العالم حيث أسندوها إلى الأفلاك والكواكب بما لها من الأوضاع والحركات الطبيعية حيث أسندوها إلى الأمزجة والطبائع. وغاية متشبثهم الدوران.

والمعتزلة في الشرور والقبائح والأفعال الاختيارية للحيوانات وسيأتي).

وخالفت الفلاسفة القول ، بأنه لا مؤثر في الوجود سوى الله تعالى ، مذهب البعض من أهل السنة كالأشاعرة (١) ومن يجري مجراهم ، وخالف فيه أكثر الفرق من المليين وغيرهم.

فذهبت الفلاسفة إلى أن الصادر عنه بلا واسطة هو العقل الأول (٢) ، وهو مصدر عقل ونفس وفلك ، وهكذا ترتيب المعلولات مستندا بعضها إلى البعض.

فالفاعل للأفلاك عقول ، ولحركاتها نفوس ، وللحوادث بعض هذه المبادي أو

__________________

(١) الأشاعرة : نسبة إلى ابى الحسن الأشعريّ مؤسس الفرقة ، ويرى البعض أن مذهب الأشاعرة مذهب أهل السنة والجماعة ، والأشعرية ، هم تلاميذ الأشعريّ الذين تخرجوا عليه وغيرهم ممن جاء بعده ، وذهب مذهبه. ومنهم الباقلانيّ وابن فورك والأسفرايينيّ والقشيريّ والجوينيّ ، وإمام الحرمين والغزالي ، والأشعرية ، وإن كانوا يذهبون مذهب إمامهم في ان العقل يستطيع إدراك وجود الله إلا أنه ليس للعقل عندهم ما له من شأن عند المعتزلة فهو لا يوجب تحسينا ولا تقبيحا.

الموسوعة العربية الميسرة ص ١٦٦.

(٢) ـ الموجود الأول الصادر عن ذات الله تعالى ـ في نظر الفلاسفة ـ هو العقل الأول ، وهو ممكن الوجود بذاته. واجب الوجود بالكائن الأول ، أي الله ، وعلى هذا فالكائنات كلها ما خلا الله ممكن الوجود الفعلي من جهته هوياتها ولكي توجد بالفعل لا بد لها من علة فاعلة هي الله.

راجع الفلسفة العربية ج ٢ ص ١١٤.

١٠٧

الصور أو القوى بتوسط الحركات ، ولأفعال المعدنيات صورها النوعية ، ولأفعال النبات والحيوان نفوسها ، وبالجملة ، فأكثر الممكنات عندهم مؤثرات ، وذهب الصابئون (١) والمنجمون (٢) إلى أن كل ما يقع في عالم الكون والفساد من الحوادث والتغيرات مستندة إلى الأفلاك والكواكب ، بما لها من الأوضاع والحركات والأحوال والاتصالات ، وغاية متمسكهم في ذلك هو الدوران أعني ترتب هذه الحوادث على هذه الأحوال وجودا وعدما ، وهو لا يفيد القطع بالعلية ، لجواز أن تكون شروطا أو معلومات مقارنة أو نحو ذلك.

كيف : وكثيرا ما يظهر التخلف بطريق المعجزات والكرامات.

كيف : ومبنى علومهم على بساطة الأفلاك والكواكب ، وانتظام حركاتها على نهج واحد ، وهو ينافي ما ذهبوا إليه من اختلاف أحوال البروج (٣) والدرجات ، وانتسابها إلى الكواكب وغير ذلك من التفاصيل والاختصاصات ، وبالنظر إلى الدوران ، زعم الطبيعيون أن حوادث هذا العالم مستندة إلى امتزاج العناصر والقوى ، والكيفيات الحاصلة بذلك. ثم الظاهر أن ما نسب إلى المنجمين والطبيعيين هو مذهب الفلاسفة. إلا أنه (٤) لما (٥) لم يعرف مذهب الفريقين في مبادي

__________________

(١) الصابئون : جمع صابئ ، وقيل : صاب ولذلك اختلفوا في همزه وهمزه الجمهور إلا نافعا فمن همزه جعله من صبات النجوم إذا طلعت وصبأت تنبه الغلام إذا خرجت ، ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو ، إذا مال فالصابي في اللغة : من خرج ومال من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ فالصابئون قد خرجوا من دين اهل الكتاب ،.

(٢) طائفة من الناس تلجأ إلى حسابات الفلك واستعمال الشعبذة والتلاعب بعقول الآخرين وفي المثل (كذب المنجمون ولو صدقوا).

(٣) البرج : القصر وجمعه بروج. وقد جاء في القرآن على وجوه ثلاثة ، الأول : بمعنى مدار الكواكب ، (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ). سورة البروج آية ١ (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) الفرقان آية ٦١ ، الثاني : بمعنى القصور قال تعالى : (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) النساء آية ٧٨ ، أي قصور محكمة ، الثالث : بمعنى التزين والتوسع قال تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ) سورة الأحزاب آية ٣٣ وهذا كله مأخوذ من (المبرج) في اعتبار حسنه.

راجع بصائر ذوي التمييز ج ٢ ص ١٣٤.

(٤) (ب) أما بدلا من (إلا).

(٥) سقط من (ب) (لما).

١٠٨

الأفلاك والعناصر ، وإثبات العقول والنفوس ، وكون الباري موجبا أو مختارا ، جعل كل منهما فرقة من المخالفين ، وأما من المسلمين. فالمعتزلة أسندوا الشرور والقبائح إلى الشيطان(١) وهو قريب من مذهب القائلين بالنور والظلمة ، وأسندوا الأفعال الاختيارية للإنسان وغيره من الحيوانات البهم ، وهو مسألة خلق الأعمال وستأتي.

فإن قيل : الفلاسفة والمعتزلة لا يقولون بالقدرة ، فلا معنى لعدهم من المخالفين في شمولها.

قلنا : المراد بالقدرة هاهنا القادرية (٢) ، أي كونه قادرا ، ولا خلاف للمعتزلة في ذلك ، وكذا للفلاسفة ، لكن بمعنى لا ينافي الإيجاب على ما قيل : إن القادر هو الذي يصح أن يصدر عنه الفعل وأن لا يصدر ، وهذه الصحة هي القدرة ، وإنما يترجح أحد الطرفين على الآخر بانضياف وجود الإرادة أو عدمها إلى القدرة ، وعند اجتماعهما يجب حصول الفعل وإرادة الله تعالى علم خاص ، وعلمه وقدرته أزليان غير زائدين على الذات. فلهذا كان العالم قديما. والصانع موجبا بالذات. والحق أن هذا قول بالقدرة والإرادة لفظا لا معنى.

__________________

(١) الشيطان : هو كل عات متمرد من الإنس والجن ، والدواب ، والعرب تسمى الحية شيطانا وقوله تعالى (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) قال الفرّاء : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه شبه طلعها في قبحه برءوس الشياطين لأنها موصوفة بالقبح ، الثاني : أن العرب تسمى بعض الحيات شيطانا وهو ذو عرف قبيح ، الوجه الثالث : قيل إنه نبت قبيح يسمى رءوس الشياطين ، والشيطان نونه أصلية ، وقيل إنها زائدة فإن جعلته فيعالا من قولهم (تشيطن) الرجل صرفته وإن جعلته من تشيط لم تصرفه لأنه فعلان.

(٢) في (ب) القدرية.

١٠٩

المبحث الثالث

في

أنه تعالى عالم

(قال : المبحث الثالث في أنه عالم.

أما عندنا فإنه صانع للعالم على انتظامه ، وأحكامه ، ولأنه قادر مختار لما مرّ. وما يشاهد من بعض الحيوانات ، لو صح أنه فعلها لدل على عملها ، وأما التمسك بالسمعيات فدور).

اتفق عليه جمهور العقلاء ، والمشهور من استدلال المتكلمين وجهان :

الأول : أنه فاعل فعلا محكما متقنا ، وكل من كان ذلك فهو عالم ، أما الكبرى فبالضرورة ونبه عليه ، أن من رأى خطوطا مليحة ، أو سمع ألفاظا فصيحة ، تنبئ عن معادن دقيقة ، وأغراض صحيحة علم قطعا أن فاعلها عالم ، وأما الصغرى فلما ثبت من أنه خالق للأفلاك (١) والعناصر بما فيها من الأعراض والجواهر ، وأنواع المعادن والنبات ، وأصناف الحيوانات على اتساق ، وانتظام ، واتقان ، وإحكام تحار فيها العقول والأفهام ، ولا تعفى بتفاصيلها الدفاتر والأقلام على ما يشهد بذلك علم الهيئة (٢) ، وعلم التشريح ، وعلم الآثار العلوية ، والسفلية ، وعلم الحيوان والنبات ، مع أن الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلا ، ولم يجد إلى الكنه سبيلا.

فكيف إذا رقي إلى عالم الروحانيات من الأرضيات والسماويات ، وإلى ما يقول

__________________

(١) ـ الفلك السفينة ويستعمل ذلك للواحد والجمع ، وتقديراهما مختلفان فإن الفلك إن كان واحدا كان كبناء قفل ، فإن كان جمعا فكبناء حمر.

قال : «حتى إذا كنتم في الفلك» والفلك مجرى الكواكب ، وتسميته بذلك لكونه كالفلك قال : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وفلكة المغزل ومنه اشتق فلك ثدي المرأة ، وفلكت الحدى إذا جعلت في لسانه مثل فلكته يمنعه عن الرضاع.

راجع معجم مفردات الفاظ القرآن ص ٤٠٠.

(٢) ـ في (ب) البيئة بدلا من (الهيئة).

١١٠

به (١) الحكماء من المجردات. (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢).

فإن قيل : إن أريد الانتظام والإحكام من كل وجه بمعنى أن هذه الآثار مرتبة ترتيبا لا خلل فيه أصلا ، وملائمة للمنافع والمصالح المطلوبة منها بحيث لا يتصور ما هو أوفق (٣) منه وأصلح. فظاهر أنها ليست كذلك. بل الدنيا طافحة بالشرور (٤) والآفات ، وإن أريد في الجملة ومن بعض الوجوه ، فجل آثار المؤثرات من غير العقلاء ، بل كلها كذلك ، وأيضا قد أسند جمع من العقلاء الحكماء عجائب خلقة الحيوان ، وتكون تفاصيل الأعضاء إلى قوة عديمة الشعور سموها المصورة ، فكيف يصح دعوى كون الكبرى ضرورية ..؟.

قلنا : المراد اشتمال الآثار والأفعال على لطائف الصنع وهما الترتيب وحسن الملاءمة للمنافع ، والمطابقة للمصالح على وجه الكمال ، وإن استمل بالغرض على نوع من الخلل. وجاز أن يكون فوقه ما هو أكمل ، والعلم (٥) بأن مثل ذلك لا يصدر إلا عن العالم ضروري ، سيما إذا تكرر وتكثر ، وخفاء الضروري على بعض العقلاء جائز ، وما يقال : لم لا يكفي الظن مدفوع بالتكرر والتكثر ، وبأنه يكفي في إثبات غرضنا التصور.

الثاني : أنه قادر أي فاعل بالقصد والاختيار لما مرّ ، ولا يتصور ذلك إلا مع العلم بالمقصود.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (به).

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٦٤ وقد جاءت هذه الآية محرفة وبذلك بنقص قوله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ).

(٣) في (ب) أرفق بدلا من (أوفق).

(٤) في (ب) طامحة بالميم لا (الفاء).

(٥) في (أ) والحكم بدلا من (العلم).

١١١

فإن قيل : قد يصدر عن الحيوانات العجم بالقصد والاختيار أفعال محكمة ، متقنة في ترتيب مساكنها ، وتبرير معايشها كما النحل (١) ، والعنكبوت (٢) ، وكثير من الوحوش والطيور على ما هو في الكتب مسطور ، وفما بين الناس مشهور مع أنها ليست من أولى العلم.

قلنا : لو سلّم أن موجد هذه الآثار هو هذه الحيوانات ، فلم لا يجوز أن يكون فيها من العلم قدر ما تهتدي به إلى ذلك. بأن يخلقها الله تعالى عالمة بذلك ، أو يلهمها هذا العلم حين ذلك الفعل ، ثم المحققون من المتكلمين على أن طريقة القدرة والاختيار أوكد ، وأوثق من طريقة الإتقان والإحكام ، لأن عليها سؤالا صعبا ، وهو أنه لم لا يجوز أن يوجب الباري تعالى موجدا يستند إليه تلك الأفعال المتقنة المحكمة ، ويكون له العلم والقدرة ، ودفعه بأن إيجاد مثل ذلك الموجود ، وايجاد العلم والقدرة فيه أيضا (٣) ، فعلا محكما ، بل أحكم ، فيكون فاعله عالما لا يتم إلا ببيان أنه قادر مختار ، إذ الإيجاب بالذات من غير قصد لا يدل على العلم ، فيرجع طريق الإيقان إلى طريق القدرة مع أنه كاف في إثبات المطلوب ، وقد يتمسك في كونه عالما بالأدلة السمعية من الكتاب والسنة والإجماع.

__________________

(١) النحل سمي نحلا لأن الله عزوجل نحله العسل الذي يخرج منه قاله الزجاج. والنحل والنحلة الدبر يقع على الذكر والانثى حتى يقال : يعسوب والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز ، وروى ابن عباس قال : نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد ، أخرجه أبو داود وذكره الترمذي عن الحكيم في نوادر الأصول ، ومن عجيب ما خلق الله في النحل أن ألهمها لاتخاذ بيوتها مسدسة ، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة ، وذلك أن الأشكال من المثلث إلى المعشر ، إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل وجاءت بينهما فرج إلا الشكل المسدس ، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل كأنه كالقطعة الواحدة.

(٢) قالوا : العنكبوت : الدويبة المعروفة التي تنسج نسجا رقيقا مهلهلا بين الهواء وهي عناكيب وعناكب وعكاب وعكب قال عطاء الخراسانيّ نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان جالوت يطلبه ، ومرة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك نهى عن قتلها. وقال النحاة : إن تاء العنكبوت في آخرها مزيدة لأنها تسقط في التصغير والجمع وهي مؤنثة وحكى الفراء تذكيرها فأنشد :

على هطالهم منهم بيوت

كأن العنكبوت قد ابتناها

راجع تفسير القرطبي ح ١٣ ص ٣٤٤ ، ٣٤٥.

(٣) سقط من (أ) لفظ (فيه).

١١٢

ويرد عليه أن التصديق بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب يتوقف على التصديق بالعلم والقدرة فيدور ، وربما يجاب بمنع التوقف ، فإنه إذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات ، حصل العالم بكل ما أخبروا به ، وإن لم يخطر بالبال كون المرسل عالما والظاهر أن هذا مكابرة.

نعم يتجه ذلك في صفة الكلام على ما صرح به الإمام.

١١٣

أدلة الفلاسفة

(قال : وعند الفلاسفة.

لأنه مجرد وكل مجرد عالم ، ولأنه عالم بذاته وهو مبدأ للكل ، والعلم بالمبدإ مستلزم للعلم بذي المبدأ).

قال : وعند الفلاسفة. أورد (١) من استدلالهم على علم الباري وجهان :

الأول : أنه مجرد أي ليس بجسم ولا جسماني لما مرّ ، وكل مجرد عاقل ، أي عالم بالكليات لما وقعت الإشارة إليه في مباحث المجردات من أن التجرد يستلزم التعقل ، وبيانه أن التعقل يستلزم إمكان المعقولية لأن المجرد بريء عن الشوائب المادية ، واللواحق الغريبة وكل ما هو كذلك لا يحتاج إلى عمل يعمل به حتى يصير معقولا. فإن لم يعقل ، كان كذلك من جهة القوة العاقلة ، لا من جهته ، وإمكان المعقولية يستلزم إمكان المصاحبة (٢) بينه ، وبين العاقل إياه ، وهذا الإمكان لا يتوقف على حصول المجرد في جوهر العاقل ، لأن حصوله فيه نفس المصاحبة ، فتوقف إمكان المصاحبة على حصول المجرد فيه توقف إمكان الشيء على وجوده المتأخر عنه ، وهو محال.

إذ المجرد سواء وجد في العقل أو في الخارج يلزمه إمكان مصاحبة المعقول ، ولا

__________________

(١) في (أ) ورد بدلا من (أورد).

(٢) الصاحب الملازم إنسانا كان أو حيوانا أو مكانا أو زمانا ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن وهو الأصل والأكثر أو بالعناية والهمة وعلى هذا قال :

لئن غبت عن عيني

لما غبت عن قلبي

ويقال للمالك للشيء هو صاحبه وكذلك لمن يملك التصرف فيه. والمصاحبة والاصطحاب أبلغ من الاجتماع لأجل أن المصاحبة تقتضي طول لبثه فكل اصطحاب اجتماع وليس كل اجتماع اصطحابا ، والأصحاب للشيء الانقياد له.

راجع معجم مفردات ألفاظ القرآن. ص ٢٨٢.

١١٤

معنى للتعقل إلا المصاحبة ، فإذا كل مجرد يصح أن يعقل غيره ، وكل ما يصح للمجرد يجب أن يكون بالفعل لبراءته عن أن يحدث فيه ما هو بالقوة ، لأن ذلك شأن الماديات ، ولا خفاء في ضعف بعض هذه المقدمات ، وفيه أنه لو صح أن مصاحبة المجرد للمعقولات في الوجود تعقل (١) لها ، لكفى ذلك في إثبات المطلوب من غير احتياج إلى سائر المقدمات.

الثاني : أنه عالم بذاته لأنه لا معنى لتعقل المجرد ذاته ، سوى حضور ذاته عند ذاته ، بمعنى عدم غيبته عنه لاستحالة حصول المثال لكونه اجتماعا للمثلين ، وهذا القدر وإن كان مبنيا على أصولهم ، كان في إثبات كونه عالما في الجملة. إلا أنهم حالوا إثبات علمه بما سواه. فقالوا :

هو عالم بذاته الذي هو مبدأ الممكنات لما ذكرنا. والعلم بالمبدإ أعني العلة. عالم بذي المبدأ أعني المعلول لأن العلم بالشيء يستلزم العلم بلوازمه ، والعلية وهي التي لا تعقل (٢) بدون المعلول ، بل المعلول نفسه ، وما يتبعه من المعلولات كلها من (٣) لوازم الذات.

واعترض : بأن لازم الذات ، وإن كان بلا وسط في الثبوت من لا يجب أن يكون لازما بينا يلزم من تعقل الذات تعقله لتساوي الزوايا الثلاث للقائمتين للمثلث ، ولو وجب ذلك لزم من العلم بالشيء العلم بجميع لوازمه القريبة والبعيدة لاستمراره الاندفاع من لازم إلى لازم.

وأجيب : بأن الكلام في العلم التام أعني العلم بالشيء بما له في نفسه ، ولا شك أن علم الباري بذلك كذلك.

__________________

(١) في (ب) تعلق بدلا من (تعقل).

(٢) سقط من (أ) لفظ (التي).

(٣) في (أ) بزيادة حرف الجر (من).

١١٥

أدلة القائلين بأن الباري لا يعلم ذاته

(قال : وقيل لا يعلم ذاته.

لأن العلم إضافة أو صفة ذات (١) إضافة فلا بدّ من الاثنينية ، ولا عبرة لإفضائه إلى كثرة في الذات وأيضا يلزم كون الواحد قابلا وفاعلا.

وأجيب بأن تغاير الاعتبار كاف كما في علمنا بأنفسنا ولا استحالة في كثرة الإضافات. وفي القابلية مع الفاعلية).

قيل : إنه لا يعلم ذاته القائلون بأنه ليس بعالم أصلا تمسكوا بوجهين :

أحدهما : أنه لا يصح علمه بذاته ولا بغيره. أما الأول فلأن العلم إضافة أو صفة ذات إضافة ، وأيا ما كان يقتضي اثنينية وتغايرا بين العالم والمعلوم ، فلا يعقل في الواحد الحقيقي.

وأما الثاني : فلأنه يوجب كثرة في الذات الأحدى من كل وجه ، لأن العلم بإحدى المعلومين ، غير العلم بالآخر للقطع بجواز العلم بهذا ، مع الذهول عن الآخر ، ولأن العلم صورة مساوية للمعلوم ، مرتسمة في العالم ، أو نفس الارتسام ، ولا خفاء في أن صور الأشياء المختلفة مختلفة ، فيلزم بحسب كثرة المعلومات ، كثرة الصور في الذات.

وثانيهما : أن العلم مغاير للذات لما سبق من الأدلة ، فيكون ممكنا معلولا له ضرورة امتناع احتياج الواجب في صفاته ، وكمالاته إلى الغير ، فيلزم كون الشيء قابلا وفاعلا وهو محال.

وأجيب عن الوجه الأول أولا بعد تسليم لزوم التغاير على تقدير كون العلم صفة ذات إضافة ، بأن تغاير الاعتبار كاف (٢) كما في علمنا بأنفسنا على ما سبق في بحث العلم ، لا يقال التغاير الاعتباري ، إنما هو بالمعلولية والمعلومية ، وهو فرع حصول

__________________

(١) سقط من (ج) أو صفة ذات إضافة.

(٢) في (ب) كان بدلا من (كاف).

١١٦

العلم ، فلو توقف حصول العلم على التغاير لزم الدور ، وإنما يرد النقص بعلمنا بأنفسنا لو كانت النفس واحدة من كل وجه ، كالواجب وهو ممنوع. فيجوز كونها عالمة من وجه ، معلومة من وجه.

لأنا نقول : إنما يلزم الدور لو كان توقف العلم على التغاير توقف سبق واحتياج ، وهو ممنوع ، بل غايته أنه لا ينفك عن العلم ، كما لا ينفك المعلول عن علته. والمراد بالنقص ، أن النفس تعلم ذاته التي هي عالمة ، لا أن يكون العالم شيئا ، والمعلوم شيئا آخر.

وثانيا : بأن علمه ليس إلا تعلقا بالمعلوم من غير ارتسام صورة في الذات فلا كثرة إلا في التعلقات والإضافات ، وتحقيقه على ما ذكر بعض المتأخرين أن حصول الأشياء له حصول للفاعل ، وذلك بالوجوب ، وحصول الصور (١) المعقولة لنا ، حصول للفاعل وذلك بالوجوب ، وحصول الصور المعقولة لنا ، حصول للقابل ، وذلك بالإمكان ، ومع ذلك فلا يستدعي صورا مغايرة لها ، فإنك تعقل شيئا بصورة يتصورها ويستحضرها ، فهي صادرة عنك بمشاركة ما من غيرك وهو الشيء الخارجي ، ومع ذلك ، فإنك لا تعقل تلك الصورة بغيرها ، بل كما تعقل ذلك الشيء بها ، كذلك (٢) تعقلها أيضا بنفسها من غير أن تتضاعف الصور فيك ، وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك هذه الحال ، فما ظنك بحال من يعقل ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة الغير فيه ، ثم ليس كذلك محلا لتلك الصور شرطا في التعقل بدليل أنك تعقل ذاتك بدون ذلك ، بل المعتبر حضور الصورة لكل (٣) حالة كانت ، أو غير حالة ، والمعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته حاصلة له من غير حلول فيه ، فهو عاقل إياها من غير أن تكون حالة فيه ، على أن كثرة الصفات في الذات لا تمنع عندنا ، بل عند الفلاسفة وأتباعهم.

وأجيب : عن الثاني بمنع استحالة كون الشيء (٤) الواحد قابلا أو فاعلا.

__________________

(١) في (ب) التصور بدلا من (الصور).

(٢) في (ب) ذلك بدلا من (كذلك).

(٣) في (ب) الصور لكل.

(٤) في (ب) بزيادة (الشيء).

١١٧

خاتمة

(قال : خاتمة.

علمه لا يتناهى ومحيط بما لا يتناهى كالأعداد والأشكال وبكل موجود ومعدوم وكلي جزئي لعمومات النصوص ولأن المقتضى للعالمية الذات وللمعلومية صحتها من غير مخصوص لتعاليه عن أن يفتقر في كماله [وخالف بعضهم في العلم بالعلم (١)] لاقتضائه إلى صفات غير متناهية وبعضهم في العلم بما لا يتناهى لاستحالة وجوهها مع المحذور السابق وبعضهم في العلم بالمعدوم لأنه نفي محض لا تميز فيه والمعلوم متميز وضعف الكل ظاهر).

قال : خاتمة علم الله تعالى غير متناه بمعنى أنه لا ينقطع ، ولا يصير بحيث لا يتعلق بالمعلوم ، ومحيط بما هو غير متناه كالأعداد والأشكال ، ونعيم الجنان ، وشامل لجميع الموجودات والمعدومات الممكنة والممتنعة وجميع الكليات والجزئيات إما سمعا فبمثل قوله تعالى: (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢) (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ ، وَلا فِي الْأَرْضِ) (٣) (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ ، وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (٤) (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٥) إلى غير ذلك. وإما عقلا فلأن المقتضى للعالمية هو الذات إما بواسطة المعين أعني العلم على ما هو رأي الصفاتية ، أو بدونها على ما هو رأي النفاة. وللمعلومية إمكانها ، ونسبة الذات إلى الكل على السوية. فلو اختصت عالميته بالبعض دون البعض لكان لمخصص وهو محال ، لامتناع احتياج الواجب في صفاته ، وكمالاته ، لمنافاته الوجوب والغنى(٦) المطلق.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (أ) و (ج).

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٨٢.

(٣) سورة سبأ آية رقم ٣.

(٤) سورة غافر آية رقم ١٩.

(٥) سورة النحل آية رقم ٢٢ والبقرة ٧٧.

(٦) في (ب) والغناء بدلا من (والغنى).

١١٨

والمخالفون في شمول علمه منهم من قال يمتنع علمه بعلمه ، وإلا لزم اتصافه بما لا يتناهى عدده من المعلوم وهو محال ، لأن كل ما هو موجود بالفعل ، فهو متناه على ما مرّ مرارا. وجه اللزوم : أنه لو كان جائزا لكان حاصلا بالفعل ، لأنه مقتضى ذاته ، ولأن الخلو عن العلم الجائز عليه جهل ونقص ، ولأنه لا (١) يتصف بالحوادث ، وينقل الكلام إلى العلم بهذا العلم وهكذا إلى ما لا يتناهى. لا يقال علمه ذاته. ولو سلّم فالعلم بالعلم نفس العلم. لأنا نقول : أما امتناع كون العلم نفس الذات فقد سبق. وأما امتناع كون العلم بالعلم نفس العلم ، فلأن الصورة المساوية لأحد المتغايرين. تغاير الصورة المساوية للمغاير الآخر ، ولأن التعلق بهذا يغاير التعلق بذلك.

والجواب : أن العلم صفة واحدة لها تعلقات هي اعتبارات عقلية لا موجودات عينية ليلزم المحال ، ولا يلزم من كونه اعتبارا عقليا أن لا تكون الذات عالما ، والشيء معلوما في الواقع لما عرفت من أن (٢) انتفاء مبدأ المحمول لا يوجب انتفاء الحمل ، على أن مغايرة العلم بالشيء للعلم بالعلم ، إنما هو بحسب الاعتبار ، فلا يلزم كثرة الأعيان (٣) الخارجية ، فضلا عن لا تناهيها ، وبهذا يندفع الاستدلال (٤) بهذا الإشكال ، على نفي علمه بذاته ، بل بشيء (٥) من المعلومات.

وأجاب الإمام بأن هذه أمور غير متناهية لا آخر لها ، والبرهان إنما قام على ما لا أول لها ، ومنهم من قال : لا يجوز علمه بما لا يتناهى ، أما أولا : فلأن كل معلوم يجب كونه ممتازا ، وهو ظاهر ، ولا شيء من غير المتناهي بممتاز ، لأن المتميز عن الشيء منفصل عنه محدود بالضرورة.

وأما ثانيا : فلأنه يلزم صفات غير متناهية هي المعلوم لما عرفت من تعدد المعلوم بتعدد المعلومات.

والجواب : عن الأول إنا لا نسلم أن كل متميز عن غيره يجب أن يكون متناهيا ،

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (لا).

(٢) في (أ) بزيادة (أن).

(٣) في (ب) الاعتبارات بدلا من (الأعيان).

(٤) في (ب) الأشكال بدلا من (الاستدلال).

(٥) في (ب) يسمى بدلا من (بشيء).

١١٩

وأن انفصاله عن الغير يقتضي ذلك. كيف ولا معنى للانفصال عن الغير إلا مغايرته له.

وعن الثاني : ما سبق وأجاب الإمام عن الأول بأن المتميز كل واحد منها وهو غير متناه.

واعترض : بأنه إذا كان غير المتناهي معلوما يجب أن يكون متميزا ، ولا يغيره تميز كل فرد.

والجواب : أنه لا معنى للعلم بغير المتناهي إلا العلم بآحاده ، وبهذا يندفع الإشكال على معلومية الكل ، أي جميع الموجودات والمعدومات بأنه لا شيء بعد الجميع يعقل تميزه عنه. وقد يجاب أن تميز المعلوم إنما هو عند ملاحظة الغير ، والشعور به ، فحيث لا غير لا يلزم التميز.

ولم سلّم فيكفي التميز عن الغير الذي هو كل واحد من الآحاد ، ومنهم من قال : يمتنع علمه بالمعدوم ، لأن كل معلوم متميز ، ولا شيء من المعدوم بمتميز.

والجواب : منع الصغرى إن أريد المتميز بحسب الخارج. والكبرى إن أريد بحسب الذهن. ومن المخالفين من لم يجوز علمه بذاته ، ومنهم من لم يجوز علمه بغيره تمسكا بالشبهة المذكورة لنفي العلم مطلقا.

١٢٠