شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

كبريت يشتعل بقدر (١) يسير من النار ، فلو كان ذلك لظهور الأجزاء النارية الكامنة لكانت لكثرتها أولى بأن يشعلها ويحس بها ، أو الواردة لكانت بقدر الوارد ، وأن حرارة الماء الشديد السخونة ، لو كانت بانقلاب بعض أجزائه نارا من غير استحالة لفارقته تلك النارية صاعدة بطبعها ، أو انطفأت ببرد الماء ورطوبته ، فلم يحس (٢) بها ، على أنك ستعرف في بحث الكون (٣) والفساد أن الماء لا يصير نارا إلا بعد صيرورته هواء وحينئذ يتصعد بطريق البخار.

(قال : (والحق)

أنهم لما وجدوا الجسم انتقل من كم أو كيف إلى آخر لا دفعة توهموا حركة ، ولا حركة، في نفس الأمر لأن ما بين الطرفين من الكميات والكيفيات متمايزة بالفعل لا كاجزاء المسافة والانتقال إلى كل دفعي كالأرض تصير ماء ثم نارا ، وتحقيقه أن للوسط (٤) إن كان واحدا فلا حركة وإن كان كثيرا كان متناهيا ضرورة كونه بين حاصرين ، فتكون الحركة من أجزاء لا تنقسم وهو محال لاستلزامه وجود الجوهر الفرد وكون البطء لتخلل السكنات بخلاف الحركة الأينية. فإن الوسط فيها واحد بالفعل يقبل بحسب الغرض انقسامات غير متناهية).

قد سبقت إشارة إلى أن الحركة الوضعية (٥) عائدة إلى الحركة الأينية (٦)

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (قدر).

(٢) في (ب) سقط لفظ (يحس).

(٣) الكون بالمعنى العام : هو الوجود بعد العدم ، وهو تغير دفعي ، لأنه وسط بين العدم والوجود كحدوث النور بعد الظلام دفعة. والكون بالمعنى الخاص : هو حصول الصورة في المادة بعد أن لم تكن حاصلة فيها ، وهو عند أرسطو تحول جوهر أدنى إلى جوهر أعلى ويقابله الفساد ، لان الفساد زوال الصورة عن المادة بعد أن كانت حاصلة.

والكون ، والثبوت والوجود ، والتحقق عند الاشاعرة ألفاظ مترادفة أما عند المعتزلة فالثبوت أعم من الوجود ، والثبوت والتحقق عندهم مترادفان وكذا الكون والوجود.

(٤) في (ب) الواسطة.

(٥) وهي الحركة المستديرة التي ينتقل بها الجسم من وضع إلى آخر ، كما في حركة حجر الرحى ، أو حركة الكرة في مكانها.

(٦) وهي حركة الجسم من مكان إلى آخر وتسمى نقلة ، والمتكلمون إذا أطلقوا الحركة أرادوا بها الحركة الأينية فقط.

٤٢١

فههنا يريد نفي الحركة في الكم والكيف مع التنبيه على منشأ توهمهما ، وذلك أنا نجد الجسم ينتقل على سبيل التدريج من كمية إلى كمية أخرى أزيد أو أنقص ومن كيفية إلى كيفية أخرى تضاد الأولى أو تماثلها من غير أن يظهر لنا تفاصيل ذلك وأزمنة وجود كل منها فنتوهم أن ذلك حركة إذ لا تعقل من الحركة إلا تغيرا على التدريج لكن لا حركة عند التحقيق لأن معنى التدريج المعتبر في الحركة أن لا يكون دفعة لا بحسب الذات ، ولا بحسب الأجزاء والانتقال هاهنا إنما هو دفعات يتوهم من اجتماعها التدريج (١) لأن ما بين المبدأ والمنتهى من مراتب الكميات أو الكيفيات متمايزة بالفعل ، ينتقل الجسم من كل منها إلى آخر دفعة كما في صيرورة الأرض ماء ثم هواء ثم نارا مع الاتفاق على أن مجموع ذلك ليس حركة جوهرية من الأرض إلى النار لظهور تفاصيل المراتب وأزمنة وجوداتها ويدل على نفي الحركة في الأمور المتمايزة بالفعل سواء كانت كميات أو كيفيات أو جواهر أن الوسط بين المبدأ والمنتهى إن كان واحدا فظاهر أنه لا حركة ، وإن كان كثيرا فتلك الكثرة سواء كان اختلافها بالنوع أو بالعدد أما أن تكون غير متناهية وهو محال ضرورة كونها محصورة بين حاصرين ، وإما أن تكون متناهية وهو يستلزم تركب الحركة من أمور لا تقبل القسمة إذ لو انقسمت إلى أمور متغايرة ننقل الكلام إلى كل واحد منها ، وهلم جرا ، فيكون ما فرض متناهيا غير متناه هذا خلف (٢) وتركب الحركة مما لا يقبل الانقسام باطل لاستلزامه وجود (٣) الجزء الذي لا يتجزأ ، وكون البطء لتخلل السكنات. أما الأول فلانطباق الحركة على ما فيه الحركة.

أما الثاني فلأن السريع إذا تحرك جزى (٤) فالبطيء إن تحرك مثله دائما لزم تساويهما أو أكثر لزم كونه أسرع أو أقل لزم انقسام ما لا ينقسم ، فلم يبق إلا أن يكون له فيما بين أجزاء الحركة سكنات.

__________________

(١) في (ب) لا تأثر.

(٢) سقط من (أ) هذا خلف.

(٣) في (أ) بزيادة (وجود).

(٤) في (أ) جزء بدلا من (جزى).

٤٢٢

وسيجيء بيان بطلان اللازمين ، وهذا بخلاف الحركة الأينية ، فإن الوسط الذي بين المبدأ والمنتهى. أعني امتداد المسافة واحد بالفعل ، يقبل بحسب الفرض انقسامات غير متناهية.

فإن قيل : يجوز أن يكون كل واحد من تلك الآحاد المتناهية قابلا لانقسامات غير متناهية ، فلا يلزم تركب الحركة مما لا تقبل الانقسام.

قلنا : هذا غير مقيد إذ التقدير أن الانتقال إلى كل من تلك الآحاد دفعى. والحاصل أن امتناع تركب الحركة مما لا ينقسم يقتضي أن يكون امتدادها الموهوم منطبقا على أمر قابل لانقسامات غير متناهية على ما هو شأن لكم المتصل سواء كان عارضا بجسم واحد كما في الحركة في الماء ، أو الأجسام مختلفة كما في الحركة من الأرض إلى السماء لا على كم منفصل متناهي الآحاد سواء كان معروضة جوهرا ، أو كما متصلا أو كيف أو غير ذلك ، وبهذا يندفع ما يتوهم من أنه إذا جازت الحركة في المسافة لكونها معروضة لما يقبل الانقسام لا إلى نهاية ، ففي الكم القابل لذلك بحسب ذاته أولى.

(قال : ولا ثبت للحركة في باقي المقولات).

يعني لا دليل على ثبوت الحركة في الجوهر (١) والمتى والإضافة والملك (٢) وأن يفعل وأن ينفعل ، بل ربما يقام الدليل على نفيها. أما الجوهر فلأنه بعد ثبوت الكون ، وتوارد الصور على المادة الواحدة ، فالانتقال إلى كل منها دفعى ، لأن الجوهر لا بقبل الاشتداد (فلا يكون حدوثه على التدريج ،

__________________

(١) قال ابن سينا : الجوهر هو كل ما وجود ذاته ليس في موضوع ، أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه لا بتقويمه. (النجاة ص ١٢٦).

(٢) الملك : إحدى مقولات أرسطو العشر ، ويقابله الحرمان ويعبر به عن نسبة المالك إلى ما يملكه مثل شاكي السلاح.

وعرفه الغزالي بقوله : إنه نسبة الجسم إلى الجسم المنطبق على جميع بسيطه أو على بعضه إذا كان المنطبق ينتقل بانتقال المحاط به المنطبق عليه والملك هو المعبر عنه عند القدماء بلفظ (له).

٤٢٣

وذلك لأنه لو قبل الاشتداد) (١) فإما أن يبقى في وسط الاشتداد نوع الجوهر الذي منه الانتقال ، فلا يكون التغير فيه ، بل في لوازمه ، أو لا يبقى ، فيكون ذلك انتفاء (٢) لا اشتدادا ، وهذا منقوص بالحركة في الكيف. وقد يحتج بأن المتحرك لا بد أن يكون (٣) موجودا والمادة وحدها غير موجودة لما سيجيء من امتناع وجودها بدون الصورة ، وتحقيقه أن الحركة في الصور إنما تكون بتعاقب الصور على المادة بحيث لا تبقى بلا صورة (٤) زمانا ، ما(٥) وعدم الصورة توجب عدم المادة لكونها مقومة للمادة بخلاف الكيف ، فإن عدمه لا يوجب عدم المحل.

وجوابه : ما سيجيء من أن تقوم المادة إنما هو بصورة ما فعدم الصورة المعينة إنما يوجب عدمها لو لم (٦) يستعقب حدوث صورة أخرى ، وأما ما قيل من (٧) أن تغيرات الجواهر أعني الأجسام بصورها لا تقع في كل آن (٨) زمان ، لأن الصور لا تشاد ولا تضعف، بل تقع في آن (تغيرات الجواهر) (٩) وتغيراتها بكيفياتها وكمياتها وأيونها وأوضاعها تقع في زمان لأنها تشتد وتضعف ومعنى الاشتداد هو اعتبار المحل الواحد الثابت بالقياس إلى حال فيه غير قار تتبدل نوعيته إذا قيس ما يوجد فيه (١٠) في آن ما إلى ما يوجد في آن آخر بحيث يكون ما يوجد في كل آن متوسطا بين ما يوجد في الآنين المحيطين به ، ويتجدد جميعها على ذلك المحل المتقوم دونها من حيث هو متوجه بتلك التجددات إلى غاية ما ، ومعنى الضعف هو ذلك المعنى بعينه ، إلا أنه يؤخذ من حيث هو منصرف بها عن تلك الغاية ، فالأخذ في الشدة والضعف هو المحل لا الحال المتجدد المتصرم ، ولا شك أن مثل هذا الحال يكون عرضا لتقوم المحل دون

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) في (ب) انتقاله بدلا من (انتفاء).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (يكون).

(٤) في (ب) بزيادة لفظ (بلا).

(٥) سقط من (أ) لفظ (ما).

(٦) في (أ) بزيادة لفظ (لو لم).

(٧) في (أ) بزيادة لفظ (من).

(٨) في (ب) بزيادة لفظ (كل آن).

(٩) ما بين القوسين سقط من (ب).

(١٠) في (أ) فيه بدلا من (منه).

٤٢٤

كل واحدة من تلك (١) الهويات. وأما الحال الذي تتبدل هوية المحل المتقوم بتبدله وهي الصورة ، فلا يتصور فيها اشتداد ولا ضعف لامتناع تبدلها على شيء واحد متقوم يكون هو هو في الحالين ، فجمع بين الوجهين مع تفصيل وتحقيق ، ويرد علية ما سبق مع أنا لا نسلم(٢) تبدل هوية المادة بتبدل الصورة. وقد صرح ابن سينا بأن الوحدة الشخصية للمادة مستحفظة بالوحدة النوعية للصورة لا بالوحدة الشخصية ، وأما المتى فذكر في النجاة أنه لا بد للحركة من متى. فلو وقعت حركة في المتى لكان للمتى متى وهو باطل ، وذكر في الشفاء أن الانتقال فيه دفعى لأن الانتقال من سنة إلى سنة ومن شهر إلى شهر يكون دفعة ، ثم قال ويشبه أن يكون حالة كحال الإضافة في أن الانتقال لا يكون فيه ، بل يكون الانتقال الاول في كم أو كيف ويكون الزمان لازما لذلك التغير فيفرض (٣) بسببه فيه التبدل كما أن الإضافة طبيعة غير مستقلة ، بل تابعة لغيرها ، فإن كان المتبوع قابلا للأشد والأنقص. فكذا الإضافة إذ لو بقيت غير متغيرة عند تغير متبوعها لزم استقلالها.

قال الإمام وهذا هو الحق (٤) لأن متى نسبة إلى الزمان والنسبة طبيعة غير مستقلة فهي تابعة لمعروضها في التبدل والاستقرار ، وكذا الملك لأنها مقولة نسبية. وقيل لأنها توجد دفعة ثم قال. وإما أن يفعل وأن ينفعل ، فأثبت بعضهم فيهما الحركة والحق بطلانه (أما أن يفعل) (٥) فلأن الشيء إذا انتقل من التبرد إلى التسخن مثلا ، فإن كان التربد باقيا لزم التوجيه إلى الضدين. أعني البرودة والسخونة في زمان واحد ، وإن لم يكن باقيا ، بل إنما وجد التسخن بعد وقوف التبرد وبينهما زمان سكون لا محالة ، فليس هناك انتقال من التبرد إلى التسخن على الاستمرار ، وما يقال من أن الشيء قد ينسلخ عن

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (تلك).

(٢) في (ب) لا ثم بدلا من (نسلم).

(٣) في (أ) فيعرض بدلا من (فيفرض).

(٤) في (ب) الجواب بدلا من (الحق).

(٥) سقط ما بين القوسين من (ب).

٤٢٥

اتصافه بالفعل يسيرا يسيرا لا من جهة ينقص قبول الموضوع لتمام ذلك الفعل ، بل من جهة هيئته فذلك عائد إلى أن فتور القوة ، أو انفساخ العزيمة ، أو كلال الآلة تكون يسيرا يسيرا أو بتبعية ذلك يحصل التبدل في الفاعلية (١) ، فما توهم من التغير التدريجي في أن يفعل نفسه إنما هو فيما يتم به الفعل ، كما إذا توهم من التغير التدريجي في أن يفعل نفسه إنما هو فيما يتم به الفعل ، كما إذا توهم في أن ينفعل بناء على تحققه فيما يتم به الانفعال كالقابل وهذا ما قال في المواقف الحق أنهما تبع الحركة ، أما في القوة إرادية كانت أو طبيعية ، أو في الآلة ، وأما في القابل ، وأتى في القابل بلفظ أما دون أو تنبيها على ما ذكرنا.

فإن قيل : ما ذكر في الإضافة من عدم استقلالها لكونها من الأعراض النسبية كاف في الجميع على ما أشار إليه الإمام ولا حاجة إلى ما ذكروا من التطويل والتفصيل.

قلنا : ليس معنى عدم استقلال الإضافة مجرد كونها نسبية ، وإلا انتقض بالأين والوضع ، بل معناه كونها تابعة لمعروضها في الأحكام ، ولهذا قال ابن سينا بعد إثبات التضاد في الأين ، والمتى ، والوضع ، وأن يفعل ، وأن ينفعل ان التضاد لا يعرض الإضافة ، لأن الإضافات طبائع غير مستقلة بأنفسها ، فيمتنع أن يعرض لها التضاد ، لأن أقل درجات المعروض أن يكون مستقلا بتلك المعروضية ، وأما كون الأحر ضدا للأبرد ، كالحار للبارد (٢) فلأن الإضافة لما كانت طبيعة غير مستقلة ، بل تابعة لمعروضها وجب أن يكون في هذا الحكم أيضا تابعة ، وإلا لكانت مستقلة فيه.

__________________

(١) الفاعلية : هي النشاط أو الممارسة ، أو استخدام الطاقة ، تقول : فاعلية الفكر أي نشاطه.

وتطلق الفاعلية في علم الطباع على الصفات التي يتميز بها الأشخاص الذين ينزعون بطباعهم إلى الفعل.

ومذهب الفاعلية : هو القول : إن جوهر الحقيقة هو الفعل.

(راجع المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية.)

(٢) في (أ) للنار بدلا من (البارد).

٤٢٦

قال :

وأما المتحرك :

فإن كانت الحركة فيه بالحقيقة فمتحرك بالذات كحركة السفينة وإلا فبالعرض كحركة راكبها.

(قال : وأما المحرك :

فإن كان خارجا عن ذات المتحرك ، فالحركة قسرية (١) ، وإلا فإن كان مع قصد وشعور فإرادية (٢) ، وإلا فطبيعية (٣)).

يريد انقسام الحركة بالذات إلى الأقسام الثلاثة ، وأما مطلق الحركة فينقسم إلى أربعة عرضية وقسرية ، وإرادية وطبيعية ، وإن كانت العرضية لا تخلو أو عن الأقسام الثلاثة ، ولهذا قيل الحركة إن كانت تبعا لحركة جسم آخر فعرضية (٤) ، وإلا فإن كان محركها موجودا في غير الجسم المتحرك فقسرية ، وإن كان موجودا فيه نفسه ، فإن كان من شأنه الشعور والقصد فإرادية ، وإلا فطبيعية ، والمراد بكون المحرك في المتحرك أعم من أن يكون جزءا منه أو متعلقا به التعلق المخصوص ، كتعلق النفوس الإنسانية بأبدانها ، والنفوس الفلكية بأفلاكها ، فيعم تحرك الحجر هبوطا والإنسان يمنة ويسرة ، (والفلك استدارة) (٥).

__________________

(١) الحركة القسرية : وهي التي يكون مبدؤها مستفادا من غيرها كالحجر المرمي إلى فوق.

(٢) الحركة الإرادية : هي التي يكون مبدؤها في الشيء المتحرك نفسه مع شعوره بأنه مبدأ تلك الحركة كحركة الحي بإرادته. قال ابن سينا : أما الحركة الإرادية فإن عللها أمور إرادية وإرادة ثابتة واحدة.

(النجاة ص ٢٩٣).

(٣) الحركة الطبيعية : وهي التي لا تكون بسبب أمر خارج ولا تكون مع شعور وإرادة كحركة الحجر إلى أسفل قال ابن سينا : الحركة الطبيعية هي إلى حالة ملائمة عن حالة غير ملائمة. (النجاة ص ٢٩٣).

(٤) الحركة العرضية : وهي التي يكون عروضها للجسم بواسطة عروضها لشيء آخر بالحقيقة كالجالس في السفينة ، فإنه لا يوصف بالحركة إلا تبعا لحركة شيء آخر.

(٥) ما بين القوسين سقط من (ب)

٤٢٧

فإن قيل : فعلى رأي من يجعل الممكنات كلها مستندة إلى الله تعالى ابتداء هل يتأتى هذا التقسيم ، أم تكون الحركات كلها قسرية؟.

قلنا : بل يتأتى بأن يراد بالمحرك ما جرت العادة بخلق الحركة معه كما يفصح عنه وصفهم بعض الحركات بكونه اختياريا.

(قال : فحركة النفس إرادية :

من حيث إمكان تغير جزئياتها عن أوقاتها وإن كانت طبيعية من حيث الاحتياج إلى مطلقها وحركة النمو طبيعية ، وكذا النبض ، ولا يبعد فيها اختلاف الجهات عند اختلاف الغايات وما قيل إن الطبيعية لا تكون إلا على نهج واحد ، بل صاعدة أو هابطة ، فذلك في البسائط العنصرية).

قد أشكل الأمر في بعض الحركات أنها من أي قسم من الأقسام الثلاثة لا سيما حركة(١) النبض ، فقد كثر اختلاف الناس في أنها طبيعية أو إرادية ، وعلى التقديرين ، قابلية (٢) أو وضعية أو كمية ، ولكل من الفرق تمسكات مذكورة في المطولات سيما شروح الكليات ، ونحن نقتصر على ذكر ما هو أقرب وأصوب.

فنقول : أما حركة النفس (٣) فإرادية باعتبار طبيعية باعتبار على ما قال بعض المتأخرين من الحكماء أنها تتعلق بالإرادة من حيث وقوع كل نفس في زمان يتمكن المتنفس من أن يقدمه على ذلك الزمان ، وأن يؤخره منه بحسب إرادته لكنها لا تتعلق بالإرادة من حيث الاحتياج الضروري إليها ، فهو طبيعي من حيث الحاجة إلى مطلق التنفس ، وإرادي من حيث إمكان تغير التنفسات الجزئية عن أوقات تقتضيها الحاجة ، ويكون وقوعها في تلك الأوقات على مجراها الطبيعي ، وهذا معى ما قال صاحب القانون (٤) أن حركة التنفس إرادية

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (حركة).

(٢) في (ب) فأينية بدلا من (قابلية).

(٣) في (ب) النقص وهو تحريف.

(٤) هو أبو على الحسين بن عبد الله الحسن بن علي بن سينا ت ٤٢٨.

٤٢٨

يمكن أن تغير عن مجراها الطبيعي ، والاعتراض بأنه لا إرادة للنائم ، فيلزم أن لا يتنفس ليس بشيء ، لأن النائم يفعل الحركات الإرادية ، لكن لا يشعر بإرادته ، ولا يتذكر شعوره ، ولذلك قد تحرك الأعضاء بسبب الملالة عن بعض الأوضاع ، ويحكها عند الحاجة إلى الحك ، ولا يشعر بذلك ، وأما حركة النمو فظاهر أنها طبيعية ، إذ طبيعة النامي تقتضي الزيادة في الأقطار عند ورود الغذاء ، ونفوذه فيما بين الأجزاء ، وكذا النبض (١) عند المحققين ، فإنها ليست بحسب القصد والإرادة ، ولا بحسب قاسر من خارج ، بل بما في القلب من القوة الحيوانية ، وميل الجمهور إلى أنها مكانية ، وقيل بل وضعية ، وقيل كمية.

فإن قيل : الحركة الطبيعية لا تكون إلا إلى جهة واحدة بل لا تكون إلا صاعدة أو هابطة على ما صرحوا به.

قلنا : ذلك إنما هو في البسائط العنصرية ، وأما الطبيعية النباتية أو الحيوانية قد تفعل حركات إلى جهات وغايات مختلفة ، وطبيعة القلب والشرايين من شأنها للروح إحداث حركة فيها من المركز إلى المحيط ، وهي الانبساط ، وأخرى من المحيط إلى المركز ، وهي الانقباض ، لكن ليس الغرض من الانبساط تحصيل المحيط ليلزم الوقوف ، ويمتنع العود ، بل جذب الهواء البارد المصلح لمزاج الروح ، ولا من الانقباض تحصيل المركز بل دفع الهواء المفسد للمزاج ، والاحتياج إلى هذين الأمرين مما يتعاقب لحظة فلحظة فتتعاقب الآثار المتضادة عن القوة الواحدة.

(قال : ومنهم :

__________________

(١) يقول ابن سينا النبض حركة من أوعية الروح مؤلفة من انبساط وانقباض لتبريد الروح بالنسيم ، والنبض إما جزئي وإما كلي ونتكلم على النبض الكلي فنقول : إن كل نبضة فهي مركبة من حركتين وسكونين لأن كل نبض مركب من انبساط وانقباض ثم لا بد من تخلل السكون بين كل حركتين متضادتين لاستحالة اتصال الحركة بحركة أخرى بعد أن يحصل لمسافتها نهاية وطرف بالفعل وهذا مما يبين في العالم الطبيعي الخ.

(راجع قانون الطب ج ١ ص ١٢٣).

٤٢٩

من جعل مثل النبض قسما آخر سماها تسخيرية).

يعني هرب بعضهم عن الإشكال المذكور بمنع انحصار الحركة بالذات في الأقسام الثلاثة ، وجعل طريق القسمة أن الحركة إما ذاتية أو عارضة والذاتية إن كانت على نهج واحد ، فبسيطة (وإلا فمركبة ، والبسيطة إن كانت تابعة لإرادة ، فإرادية كحركة الفلك) (١) وإلا فطبيعية كالحركة الهابطة للحجر النازل من الهواء ، والمركبة إن لم يكن من خواص الحيوانات فنباتية كالنمو ، وإن كانت ، فإما أن تكون تابعة للإرادة ، وهي الإرادية كالمشي أو لا وهي التسخيرية كالنبض. والعارضة إن كان المحرك كجزء من المتحرك فعرضية ، إرادية أو مكانا له بالطبع فعرضية طبيعية وإلا فقسرية.

(قال : ثم العلة (٢) :

في الحركة الطبيعية ليست هي الجسمية المشتركة (٣) ، ولا الطبيعة المختصة مطلقا ، بل عند زوال حالة ملائمة ، فيتحرك طلبا لها ، وهي مختلفة فلذا يختلف جهات الحركة ومعنى طلبها التوجه الطبيعي إليها فلا يستلزم الإرادة).

يعني أن الحركة الطبيعية في البسائط العنصرية ، وإن كانت على نهج

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) العلة في اللغة : اسم لعارض يتغير به وصف المحل بحلوله له عن اختيار (راجع كشاف اصطلاحات الفنون).

ومنه سمي المرض علة لأنه بحلوله يتغير حال الشخص من القوة إلى الضعف وكل أمر يصدر عنه امر اخر بالاستقلال أو بانضمام الغير إليه فهو علة لذلك الأمر ، والأمر معلول له ، فيعتقل كل واحد منهما بالقياس إلى تفعل الآخر.

(راجع كليات أبي البقاء).

والعلة عند الحكماء ما يتوقف عليه وجود الشيء ويكون خارجا ومؤثرا فيه (تعريفات الجرجاني).

والعلل عند أرسطو أربعة أقسام : العلة المادية ، والعلة الصورية ، والعلة الفاعلة والعلة الغائية ، وقد أخذ فلاسفة الإسلام وفلاسفة القرون الوسطى في أوربا بهذه النظرية الأرسطة قدموا العلة الغائية على سائر العلل مثال ذلك قول ابن سينا :

والغاية تتأخر في حصول الوجود على المعلول إلا أنها تتقدم سائر العلل في الشيئية.

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (المشتركة).

٤٣٠

واحد بمعنى كونها إلى الحيز الطبيعي ، لكنها قد تختلف بحسب الأحوال كصعود الماء إذا وقع تحت الأرض ، وهبوطه إذا وقع فوق الهواء. بيان ذلك أن العلة للحركة الطبيعية ليست هي الجسمية المشتركة بين الأجسام وإلا لزم دوام الحركة وعمومها للأجسام ، واتحاد جهة الحركات الطبيعية ضرورة تحقق المعلول عند تحقق العلة ، وليست أيضا الطبيعية المختصة بذلك الجسم ، وإلا لزم دوام الحركة لما ذكرنا ، بل هي الطبيعية الخاصة ، بشرط مقارنة أمر غير طبيعي هو زوال حالة ملائمة ، فيتحرك الجسم بطبعه طلبا لتلك الحالة الملائمة ، ويقف لطبعه عند الوصول إليه ، ثم لا خفاء في أن الأحوال الملائمة بطبائع الأجسام مختلفة بحسب اختلاف الطبائع مثلا الحالة الملائمة للأرض أن تكون تحت الماء والهواء والنار ، وللماء أن يكون فوقها ، وتحت الأخيرين ، وعلى هذا القياس ، فمن هاهنا يختلف جهات الحركة. ولما كانت الحركة لطلب الحالة الملائمة لا لمجرد الهرب عن الحالة الغير الملائمة كانت أولوية الجهة التي إليها الحركة ظاهرة. ولا خفاء في أن معنى طلب الحالة الملائمة هاهنا التوجه إليها بحيث إذا حصل الوصول إليها حصل الوقوف كما في الغايات الإرادية كما أن معنى الهرب عن الحالة الغير الملائمة الانصراف عنها ، فلا يختص هذا بالحركة الإرادية كما يتوهم من ظاهر معناها اللغوي الموقوف على الشعور والإدراك ، ثم لما كان زوال الحالة الملائمة كحصول الماء في حيزه مثلا قد يكون بخروجه قسرا إلى فوق ، فيتوجه عند زوال القاسر إلى تحت ، وقد يكون بالعكس (١) فبالعكس جاز في الحركة الطبيعية بجسم واحد أن يختلف جهتها ، فتارة يكون إلى فوق ، وتارة إلى تحت.

__________________

(١) العكس : عكس الشيء يعكسه عكسا فلبه ، وعاكسه أخذ كل منهم بناصية صاحبه ، وانعكس الشيء وانعكس : انقلب. والعكس : ردك الشيء إلى أوله.

والعكس : استدلال مباشر يقوم على استنتاج قضية من قضية أخرى بتصوير الموضوع محمولا والمحمول موضوعا ، والإيجاب بحاله ، والصدق والكذب بحاله ، وله قسمان :

الأول : هو العكس المستوي أو التام كما في الكلية السالبة والجزئية السالبة فإن كل واحدة تنعكس مثل نفسها.

والثاني : هو العكس الجزئي أو العكس بالعرض كما في الكلية الموجبة التي تنعكس كلية موجبة.

٤٣١

المبحث الرابع

اختلاف الحركات بالماهية والعوارض واتحادها بالشخص

(قال : المبحث الرابع :

تعلق الحركة بما فيه ، وما منه وما إليه يكاد يكون ذاتيا يوجب الاختلاف فيه. الاختلاف في الماهية ، وبما عداها عرضيا يوجب الاختلاف فيه. الاختلاف في الهوية فقط ، سوى المتحرك ، فإن اختلافه لا يقدح في هويتها الاتصالية الواحدة بالذات ، وإن كانت بتوهم فيها كثرة باعتبار النسب إلى المحركات ، فلذا كانت وحدتها النوعية بوحدة الأمور الثلاثة والشخصية بوحدة ما سوى المحرك).

اختلاف الحركات قد يكون بالماهية ، وقد يكون بالعوارض ، واتحادها قد يكون بالشخص ، وقد يكون بالنوع ، وقد يكون بالجنس ، ثم قد يوصف بالتضاد (١) ، وقد يوصف بالانقسام ، فيشير في هذا المبحث إلى بيان ماهية ذلك (٢) الحركة. وقد سبق أن الحركة تتعلق بأمور ستة.

فاتفقوا على أن تعلقها بثلاثة منها وهي ما فيه وما منه وما إليه بمنزلة الذاتي يختلف باختلاف ماهية الحركة ، وتعلقها بالثلاثة الباقية بمنزلة العرضى لا يختلف باختلاف ماهية الحركة ، بل باختلاف المحرك لا يختلف هويتها أيضا ،

__________________

(١) التضاد : هو التباين والتقابل التام ، وضد الشيء خلافه ، ومن شرط الضدين أن يكونا من جنس واحد كالبياض والسواد.

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (ذلك).

٤٣٢

فبنوا على ذلك ، أنه إذا اتحد المبدأ والمنتهى ، وما فيه الحركة لتحدث الحركة بالنوع ، وإن اختلف المتحرك أو المحرك أو الزمان ، لأن تنوع المعروضات أو الأسباب لا يوجب تنوع العوارض والمسببات لجواز قيام نوع منها كالحرارة بموضوعين مختلفي الماهية كالإنسان والفرس، وحصوله لمؤثرين مختلفين كالنار والشمس ، وبهذا يظهر أن لا أثر للاختلاف بالقسر والطبع والإرادة. فالحركة الصاعدة للنار طبعا ، وللحجر قسرا ، وللطير إرادة ، لا تختلف نوعا. وأما الأزمنة فلا يتصور فيها اختلاف الماهية ولو فرض فلا خفاء في جواز إحاطتها بحقيقة واحدة، والتمسك بأنها عارضة للحركة ، واختلاف العارض لا يوجب اختلاف المعروض ضعيف لما سبق من أن هذا التعلق بالزمان غير تعلق الحركة التي جعل الزمان عارضا لها (١) ، فإنها إنما هي حركة الفلك الأعظم ، وإذا اختلفت المبدأ والمنتهى اختلفت الحركة ، وإن كان ما فيه واحدا أما في الأين فكالحركة الصاعدة مع الهابطة وأما في الكيف فكالحركة من البياض إلى السواد على طريق التصفر ثم التحمر ثم التسود مع الحركة من السواد إلى البياض على طريق التحمر ثم التصفر ثم التبيض. وكذا إذا اختلف ما فيه ، وإن اتحد المبدأ والمنتهى كالحركة من نقطة إلى نقطة على الاستقامة معها على الانحناء وكالحركة من البياض إلى السواد على طريق الأخذ في الصفرة ثم الحمرة ثم السواد معها على طريق الأخذ في الخضرة ثم النيلية ثم السواد ، وما ذكر في المواقف من أنه لا بد من وحدة ما فيه ، وما منه وما إليه ، إذ لو اختلف ما فيه اختلف النوع كالتسخن والتسود ليس على ما ينبغي لأن هذا إنما يصح للتمثيل (٢) دون التعليل (٣) ، وكأنه أراد أنه يختلف النوع عند اختلاف مجرد ما فيه كما يختلف عند اختلاف الأمور الثلاثة مثل التسخن والتسود ، أو كان الأصل كالتسخن والتبرد فصحف إلى

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (لها).

(٢) التمثيل : مثل الشيء بالشيء سواه وشبهه به وجعله على مثاله فالتمثيل هو التصوير والتشبيه.

(٣) علل الشيء بين علته وأثبته بالدليل ، وأعله سقاه ثانية ، وأعله الله ، أصابه بعلة والتعليل : تبين علة الشيء.

٤٣٣

التسود وأما وحدة الحركة بالتشخص فلا بد فيها من وحدة الأمور الستة سوى المحرك لقطع بأن حركة زيد غير حركة عمرو ، وحركة زيد اليوم غير حركته أمس ، وحركته من هذا الموضع غير حركته من موضع آخر ، وحركته من نقطة معينة إلى نقطة غير حركته من نقطة معينة منها إلى نقطة أخرى ، وحركته من نقطة إلى نقطة أخرى (١) بطريق الاستقامة غيرها بطريق الانحناء ، وكذا في الكم والكيف والوضع ، لكن لا خفاء في أن وحدة ما فيه أعني وحدته الشخصية تستلزم وحدة ما منه وما إليه من غير عكس فلهذا يكتفي بوحدة الموضوع والزمان (وما فيه. لا يقال ينبغي أن يكتفي بوحدة الموضوع والزمان) (٢). لاستلزامها وحدة المسافة ضرورة أن حركة زيد في زمان معين لا تكون إلا في مسافة معينة لأنا نقول هذا إنما يكون عند اتحاد جنس الحركة ، وإلا فيجوز أن ينتقل في زمان معين من أين إلى أين ومن وضع إلى وضع ومن مقدار إلى مقدار ومن كيفية إلى كيفية بل ومع اتحاد الجنس أيضا لا يصح على الإطلاق لجواز النمو والتخلخل والتسخن والتسود في زمان واحد ، وأما وحدة المحرك فلا عبرة بها في وحدة الحركة ، لأن الحركة الواحدة التي لا يكثر فيها بالفعل أصلا ، قد تقع بمؤثرات متعددة كحركة الجسم في المسافة بتلاحق الجواذب ، وحركة الماء في الحرارة بتلاحق النيران ، ولا يلزم من ذلك اجتماع المؤثرين على أثر واحد لأن تأثير كل إنما يكون في أمر آخر وهو بمنزلة البعض من الحركة وهذا (٣) التبعض والتجزي لا يقدح في وحدتها على الاتصال لأنه بمجرد الوهم من غير انقسام بالفعل ، وكذا ما يتوهم من تكثرها باعتبار نسبتها إلى المحركات فإنه لا يبطل ، وحدتها الاتصالية كما يتوهم بحركة الفلك مع اتصالها انقسامات بسبب الشروق والغروب والمسامتان.

فإن قيل : إن أريد الحركة بمعنى القطع أعني الامتداد الموهوم فلا وجود

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (أخرى).

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (هذا).

٤٣٤

لها في الخارج ، أو بمعنى الكون في الوسط أعني الحالة المستمرة الغير المستقرة ، فهو أمر كلي ، والواقع بهذا المحرك جزئي مغاير للواقع بذاك ، فلا تتصور حركة واحدة بالشخص واقعة بمحركين.

قلنا : الظاهر هو الأول ، ومعنى كونه وهميا أنه بصفة الامتداد والاجتماع لا يوجد إلا في الوهم وإلا فأبعاضها المتوهمة موجودة في الخارج لكن على التجدد والانقضاء كالزمان لا على الاجتماع والاستقرار (١) كالخط مثلا ، وهذا المجموع الوهمي ، قد يتحد بالشخص مع تعدد المحرك كالخط الواحد يقع بعض أجزائه بفاعل وبعضها بفاعل آخر لكن ميل الإمام الرازي إلى الثاني ، وقد حقق القول فيه بأن الحركة بمعنى التوسط بين المبدأ والمنتهى أمر موجود في الآن مستمر باستمرار الزمان ويصير واحدا بالشخص بوحدة الموضوع والزمان وما فيه ، وإذا فرضت للمسافة حدود معينة فعند وصول المتحرك إليها يعرض لذلك الحصول في الوسط إن صار حصولا في ذلك الوسط وصيرورته حصولا في ذلك الوسط أمر زائد على ذاته الشخصية وهي باقية عند زوال الجسم من ذلك الحد إلى حد آخر ، إنما يزول عارض من عوارضها ، وليس الحصول في الوسط أمرا كليا يكون له كثرة عددية لأن ذلك إنما يكون لو كان في المسافة كثرة عددية ، لأن ذلك إنما يكون لو كان في المسافة كثرة عددية. حتى يقال الحصول في هذا الحد من المسافة غير الحصول في ذلك ، وليس كذلك لأن المسافة متصل واحد لا أجزاء لها بالفعل ، فالحركة فيها عند اتحاد الموضوع والزمان لا تكون إلا واحدا بالشخص ، وإن أمكن فرض الأجزاء فيه كالخط الواحد ، وذلك لأن المعتبر في الكلية إمكان فرض الجزئيات لا الأجزاء وهو غير ممكن هاهنا. ثم قال هذا ما عندي في هذا الموضع المشكل المعسر (٢) ، وأنت خبير بما بين طرفي كلامه.

__________________

(١) في (ب) الاستمرار بدلا من (الاستقرار).

(٢) عسر عليه يعسر عسرا اشتد ، وعسر الرجل يعسر كان أعسر والأعسر الذي يعمل بشماله.

وعسره جعله عسيرا ، وعاسره عامله بالعسرة ، وأعسر الرجل افتقر ، والعسر : الفقر ، ويوم عسير ، صعب.

٤٣٥

فإن قيل : كيف جاز الاكتفاء بوحدة الموضوع والزمان ، وما فيه في الوحدة الشخصية دون النوعية (١) حيث احتيج إلى اعتبار وحدة ما منه وما إليه أيضا.

قلنا : لأن المعتبر في وحدة الحركة بالشخص وحدة هذه الأمور بالشخص وفي وحدتها النوعية وحدتها بالنوع ، وظاهر أن وحدة ما فيه بالشخص تستلزم وحدة ما منه وما إليه ووحدته بالنوع لا تستلزم وحدتهما بالنوع كما في النمو مع الذبول والتسخن مع التبرد والتسود مع التبيض ، ونحو ذلك. بقي هاهنا بحث وهو أن تنوع الحركة وما فيه وما منه وما إليه ظاهر في الكم والكيف والوضع ، فإن المقادير العارضة لبدن الإنسان من الطفولة إلى الكهولة مثلا أنواع مختلفة ، وكذا ألوان العنب وأوضاع الفلك ، وأما في الأين فمشكل لأنهم يجعلون الحركة الصاعدة والهابطة بين نقطتين معينتين (٢) من الأرض والسماء مختلفتين بالنوع لاختلاف ما منه وما إليه دون ما فيه والحركة من نقطة إلى نقطة على الاستقامة ، وأخرى بينهما على الانحناء مختلفتين بالنوع (٣) لاختلاف ما فيه دون ما منه وما إليه ، والحركة على الاستقامة يمنة ويسرة فرسخا أو أكثر متفقة بالنوع لعدم الاختلاف في شيء من الأمور الثلاثة ، فلم يعتبروا في هذا الاتفاق والاختلاف بحال طبائع الأجسام المحيطة بالمتحرك ، بل بحال الأيون أنفسها ، وظاهر أن كون الأين (٤) الذي للحجر في (٥) أسفل الهواء مخالفا بالنوع للأين الذي في أعلاه ، وكون الأيون التي في الأوساط متفقة بالنوع تحكم إذ لا تفاوت إلا بالقرب من المركز أو المحيط وهو أمر عارض ، ولو أخذ مجموع المعروض والعارض ، وجعل نوعا فمثله ثابت في الأوساط غايته أنه لا يكون على تلك الغاية من القرب والبعد ، وكذا الكلام في الأيون التي تترتب على استقامة المسافة أو انحنائها ، والتي تترتب على

__________________

(١) في (أ) التوعية وهو تحريف.

(٢) (ب) متفقتين بدلا من (معينتين).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (بالنوع).

(٤) في (ب) الآخرين بدلا من (الأين).

(٥) في (أ) بزيادة حرف الجر (في).

٤٣٦

الاستقامة يمنة ويسرة ، فإن الاختلاف النوعي ، والاتفاق فيها مما ليس بظاهر ، وغاية ما يمكن في ذلك أن الحركة لما انطبقت على المسافة التي هي امتداد متصل ، وقد تقرر عندهم أن المستقيم والمنحني نوعان من الكم كالاستقامة والانحناء من الكيف جعلوا الحركة أيضا كذلك ، ولهذا توصف هي أيضا (١) بالاستقامة والاستدارة ، وهذا بخلاف الزمان المنطبق على الحركة لأنه واحد لا يعرض له التكثر والانقطاع بالفعل ، وأما في الصعود والهبوط فذكر الإمام أن الطرفين (٢) ، وإن لم يختلفا بالماهية لكنهما اختلفا بالمبدئية والمنتهية وهما متقابلان تقابل التضاد ، وهذا القدر كاف في وقوع الاختلاف بين الحركتين ، ويرد عليه أن هذا جاز في كل حركة من مبدأ إلى منتهى مع الرجوع عنه إلى ذلك المبدأ ، إلا أن يقال لما كان مبدأ الصعود والهبوط ، ومنتهاهما في جهتين حقيقيتين (٣) لا يتبدلان أصلا ، فلا يصير العلو سفلا أو بالعكس بخلاف سائر الجهات اعتبر ذلك ، ولهذا لا يمكن اعتبار الصاعدة هابطة أو بالعكس بخلاف الحركة يمنة ويسرة.

(قال : وإما أن وحدتها الجنسية :

بوحدة ما فيه حتى أن الواقع في كل مقولة جنس عال من الحركة ، ثم يتنازل عن ترتيب أجناسها فمبناه على أن مطلق الحركة ليس جنسا (٤) لما يقع في كل مقولة ، بل إنما يقال عليها بالتشكيك أو الاشتراك).

ذكروا أن الوحدة (٥) الجنسية للحركة إنما تكون بوحدة ما فيه جنسا أعني

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (أيضا).

(٢) في (ب) الطريقين بدلا من (الطرفين).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (حقيقتين).

(٤) في (ج) قسما بدلا من (جنسا).

(٥) الوحدة : هس المقدار المتناهي الذي يتخذ أساسا لقياس مقادير أخرى من نوعه ، والوحدة في فلسفة ابن سينا من لوازم الماهيات لا من مقوماتها قال : فقد بان بهذه الوجوه الثلاثة التي أحدها كون الوحدة غير ذاتية للجواهر ، بل لازمة لها ، والثاني كون الوحدة معاقبة للكثرة في المادة والثالث : كون الوحدة مقولة على الأعراض إن طبيعة الوحدة طبيعة عرضية وكذلك طبيعة العدد الذي يتبع الوحدة ، ويتركب منها (النجاة ص ٣٤).

٤٣٧

المقولة. حتى إن الحركة في الكم مع الحركة في الكيف والأين والوضع أجناس مختلفة ، وحركة النمو والذبول والتخلخل والتكاثف جنس واحد ، وكذا في الكيف وغيره. وصرح الإمام بأن اتحاد حركات المقولة الواحدة اتحاد في الجنس العالي ، ثم يتناول على ترتيب أجناس المقولة مثلا الحركة في الكيف جنس عال ، وتحته الحركة في الكيفية المحسوسة ، وتحتها الحركة في المبصرات ، وتحتها الحركة في الألوان ، وعلى هذا القياس ، ولا خفاء في أن هذا إنما يصح إذا لم يكن مطلق الحركة جنسا لما تحته ، بل تكون مقولية الحركة على الأربع ، بالاشتراك اللفظي ، فلا يتحقق مطلق شامل أو بالتشكيك ، فيكون المطلق عرضيا للأقسام لا ذاتيا ، والأول باطل لمثل ما مر في الوجود ، كيف والتغير التدريجي الذي هو حاصل قولهم كمال أول لما هو بالقوة من حيث هو بالقوة مفهوم واحد يشمل الكل ، وأما الثاني أعني التشكيك فذهب إليه الكثيرون تمسكا بأن الحركة كمال أي وجود الشيء لشيء من شأنه ذلك الوجود مقول بالتشكيك.

ورد أن الكبرى طبيعية لا كلية لأن المقول بالتشكيك مفهوم الوجود لا ما صدق هو عليه من الأفراد ومنعه آخرون لأنه لا يتصور كون بعض أقسام الحركة أولى أو أقدم أو أشد في كونها حركة ، بل لو أمكن نفي (١) الاتصاف بالوجود كالعدد يكون لبعض أقسامه تقدم على البعض في الوجود لا في العددية فيكون التشكيك عائدا إلى الوجود.

فإن قيل : على تقدير التواطؤ لا يثبت الجنسية لجواز أن يكون عارضا كالماشي.

قلنا : هذا مع أنه (٢) بعد غير مفيد أما البعد فلأنه لا يعقل من الحركة في الكيف مثلا إلا تغير على التدريج من كيفية إلى كيفية وإما عدم الإفادة فلأن القول بأن الوحدة الجنسية يتوقف على وحدة ما فيه ، إنما يتم إذا ثبت عدم جنسية مطلق الحركة ولا يكفي عدم ثبوت الجنسية ، وقد يقال لو كانت الحركة

__________________

(١) في (أ) نقى وهو تحريف.

(٢) في (ب) كونه بدلا من (أنه).

٤٣٨

جنسا لأقسامها لزادت المقولات على العشر لأنها لا محالة يكون جنسا عاليا ، بل ربما يكون فوق المقولات الأربع (١) فيبطل كونها أجناسا عاليا ، ويجاب بالمنع لجواز أن يكون من مقولة أن ينفعل على ما سبق مع وقوعها في المقولات الأربع بالمعنى الذي ذكرنا ، وإنما يلزم ما ذكر لو كان الحركة الواقعة في الكم من الكم وفي الكيف من الكيف ، وفي الأين من الأين وفي الوضع من الوضع (٢) فإنه يمتنع حينئذ كون مطلق الحركة مندرجة تحت شيء من المقولات العشر لامتناع تداخلها نعم لو (٣) أريد أن الوحدة الجنسية لا يصدق عليها أنها بعض أقسام الحركة ، إنما يكون بالوحدة الجنسية لما فيه الحركة لكان وجها ولا ينافيه كون مطلق الحركة جنسا.

(قال : وأما تضادها :

فلتضاد ما منه وما إليه بالذات كتبيض الأسود ، وتسود الأبيض ، أو بالعرض كالصعود والهبوط بحسب ما عرض لنقطتين من الفوقية ، والتحتية ، وقبل من المبدئية والمنتهية ، ويلزمه التضاد بين كل حركة وعكسها ، ولو على الاستدارة ، وقد ذكروا أن لا تضاد بين الحركات الوضعية حتى الشرقية والغربية ، لأن كلا تفعل مثل ما تفعله الأخرى ، لكن في النصفين على التبادل ، ولعله يلتزم لو ثبت اختلاف الماهية وغاية التخالف).

__________________

(١) المقولات الأربع هي : الكم ، الكيف ، الإضافة ، الجهة.

(٢) الوضع : كون الشيء بحيث يمكن أن يشار إليه إشارة حسية ، والوضع أيضا تعيين الشيء للدلالة على شيء والشيء الاول هو الموضوع لفظا كان أو إشارة أو هيئة والشيء الثاني ، هو المعنى الموضوع له.

والوضع : مقولة من مقولات أرسطو وهو كون الجسم بحيث تكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والموازاة بالقياس إلى الجهات وأجزاء المكان إن كان في مكان مثل القيام والقعود.

(راجع النجاة لابن سينا ١٢٨).

وقيل الوضع : هيئة عارضة للشيء بسبب نسبتين نسبة أجزاء بعضها إلى بعض ، ونسبة أجزائه إلى الأمور الخارجية عنه كالقيام والقعود فإن كلا منهما هيئة عارضة للشخص بسبب نسبة أعضائه بعضها إلى بعض وإلى الأمور الخارجية عنه (تعريفات الجرجاني).

(٣) في (أ) أو بدلا من (لو).

٤٣٩

لا خفاء في أن اختلاف أحوال الحركة إنما يكون لاختلاف متعلقاتها ، فتضاد الحركة ليس لتضاد المتحرك لأنه جسم ، ولا تضاد فيه بالذات ، ولو اعتبرنا التضاد بالعرض فقد يكون متضادا مع تماثل الحركتين كحركة الحار والبارد مثل النار والماء إلى العلو وقد يكون واحدا مع تضاد الحركتين كحركة جسم من العلو إلى السفل وبالعكس أو من البياض إلى السواد وبالعكس ، أو من غاية نموه إلى ذبوله ، وبالعكس ، أو من انتصابه إلى انتكاسه وبالعكس ، ولا لتضاد المحرك لتماثلها مع تضاد المحركتين كما في الحركة الصاعدة للحجر والنار بالقوة القسرية والطبيعية المتضادتين ، وتضادها مع اتحاد المحرك كما في حركة الجسم صعودا وهبوطا بالإرادة أو بالقسر ، ولا لتضاد الزمان لأنه ليس فيه اختلاف ماهية فضلا عن التضاد ، ولو فرض فتضاد العوارض لا يوجب تضاد المعروضات ، ولا لتضاد ما فيه لأن الصعود والهبوط متضادان مع اتحاد ما فيه ، وكذا التسود والتبيض عند اتحاد الطريق فتعين أن يكون تضاد الحركة لتضاد ما منه وما إليه ، وتضادهما قد يكون بالذات كما في الحركة من السواد إلى البياض وبالعكس ومن غاية النمو الذي في طبيعة الجسم إلى غاية الذبول وبالعكس ، ومن الانتصاب إلى الانتكاس وبالعكس. وما يقال إنه لا تضاد في الحركة الوضعية فمختص بالمستديرة وقد يكون بالعرض كما في الحركة الصاعدة مع الهابطة بحسب ما بين مبدئهما من التضاد بعارض كون أحدهما في غاية القرب من المركز والبعد من المحيط والآخر بالعكس ، وكذا المنتهى.

فإن قيل : قد ذكروا أن تضاد العارض لا يوجب تضاد المعروض فكيف أوجب تضاد عارض بعض ما يتعلق به الحركة تضاد الحركة مع أن هذا أبعد ..؟

قلنا : مرادهم أن ذلك بمجرده وعلى إطلاقه لا يوجب تضاد المعروض ، وأما إذا كان بخصوصه بحيث يوجب صدق حد الضدين على المعروض ، أو على ما يتعلق به فلا استبعاد ، وهاهنا قد صدق بتضاد الطرفين حد الضدين على

٤٤٠