شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

المبحث الثالث

العجز ضد القدرة

(قال : المبحث الثالث :

العجز (١) ضد القدرة لا عدم ملكة كما هو رأي أبي هاشم لما نجد من الفرق بين الزمن ، والممنوع مع اشتراكهما في عدم القدرة ، وله أن يمنع ذلك في الممنوع ، أو يجعل الفرق أن من شأنه القدرة بخلاف الزمن.

ويتفرع عن التضاد ما نقل عن الشيخ ، وإن كان خلاف الظاهر أن متعلق العجز هو الموجود ، حتى إن الزمن عاجز عن القعود بمعنى أن فيه صفة (٢) تستعقب القعود لا عن قدرة ، ويبطله القطع بأن عجز المتحدين إنما هو عن الإتيان بمثل القرآن ، والتزام اشتراك اللفظ بين (٣) تلك الصفة ، وعدم القدرة خلاف اللغة).

الجمهور على أن العجز عرض ثابت مضاد للقدرة للقطع بأن في الزمن معنى لا يوجد في الممنوع مع اشتراكهما في عدم التمكن من الفعل.

وعند أبي هاشم هو عدم ملكة للقدرة ، وليس في الزمن صفة متحققة تضاد

__________________

(١) العجز من كل شيء : مؤخره. قال تعالى : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) والعجز أصله التأخر عن الشيء وحصوله عند عجز الأمر أي مؤخره كما ذكر في الدبر. وصار في العرف اسما للقصور عن فعل الشيء وهو ضد القدرة ، وأعجزته وعجزته وعاجزته. جعلته عاجزا.

(٢) في (ب) ضعفا.

(٣) في (ج) عن بدلا من (بين).

٣٦١

القدرة ، بل الفرق أن الزمن ليس بقادر ، والممنوع قادر بالفعل ، أو من شأنه القدرة بطريق جري العادة على ما سبق.

ويتفرع على كون العجز ضد القدرة ما ذهب إليه الشيخ الأشعري من أنه إنما يتعلق بالموجود كالقدرة لأن تعلق الصفة الموجودة بالمعدوم خيال (١) محض ، فعجز الزمن يكون عن القعود الموجود لا عن القيام المعدوم.

ولا خفاء في أن هذا مكابرة ، وأن العجز على تقدير أن يكون وجوديا وإن لم يقم عليه دليل فلا امتناع في تعقله بالمعدوم كالعلم والإرادة ، ولهذا أطبق العقلاء على أن عجز المتحدين لمعارضة القرآن إنما هو عن الإتيان بمثله ، لا عن السكوت وترك المعارضة والقول باشتراك لفظ العجز بين عدم القدرة فيكون عدميا يتعلق بالمعدوم دون الموجود ، وبين صفة تستعقب الفعل لا عن قدرة فيكون وجوديا يتعلق بالموجود دون المعدوم (٢) خلاف العرف واللغة. ولو سلم فالكلام فيما هو المتعارف الشائع الاستعمال.

قال : وفي تضاد النوم للقدرة تردد ، إذ قد يصدر عن النائم بعض الأفعال ، ويمتنع الأكثر).

__________________

(١) الخيال : الشخص ، والطيف وصورة تمثال الشيء في المرآة ، وما تشبه لك في اليقظة والمنام من صور.

والخيال أيضا : الظن والتوهم وهو يدل على الصورة الباقية في النفس بعد غيبة المحسوس عنه.

والخيال عند الفلاسفة القدماء : قوة النفس تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة ، ونحن نسمي ذلك تخيلا وله نوعان ، أحدهما تمثيلي والآخر مبدع.

والخيال عند الصوفية : هو الوجود ، لأن الناس كما قيل نيام لا يرون في هذه الدنيا إلا خيالا فإذا ماتوا انتبهوا.

(٢) العدم : ضد الوجود ، وهو مطلق أو إضافي. فالعدم المطلق هو الذي لا يضاف إلى الشيء ، والعدم الإضافي أو المقيد ، هو المضاف إلى شيء كقولنا عدم الأمن ، وعدم الاستقرار ، وعدم التأثر. قال ابن سينا : البالغ في النقص غايته. فهو المنتهي إلى مطلق العدم فبالحرى أن يطلق عليه معنى العدم المطلق (الاشارات ٦٠ : ٧٠). وقال أيضا : وأما العدم ، فليس هو بذات موجودة على الاطلاق ولا معدومة على الاطلاق بل هو ارتفاع الذات الوجودية بالقوة.

(راجع النجاة ص ١٦٤).

٣٦٢

لا خفاء في جواز بعض الأفعال عن النائم ، وامتناع الأكثر ، واختلفوا فيما يصدر.

فذهب المعتزلة وبعض أصحابنا إلى أنه مقدور له ، وأن النوم لا يضاد القدرة ، ونفاه الأستاذ أبو اسحاق ذهابا إلى التضاد كالعلم والإدراك.

وتوقف القاضي وبعض الأصحاب ، وللمعتزلة في القدرة تفريعات وتفاصيل لا نطول الكتاب بذكرها.

(قال : ويضادها الخلق من جهة أنه ملكة تصدر بها الأفعال عن النفس بسهولة ، ومن غير روية ، وان نسبته إلى الطرفين لا تكون على السوية).

يريد أن من الكيفيات النفسانية الخلق ، وفسر بملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير تقدم فكر وروية ، فغير الراسخ من صفات النفس لا يكون خلقا كغضب الحليم ، وكذا الراسخ الذي يكون مبدأ لأفعال الجوارح بسهولة كملكة الكتابة أو يكون نسبته إلى الفعل والترك على السواء كالقدرة ، أو يفتقر في صدور الفعل عنه إلى فكر وروية كالبخيل إذا حاول الكرم ، وكالكريم إذا قصد بالعطاء الشهرة ، ولكن كانت القدرة تصدر عنها الفعل لا بسهولة واستغناء عن روية ، وكانت نسبتها إلى طرفي الفعل والترك على السوية حكم بأنها تضاد الخلق مضادة مشهورة.

وهذا ما قال في التجريد (١) أن القدرة تضاد الخلق لتضاد أحكامها.

(قال : ومنها : اللذة (٢) والألم وهما بديهيان ، وقد يفسران بإدراك

__________________

(١) كتاب تجريد الكلام. للعلامة المحقق نصير الدين أبي جعفر محمد بن محمد الطوسي المتوفى سنة ٦٧٢ ه‍.

أول الكتاب : أما بعد حمد واجب الوجود الخ قال : فإني مجيب إلى ما سألت من تحرير مسائل الكلام وترتبها على أبلغ نظام وسميته تجريد العقائد وهو على ستة مقاصد. والكتاب له شروح كثيرة.

(راجع كشف الظنون ج ١ ص ٢٤٦ وما بعدها).

(٢) اللذة مقابلة للألم ، وهما بديهيان ، أي من الكيفيات النفسانية الأولية فلا يعرفان بل تذكر خواصهما وشروطهما وأسبابهما.

٣٦٣

الملائم والمنافي من حيث هما كذلك فهما نوعان من الإدراك اعتبر فيهما إضافة تختلف بالقياس إلى المدرك وإضافة لذات الملائم أو المنافي لا صورتهما والحق أنا نجد حالة هي اللذة، ونعلم أن ثمة إدراكا للملائم واما انهما نفسه ، أو أمر حاصل به.

وهل يحصل بغيره ، ففيه تردد.

وقد يفسر بالخروج عن الحالة الغير الطبيعية ويبطله الالتذاذ بإصابة مال ، أو مطالعة جمال من غير طلب وشوق).

أي من الكيفيات النفسانية اللذة والألم وتصورهما بديهي كسائر الوجدانيات ، وقد يفسران قصدا إلى تعيين المسمى وتلخيصه فيقال : اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، والألم إدراك المنافي من حيث هو مناف ، والملائم للشيء كماله الخاص أعني الأمر اللائق به (١) كالتكيف بالحلاوة للذائقة ، وتعقل الأشياء على ما هي عليه للعاقلة ، وقيد بالحيثية لأن الشيء قد يكون ملائما من وجه دون وجه فإدراكه لا من جهة الملائمة لا يكون لذة كالصفراوي لا يلتذ بالحلو ، والمراد بالإدراك الوصول إلى ذات الملائم لا إلى مجرد صورته ، فان تخيل اللذيذ غير اللذة ، ولذا كان الأقرب ما قال ابن سينا : إن اللذة إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ، والألم إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر من حيث هو كذلك (٢) ، فذكر مع الإدراك النيل. أعني الإصابة والوجدان ، لأن إدراك

__________________

وقد قيل : إن اللذة إدراك الملائم من حيث إنه ملائم كطعم الحلاوة عند حاسة الذوق ، والنور عند البصر.

(راجع تعريفات الجرجاني).

وقال ابن سينا : اللذة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك.

(راجع الاشارات ص ١٩١).

(١) في (ب) بزيادة لفظ (به).

(٢) راجع الإشارات ص ١٩١.

٣٦٤

الشيء قد يكون بحصول صورة تساويه ، ونيله لا يكون إلا بحصول ذاته ، واللذة لا تتم بحصول ما يساوي اللذيذ ، بل إنما يتم بحصول ذاته. وذكر الوصول لأن اللذة ليست هي إدراك اللذيذ فقط ، بل هي إدراك حصول اللذيذ للملتذ ، ووصوله إليه ، والفرق بين الكمال (١) والخير هو أن حصول ما يناسب الشيء ويليق به من حيث اقتضائه براءة ما لذلك الشيء من القوة إلى الفعل كمال له ومن حيث كونه مؤثرا خير ، ثم المعتبر كماليته وخيريته بالقياس إلى المدرك لا في نفس الأمر لأنه قد يعتقد الكمالية والخيرية في شيء فيستلذ به ، وإن لم يكونا فيه وقد لا يعتقدهما فيما تحققنا فيه فلا يلتذ به ، ولهذا يحصل من شيء معين لذة ، أو ألم لزيد دون عمرو وبالعكس ، فكل من اللذة والألم نوع من الإدراك اعتبر فيه إضافة إلى ملائم ، أو مناف يختلف بالقياس إلى المدرك ، وإصابة ووجدان لذات الملائم ، أو المنافي من حيث هو كذلك لا للصورة الحاصلة منه ، وبقيد الحيثية يندفع ما يقال : إن المريض قد يلتذ بالحلاوة مع أنها لا تلائمه بل تضره وينفر (٢) عن الأدوية ، وهي تلائمه وتنفعه ، وذكر الإمام بعد الاعتراف بأن اللذة والألم حقيقتان غنيتان عن التعريف أنا نجد من أنفسنا حالة نسميها باللذة ، ونعرف أن هناك إدراكا للملائم لكن لم يثبت لنا أن اللذة نفس إدراك الملائم أو غيره ، وبتقدير المغايرة هل هي معلولة له ، أم لا؟ وبتقدير المعلولية هل يمكن حصولها بطريق آخر؟.

__________________

(١) الكمال : مصدر كمل ، وهو حال الكامل ، ويطلق على ما يكمل به النوع في ذاته أو في صفاته ، فالذي يكمل به النوع في ذاته يسمى بالكمال الأول لتقدمه على النوع ، والذي يكمل به النوع في صفاته يسمى بالكمال الثاني.

والكمال الأول يسمى عند أرسطو (انتلثيا) وهو حال الموجود المتحقق بالفعل ، أو هو الصورة أو العلة التي تخرج الشيء من القوة إلى الفعل ومنه قول ابن سينا : النفس النباتية كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويتغذى.

والنفس الحيوانية. كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالارادة. والنفس الإنسانية كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكامنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.

(راجع النجاة ٢٥٨).

(٢) في (أ) تغيره وتينفر بدلا من (تضره وتنفر).

٣٦٥

ثم قال : والأقرب أن الألم ليس هو نفس إدراك المنافي ولا هو كاف في حصوله ، لأن التجارب الطبية قد شهدت له (١) بأن سوء المزاج الرطب غير مؤلم مع أن هناك إدراك أمر غير طبيعي ، وسنتكلم على ذلك ، وزعم محمد ابن زكريا أن اللذة عبارة عن التبدل والخروج عن حالة غير طبيعية (٢) إلى حالة طبيعية ، وبه صرح جالينوس (٣) في مواضع من كلامه ، وهو معنى الخلاص عن الألم ، وذلك كالأكل للجوع ، والجماع لدغدغة المنى أوعيته.

وأبطله ابن سينا وغيره بأنه قد تحصل اللذة من غير سابقة ألم ، وحالة غير طبيعية كما في مصادفة حال ومطالعة جمال من غير طلب وشوق لا على التفصيل ولا على الإجمال بأن لم يخطر ذلك بباله قط (٤) لا جزئيا ولا كليا ، وكذا في إدراك الذائقة الحلاوة أول مرة ، وقد يحصل ذلك التبدل من غير لذة كما في حصول الصحة على التدريج وفي ورود المستلذات من الطعوم والروائح والأصوات وغيرها على من له غاية الشوق إلى ذلك ، وقد عرض له شاغل عن الشعور والإدراك قالوا : وسبب السهو أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ، فان الألم واللذة لا يتمان إلا بإدراك ، والإدراك الحسي خصوصا اللمسي لا يحصل إلا بانفعال عن العند (٥) ، ولذلك متى استقرت الكيفية الموجبة لذلك لم يحصل الانفعال (٦) فلم يحصل الإدراك بل تحصل لذة ولا ألم.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (له).

(٢) في (أ) بزيادة (طبيعية).

(٣) سبق أن ترجم له في هذا الجزء.

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (قط).

(٥) في (ب) الضد بدلا من (العند).

(٦) انفعل مطاوع فعل ، تقول : فعلت الشيء فانفعل ، كقولك : كسرته فانكسر وقد أطلق أولا على إحدى مقولات أرسطو (أن ينفعل) وهي ضد مقولة (أن يفعل).

قال ابن سينا : الانفعال : هو نسبة الجوهر إلى حالة فيه بهذه الصفة كالتقطع والتسخن.

ر (راجع النجاة ص ١٢٨).

وقال الغزالي : هو نسبة الجوهر المتغير إلى الجوهر المغير فإن كل منفعل فمن فاعل وكل متسخن ومتبرد فمن مسخن ومبرد بحكم العادة المطردة عند أهل الحق ، وبحكم ضرورة الجلسة عند المعتزلة والفلاسفة. والانفعال على الجملة تغير والتغير قد يكون من كيفية إلى كيفية.

٣٦٦

وبالجملة فلما لم تحصل اللذة إلا عند تبدل الحالة الغير الطبيعية ظنوا أنها نفسه ، ولا خفاء في إمكان معارضة هذا الكلام بالمثل ، ودفعها بما سبق من الوجهين.

(قال : ثم كل من اللذة والألم ينقسم إلى الحسي والعقلي حسب الإدراك ، والعقلي أقوى لأن المعقولات أكثر وإدراك العقلي أكمل (١) وكلاهما من الكيفيات النفسانية لأن المحسوس في الحسي هو ما يلتذ به ، أو يتألم لا نفس اللذة أو الألم).

فإنه ينقسم إليهما فينحصر فيهما عند أرباب البحث ، أما الحسي فظاهر كتكيف العضو الذائق بالحلاوة والقوة الغضبية بتصور غلبة ما ، والوهم بصورة شيء يرجوه إلى غير ذلك.

وأما العقلي فلأن للجوهر العاقل أيضا كمالا وهو أن يتمثل فيه ما يتعقله (٢) من الواجب تعالى بقدر الاستطاعة ، ثم ما يتعقله من صور معلولاته المترتبة أعني الوجود كله تمثلا مطابقا خاليا عن شوائب الظنون والأوهام بحيث يصير عقلا مستفادا على الإطلاق ولا شك أن هذا الكمال خير بالقياس إليه وأنه مدرك لهذا الكمال ، ولحصول هذا الكمال له فإذن هو ملتذ بذلك وهذه هي اللذة العقلية ، وأما الألم فهو أن يحصل له ضد هذا الكمال ، ويدرك حصوله من حيث هو ضد ثم إذا قايسنا بين اللذتين فالعقلية أكثر كمية ، وأقوى كيفية أما الأول : فلأن عدد تفاصيل المعقولات أكثر بل يكاد لا يتناهى.

وأما الثاني : فلأن العقل يصل إلى كنه المعقول ، والحس لا يدرك إلا ما يتعلق بظواهر الأجسام ، فتكون الكمالات العقلية أكثر وإدراكاتها أتم ، فكذا

__________________

(راجع معيار العلم ص ٢٠٩ : ٢١٠).

وقال الجرجاني : الانفعال هو الهيئة الحاصلة للمتأثر من غيره بسبب التأثير أولا ، كالهيئة الحاصلة للمنقطع ما دام منقطعا.

(راجع التعريفات).

(١) في (أ) و (ب) لكل وهو تحريف.

(٢) في (ب) ما يتعلق بدلا من (ما يتعقله).

٣٦٧

اللذات التابعة لهما وبحسب هذا تعرف حال الآلام عند التنبه لفقد الكمالات وأما أن العالم قد لا يلتذ بالإدراكات ، ولا يتألم بالجهالات فعله لانتفاء بعض الشروط ، والقيود المعتبرة في كون الإدراك لذة أو ألما.

فإن قيل : الحسي من اللذة والألم ينبغي أن يعد من الكيفيات المحسوسة دون الكيفيات النفسانية. قلنا : المدرك بالحس هو الكيفية التي يلتذ بها أو يتألم ، كالحلاوة والمرارة مثلا.

وأما نفس اللذة والألم التي هي من جنس الإدراك والنيل فلا سبيل للحواس الظاهرة إلى إدراكها.

(قال : والحسي (١) من الألم سيما اللمس يسمى وجعا وحصر ابن سينا سببه في تفرق الاتصال وسوء المزاج المختلف الحاد أو البارد لأن الرطب واليابس انفعاليات.

نعم : قد يؤلم اليابس بالعرض لاستتباعه لشدة التقبيض تفرق لاتصال بخلاف الرطب فإن ما يستعقبه من التمديد إنما هو بالمادة بخلاف المتفق ، أعني ما استقر في جوهر العضو ، وأبطال المقاومة وصار في حكم المزاج الأصلي ، وذلك لأن شرط انفعال الحاسة عن المحسوس المخالفة في الكيف).

لا شك أن لفظ اللذة أو الألم بحسب اللغة إنما هو للحسي دون العقلي ، وأما بحسب العرف فالظاهر أنه بحسب المعنوي حيث يؤخذ الإدراك أعم من الإحساس والتعقل ، ولا يرد الاعتراض بأن المدقوق. (قد يتعقل أن فيه حرارة غير طبيعية ولا يتألم لأن الحاصل(٢)). بهذا التعقل صورة الحرارة المطابقة فهو إدراك

__________________

(١) المحسوس ما يدرك بالحواس ، ويرادفه الحس ، ويقابله المعقول وجمعه محسوسات. قال ابن سينا : المحسوسات كلها تتأدى صورها إلى آلات الحس وتنطبع فيهما فتدركها القوة الحاسة.

(راجع النجاة ٢٦١).

وقال التهانوي : المحسوس هو الحس أي المدرك بالحس.

(راجع كشاف اصطلاحات الفنون).

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

٣٦٨

ملائم لا مناف ، وإنما المنافي هوية الحرارة الغريبة وليست بمدركة ، وإن كانت حاصلة لأنها صارت بمنزلة الطبيعة فلم يكن هناك انفعال وشعور فلم يكن ألم.

وقيل : الاشتراك لفظي ، والتفسير إنما هو للحسي خاصة ، وأما الوجع فمختص بالحسي في العرف أيضا ، بل الأظهر اختصاصه باللمس على ما صرح به البعض ، وإن كان ظاهر كلام أئمة اللغة أنه يرادف الألم ، فلذا قلنا : الحسي من الألم سيما اللمسي يسمى وجعا.

واتفقت كلمة الأطباء على أن كلا من تفرق الاتصال وسوء المزاج المختلف يقع سببا للوجع في الجملة ، وأن لا سبب له (١) سواهما ، إما بحكم الاستقراء ، وإما بالاستدلال وإن كان ضعيفا ، وهو أن كمال العضو صحته وهي بالمزاج المعتدل ، والهيئة التي بها تتأتى الأفعال على ما يجب.

فالمنافي لهذا الكمال يكون مبطلا لاعتدال المزاج ، وهو سوء المزاج ، أو للهيئة وهو تفرق الاتصال.

وإنما اختلفوا في أن كلا منهما يصلح سببا بالذات كما يكون بالعرض وهو مذهب ابن سينا.

أو السبب بالذات هو تفرق الاتصال فقط ، وسوء المزاج إنما يكون سببا بواسطة ما يلزمه من تفرق الاتصال وهذا هو المشهور من مذهب جالينوس وكثير من الأطباء ، أو بالعكس أي السبب بالذات هو سوء المزاج فقط ، والتفرق إنما يكون سببا بواسطته. وإلى هذا مال الإمام الرازي وجمع من المتأخرين.

وعلى كل من المذاهب احتجاجات واعتراضات أعرضنا عنها مخافة التطويل ، وتفاصيلها في شرح القانون (٢) واشترط ابن سينا في سوء المزاج (٣)

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (له).

(٢) راجع ما كتبه ابن سينا في كتابه القانون الفصل الثالث في علامات الأمزجة الجزء الأول ص ١١٤ ، وأيضا ما كتبه في الفن الثالث في سبب الصحة والمرض وضرورة الموت الجزء الأول ص ١٤٨ ط مؤسسة الحلبي وشركاه.

(٣) عبارة ابن سينا في كتاب القانون «وقد يمكن أن يتعرف من حال أظافر اليدين في لينها ـ

٣٦٩

المؤلم أن يكون حارا ، أو باردا ، لا رطبا أو يابسا ، وأن يكون مختلفا لا متفقا.

أما الأول : فلأن الرطوبة واليبوسة من الكيفيات الانفعالية دون الفعلية ، وفيه بحث لأنه إن أريد أنهما ليست فاعليتين والمؤلم بالذات فاعل فيشكل بجعل اليبوسة سببا لتفرق الاتصال وكليهما لكثير من الأمراض فليكونا سببين للوجع بذلك المعنى ، من غير توسط تفرق الاتصال فلا ينحصر السبب فيه ، وفي سوء المزاج الحار أو البارد.

وأما السبب بالذات بمعنى المؤثر بالطبع فلا دليل على كون الحار والبارد وتفرق الاتصال كذلك ، وإن أريد أن الوجع إحساس ما ، والإحساس انفعال والانفعال لا يكون إلا عن فاعل وهما ليسا من الكيفيات الفاعلة فيشكل بتصريح ابن سينا في مواضع من كتبه بل إطباق القوم على أنهما من الكيفيات المحسوسة بل أوائل الملموسات فعند خروجهما عن (١) الاعتدال يكونان متنافيين ، فإدراكهما من حيث هما كذلك يكون ألما ثم ذكر ابن سينا أن : سوء المزاج اليابس قد يكون مؤلما بالعرض لأنه قد يتبعه لشدة التقبيض (٢) تفرق الاتصال المؤلم بالذات.

واعترض بأن الرطب أيضا (٣) قد يستتبعه بواسطة التمديد اللازم لكثرة الرطوبة المحوجة إلى مكان أوسع وأجيب بأن ذلك إنما يكون في الرطوبة التي مع المادة فيكون الموجب هو المادة لا الرطوبة نفسها.

وأما الثاني : فلأن سوء المزاج المتفق غير مؤلم ، ولذلك يسمى بالمتفق

__________________

ـ وخشونتها ويبسها حال مزاج البدن ان لم ذلك بسبب غريب على أن الحكم من اللين والصلابة متوقف على تقدم صحة دلالة الاعتدال في الحرارة والبرودة فإنه إن لم يكن كذلك أمكن أن يلين الحار الملمس الصلب والخشن فضلا عن المعتدل بتحليله فيتوهم أنه لين بالطبع ورطب ، وأن يصلب البارد الملمس اللين فضلا عن المعتدل إجماده الخ».

(كتاب القانون ـ ١ ص ١١٦).

(١) في (ب) من بدلا من (عن).

(٢) في (ب) النقص وعبارة ابن سينا (التقبيض).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (أيضا).

٣٧٠

والمستوى حيث شابه المزاج الأصلي في عدم الإيلام ، وذلك لأنه عبارة عن الذي استقر في جوهر العضو وأبطل المقاومة ، وصار في حكم المزاج الأصلي فلا انفعال فيه للحاسة ، فلا إحساس فلا ألم ، وأيضا المنافاة إنما تتحقق بين شيئين فلا بد من بقاء المزاج الأصلي عند ورود الغريب ليتحقق إدراك كيفية منافية لكيفية العضو فيتحقق الألم ، وأيضا الدق (١) أشد حرارة من الغب لأن الجسم الصلب لا يتسخن إلا عن حرارة قوية ، ولأنها تستعمل فيها مبردات أقوى مما يستعمل في الغب ، ولأنها تؤدي إلى ذوبان مفرط من الأعضاء حتى الصلبة منها وصاحب الدق (٢) لا يجد من الالتهاب ما يجده صاحب الغب وما ذاك إلا لكون سوء المزاج المتفق لا يحس به.

وأيضا المستحم في الشتاء يشمئز (٣) بدنه عن الماء الفاتر ويتأذى به ، ثم إنه بعد ذلك يستلذه ويستطيبه ثم إذا استعمل ماء حارا تأذي به ، ثم بعد ذلك يستلذه ثم إذا استعمل الماء الأول استبرده وتألم به ، وذلك لما ذكرنا .. واعلم أن سوء المزاج المختلف قد لا يوجع بل لا يدرك بالكلية وذلك إذا كان حدوثه بالتدريج فان الحادث منه أولا يكون قليلا جدا فلا يشعر به وبمنافاته ، ثم في الزمان الثاني تكون الزيادة على تلك الحالة غير مشعور بها ، وكذا في كل زمان.

وهذا بخلاف ما يحدث دفعة لكثرته يكون مدركا ثم (٤) يستمر إدراكه ما دام مختلفا.

(قال : واعترض الامام الرازي بأن التفرق (٥) عدمي ، وبأن من دوام الاغتذاء والتحلل تفرقا كثيرا في الأعضاء ، ولا ألم وبأن الألم قد يتأخر عن التفرق كما في

__________________

(١) في (ب) الذوق وهو تحريف.

(٢) في (ب) الذوق بدلا من (الدق).

(٣) في (ب) يقشعر بدلا من (يشمئز).

(٤) في (أ) لم بدلا من (ثم).

(٥) الفرقة بالضم : الافتراق ، وفرق بينهما فرقا وفرقانا : فصل. وقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي يقضى ، وقوله تعالى (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) أي فصلناه وأحكمناه ، وقوله تعالى : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) أي فلقناه ، وقوله تعالى (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) أي الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل.

٣٧١

القطع بما هو في غاية الحدة مدفوع بأن التفرق حركة ، بعض الأجزاء عن البعض على أن الممتنع سببية المعدوم دون العدمي خصوصا في المعدوم والمراد أن القدر المحسوس من التفرق إذا كان في عضو حاس مع الشعور والتفات النفس من غير ألف واستمرار وقد أدرك من جمعه كونه منافيا فهو مؤلم ، ولو بواسطة استتباعه فقدان هيئة العضو كماله اللائق وحينئذ لا إشكال).

إشارة إلى دفع الشبه التي أوردها الإمام على كون تفرق الاتصال سببا للوجع ، فمنها : أن التفرق يرادف الانفصال وهو عدمي فلا يصلح علة للوجع لأنه وجودي.

وأجيب : أن الانفصال المرادف للتفرق ليس هو عدم الاتصال بل حركة بعض الأجزاء عن البعض فلا يكون عدميا ، ولو سلم فلا محالة يلزمه كون هيئة العضو فاقدة كماله اللائق به وأمكن إدراكه من هذه الجهة فيكون موجعا بذاته بمعنى أنه ليس بتوسط سوء المزاج ، وإن كان بتوسط ما يلزمه من خروج الهيئة العضوية عن كمالها.

ولو سلم فالعدمي لا يلزم أن يكون معدوما ليمتنع كونه علة للوجودي ، ولو سلم فالمراد بالسبب هاهنا المعد أي الفاعل لإعداد العضو لقبول الوجع لا المؤثر الموجد ، ولا امتناع في أن يكون التفرق العدمي بحيث متى حصل اقتضى الوجع كسوء المزاج.

ومنها أنه : لو كان سببا للوجع لكان الإنسان دائما في الوجع لأنه دائما في تفرق الاتصال بواسطة الاغتذاء والتحلل ، لأن الاغتذاء والنمو إنما يكون بنفوذ الغذاء في الأعضاء والتحلل إنما يكون بانفصال أجزاء عن الأعضاء.

لا يقال : هذا التفرق لكونه في غاية الصغر لا يؤلم أو لا يحس بألمه لا سيما وقد صار مألوفا بدوامه.

لأنا نقول : كل تفرق وإن كان صغيرا لكن جملتها كثيرة جدا ، ولو كان التفرق حين ما كان مألوفا غير مؤلم لكان تفرق كذلك ، لأن حكم الأمثال واحد.

ومنها : أن التفرق لو كان سببا بالذات لما تأخر عنه الأثر بحسب الزمان.

٣٧٢

واللازم باطل لأن قطع العضو بآلة في غاية الحدة قطعا في غاية السرعة لا يحس منه بالألم إلا بعد لحظة. ريثما (١) يحصل سوء المزاج.

وجوابهما : أنا لا نعنى بكون تفرق الاتصال سببا للوجع بالذات أنه نفسه تمام العلة بحيث لا يتخلف الوجع عنه أصلا ، بل نعني أن القدر المحسوس من التفرق إذا كان في عضو حاس (٢) مع التفات النفس إليه والشعور به من غير أن يصير مستمرا مألوفا. ويشترط أن يدرك من جهة كونه منافيا لكيفية العضو فهو مؤلم بالذات بمعنى عدم التوقف على سوء المزاج ، وإن كان إيلامه بواسطة ما يلزمه من فقدان هيئة العضو ، كماله اللائق به وحينئذ يجوز أن (٣) لا يكون التفرق في الاغتذاء والتحلل قدر ما يدركه الحس ، أو يكون مألوفا لا يضر ولا يؤلم أو يكون إدراكه لا من جهة كونه منافيا وتفرقا ، بل من جهة كونه ملائما ونافعا (٤) للبدن ببقاء الصحة والقسوة وبقاء البدن ، من الفضول.

وما ذكر من لزوم استواء التفرقات في الأحكام ظاهر الفساد.

كيف : والتفرق (٥) الغذائي طبيعي دائم في أجزاء صغيرة مألوف يترتب عليه للبدن مصالح كثيرة وقطع العضو ليس كذلك وأما قطع العضو سريعا بآلة في غاية الحدة فإن كان مع التفات النفس والشعور فلا نسلم تأخر الألم. وإن كانت بدونه فلا إشكال.

ألا ترى أن من انصرف فكرته إلى أمر مهم (٦) شريف كالتأمل في مسألة علمية ، أو خسيس كاللعب بالنرد (٧) والشطرنج (٨) ، أو بتوسط كالابتلاء بوجع أقوى

__________________

(١) في (ب) ربما وهو تحريف.

(٢) في (ب) خاص بدلا من (حاس).

(٣) في (ب) إذ بدلا من (أن).

(٤) في (ب) تابعا بدلا من (نافعا).

(٥) في (أ) والتعرف بدلا من (التفرق).

(٦) في (ب) ألهم بدلا من (مهم).

(٧) النرد : لعبة ذات صندوق وحجارة وفصين تعتمد على الحظ وتنقل فيها الحجارة على حسب ما يأتي به الفص (الزهر) وتعرف عند العامة ب (الطاولة).

(٨) الشطرنج : لعبة تلعب على رقعة ذات أربعة وستين مربعا وتمثل دولتين متحاربتين باثنين وثلاثين قطعة تمثل الملكين والوزيرين والخيالة والقلاع والفيلة والجنود.

٣٧٣

أو الوقوع في معركة والاهتمام بمهم دنيوي ربما لا يدرك ألم الجوع والعطش ، وكثير من المؤذيات ، وكذا المستلذات.

ومنها : أنه لو كان سببا لكانت الجراحة العظيمة أقوى إيلاما من لسعة العقرب ، لكون التفرق في الجراحة أكثر وجوابه أن ذلك (١) : إنما يلزم لو كان ألم لسعة العقرب أيضا لتفرق الاتصال وهو ليس بلازم لجواز أن يكون لما يحصل بواسطة السمية من سوء مزاج مختلف أقوى تأثيرا من الجراحة العظيمة.

الصحة والمرض

(قال : منها الصحة والمرض.

أما الصحة فعرفها ابن سينا (٢) بأنها ملكة أو حال تصدر عنها الأفعال من الموضوع لها سليمة يعني أن (٣) جنسها الكيفية النفسانية سواء كانت بصفة الرسوخ أو دونها لا كما هو رأي البعض (٤) من تخصيصها بالراسخة على ما قال في الشفاء ملكة في الجسم الحيواني تصدر عنه لأجلها الأفعال غير فارقة ، وقدم الملكة لأنها أشرف وأغلب ، والمتفق على كونها صحة ، وفيما زعم الإمام من شمولها صحة النبات ذهول عن معنى الملكة والحالة ، وأما تخصيصها بالإنسان فيما قال : إنها هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنه الأفعال كلها صحيحة سليمة ، فبالنظر إلى أنها المبحوث عنها في الطب (٥) ، والمراد بالصحة والسلامة المعنى اللغوي بدليل الإسناد إلى الأفعال فلا دور.

والدلالة بكلمتى عن ومن على مبدئية كل من الحال والمحل مبنية على أن

__________________

(١) في (ب) بزيادة حرف (أن).

(٢) راجع ما كتبه ابن سينا في كتاب القانون في الفصل المفرد في سبب الصحة والمرض وضرورة الموت الجزء الأول ص ١٤٨ وما بعدها.

(٣) في (أ) بزيادة حرف (أن).

(٤) في (أ) بزيادة حرف (من).

(٥) راجع ما كتبه ابن سينا في كتاب القانون الجزء الأول ص ٢ عن حد الطب في الفصل الأول من التعليم الأول من الفن الأول من الكتاب الأول.

٣٧٤

الأول فاعلي والثاني مادي أو الأول آلي والثاني فاعلي ، وأما المرض فجعله تارة ملكة أو حالة مضادة للصحة ، وتارة عدم ملكة لها بناء على أنه قد يطلق على زوال الصحة ، وقد يطلق على ما يحدث عنده من المبدأ للآفة في الأفعال ، وعلى تقدير التضاد فهما من جنس الكيفية النفسانية وقد يذكر عند تعداد أنواعهما ما يدل على أن كليهما أو المرض خاصة من قبيل المحسوسات ، أو غير الكيفيات وهو تسامح).

أي من الكيفيات النفسانية الصحة والمرض.

أما الصحة فقد عرفها ابن سينا في أول القانون بأنها : ملكة أو حالة يصدر عنها الأفعال من الموضوع لها سليمة وليست كلمة أو لترديد المنافي للتحديد ، بل للتنبيه على أن جنس الصحة هو الكيفية النفسانية سواء كانت راسخة أو غير راسخة ، ولا يختص بالراسخة كما زعم البعض على ما قال في الشفاء إنها ملكة في الجسم الحيواني يصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعي غير مألوفة فأورد ما هو صحة بالإنفاق وهذا ما قيل : إن جنسها هو المسمى بالحال أو الملكة ، وليس هناك شك في ذاتي للصحة ولا في عرضي على ما قال الإمام إنه لا يلزم من الشك في اندراج الصحة بحسب (١) الحال أو الملكة شك في شيء من مقومات (٢) الصحة ، بل في بعض عوارضها.

لأن المخالفة بين الحال والملكة إنما هي بعارض الرسوخ (٣) وعدمه وإنما قدم الملكة على الحال في الذكر مع أنها متأخرة (٤) عنه في الوجود حيث تكون الكيفية أولا حالا ثم تصير ملكة لأن الملكة لرسوخها أشرف من الحال ، ولأنها أغلب في الصحة وقال الإمام : لأنها لم يقع اختلاف في كونها صحة بخلاف الحال ولأنها غاية الحال ، والغاية متقدمة في العلية وهذا التعريف يتناول صحة الإنسان وغيره من الحيوانات وما ذكر الإمام من أنه يتناول صحة النبات أيضا وهو ما إذا كان أفعاله من الجذب (٥) والهضم سليمة ليس بمستقيم لأن الحال والملكة

__________________

(١) في (أ) تحت وهو تحريف.

(٢) في (ب) مقولات بدلا من (مقومات).

(٣) في (ب) الموضوع بدلا من (الرسوخ).

(٤) في (ب) متنافرة بدلا من (متأخرة).

(٥) في (ب) الجدب بالدال بدلا من (الذال).

٣٧٥

إنما تكونان من الكيفيات النفسانية ، أي المختصة بذوات الأنفس الحيوانية على ما صرحوا به ، وعلى هذا يكون في تعريف الشفاء تكرار اللهم إلا أن يراد بالملكة الحال الراسخ وغير الراسخ من مطلق الكيفية ، أو يراد بالأنفس أعم من الحيوانية والنباتية وكلاهما خلاف الاصطلاح.

وأما ما ذكر في موضع آخر من القانون أن الصحة هيئة تكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث تصدر عنه الأفعال كلها صحيحة سليمة ، فمبني على أن الصحة المبحوث عنها في الطب هي صحة الإنسان والمراد بصحة الأفعال وسلامتها خلوصها عن الآفة وكونها على المجرى الطبيعي على ما يناسب المعنى اللغوي فلا يكون تعريف صحة البدن والعضو بها تعريف الشيء بنفسه وهذا ما قال الإمام : أن الصحة في الأفعال أمر محسوس وفي البدن غير محسوس ، وتعريف غير محسوس بالمحسوس جائز ، وأما الاعتراض بأن قوله : تصدر عنها الأفعال مشعر بأن المبدأ هي تلك الملكة أو الحال وقوله : من الموضوع مشعر بأنه الموضوع أعني البدن أو العضو.

فأجيب عنه بوجهين :

أحدهما : أن الصحة مبدأ فاعلي ، والموضوع قابل والمعنى كيفية تصدر عنها الأفعال الكائنة من الموضوع الحاصلة فيه.

وثانيهما : أن الموضوع قابل (١) والصحة واسطة بمنزلة العلة لفاعليته والمعنى يصدر لأجلها وبواسطتها الأفعال من الموضوع وتحقيقه أن القوى الجسمانية لا تصدر عنها أفعالها إلا بشركة من موضوعاتها ، فالمسخن هو النار ، والنارية علة لكون النار مسخنة. فالمراد أن الصحة علة لصيرورة البدن مصدرا للفعل السليم. وهذا المعنى واضح في

__________________

(١) في (أ) قابل بدلا من (فاعل).

٣٧٦

عبارة القانون (١) في التعريف الثاني ، وأوضح منه عبارة الشفاء لأن اللام أوضح في التعليل من الباء ، وهي من عن. فاندفاع الاعتراض عنها في غاية الظهور. والإمام إنما أورده على العبارة الأولى فما ذكر في المواقف أن الصحة ملكة أو حالة تصدر بها الأفعال عن الموضوع لها سليمة. وأن الإمام أورد عليه هذا الاعتراض ليس على ما ينبغي وأما المرض فقد عرفه ابن سينا بأنه هيئة مضادة للصحة أي ملكة أو حالة (٢) تصدر عنها الأفعال عن الموضوع لها غير سليمة ، وذكر في موضع من الشفاء (٣) أن المرض من حيث هو مرض بالحقيقة فهو عدم محض (٤) لست أعني من حيث هو سوء (٥) مزاج أو ألم ، وهذا مشعر بأن بينهما تقابل الملكة والعدم ، ووجه التوفيق بين كلاميه على ما أشار إليه الإمام ، هو أن الصحة عنده هيئة هي مبدأ لسلامة الأفعال ، وعند المرض تزول تلك الهيئة ، وتحدث هيئة هي مبدأ للآفة في الأفعال ، فإن جعل المرض عبارة عن عدم الهيئة الأولى وزوالها فبينهما تقابل العدم والملكة ، وإن جعل عبارة عن نفس الهيئة الثانية فتقابل التضاد ، وكأنه يريد أن لفظ المرض مشترك بين الأمرين أو حقيقة في أحدهما ، مجاز في الآخر ، وإلا فالإشكال بحاله. وقيل المراد أن بينهما تقابل العدم والملكة بحسب التحقيق وهو العرف الخاص على ما مر أو تقابل التضاد بحسب الشهرة ، وهو العرف العامي لأن المشهور أن الضدين أمران ينسبان إلى موضوع واحد ، ولا يمكن أن يجتمعا كالزوجية والفردية لا بحسب التحقيق ليلزم كونهما موجودين في غاية التخلف تحت جنس واحد قريب (٦) وقد صرح بذلك

__________________

(١) كتاب القانون : للشيخ الرئيس أبي علي حسين بن عبد الله المعروف بابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ ه‍. وأوله الحمد لله حمدا يستحق بعلو شأنه. وقد تكلم فيه في الأمور العامية الكلية في قسمي الطب أعنى النظرى والعملى ، ثم تكلم في كليات أحكام قوى الأدوية ثم في الأمراض ، وقد شرحه الإمام فخر الدين الرازي ، وقطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي.

(راجع كتاب كشف الظنون ص ١٣١٢).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (حالة) وعبارة ابن سينا : المرض هيئة في بدن الإنسان مضادة لهذه وحالة عنده ليست بصحة ولا مرض (راجع قانون الطب ج ١ ص ٧٤).

(٣) سبق التعريف بكتاب الشفاء في هذا الجزء.

(٤) في (ب) بزيادة لفظ (محض).

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (سواء).

(٦) في (ب) بزيادة لفظ (واحد).

٣٧٧

ابن سينا حيث قال : إن أحد الضدين في التضاد المشهوري قد يكون عدما للآخر كالسكون للحركة ، والمرض للصحة. لكن قوله هيئة مضادة ربما يشعر بأن المرض أيضا وجودي كالصحة ، ولا خفاء في أن بينها غاية الخلاف ، فجاز أن يجعلا ضدين بحسب التحقيق مندرجين تحت جنس هو الكيفية النفسانية.

واعترض الإمام بأنهم اتفقوا على أن أجناس الأمراض (١) المفردة ثلاثة : سوء المزاج ، وسوء التركيب ، وتفرق الاتصال ، ولا شيء منها بداخل تحت الكيفية النفسانية المسماة بالحال أو الملكة. أما سوء المزاج فلأنه إما نفس الكيفية الغريبة التي بها خرج المزاج عن الاعتدال على ما يصرح به حيث يقال الحمى حرارة كذا وكذا وهي من الكيفيات المحسوسة ، وإما اتصاف البدن بها وهو من مقولة أن ينفعل ، وأما سوء التركيب فلأنه عبارة عن مقدار أو عن عدد أو وضع أو شكل أو انسداد مجرى مخل بالأفعال ، وليس شيء منها داخلا تحت الحال والملكة ، وكذا اتصاف البدن بها ، وذلك لأن المقدار والعدد من الكميات والوضع مقولة (٢) برأسها ، والشكل من الكيفيات المختصة بالكميات والانصاف من أن ينفعل ، ولم يتعرض للانسداد ، وكأنه يجعله من الوضع أو أن ينفعل ، وأما تفرق الاتصال فلأنه عدمي لا يدخل تحت مقولة أصلا ، ولذا لم يدخل المرض تحت الحال والملكة لم يدخل الصحة تحتها لكونه ضدا لها. هذا حاصل (٣) تقرير الإمام. لا ما ذكر في المواقف من أن سوء المزاج ، وسوء التركيب ، وتفرق الاتصال. إما من المحسوسة

__________________

(١) عبارة ابن سينا كما ذكرها في قانون الطب : إن أجناس الأمراض المفردة ثلاثة : الأول جنس الأمراض المنسوبة إلى الأعضاء المتشابهة الأجزاء وهي أمراض سوء المزاج الخ. (راجع ج ١ ص ٧٤).

(٢) الوضع : مقولة من مقولات أرسطو ، وهو كون الجسم بحيث تكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والموازاة بالقياس إلى الجهات وأجزاء المكان ، إن كان في مكان مثل القيان والقعود (راجع النجاة ص ١٢٨ لابن سينا).

وقيل الوضع : هيئة عارضة للشيء بسبب نسبتين ، نسبة أجزائه إلى الأمور الخارجية عند القيام والقعود ، فإن كلا منهما هيئة عارضة للشخص بسبب نسبة أعضائه بعضها إلى بعض وإلى الأمور الخارجية عنده. (راجع تعريفات الجرجاني).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (حاصل).

٣٧٨

أو الوضع أو عدم التركيب ، (١) فإنه اختصار مخل ، والعذر بأنه لم يقيد بباقي المحتملات لظهور بطلانها ظاهر البطلان ، لأن قولنا : سوء التركيب إما مقدار يخل بالأفعال ، أو عدد أو وضع أو انسداد مجرى كذلك ليس بيانا للمحتملات ، بل للانقسام فليفهم ، وتقرير الجواب بعد تسليم كون التضاد حقيقيا أن تقسيم المرض إلى سوء المزاج ، وسوء التركيب وتفرق الاتصال تسامح ، والمقصود أنه كيفية نفسانية تحصل عند هذه الأمور وتنقسم باعتبارها ، وهذا ما قيل إنها منوعات أطلق عليها اسم الأنواع ، وذلك كما يطلق الصحة على اعتدال المزاج ، أو المزاج المعتدل أنه من المحسوسات.

الواسطة بين الصحة والمرض

(قال : (ثم المعتبر) في المرض إن كان عدم سلامة جميع الأفعال لم يثبت الواسطة وإن كان آفة الجميع يثبت).

قد اختلفوا في ثبوت الواسطة (٢) بين الصحة والمرض ، وليس الخلاف في ثبوت حالة ، وصفة لا يصدق عليها الصحة ولا المرض كالعلم والقدرة والحياة إلى غير ذلك ، مما لا يحصى بل في ثبوت حالة لا يصدق معها على البدن أنه صحيح أو مريض ، بل يصدق عليه أنه ليس بصحيح ولا مريض فأثبتها جالينوس (٣) كما للناقهين والمشايخ والأطفال ، ومن ببعض أعضائه آفة

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (التركيب).

(٢) الواسطة : عند الأصوليين قسمان : الواسطة في الثبوت ، وهي أن يكون الشيء واسطة أي علة لثبوت وصف لشيء آخر في نفس الأمر.

الواسطة في الإثبات وهي ما يقرن بقولنا : (لأن) حين يقال : لأنه كذا فذلك الشيء الذي يقرن بقولنا : (لأنه) هو الواسطة في الإثبات مثل قولنا : العالم حادث لأنه متغير ، فالمتغير هو الواسطة.

(٣) جالينوس : هو أشهر الأطباء اليونانيين القدماء بعد أبقراط. قال سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل. كان جالينوس من الحكماء اليونانيين الذين كانوا في الدولة القيصرية بعد بنيان رومية ، ومولده ومنشؤه (بغرغامس) وهي مدينة صغيرة من جملة مدائن آسيا شرقي قسطنطينية ، وكان جالينوس في دولة نيرون قيصر ، وهو السادس من القياصرة الذين ملكوا رومية. وطاف جالينوس البلاد وغزا مع ملك رومية لتدبير الجرحى وكانت له مجالس عامة خطب فيها وأظهر من عمله بالتشريح ما عرف به فضله وبان عمله. من كتبه (الكيموس) و (علاج التشريح).

٣٧٩

دون البعض. ورد عليه ابن سينا بأنه أهمل الشرائط التي يجب أن تراعى في حال ماله وسط ، وما ليس له وسط ، وهي أن يفرض الموضوع واحدا بعينه في زمان واحد بعينه ، وأن يكون الجزء واحدا بعينه والجهة والاعتبار واحدة بعينها فان فرض إنسان واحد ، واعتبر منه عضو واحد أو أعضاء مختلفة (١) معينة في زمان واحد ، وجاز أن لا يكون معتدل المزاج سوى التركيب ، بحيث يصدر عنه جميع الأفعال التي يتم بذلك العضو أو الأعضاء سليمة ، وأن لا يكون ليس كذلك ، فهناك واسطة ، وإن كان لا بد من أن يكون معتدل المزاج سوى التركيب ، أو لا يكون معتدل المزاج ، سوى التركيب ، إما لثبوت أحدهما دون الآخر ، أو لانتفائها جميعا ، فليس بينهما واسطة هذا كلامه ، وقد اعتبر في المرض أن لا يكون جميع أفعال العضو سليمة ، إما لكونه عبارة عن عدم الصحة التي هي مبدأ سلامة جميع الأفعال ، أو عن هيئة بها يكون شيء من الأفعال مألوفا ، ولا خفاء في انتفاء الواسطة حينئذ ، وأما إذا اعتبر في المرض أن يكون جميع الأفعال غير سليمة بأن يجعل عبارة عن هيئة بها يكون جميع أفعال العضو ، أعني الطبيعية والحيوانية والنفسانية مألوفة ، فلا خفاء في ثبوت الواسطة بأن يكون بعض أفعال العضو سليما دون البعض ، وإن اعتبر آفة أفعال جميع الأعضاء فثبوت الواسطة أظهر ، وعلى هذا يكون الاختلاف مبنيا على الاختلاف في تفسير المرض ، وكلام الإمام مشعر بابتنائه على الاختلاف في تفسيرهما حيث قال يشبه أن يكون النزاع لفظيا فمن نفى الواسطة أراد بالصحة كون العضو الواحد ، أو الأعضاء الكثيرة في الوقت الواحد أو في الأوقات الكثيرة بحيث يصدر عنه الأفعال سليمة ، وبالمرض أن لا يكون كذلك ، ومن أثبتها أراد بالصحة كون كل الأعضاء بحيث يصدر عنها الأفعال (٢) تكون أفعالها سليمة ، وبالمرض كون كل الأعضاء بحيث تكون أفعالها مألوفة وفي كلام ابن سينا ما يشعر بابتنائه على الاختلاف في تفسير الصحة حيث ذكر في أول القانون أنه لا تثبت الحالة الثالثة إلا أن يجدوا الصحة كما يشتهون

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (مختلفة).

(٢) في (ب) بزيادة (يصدر عنها الأفعال).

٣٨٠