شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

تعالى في العبد علما ضروريا (١) متعلقا بما يتعلق به علمه النظري.

والمعتزلة عولوا فى الجواز على تجانس العلوم ، ومنعوا الوقوع فيما يكون مكلفا به كالعلم بالله وصفاته المقدسة لئلا يلزم التكليف بغير المقدور وأنه قبيح يمتنع وقوعه من الله تعالى.

فإن قيل : فاللازم نفي الجواز دون مجرد الوقوع.

قلنا : ليس معنى كلامهم أن فى العلم بالله تعالى الانقلاب جائز وليس بواقع ، بل إنه جائز نظرا إلى كونه علما وإنما امتنع وقوعه لعارض من خارج هو كونه مكلفا به نظريا فجوزه القاضي وبعض المتكلمين لأن العلوم متجانسة ، أى متماثلة متفقة الماهية بناء على كون التعلق بالمعلومات ، والتشخص الحاصل بواسطة الخصوصيات من العوارض التى ليست مقتضى الذات ، وإذا كانت متماثلة وحكم الأمثال واحد جاز على كل منها ما جاز على الآخر ، كما جاز على الإنسانية التى في زيد ما جاز على التي في عمرو ، بالنظر إلى نفس الإنسانية.

فإن قيل : قد سبق أن التصور (٢) والتصديق (٣) مختلفان بالحقيقة قلنا :

__________________

(١) العلم الضروري : هو ما يحصل من غير فكر وكسب ، والعلم الاكتسابي الذي يحصل بالنظر والبحث ، وهو عقل وعمل ، فالعقلي : هو ما يحصل بالنظر والتأمل ، ويسمى بالعلم النظري ، والعملي : هو ما يحصل بالعمل والتجربة.

(٢) تصور الشيء : تخيله ، وتصور له الشيء ، صارت له عنده صورة والتصور عند علماء النفس : هو حصول صورة الشيء في العقل وعند المناطقة : هو إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات.

(تعريفات الجرجاني).

(٣) العلم عند الفلاسفة القدماء. إما تصور فقط ، وهو حصول صورة الشيء في العقل ، وإما تصور معه حكم وهو إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا ، ويقال لهذا التصور المصحوب بالحكم تصديق.

(راجع القطب على الشمسية ص ٦).

والتصور يكتسب بالحد وما يجري مجراه والتصديق إنما يكتسب بالقياس أو ما يجري مجراه مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ.

(راجع النجاة ص ٣ : ٤).

٣٢١

لعله (١) أراد بالعلم ما هو أحد أقسام التصديق على ما اشتهر فيما بين المتكلمين ، أو ادعى أن حقيقة الكل هى الصفة الموجبة للتميز على ما سبق ، أو أراد أن التصورات متماثلة ، وكذا التصديقات ، فيجوز على الضروري من كل منهما أن ينقلب إلى النظري منه.

والجواب بعد تسليم التجانس أنه إن أريد بالجواز عدم الامتناع أصلا فمجرد التجانس لا يقتضيه لجواز أن يمتنع بواسطة العوارض والخصوصيات على البعض ما يجوز للبعض الآخر.

وإن أريد عدم الامتناع نظرا إلى ماهية العلم فغير متنازع وما ذكر الآمدي من أنه لو سلم التجانس فلا شك فى الاختلاف بالنوع والشخص ، فلعل التنوع أو التشخص يمنع ذلك مبني على أنه فهم من التجانس الاشتراك فى الجنس على ما هو مصطلح الفلاسفة ، ولا أدري كيف ذهب عليه مصطلح المتكلمين ، وأن مثل القاضي لا يجعل الاشتراك فى الجنس دليلا على أن يجوز على كل من المشتركين ما يجوز على الآخر ، والجمهور على أن الضروري لا يجوز أن ينقلب نظريا وإلا لزم جواز خلو نفس المخلوق عنه مع التوجه والالتفات وسائر شرائط حصول الضروريات لأن ذلك من لوازم النظريات وعلى هذا لا يرد الاعتراض بأن الضروري قد لا يحصل لفقد شرط أو استعداد إلا أنهم عولوا فى استحالة الخلو عن الضروري على الوجدان وفيه ضعف لأن غايته الدلالة على عدم الخلو دون استحالته ، سلمنا لكن لا خفاء فى (٢) أن الخلو عن الضروري إنما يمتنع ما دام ضروريا ، وبعد الانقلاب لا يبقى هذا الوصف.

وذهب إمام الحرمين وهو أحد قولي القاضي إلى أنه لا يجوز فى ضرورى هو شرط لكمال العقل الّذي به يستأصل (٣) لاكتساب النظريات لأنه لو انقلب نظريا لزم كونه شرطا لنفسه ، وهو دور.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (لعله).

(٢) فى (أ) بزيادة حرف الجر (في).

(٣) في (ب) يتأهل بدلا من (يستأصل)

٣٢٢

فإن قيل هذا التفصيل نشعر بأن القول الآخر للقاضي هو الجواز مطلقا. أى فى كل ضروري وفساده ظاهر لظهور استحالة النظري بدون ضروري ، ما قلنا هذا إنما يمنع جواز اجتماع الكل على الانقلاب بحيث لا يبقى شيء من الضروريات لا جواز انقلاب كل على الانفراد.

اختلاف العلماء فى استناد الضروري إلى النظري

(قال : والخلاف فى جواز استناد الضروري إلى النظري يشبه أن يكون لفظيا).

قد اختلفوا فى أن العلم الضروري هل يستند الى النظري ، أم لا.؟

تمسك المانع بأنه لو استند أى ابتنى وتوقف على النظري المتوقف على النظر لزم توقفه على النظر فيكون نظريا لا ضروريا هذا خلف (١).

وتمسك المجوز بأن العلم بامتناع (٢) اجتماع الضدين ضروري ويتوقف على العلم بوجودهما لأن الاجتماع واللااجتماع فرع الوجود.

والجواب (٣) يمنع تعلق العلم بامتناع اجتماع الضدين ضعيف لأنه إن أريد أنا لا نتصور اجتماعهما ، ولا يجزم بامتناعه فمكابرة ، بل مناقضة لأن الحكم بعدم تصوره ، وعدم الجزم بامتناعه حكم يستدعي تصوره وإن أريد أنا لا نتصور شيئا هو اجتماع الضدين ، وإنما ذلك على سبيل ، التشبيه كما سبق نقلا عن الشفاء فلا يضر بالمقصود لأن حكمنا بأن الاجتماع الواقع فيما بين السواد والحلاوة لا يمكن مثله فيما بين السواد والبياض يتوقف على العلم بوجودهما ، بل الجواب منع ذلك ، فإن كون الاجتماع واللااجتماع فرع الوجود على تقدير حقيقته لا يستدعي توقف العلم بامتناع الاجتماع على العلم بالوجود ، بل على تصور الضدين بوجه وهو لا يلزم أن يكون بالنظر ، نعم ربما

__________________

(١) في (ب) بزيادة (هذا خلف).

(٢) في (أ) بزيادة (بامتناع).

(٣) في (ب) والجواز وهو تحريف.

٣٢٣

يكون التصديق المستغني عن النظر فيه مفتقرا إلى النظر فى تصور الطرفين ، فإن سمي مثله ضروريا كان مستندا إلى النظري ، فمن هاهنا قيل إن هذا نزاع لفظي يرجع إلى تفسير التصديق الضروري أنه (١) الّذي لا يفتقر إلى النظر أصلا ، أو لا يفتقر إلى النظر فى نفس الحكم وإن كان طرفاه بالنظر ، والحق أن مراد المتكلمين بالعلم ما هو من أقسام التصديق ، وبالضروري منه ما لا يكون حصوله بطريق الاستدلال عليه ، والمتنازع هو أنه هل يجوز أن يبتنى على علم حاصل بالاستدلال.

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (أنه).

٣٢٤

المبحث الخامس

اختلاف العلماء فى تعدد العلم الحادث بتعدد المعلوم

(قال : المبحث الخامس : هل يتعدد العلم الحادث بتعدد المعلوم؟

قال الشيخ ، وكثير من المعتزلة. نعم ، لأن التعلق داخل فيه ، وقيل : لا لكونه خارجا كما في القديم فهو فرع الخلاف في تفسير العلم ، وقيل : يتعدد إن كان المعلومان نظريين لئلا يلزم اجتماع النظرين في علم ، ورد بجواز أن يحصلا بنظر كما علما بعلم وهو ضعيف.

وقال القاضي والإمام : يتعدد إن كان المعلومان مما يجوز انفكاك العلم بهما ، وإلا لزم جواز انفكاك الشيء عن نفسه ، ورد بأنه قد يعلم تارة بعلم ، وتارة بعلمين).

اتفق القائلون بالعلم القديم على أنه واحد يتعلق بمعلومات متعددة ، واختلفوا فى الحادث فذهب الشيخ وكثير من المعتزلة إلى أن الواحد منه يمتنع أن يتعلق بمعلومين.

وهذا هو المعنى بقولنا بتعدد العلم بتعدد المعلوم.

وذهب بعض الأصحاب إلى أنه يجوز ، وجعل الإمام الرازي الخلاف مبنيا على الخلاف فى تفسير العلم أنه إضافة فيكون التعلق بهذا عين (١) التعلق بذاك ، أو صفة ذات إضافة فيجوز أن يكون للواحد تعلقات بأمور متعددة كالعلم القديم.

__________________

(١) في (أ) غير بدلا من (عين).

٣٢٥

ومحل الخلاف هو التعلق بالمتعدد على التفصيل ، ومن حيث إنه كثير فلا يكون التعلق بالمجموع المشتمل على الأجزاء من هذا القبيل ما لم يلاحظ الأجزاء على التفصيل ويرد على الإمام أن الجواز الذهني ـ أعني عدم الامتناع عند العقل بالنظر (١) إلى كون العلم صفة ذات إضافة لا يستلزم الجواز الخارجى ـ أعني عدم الامتناع فى نفس الأمر على ما هو المتنازع لجواز أن يمتنع بدليل من خارج كما قيل ، وإن كان ضعيفا أنه ليس عدد أولى من عدد فلو تعلق بما فوق الواحد لزم تعلقه بما لا نهاية له ، وكما قال أبو الحسن الباهلي : إنه يمتنع فى المعلومين النظريين ، وإلا يلزم اجتماع النظرين فى علم واحد ضرورة أن النظر المؤدي إلى وجود الصانع غير المؤدي إلى وحدته.

وأجيب بمنع اللزوم لجواز أن يكون المعلومان بعلم واحد حاصلين بنظر واحد ، إذ لا امتناع فى أن يحصل بنظر واحد أمور متعددة كالنتيجة ونفي المعارض وكون الحاصل علما لا جهلا ، وكما قال القاضي (٢) وإمام الحرمين (٣) : إنه يمتنع إن كان (٤) المعلومات. بحيث يجوز انفكاك العلم بأحدهما عن العلم بالآخر ، وإلا يلزم جواز انفكاك الشيء عن نفسه ضرورة أن العلم بهذا نفس العلم بذاك ، والتقدير جواز انفكاكهما.

وأجيب بأنه يكفي في جواز الانفكاك كونهما معلومين بعلمين فى

__________________

(١) النظر : تأمل الشيء بالعين ، والنظر : تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وقوله تعالى : (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ) سورة يونس آية ١١. والنظر : الانتظار قال تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) سورة الحديد آية ١٣. ويستعمل أيضا في التحير في الأمر. قال تعالى : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) سورة البقرة آية ٤٥.

والنظر : وهو أعم من القياس ، لأن كل قياس نظر ، وليس كل نظر قياس.

(راجع بصائر ذوي الميز بتصرف ج ٤ ص وما بعدها).

(٢) القاضي : هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر أبو بكر الباقلاني ، ت ٤٠٣ ه‍. سبق الترجمة له.

(٣) إمام الحرمين : هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني ، ت ٤٧٨. سبق الترجمة له.

(٤) في (ب) إذا بدلا من (إن).

٣٢٦

الجملة. وهذا لا ينافى معلوميتهما بعلم واحد فى بعض الاحيان ، وحينئذ لا انفكاك. فإن قيل : الإمكان للممكن دائم فيجوز الانفكاك دائما وفيه المطلوب.

قلنا : نعم ، إلا أنه لا ينافي الامتناع بالغير وهو المعلومية بعلم واحد ، فإن عند تعلق العلم الواحد بهما جواز الانفكاك بحالة بأن يتعلق بهما علمان فإن قيل : نفرض الكلام (١) فى معلومين يجوز انفكاكهما فى التعقل كيف ما علمنا.

قلنا : إمكان معلومين بهذه الحيثية نفس المتنازع وقد يستدل بأنه لو جاز كون الصفة الواحدة مبدأ للأحكام المختلفة كالعالمية بالسواد ، والعالمية بالبياض لجاز كونها مبدأ للعالمية والقادرية ، ويلزم استغناء (٢) الأشياء عن تعدد الصفات باستناد آثارها إلى صفة واحدة ، ويجاب بأنه تمثيل بلا جامع كيف والأحكام هاهنا متجانسة بخلاف مثل العالمية والقادرية وأما فيما لا يجوز الانفكاك كالمجاورة والمماثلة والمضادة ، وغير ذلك ، فيجوز أن يتعلق علم واحد بمعلومين ، بل ربما يجب كما في العلم بالشيء مع العلم بالعلم به ، فإن هناك معلومات غير متناهية ، لأن العلم بالشيء مستلزم للعلم بالعلم به ضرورة ، وهو للعلم ، للعلم ، للعلم به. وهكذا لا إلى نهاية فلو لم يكن عدة من هذه المعلومات معلومة بعلم واحد لزم أن يكون لكل من علم شيئا ما علوم غير متناهية ، وهو ظاهر البطلان.

وجوابه منع الاستلزام المذكور لجواز أن يعلم الشيء ولا يلتفت الذهن إلى العلم به.

ولو سلم فلا تغاير بين العلم بالشيء ، والعلم بالعلم به ، إلا بحسب الاعتبار فينقطع بانقطاع الاعتبار.

__________________

(١) في (ب) تعرض بدلا من (نفرض).

(٢) في (ب) استثناء بدلا من (استغناء).

٣٢٧

العلمان يتعلقان بمعلوم واحد

(قال : ثم عند التعدد فالعلمان المتعلقان بمعلومين مختلفان وإن تماثل المعلومان وبمعلوم واحد متماثلان.

وقيل إن اتحد وقته وإلا اختلفا ضرورة اختلاف المعلوم باختلاف لوقت).

لا خفاء فى جواز تعلق العلمين بمعلوم واحد. وهل هما متماثلان (١).

فيه خلاف. وتفصيل ذلك : أن للعلم محلا هو : العالم ، ومتعلقا هو المعلوم. فإذا تعدد المحل كعلم زيد وعمرو بأن الصانع قديم فالعلمان مختلفان (إن جعلنا اختصاص كل منهما بمحله لذاته ، وإلا فمثلان. وإذا تعدد متعلقهما فالعلمان مختلفان) (٢) سواء كان المعلومان متماثلين كالعلم ببياضين أو مختلفين كالعلم بالسواد والبياض ، إذ لو كانا مثلين لم يجتمعا فى محل واحد (٣).

فإذا اتحد متعلقهما فالجمهور على أنهما مثلان سواء اتحد وقت المعلوم أو اختلف.

أما عند الاتحاد فظاهر ، وأما عند الاختلاف فلأن اختلاف الوقت لا يؤثر فى اختلاف العلمين كما لا يؤثر اختلاف الوقت وتقدمه وتأخره فى اختلاف الجوهرين.

واعترض الآمدي (٤) بأن الفرق ظاهر ، فإن الوقت هاهنا داخل فى متعلق العلم كالعلم بقيام زيد الآن وقيامه غدا ، ولا خفاء فى اختلاف الكل باختلاف

__________________

(١) في (ب) مثلان بدلا من (متماثلان).

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (واحد).

(٤) هو علي بن محمد بن سالم التغلبي أبو الحسن سيف الدين الآمدي ، ت ٦٣١ ه‍. سبق الترجمة له.

٣٢٨

الجزء بخلاف كون الجوهر فى زمانين فإنه خارج عنه ، وإنما نظير ذلك العلم بالشيء فى وقتين لا العلم بمعلوم مقيد بوقتين ، هذا والحق أن المعلوم إذا اختلف وقته كان متعددا لا متحدا وأن اتحاده مع تعدد العلم إنما يتصور عند اختلاف وقت العلم ، والظاهر أنهما حينئذ مثلان، أو عند اختلاف محله وقد سبق الكلام فى أنهما حينئذ مثلان ، أو مختلفان.

٣٢٩

المبحث السادس

محل العلم هو القلب

(قال : المبحث السادس :

محل العلم هو القلب (١) بدليل السمع ، وإن جاز أن يخلقه الله تعالى فى أى جوهر شاء ، إلا أن الظاهر أن ليس المراد بالقلب هو ذلك العضو ، وعند الفلاسفة هو النفس الناطقة ، إلا انه فى الجزئيات يتوسط الآلات ، وسيجيء لهذا زيادة بيان).

قد دلت الأدلة السمعية من الكتاب والسنة على أن محل العلم الحادث هو القلب ، وإن لم يتعين هو لذلك عقلا ، بل يجوز أن يخلقه الله تعالى فى أى جوهر شاء ، لكن الظاهر من كلام كثير من المحققين أن ليس المراد بالقلب ذلك العضو المخصوص الموجود لجميع الحيوانات ، بل الروح (٢) الّذي به امتياز الإنسان.

__________________

(١) القلب : الفؤاد وقد يعبر به عن العقل ، وقال الفراء القلب العقل. وقيل القلب أخص من الفؤاد ومنه الحديث «أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة» وقد ورد القلب في القرآن على ثلاثة معان.

الأول : بمعنى العقل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) الثاني : بمعنى الرأي والتدبير (قُلُوبُهُمْشَتَّى) أي آراؤهم مختلفة ، الثالث : بمعنى حقيقة القلب الذي في الصدر (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). سورة الحج آية رقم ٤٦.

(٢) الروح : اسما للنفس ، وذلك لكون للنفس بعض الروح. فهو كتسمية النوع باسم الجنس. نحو تسمية الإنسان بالحيوان ، والروح في القرآن على سبعة أوجه : الأول بمعنى الرحمة (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أى رحمة ، والثاني بمعنى الملك (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) الثالث : ـ

٣٣٠

وظاهر كلام الفلاسفة أن محل العلم بالكليات هو النفس الناطقة المجردة ، وبالجزئيات هو المشاعر الظاهرة أو الباطنة ، إلا أن المحققين منهم على أن محل الكل هو النفس ، إلا أنه فى الكليات يكون بالذات ، وفى الجزئيات بتوسط الآلات أعنى المشاعر ، وسيجيء بيان ذلك فى بحث النفس.

__________________

ـ بمعنى جبريل (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) الرابع : بمعنى الوحي والقرآن (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الخامس بمعنى عيسى عليه‌السلام (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) السادس : في شأن آدم عليه‌السلام (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) السابع: بمعنى اللطيفة التي فيها مدد الحياة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ).

وأقسام الروح من حيث العلم ثلاثة أنواع : حيواني وطبيعي ونفساني. فمركز الروح الحيواني القلب ، ومركز الروح الطبيعي الدم ، ومحل الروح النفساني الدماغ.

وأما حقيقة الروح : فهي لطيفة ربانية وعنصر من عناصر العالم العلوي تتصل بمدد رباني إلى العالم السفلي ، وعلى حسب درجة الحيوانات وتفاوت الحالات التي لهم تتصل بهم.

(راجع بصائر ذوي التمييز ج ٣ ص ١٠٥ : ١٠٦).

٣٣١

المبحث السابع

العقل مناط التكليف

(قال : المبحث السابع : العقل (١) الذي هو مناط التكليف

قال الشيخ : هو العلم ببعض الضروريات.

وقيل : القوة التى تحصل عند ذلك بحيث يتمكن بها من اكتساب النظريات ، وهو معنى الغريزة التى يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات ، والقوة التى بها يميز بين الأمور الحسنة والقبيحة).

لا خلاف فى أن مناط التكاليف الشرعية هو العقل حتى لا يتوجه على فاقديه من الصبيان والمجانين والبهائم ، وسيجيء أن لفظ العقل مشترك بين

__________________

(١) العقل في اللغة : هو الحجى والنهى ، وقد سمي بذلك تشبيها بعقل الناقة ، لأنه يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل كما يمنع العقال الناقة من الشرود.

والجمهور يطلق العقل على ثلاثة أوجه. الأول : يرجع إلى وقار الإنسان وهيئة ، ويكون حده أنه هيئة محمودة للإنسان في كلامه واختياره وحركاته وسكناته. والثاني : يراد به ما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية ، فيكون حده أنه معان مجتمعة في الذهن تكون مقدمات تستنبط بها الأغراض والمصالح والثالث : يراد به صحة الفطرة الأولى في الإنسان ، فيكون حده أنه قوة تدرك صفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها.

(راجع معيار العلم للغزالي ص ١٦٢).

أما الفلاسفة فيطلقون العقل على المعاني الآتية : ١ ـ أول هذه المعاني قولهم : إن العقل جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها.

(الكندي : رسالة في حدود الأشياء ورسومها).

وهذا الجوهر ليس مركبا من قوة قابلة لفساد (ابن سينا : الإشارات ص ١٧٨).

٣٣٢

معان كثيرة ، فذهب الشيخ إلى أن المراد به هاهنا العلم ببعض الضروريات أي الكليات البديهية بحيث يتمكن من اكتساب النظريات إذ لو كان غير العلم لصح انفكاكهما بأن يوجد عالم لا يعقل وعاقل لا يعلم وهو باطل ، ولو كان العلم بالنظريات وهو مشروط بالعقل لزم تأخر الشيء عن نفسه ، ولو كان العلم بجميع الضروريات لما صدق على من يفقد بعضها لفقد شرطها من التفات أو تجربة أو تواتر ، أو نحو ذلك مع أنه عاقل اتفاقا.

واعترض بمنع الملازمة ، فإن المتغايرين قد يتلازمان كالجوهر مع العرض ، والعلة مع المعلول ، وقد يمنع بطلان اللازم ، فإن العاقل قد يكون بدون العلم ، كما فى النوم وهو ضعيف ، والأقرب أن العقل قوة حاصلة عند العلم بالضروريات بحيث يتمكن بها من اكتساب النظريات ، وهذا معنى ما قال الإمام إنها غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات ، وما قال بعضهم إنها قوة بها يميز بين الأمور الحسنة والقبيحة وما قال بعض علماء الأصول إنها نور يضيء به طريق تبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس ، أى قوة حاصلة للنفس عند إدراك الجزئيات بها يتمكن من سلوك طريق اكتساب النظريات (١) وهو الّذي يسميه الحكماء العقل بالملكة.

__________________

(١) النظرية : قضية تثبت ببرهان وهي عند الفلاسفة تركيب عقلي مؤلف من تصورات منسقة ، تهدف إلى ربط النتائج بالمبادي فإذا أطلقت النظرية على ما يقابل الممارسة العملية في مجال الواقع دلت على المعرفة الخالية من الغرض المتجردة من التطبيقات العملية وإذا أطلقت على ما يقابل العمل في المجال المعياري دلت على ما يتقوم به معنى الحق المحض أو الخير المثالي المتميز عن الالزامات التي يعترف بها الجمهور ونظرية المعرفة : هي التي تبحث في طبيعة المعرفة ، وأصلها وقيمتها ووسائلها وحدودها.

ونظرية النسبية : هي النظرية التي وضعها (آينشتين) على مرحلتين إحداهما مرحلة النسبية الخاصة عام ١٩٠٥ والأخرى مرحلة النسبية العامة عام ١٩١٣.

٣٣٣
٣٣٤

الإرادة

وفيها مبحثان

الأول : تعريف الإرادة

الثاني : إرادة الشيء كراهة ضده

٣٣٥
٣٣٦

المبحث الأول

تعريف الإرادة

(قال : ومنها الإرادة (١).

وفيها بحثان :

البحث الأول الأشبه أن معناها واضح عند العقل ومغاير للشهوة ولذا قد يريد الإنسان ما لا يشتهيه ، أو بالعكس وجمهور المعتزلة على أنها اعتقاد النفع ، أو ميل يتبعه. وعندنا ليس ذلك شرطا لها فضلا عن أن يكون نفسها لما أن الهارب من السبع يسلك أحد الطريقين من غير اعتقاد نفع أو وجود ميل يتبعه.

وما ذكره أصحابنا من أنها صفة بها يرجح الفاعل أحد مقدوريه من الفعل أو الترك لا يفيد مغايرتها للاعتقاد والميل ، ولا لزوم لكون متعلق كل من الإرادة والكراهة (٢) قد يكون إرادة وكراهة).

__________________

(١) الإرادة : موضوعة في اللغة لتعيين ما فيه غرض ، وهي في الأصل طلب الشيء ، أو شوق الفاعل إلى الفعل، إذا فعله كف الشوق وحصل المراد.

(راجع تهافت التهافت لابن رشد ص ٤).

ولها عند الفلاسفة عدة معان. الإرادة : هي نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه ، وهي قوة مركبة من شهوة وحاجة وأمل. والإرادة : هي القوة التي هي مبدأ النزوع وتكون قبل الفعل. والإرادة : هي اعتقاد النفع أو ظنه ، وقيل ميل يتبع ذلك فإذا اعتقدنا أن الفعل الفلاني فيه جلب نفع ، أو دفع ضرر ، وجدنا من أنفسنا ميلا إليه.

(المواقف للإيجي ج ٢ ص ٢١٥).

(٢) في (ج) بزيادة جملة (مقدورا ليبطل ما قبل أن تعلق).

٣٣٧

أي من الكيفيات النفسانية الإرادة ، ويشبه أن يكون معناها واضحا عند العقل غير ملتبس بغيرها ، إلا أنه تعسر معرفتها بكنه الحقيقة ، والتعبير عنها بما يفيد تصورها وهي تغاير الشهوة ، كما أن مقابلها وهي الكراهية تغاير النفرة ولهذا قد يريد الإنسان ما لا يشتهيه كشرب دواء كريه ينفعه وقد يشتهي ما لا يريده كأكل طعام لذيذ يضره.

وذهب كثير من المعتزلة (١) إلى (٢) أن الإرادة اعتقاد النفع أو ظنه ، فإن نسبة القدرة إلى طرفي الفعل (٣) على السوية فإذا حصل (٤) في القلب اعتقاد النفع (في أحد طرفيه) (٥) ، أو ظنه ترجح بسببه ذلك الطرف وصار مؤثرا عنده.

وذهب بعضهم إلى أنها ميل (٦) يعقب اعتقاد النفع أو ظنه ، لأن القادر كثيرا (٧) ما يعتقد النفع أو يظنه ولا يريده ما لم يحدث هذا الميل.

وأجيب بأنا لا نجعله مجرد اعتقاد النفع أو ظنه ، بل اعتقاد نفع له أو إلى غيره ممن يؤثر خيره ، بحيث يمكن وصول ذلك النفع إليه ، أو إلى غيره من غير مانع من تعب أو معارضة وما ذكر من الميل إنما يحصل لمن لا يقدر على تحصيل ذلك الشيء قدرة تامة كالشوق إلى المحبوب لمن لا يصل إليه ، أما

__________________

(١) ذهب النظام مع كثيرين مثل أبي الهذيل ومعمر وجعفر بن حرب والإسكافي والأدمي والشحام وعيسى الصوفي : إلى أن الإرادة التي يكون مرادها بعدها بلا فصل موجبة لمرادها.

(راجع مقالات الإسلاميين ج ٢ ص ٩٠).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (إلى).

(٣) في (ب) العقل بدلا من (الفعل).

(٤) في (ب) جعل بدلا من (حصل).

(٥) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٦) الميل : قال ابن سينا : فإن كل قوة فإنما تحرك بتوسط الميل ، والميل هو المعنى الذي يحس في الجسم المتحرك ، وإن سكن قسرا أحس ذلك الميل ، كأنه به يقاوم المسكن مع سكونه طلبا للحركة ، فهو غير الحركة لا محالة ، وغير القوة المحركة ، لأن القوة المحركة تكون موجودة عند اتمامها الحركة ، ولا يكون الميل موجودا.

(النجاة ص ٤٢٤ والميل : قسري وطبعي ونفساني).

(راجع القاموس الفلسفي ج ٢ ص ٤٥٣).

(٧) في (أ) بزيادة لفظ (كثيرا).

٣٣٨

في القادر التام القدرة فيكفي الاعتقاد المذكور. وذهب أصحابنا إلى أن الإرادة قد توجد بدون اعتقاد النفع ، أو ميل يتبعه فلا يكون شيء منهما لازما لها فضلا عن أن يكون نفسها.

وذلك كما في الأمثلة التي يرجح فيها المختار أحد الأمرين (المتساويين من جميع الوجوه بمجرد إرادته من غير توقف في طلب المرجح واعتقاد نفع في ذلك الطرف.

والمعتزلة (١) ينكرون ذلك ويدعون الضرورة بأنه لا بد من مرجح حتى لو تساويا في نفس الأمر لم يستبعد منع اختيار أحد الأمرين) (٢) وسلوك أحد الطريقين وإنما يستبعد عند فرض التساوي ، وهو لا يستلزم الوقوع والأصحاب يدعون الضرورة بأن ذلك الترجيح ليس إلا لمحض الإرادة ، من (٣) غير رجحان واعتقاد نفع في ذلك المعين.

فالإرادة عندهم صفة بها يرجح الفاعل أحد مقدوريه من الفعل والترك ، وهذا معنى الصفة المخصصة لاحد طرفي المقدور بالوقوع ، وهذا التفسير كما لا يقتضي كونها من جنس الاعتقاد أو الميل كذلك لا ينفيه وكذا لا يقتضي كون متعلقهما مقدورا لجواز أن يكون صفة تتعلق بالمقدور وغيره ، ويكون من شأنهما الترجيح والتخصيص لأحد طرفي المقدور.

ولهذا جاز إرادة الحياة والموت فبطل ما قيل : إن متعلق الإرادة على هذا التفسير لا يكون إلا مقدورا فيمتنع تعلقها بالإرادة جو الكراهة ، وبالعكس إلا إذا جعلناها من مقدورات العبد بإقدار الله تعالى ، وصح ما قيل في الفرق بين الإرادة والشهوة بأن الإرادة قد تتعلق بالإرادة وبالكراهة بأن يريد الإنسان إرادته لشيء أو كراهته له ، وكذا الكراهة ولا يلزم منه كون الشيء الواحد مرادا (٤)

__________________

(١) راجع ما كتبه القاضي عبد الجبار في كتابه المغني في أبواب التوحيد والعدل. الجزء السادس ص ٤٠ وما بعدها.

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) سقط من (ب) لفظ (من).

(٤) في (ب) فردا وهو تحريف.

٣٣٩

ومكروها معا لإن إرادة الكراهة وكراهة الإرادة لا توجب إرادة المكروه وكراهة المراد وهذا بخلاف الشهوة فإنه لا معنى لاشتهاء الإنسان شهوته لشيء إلا بمعنى الإرادة كما قيل لمريض: أي شيء تشتهي فقال : اشتهي ألا اشتهي (١) وكذا النفرة لا تتعلق بالنفرة.

(قال : والفلاسفة لما زعموا أن الواجب موجب وتفطنوا لشناعة نفي الإرادة عنه زعموا أنها نوع من العلم ففسروها بالعلم بما هو عند العالم كمالا وخيرا ، وبكون الفاعل عالما بما يفعله اذا كان ذلك العلم سببا لصدوره عنه غير مغلوب ولا مكره ، ثم ذكروا أن لها معنى آخر أعم هي حالة ميلانية توجد عند الإنسان وغيره).

يعني أنهم لما ذهبوا إلى أن الله تعالى موجب بالذات لا فاعل بالاختيار والإرادة ، وعلموا أن في نفي الإرادة عنه تعالى شناعة وإلحاقا لأفعاله تعالى بأفعال الجمادات حاولوا إثبات كونه مريدا على وجه لا ينافي كونه تعالى موجبا فزعموا أن الإرادة عبارة عن العلم بما هو عند العالم كمال وخير من حيث هو كذلك ، أو عن العلم بكون الفاعل عالما بما يفعله إذا كان ذلك العلم سببا لصدور ذلك الفعل عنه حال كونه غير مغلوب في ذلك ولا مستكره، والله تعالى عالم بذلك فيكون مريدا ، واعترض بأن الإرادة والكراهة لو كانتا نوعين من العلم لاختصتا بذوي العلم ، واللازم باطل لأن الحركة بالإرادة مأخوذة في تعريف مطلق الحيوان ، فأجابوا بأن المراد من الإرادة المشتركة بين الحيوانات حالة ميلانية إلى الفعل أو الترك وهي منفية عن الواجب.

__________________

(١) في (أ) سقط لفظ (ألا).

٣٤٠