شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

الاعتراض بأن ذكر المدرك وما به يدرك في تعريف الإدراك دور ، فجوابه أن المراد به الشيء الذي قال له : المدرك وما به الإدراك ، وإن لم تعرف حقيقة هذا الوصف ، وقد يجاب بأن هذا ليس تعريفا للإدراك ، بل تعيينا وتلخيصا للمعنى المسمى بالإدراك الواضح عند العقل.

المدرك إما أن يكون خارجا أو غير خارج

(قال : أما بحقيقته كإدراك النفس ذاتها وصفاتها فيكون التغاير اعتباريا وهو كاف كالمعالج يعالج نفسه ، ومثله العلم بالعلم فلا يلزم وجود ما لا يتناهى ، وإما بصورته المنتزعة كما في الماديات أو غير المنتزعة كما في المجردات والمعدومات).

إشارة إلى ما ذكروا من أن الشيء المدرك إما أن لا يكون خارجا عن ذات المدرك كالنفس وصفاتها ، وإما أن يكون خارجا وحينئذ فإما أن يكون ماديا أو غير مادي.

فالأول تكون حقيقته المتمثلة عند المدرك نفس حقيقته الموجودة في الخارج فيكون إدراكه دائما.

والثاني : تكون صورة منتزعة عنه.

والثالث : تكون صورة متحصلة في العقل ، غير مفتقرة إلى الانتزاع من حقيقة خارجية ، لكونها صورة لما هو مجرد في نفسه كإدراك المفارقات ، أو لما لا تحقق له في الخارج(١) ولا حقيقة أصلا كإدراك المعلومات.

واعترض على الأول بوجوه :

أحدها : أنه يقتضي أن يكون إدراك النفس لذاتها وصفاتها دائما لدوام الحضور ، واللازم باطل لأن كثيرا من الصفات مما لا نطلع على

__________________

(١) في (ب) بزيادة (في الخارج).

٣٠١

أنيتها (١) وماهيتها إلا بعد النظر والتأمل ، وإنما الكلام في ماهية النفس ، ولا يجوز أن يكون هذا ذهولا (٢) عن العلم بالعلم ، لأنه أيضا مما يلزم دوامه سيما وهم يقولون : إن علمنا بذاتنا نفس ذاتنا.

وثانيها : أن حصول الشيء للشيء وحضوره عنده يقتضي تغاير الشيئين ضرورة فيمتنع علم الشيء بنفسه.

وثالثها : أن النفس إذا كانت عالمة بذاتها وصفاتها كانت عالمة بعلمها بذلك ، وهلم(٣) جرا لا إلى نهاية ، فيلزم علوم غير متناهية بالفعل ، وأجيب عن الأول بمنع مقدمات بطلان اللازم وهو مكابرة ، وعن الأخيرين بأن التغاير الاعتباري كاف والاعتبارات العقلية تنقطع بانقطاع الاعتبار.

وحاصله أن ليس هناك إلا شيء واحد هو ذلك المجرد المدرك وهو ليس بغائب عن نفسه ، فمن حيث يعتبر شاهدا يكون عالما. ومن حيث يعتبر مشهودا يكون معلوما ، ومن حيث يعتبر مشهودا يكون علما ، ومرجعه إلى أن وجود الشيء عين حصوله ، وحضوره لا يزيد عليه بحسب الخارج.

المدرك لا يتصف بما يدركه لتغاير الصورة والهوية

(قال : ولما بين صورة الشيء وهويته من التغاير لم يلزم اتصاف المدرك بما يدركه من السواد والحرارة والاستدارة ، ونحو ذلك على أن حصول الصورة للنفس ليس كحصول العرض للجوهر ولهذا لا يلزم من إدراك المعاني العقلية أيضا كالإيمان والكفر والجود والبخل اتصاف النفس بها ، وإنما الكلام في عكسه فكيف في مثل حصول السواد والبياض للجسم ، ثم لا يقدح في ذلك أن المبصر هو هذا السواد لا شبحه ، والمتعقل هو الإنسان لا

__________________

(١) في (ب) أنفسها.

(٢) في (ب) وهو وهذا تحريف.

(٣) في (ب) وهم أجزاء وهو تحريف.

٣٠٢

صورته ، وإنكم تجعلون الإدراك للنفس ، أو للحس المشترك مع أن الحصول في الجليدية مثلا ، وأنه ربما يتحقق الحصول فيها مع عدم الادراك لعدم التفات النفس ، ثم الصور العلمية وإن كانت من حيث حصولها في العقل عرضا لم تناف كون الماهية المعقولة جوهرا بمعنى أنها إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع ، كما أنها يكون جزئيا لقيامها بالنفس الجزئية ، وكليا من حيث انشائها إلى الأفراد ، ونسبة الحصول إلى الصورة في العقل نسبة الوجود إلى الماهية في الخارج فلا زيادة إلا باعتبار العقل ، ومن هاهنا قد يجعل العلم نفس الصورة فهي من حيث إن الحصول نفسها علم وعرض موجود في الأعيان كسائر صفات النفس ، ومن حيث إنه زائد عليها مفهوم ولا تحقق له إلا في (١) الأذهان ، وأما المعلوم فهو ما له الصورة لا نفسها ، إلا أن يستأنف لها تعقل ، ويلحقها أحكام هي المعقولات الثانية ، وبهذا الاعتبار يصح جعل الكلية من عوارض المعلوم حقيقة).

إشارة إلى دفع اعتراضات للإمام وغيره منها :

أن العلم لو كان حصول الصورة المساوية التي ربما تسمى ماهية الشيء لزم من تصور الحرارة والاستدارة كون القوة المدركة حارة مستديرة وكذا جميع الكيفيات ، وهو مع ظهور فساده يستلزم اجتماع الضدين كالحرارة والبرودة عند تصورهما.

وجوابه : أن الحار ما قام به هوية الحرارة لا صورته ، وماهيته وكذا جميع الصفات ، وفرق ما بينهما ظاهر ، فإن الهوية جزئية محفوفة (٢) بالعوارض فاعلة للصفات الخارجية ، والصورة كلية مجردة لا تلحقها الأحكام ، ولا يترتب عليها الآثار.

وهذا لا ينافي مساواتها للهوية ، بمعنى أنها بحيث إذا وجدت في الخارج كانت إياها ، ثم الماهية والحقيقة كما تطلق على الصورة المعقولة ، فكذا على

__________________

(١) في (ب) بزيادة حرف الجر (في).

(٢) في (ب) مكنونة بدلا من (محفوفة)

٣٠٣

الموجود العيني ، وبهذا الاعتبار يقال تارة إن المعقول من السماء مساو لماهيتها ، وتارة إنه نفس ماهيتها فضلا عن المساواة.

جوب آخر ، وهو أن حصول الشيء للشيء (١) يقال لمعان متعددة كحصول المال لصاحبه وبالعكس ، وحصول السواد للجسم وبالعكس ، وحصول السرعة للحركة ، وحصول الصورة للمادة وبالعكس ، وحصول كل منهما للجسم وبالعكس ، وحصول الحاضر لما حضر عنده وبالعكس ، ولزوم الاتصاف إنما هو في حصول العرض بمحله ، ولا كذلك (٢) حصول الحاضر لما حضر عنده وبالعكس (٣) وهو معلوم لنا بالوجدان ، ومتحقق كونه حصولا لنا وإن لم نقدر على التعبير عن خصوصيته بغير كونه إدراكا وعلما أو شعورا أو إحاطة بكنه الشيء ، أو ما يجري مجرى هذه الاعتبارات (٤) وبهذا أعني لكون الحصول الإدراكي مغايرا لحصول العرض للمحل المستلزم للاتصاف لا يلزم من إدراك المعاني التي تكون من صفات النفس كالإيمان والكفر ، والجود والبخل ، ونحو ذلك اتصاف النفس بها لانتفاء الحصول الاتصافي ، فكيف يلزم ذلك فيما ليس من شأن النفس الاتصاف بها كالحرارة والاستدارة ونحو ذلك وإنما الكلام في أن الحصول الاتصافي هل يستلزم الحصول إدراكي حتى يلزم دوام (٥) تعقل النفس لصفاتها على ما زعموا ، ثم إنهم لم يبينوا أن ذلك مبنى على أن مجرد الحصول الاتصافي كاف في الادراك النفسي صفاتها ، أو على (٦) أنه مستلزم للحصول الإدراكي والحق أن الكل بوجود غير متأصل هو الصورة ، وما ذكروا من أنه لو كان كذلك لزم من (٧) إدراك النفس لذاتها عدم

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (للشيء).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (كذلك).

(٣) سقط من (ب) لفظ (وبالعكس).

(٤) في (أ) العبارات.

(٥) في (ب) جواز.

(٦) في (ب) بزيادة حرف الجر (على).

(٧) في (أ) في بدلا من (من).

٣٠٤

التمايز بين الصورة وذي الصورة ، ولصفاتها اجتماع المثلين مدفوع بما مر من التغاير بين الصورة والهوية ، وبأن التماثل المانع من الاجتماع ، إنما هو بين الهويتين. ولو سلم فبطريق الحصول الاتصافي ، وبالجملة إذا كان الحصول الإدراكي غير الحصول الاتصافي ، ولم يتحقق كون الحصول الاتصافي لما من شأنه الإدراك مستلزما للإدراك كان عدم استلزامه فيما ليس من شأنه الإدراك ، كحصول السواد للحجر أولى ، فلا يرد ما ذكر الإمام من أن الإدراك إذا كان نفس الحصول كان المدرك هو الذي ليس (١) له الحصول وكان الجسم الحار مدركا للحرارة ، ومنها أنا نعلم قطعا أن المدرك بالحس أو العقل هو الموجود العيني كهذا السواد ، وهذا الصوت والإنسان ، فالقول بأنه مثال وشبح من ذلك الموجود لا نفسه يكون (٢) سفسطة ، والجواب : أنه لا نزاع في أن المدرك هو ذلك الموجود ، لكن إدراكه عبارة عن حصول صورة منه. ومثال عند المدرك بحصولها فيه ، أو في آلته ، ومنها أنكم تجعلون المدرك للمحسوسات هو النفس ، أو الحس (٣) المشترك مع أن حصول الصورة ليس فيها ، بل في الخيال ، أو غيره من الآلات كالرطوبة الجليدية للمبصرات ، فلو كان الإدراك هو الحصول لكان المدرك ما فيه الحصول. والجواب : أنا لا نجعل إدراك المحسوسات هو الحصول في الآلة، بل الحصول عند المدرك للحصول في الآلة ، فلا يلزم ما ذكر ، وبهذا يندفع اعتراض آخر وهو أنه لو كان مجرد لحضور عند الحس على ما هو المراد بالمشاهدة كافيا في الإدراك لكان

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (ليس).

(٢) في (أ) بزيادة (يكون).

(٣) الحس في اللغة الحركة والصوت الخفي ، وما نسمعه مما يمر قريبا منك ولا تراه ، والر والشر ، وبرد يحرق الزرع والكلأ. ووجع يصيب المرأة عند الولادة.

والحس عند جمهور الفلاسفة هو الإدراك بإحدى الحواس أو الفعل الذي تؤديه إحدى الحواس ، أو الوظيفة النفسية التي تدرك أنواعا مختلفة من الإحساس.

قال ابن سينا : وأما القوى المدركة من باطن فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات وبعضها قوى تدرك معاني المحسوسات.

(راجع الشفاء ١ : ٢٩٠ والنجاة ٢٦٤).

٣٠٥

الحاضر الذي لا تلتفت إليه النفس مدركا ، وليس كذلك ، ومنها أن الصورة العلمية عرض قائم بالنفس وقد جعلتموها مطابقة للموجود العيني الذي ربما يكون جوهرا ، بل نفس ماهيته ، وامتناع كون العرض مطابقا للجوهر ، ونفس ماهيته معلوم بالضرورة (وأيضا : جعلتموها كلية مع أن كون العرض القائم بالنفس الجزئية جزئيا ضروري) (١) وأيضا تجعلون العلم تارة حصول الصورة ، وتارة نفس الصورة مع ظهور الفرق بينهما.

والجواب : أن الممتنع هو كون الشيء الواحد باعتبار واحد جوهرا وعرضا ، أو كليا وجزئيا ، وأما عند اختلاف الاعتبار فلا ، فإن كون (٢) الصورة العقلية عرضا من حيث كونها في الحال قائمة بالموضوع الذي هو النفس لا ينافي كونها جوهرا من حيث إنها ماهية ، إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع ، وإنما المستحيل كون الشيء جوهرا وعرضا في الخارج بمعنى كونها ماهية إذا وجدت في الخارج كانت في موضوع ولا في موضوع ، وكذا كونها جزئية من حيث قيامها بالنفس الجزئية لا ينافي كليتها من حيث مطابقتها للأفراد الكثيرة ، بمعنى أن الحاصل في العقل من كل منها عند التجريد (٣) عن العوارض تكون تلك (٤) الصورة بعينها ، ثم نسبة الحصول إلى الصورة في العقل نسبة الوجود إلى الماهية في الخارج ، فكماله ليس للماهية تحقق في الخارج ، ولعارضها المسمى بالوجود تحقق آخر ، حتى يجتمعا اجتماع القابل والمقبول ، كذلك ليس للصورة تحقق في العقل ، ولعارضها المسمى

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) في (ب) فكون بدلا من (فإن كون).

(٣) التجريد في اللغة : التعرية من الثياب والتشذيب ، تقول جرد الشيء قشره ، وجرد الجلد نزع شعره ، وجرد السيف من غمده سله ، وجرد الكتاب عراه من الضبط والزيادات والفواتح ، والتجريد عند الفلاسفة : هو انتزاع النفس عنصرا من عناصر الشيء ، والتفاتها إليه وحده دون غيره.

وله عند علماء اللغة عدة معان ، منها تجريد اللفظ الدال على المعنى عن بعض معناه ومنها عطف الخاص على العام ، ومنها أن ينتزع من أمر ذي صفة.

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (تلك).

٣٠٦

بالحصول تحقق آخر ، وإنما الزيادة بمعنى أن المفهوم من هذا غير المفهوم من ذاك ، فبهذا الاعتبار يصح جعل العلم تارة نفس الصورة ، وتارة حصولها.

فإن قيل : لا ارتياب في أن العلم عرض موجود في الخارج ، لمعنى حصوله في النفس ، حصولا متأصلا موجبا للاتصاف كسائر صفات النفس.

والصورة ليست كذلك إذ لا حصول لها إلا في النفس ، وحصولها فيها ليس حصولا اتصافيا مثل حصول العرض في المحل ، على ما سبق.

قلنا : لا كلام في قوة هذا الإشكال ، بل أكثر الإشكالات الموردة على كون الإدراك صورة. وغاية ما يمكن أن يقال : إن الصورة قد تؤخذ (١) من حيث إن الحصول نفسها ، فتكون عرضا قائما بالنفس حاصلا لها حصولا متأصلا اتصافيا ، فيكون موجودا عينيا كسائر صفاتها ، وقد تؤخذ (٢) من حيث إن الحصول غيرها فيكون صورة وماهية للموجود العيني الذي ربما يكون من الجواهر فلا تتصف النفس بها ، ولا هي تحصل للنفس حصولا متأصلا ، وهي بهذا الاعتبار مفهوم لا تحقق له إلا في الذهن ، وإطلاق المعلوم عليها تجوز ، لأن المعلوم ماله (٣) صورة في العقل ، لا نفس الصورة ، نعم : قد يستأنف لها تعقل ، وتلحقها أحكام وعوارض لا يحاذي بها أمر في الخارج هي المسماة بالمعقولات الثانية ، وبهذا الاعتبار يصح جعل الكلية من عوارض المعلوم ، كما تجعل من عوارض المفهوم.

وأما المعلوم الذي هو ماله الصورة أعني الموجود العيني فلا يتصف بالكلية ، إلا بمعنى أن الحاصل منه في العقل كلي.

وذكر في المواقف عن الحكماء : أن لموجود في الذهن هو العلم والمعلوم ، وأن معنى كون الإنسان كليا هو أن الصورة الحاصلة منه في العقل

__________________

(١) في (ب) توجد بدلا من (تؤخذ).

(٢) في (ب) يوجد بدلا من (تؤخذ).

(٣) في (ب) بدلا من (ماله).

٣٠٧

المجردة عن المشخصات كلية ، أو أن المعلوم بها كلي ثم قال : وهذا إنما يصح على رأي من يجعل العلم والمعلوم هي الصورة الذهنية ، أو يجعل للأمور المتصورة ارتساما في غير العقل وإلا لكان للمعلوم حصول في الخارج فيكون جزئيا لا كليا ، وأنت خبير بأنه إذا أريد بالمعلوم الصورة الذهنية لم يكن بين الوجهين فرق ، ولا لقوله بها معنى.

الإدراك إما إضافة أو صفة لها

(قال : والمتكلمون لما أنكروا الوجود الذهني جعلوا الإدراك إضافة بين المدرك والمدرك، أو صفة لها إضافة إليه فورد عليهم العلم بالمعدومات والممتنعات إذ لا تعقل الإضافة إلى ما تحقق له أصلا ، ولزم القول بالصورة في الكل لما أن الإدراك معنى واحد فإن قيل : كما لا إضافة إلى العدم المحض فكذا لا صورة له.

وإن أخذت صورة لما في الذهن كان في الذهن من المعدوم أمران الصورة وذو الصورة وهو بين البطلان.

قلنا : ليس من المعدوم إلا الصورة ، ومعناها أن له وجودا غير متأصل ، وهي من حيث قيامها بالذهن علم ، ومن حيث ذاتها معلوم بخلاف الموجود ، فإن العلم ما في الذهن ، والمعلوم ما في الخارج ، وفي كلام ابن سينا أنه ليس في العقل من الممتنع صورة ، وتصوره إما على سبيل التشبيه بإن يعقل بين السواد والحلاوة أمر وهو الاجتماع ، ثم يحكم بأن مثله لا يمكن بين السواد والبياض ، أو على سبيل النفي بأن يحكم أن ليس بينهما مفهوم هو الاجتماع ، وكأنه مراد أبي هاشم حيث أثبت علما لا معلوما له).

يعني أن من لم يقل بالوجود الذهني وحصول الصورة جعل العلم إما مجرد إضافة وتعلق بين العالم (١) والمعلوم ، وإما صفة لها تلك الإضافة فالصفة العلم ، والإضافة العالمية.

__________________

(١) في (ب) العلم بدلا من (العالم).

٣٠٨

وأثبت القاضي وراء العلم والعالمية إضافة إما لأحدهما فيكون هناك ثلاثة أمور ولكل منهما فتكون أربعة ، وعلى هذا قياس سائر الإدراكات ، فإنه أورد عليهم علم الشيء بنفس ذاته فإن التعلق لا يتصور إلا بين شيئين.

أجيب بأن التغاير الاعتباري كاف على ما مر في حصول الشيء للشيء ، نعم يرد عليهم العلم بالمعدومات من الممكنات ككثير من الأشكال الهندسية ، والممتنعات كالمفروضات التي يبين (١) بها الخلف (٢) فإنه لا تحقق لها في الخارج ، وإذا لم تتحقق في الذهن أيضا لم تتصور الإضافة بينهما وبين العالم ، وما يقال من إمكان تحققها قائمة بأنفسها على ما هو رأي أفلاطون ، أو بغيرها من الأجرام الغائبة عنا فضروري البطلان في الممتنعات ، لا يقال غاية ما في الباب إثبات الصورة الذهنية في العلم بالمعدومات. قلنا : الإدراك معنى واحد لا يختلف إلا بالإضافة إلى المدرك والمدرك ، فإن (٣) علم أنه غير نفس الإضافة في موضع علم كونه كذلك مطلقا.

فإن قيل : العلم بالمعدومات وارد على القول بالصورة أيضا لأن الصورة إنما تكون لذي الصورة لا للعدم المحض فإما أن تكون في الخارج فلا يكون معدوما والكلام فيه أو في الذهن فيكون من المعدوم أمر هو الصورة ، وأمر آخر له الصورة وهو باطل لم يقل به أحد.

قلنا ليس في الذهن إلا أمر واحد هو الصورة ، ومعنى كونها صورة للمعدوم أنها بحيث لو أمكن في الخارج تحققها وتحقق ذلك المعدوم لكانت إياه ، ثم إنها من حيث قيامها بالذهن وحصولها فيه علم تتصف به النفس ، ومن حيث ذاتها وماهيتها العقلية أعني مع قطع النظر عن قيامها بالذهن معلوم له وجود غير متأصل ، وهذا بخلاف الموجود ، فإن العلم ما في الذهن

__________________

(١) في (ب) مبنى بدلا من (يبين).

(٢) في (ب) الخلق بدلا من (الخلف)

(٣) في (ب) فإذا بدلا من (فإن).

٣٠٩

والمعلوم ما في الخارج كما مر (١) ، وبهذا يندفع إشكال آخر وهو : أنهم صرحوا بأن الصورة إنما تكون علما إذا كانت مطابقة للخارج وذلك لأن هذا إنما هو في صور الأعيان الخارجية ، وأما المعدومات من ، الاعتباريات وغيرها فمعنى مطابقتها ما ذكرنا ، هذا ، وفي بعض المواضع من كلام ابن سينا اعتراف بأن العلم بالممتنعات ليس حصول الصورة لأنه ذكر في الشفاء أن المستحيل لا يحصل له صورة في العقل ولا يمكن أن يتصور شيء هو اجتماع النقيضين بل تصور المستحيل إنما يكون على سبيل التشبيه بأن يعقل بين السواد (والحلاوة أمر هو الاجتماع ، ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن بين السواد) (٢) والبياض ، أو على سبيل النفي بأن يحكم العقل بأنه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو اجتماع السواد والبياض وعلى هذا حمل صاحب المواقف كلام أبي هاشم حيث جعل العلم بالمستحيل علما لا معلوم له بناء على أن المعلوم شيء والمستحيل ليس بشيء وحينئذ لا يرد اعتراض الإمام بأنه تناقض إذ لا معنى للمعلوم سوى ما تعلق به العلم ولا يحتاج إلى ما ذكره الآمدي من أن له أن يصطلح على أن المعلوم ما تعلق به العلم من (٣) الأشياء.

__________________

(١) في (أ) بزيادة (كما مر).

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) في (أ) بالأشياء.

٣١٠

المبحث الثاني

أنواع الإدراك

(قال : أنواع الإدراك أربعة :

إحساس ، وتخيل (١) ، وتوهم ، وتعقل والاحساس مشروط لحضور المادة واكتناف الهيئات ، وكون المدرك جزئيا ، والتخيل مجرد عن الأول ، والتوهم عن الأولين ، والتعقل عن الكل).

الإحساس إدراك للشيء الموجود في المادة الحاضرة عند المدرك على هيئات مخصوصة به ، محسوسة من الأين والوضع ، ونحو ذلك.

والتخيل : إدراك لذلك الشيء مع الهيئات المذكورة ، ولكن في حالتي حضوره وغيبته.

والتوهم : إدراك لمعان غير محسوسة من الكيفيات والإضافات مخصوصة بالشيء الجزئي الموجود في المادة.

والتعقل : إدراك للشيء من حيث هو هو فقط ، لا من حيث شيء آخر سواء أخذ وحده ، أو مع غيره من الصفات المدركة. هذا النوع من الإدراك ، فالإحساس مشروط بثلاثة أشياء ، حضور المادة ، واكتناف الهيئات ، وكون المدرك جزئيا. والتخيل : مجرد عن الشرط الأول ، والتوهم : مجرد عن

__________________

(١) راجع ما كتبه ابن سينا في كتاب النجاة عن الفرق بين إدراك الحس وإدراك التخيل ، وإدراك الوهم ، وإدراك العقل ص ١٦٨.

٣١١

الأولين والتعقل : مجرد عن الجميع ، بمعنى أن الصورة تكون مجردة عن العوارض المادية الخارجية ، وإن لم يكن بد من الاكتناف بالعوارض الذهنية مثل تشخصها من حيث حلولها في النفس الجزئية ، ومثل عرضيتها وحلولها في تلك النفس ، ومقارنتها لصفات تلك النفس ، وفي كون هذه من العوارض الذهنية ، كلام عرفته في بحث الماهية.

(قال : وعند الشيخ الأشعري (١) الإحساس بالشيء علم به ، فإن إرادته لا تخالف سائر العلوم إلا باعتبار المتعلق ، والطريق فمردود بما نجد من الفرق بين حالتي العلم التام بالشيء والاحساس به ، وإن أراد أنها أنواع من العلم فلفظي مبنى على إطلاق العلم على مطلق الإدراك ، وهو إنما يقال لما عدا الاحساس ، وقد يخص بالأخير ، أو بإدراك المركب ، ويسمى إدراك الجزئي ، أو البسيط معرفة ، أو بالتصديق الجازم المطابق الثابت ، ويسمى الخالي عن الجزم ظنا ، وعن المطابقة جهلا مركبا ، وعن الثبات اعتقادا وقد لا يعتبر فيه المطابقة أيضا ، ولكون الشك ترددا في الحكم والوهم ملاحظة للطرف المرجوح كان عدهما من التصديق خطأ وإن أريد بالشك الحكم بتساوي الطرفين فهو أحد الأقسام السابقة).

فالإبصار علم بالمبصرات ، والسماع علم بالمسموعات ، وهكذا البواقى ورده الجمهور بأنا نجد فرقا ضروريا بين العلم التام بهذا اللون ، وبين إبصاره ، وهكذا بين العلم بهذا الصوت وسماعه ، وبين العلم بهذه الرائحة وشمها.

إلى غير ذلك.

وأجيب بأنا لا نسلم ان ما يتعلق به الإحساس يمكن تعلق العلم به بطريق

__________________

(١) هو علي بن إسماعيل بن إسحاق ، أبو الحسن من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري مؤسس مذهب الأشاعرة ، كان من الأئمة المتعلمين المجتهدين. ولد في البصرة عام ٢٦٠ ه‍ وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم ثم رجع وجاهر بخلافهم. توفي ببغداد عام ٣٢٤ ه‍. من كتبه :

مقالات الإسلاميين والإبانة ، ورسالة في الإيمان ، ومقالات الملحدين ، والرد على ابن الراوندي وغير ذلك.

(راجع طبقات الشافعية ٢ : ٢٤٥ والمقريزي ٢ : ٣٥٩ ، وابن خلكان ١ : ٣٢٦).

٣١٢

آخر ، ولو سلم فيجوز أن يكونا علمين متخالفين بالماهية أو الهوية ، وفيه ضعف.

أما أولا : فلأن إمكان تعلق علم آخر به ضرورى. كيف وأنا نحكم عليه عدم الإحساس أيضا.

وأما ثانيا : فلأن مقصود الجمهور نفى أن تكون حقيقة إدراك الشيء بالحس هى حقيقة إدراكه المسمى بالعلم ، بحيث لا تفاوت إلا فى طريق الحصول كما فى العلم بالشيء بطريق الاستدلال أو الإلهام ، أو الحدس ، وإما بعد تسليم كونهما نوعين مختلفين من الإدراك فيصير البحث لفظيا مبنيا على أن العلم اسم لمطلق الإدراك ، أو النوع منه ، والحق أن إطلاقه على الإحساس مخالف للعرف واللغة فإنه اسم لغيره من الإدراكات ، وقد يخص بإدراك الكل ، أو إدراك المركب فيسمى إدراك الجزئي ، أو إدراك البسيط معرفة وقد يخص العلم بأحد أقسام التصديق ـ أعني اليقين منه ، وهو ما يقارن الجزم والمطابقة والثبات ، فيسمى غير الجازم ظنا (١) قلنا (٢) : وغير المطابق جهلا مركبا (٣) ، وغير الثابت اعتقاد

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (ظنا).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (قلنا).

(٣) (الجهل : نقيض العلم. قال تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ) يعني الجهل بحالهم ولم يرد الجهل الذي هو ضد الخبرة ، والجهل هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه ، واعترضوا عليه بأن الجهل قد يكون بالمعدوم وهو ليس بشيء ، والجواب عنه أنه شيء في الذهن (راجع التعريفات للجرجاني).

ويطلق الجهل عند المتكلمين على معنيين الأول : هو الجهل البسيط ، وهو عدم العلم عما من شأنه أن يكون عالما فلا يكون ضدا للعلم ، بل مقابلا له تقابل العدم والملكة ، ويقرب منه السهو والغفلة والذهول ، والجهل البسيط بعد العلم يسمى نسيانا. والثاني هو الجهل المركب ، وهو اعتقاد جازم غير مطابق للواقع ، وإنما سمي مركبا لأنه يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه ، فهذا جهل أول ، ويعتقد أنه يعتقده على ما هو عليه ، وهذا جهل آخر قد تركبا معا وهو ضد العلم.

(راجع كشاف اصطلاحات الفنون ج ١ ص ٢٧٨ : ٢٧٩).

٣١٣

المقلد وقد لا يعتبر في الاعتقاد المطابقة ، فينقسم إلى الصحيح والفاسد وقد يطلق على مطلق التصديق فيعم العلم وغيره.

وقد يراد بالظن ما ليس بيقين ، فيعم الظن الصرف والجهل المركب واعتقاد المقلد ، ثم ظاهر عبارة البعض أن اليقين يقارن الحكم بامتناع النقيض ، والظن الصرف يقارن الحكم (بإمكان النقيض وإن كان مرجوحا ، لكن التحقيق هو أن المعتبر في اليقين أن يكون بحيث لو أخطر النقيض بالبال لحكم) (١) بامتناعه ، وفي الظن أنه لو أخطر الحكم بإمكانه حتى إن كلا منهما اعتقاد بسيط لا يتركب عن حكمين ، واعترض على اعتبار الثبات في اليقين بأنه إن أريد به عسر الزوال فربما يكون اعتقاد المقلد كذلك ، وإن أريد به (٢) امتناع الزوال فاليقين من النظريات قد يذهل الذهن عن بعض مباديه فيشك فيه ، بل ربما يحكم بخلافه.

والجواب أنه : إن أريد بالذهول مجرد عدم الحضور بالفعل عند العقل فإمكان طريان الشك حينئذ ممنوع ، وإن أريد الزوال بحيث يفتقر إلى تحصيل واكتساب فلا يقين حينئذ بالحكم النظري (٣) ، ونحن إنما نحكم بامتناع الشك فى اليقين ما دام يقينا فإن التصديق (٤) على ما ذكرنا ينحصر فى العلم والجهل المركب والاعتقاد الصحيح والظن لأن غير الجازم لا بد أن يكون راجحا لأنه أقل مراتب الحكم أعنى قبول النفس وإذعانها لوقوع النسبة أو لا وقوعها ، وما ذكر الإمام وجمع من المتأخرين أن غير الجازم إما أن يكون راجحا فظن ، أو مساويا فشك ، أو مرجوحا فوهم محل نظر لأن الشك تردد فى الوقوع واللاوقوع ، والوهم ملاحظة للطرف المرجوح وكلاهما تصور لا حكم معه أصلا.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (به).

(٣) في (ب) الفطري بدلا من (النظري).

(٤) في (ب) بزيادة (فإن).

٣١٤

فإن قيل : المراد بالشك (١) الحكم بتساوى الطرفين عند العقل.

قلنا : هذا تصديق بكون أحد الأقسام الأربعة بمنزلة قولك : أنا شاك فى كذا.

الفرق بين السهو والنسيان (٢)

(قال : والذهول عن الصورة الإدراكية إن انتهى إلى زوالها بحيث يفتقر إلى اكتساب فنسيان ، وإلا فسهو ، والجهل البسيط عدم ملكة العلم ، والمركب مضاد له لصدق الحد.

وقالت المعتزلة مماثل لأن الاختلاف إنما هو بعارض المطابقة واللامطابقة ، ولأن العلم ينقلب جهلا مع بقاء ذاته كما إذا اعتقد قيام زيد طول نهاره ، وقد قعد في البعض.

والجواب أن العارض قد يكون لازما فتختلف الذات باختلافه واتحاد الذات في الحالين نفس المتنازع).

يشير إلى الفرق بين السهو والنسيان ، وقد لا يفرق بينهما ، ونسبتهما إلى العلم نسبة الموت إلى الحياة ، بمعنى أنهما عدم ملكة للعلم مع خصوصية قيد

__________________

(١) الشك : هو التردد بين نقيضين لا يرجح العقل أحدهما على الآخر وذلك لوجود أمارات متساوية في الحكمين ، أو لعدم وجود أية إمارة فيهما ، ويرجع تردد العقل بين الحكمين إلى عجزه عن معاناة التحليل أو إلى قناعته بالجهل لذلك قيل : الشك ضرب من الجهل.

والشك عند ديكارت : فعل من أفعال الإرادة ، فهو ينصب على الأحكام لا على التصورات والأفكار لأن التصورات من غير حكم لا تسمى صادقة ولا كاذبة (عثمان أمين ديكارت ص ١٠٢).

(٢) النسيان : هو الفقدان المؤقت أو النهائي لما حفظته النفس من الصور والمهارات الحركية ، وهو قسمان : نسيان طبيعي كما في فقدان الخطور التلقائي أو العجز عند التذكر الإرادي ، ونسيان غير طبيعي كما في أمراض الذاكرة. قال الجرجاني : النسيان ، هو الغفلة عن المعلوم في غير حالة السنة فلا ينافي الوجوب. أي نفس الوجوب ، ولا وجوب الأداء.

(تعريفات الجرجاني).

وقيل النسيان مرادف للسهو والذهول ، والفرق بين السهو والنسيان أن الأول زوال الصورة عن القوة المدركة بعد بقائها في الحافظة ، والثاني : زوالها عنهما معا.

٣١٥

الطريان ، والشك عدم ملكة للعلم التصديقي ، فيكون جهلا بسيطا بالنظر إليه ، وإن كان علما من حيث التصور.

وأما الجهل المركب أعني الاعتقاد الجازم الغير المطابق ويسمى مركبا لأنه جهل بما في الواقع مع الجهل بأنه جاهل به ، فمضاد للعلم لصدق حد الضدين عليهما لكونهما معنيين يستحيل اجتماعهما لذاتهما ، ولكونهما متقابلين وجوديين ليس تعقل أحدهما بالقياس إلى تعقل الآخر.

وقالت المعتزلة : (١) هما متماثلان ، لأن الحقيقة واحدة والاختلاف إنما هو بالعارض ، أما أو لا فلأنهما لا يختلفان إلا بمطابقة الواقع ولا مطابقته ، وذلك خارج لأن النسبة لا تدخل في حقيقة المنتسبين ، والاختلاف بالخارج لا يوجب الاختلاف بالذات. وأما ثانيا : فلأن من اعتقد أن زيدا في الدار طول النهار وقد كان فيها إلى قبل (٢) الظهر ، ثم خرج كان له اعتقاد واحد مستمر لا اختلاف في ذاته ، مع أنه كان علما ثم صار جهلا.

والجواب أن المطابقة (٣) واللامطابقة أخص صفات النفس للعلم والجهل ، فالاختلاف فيه يستلزم الاختلاف في الذات وظاهره معارضة ، ويمكن تنزيله على المنع ، أي لا نسلم (أن الاختلاف بالعارض لا يوجب الاختلاف بالذات ، وإنما يكون كذلك لو لم يكن لازما ، ولا نسلم) (٤). أن الذات واحدة بل الاعتقادات على التجدد ، فما دام زيد في الدار فالمتجدد علم ، وحين خرج فجهل.

__________________

(١) راجع التعريف بهذه الفرقة وأشهر رجالها في كلمة موجزة في الجزء الأول من هذا الكتاب.

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (قبل).

(٣) أطبق القوم على كذا اجتمعوا عليه متوافقين ، وأطبقت عليه الحمى استمرت به الليل والنهار ، وأطبق الليل أظلم ، وطابق الفرس في مشيه أو جريه مطابقة وطباقا وضع رجليه موضع يديه ، والمطابقة : الموافقة والمعاونة ، وطابقه على الأمر : مالأه وساعده ، وطابق بين الشيئين جعلهما على حذو واحد.

(المعجم الوسيط ج ٢ ص ٥٥٠).

(٤) ما بين القوسين سقط من (ب).

٣١٦

المبحث الثالث

انقسام العلم إلى قديم وحادث

(قال : المبحث الثالث :

العلم (١) ينقسم إلى قديم وحادث ، ومراتب الحادث ثلاث ، لأنه إما بالقوة المحضة وهو الاستعداد ، فللضروري بالحواس وللنظرى بالضرورى ، وإما بالفعل إجمالا بأن يكون عنده أمر بسيط هو مبدأ التفاصيل ، أو تفصيلا بأن يلاحظ الأجزاء مفصلة ، وذلك كما إذا نظر إلى الصحيفة جملة ثم حرفا حرفا ، فالحاصل في الإجمال صورة واحدة تطابق الكل ، لا كل واحد ، وفي التفصيلي صور متعددة فيندفع ما قال الإمام أن الصورة الواحدة لا تطابق المختلفات ، والمتعددة تكون تفصيلا.

اللهم إلا أن يراد بالتفصيل حصولها مرتبة ، وبالإجمال دفعة).

إما قديم لا يسبقه العدم وهو علم الله تعالى وإما حادث (٢) سبقه العدم فهو

__________________

(١) العلم : هو الإدراك مطلقا تصورا كان أو تصديقا ؛ يقينا كان أو غير يقيني ، وقد يطلق على التعقل ، أو على حصول صورة الشيء في الذهن ، أو على إدراك الكلي مفهوما كان أو حكما أو على الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، أو على إدراك الشيء على ما هو به ، أو على إدراك حقائق الأشياء وعللها ، أو على إدراك المسائل على دليل ، أو على المكانة الحاصلة عن إدراك المسائل.

(راجع المعجم الفلسفي ج ٢ ص ١٠١ وما بعدها).

(٢) الحادث : هو الواقع ، وحدث أمر أي وقع. والحادث عند فلاسفة العرب هو ما يكون مسبوقا بالعدم ، ويسمى حادثا زمانيا ، وفرقوا بين الحدوث الزماني ، والحدوث الذاتي ، فقالوا : ـ

٣١٧

علم المخلوق ، ومراتب الحادث ثلاث :

الأولى : ما يكون بالقوة المحضة ، وهو الاستعداد للعلم ، وحصوله للضروريات يكون بالحواس الظاهرة والباطنة ، كما يستفاد من حس اللمس أن هذه النار حارة ، فتستعد النفس للعلم بأن كل نار حارة ، وعلى هذا القياس وللنظريات (١) يكون بالضروريات بأن يرتب فيكتسب النظرى.

والثانية : العلم الإجمالي كمن علم مسألة فغفل عنها ثم سئل فإنه يحضر الجواب (٢) في ذهنه دفعة من غير تفصيل ، وحقيقته حالة بسيطة إجمالية هي مبدأ تفاصيل المركب.

والثالثة : العلم التفصيلي : وهو حضور صورة المركب بحيث تعرف اجزاؤه متميزا بعضها عن بعض ملاحظا كل منها على الانفراد ، وذلك كما إذا نظرنا إلى الصحيفة دفعة فلا شك أنا نجد حالة إجمالية من الإبصار ، ثم إذا حدقنا النظر وأبصرنا كل حرف حرف على الانفراد حصلت لنا حالة أخرى مع أن الإبصار حاصل في الحالين.

فالأولى : بمنزلة العلم الإجمالي ، والثانية بمنزلة العلم التفصيلي وبهذا يتبين معنى كلامهم ، أن العلم بالماهية يستلزم العلم بأجزائها ، لكن إجمالا لا تفصيلا.

واعترض الإمام بأن الحاصل في العلم الإجمالي إما أن يكون صورة واحدة فيلزم أن يكون للحقائق المختلفة صورة واحدة مطابقة (٣)

__________________

ـ الحدوث الزماني هو كون الشيء مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا ، أما الحدوث الذاتي فهو كون الشيء مفتقرا في وجوده إلى الغير.

(راجع تعريفات الجرجاني).

(١) النظرية : قضية تثبت ببرهان ، والنظرية في الفلسفة طائفة من الآراء تفسر بها بعض الوقائع العلمية أو الفنية ونظرية المعرفة : البحث في المشكلات القائمة على العلاقة بين الشخص والموضوع ، أو بين العارف والمعروف ، وفي وسائل المعرفة فطرية أو مكتسبة.

(٢) في (ب) الحوادث بدلا من (الجواب).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (مطابقة).

٣١٨

لكل منها على أنها (١) متساوية لها بل نفس ماهيتها ، وما أن يكون صورا متعددة لتلك المختلفات فيكون العلم التفصيلي بها حاصلا وغاية التفرقة أن يقال إن حصول الصورة إن كان دفعة واحدة فعلم إجمالي ، وإن كان على ترتيب زماني بأن يحضر واحد بعد واحد فتفصيلي ، لكن على هذا لا يكون الإجمالي مرتبة متوسطة بين القوة المحضة ، والفعل المحض التفصيلي على ما زعموا ، ويمكن الجواب بأن الحاصل في الإجمالي صورة واحدة تطابق الكل من غير ملاحظة لتفاصيل الأجزاء ، وفي التفصيلي صور متعددة يطابق كل منها واحدا من الأجزاء على الانفراد ، وفهم بعضهم من العلم الإجمالي مجرد تميز الشيء عند العقل ، ومن التفصيلي ذلك مع العلم بتميزه ، وقد سبق الكلام في أن العلم بالشيء هل يستلزم العلم بالعلم به ، وفي أنه على تقدير الاستلزام هل يلزم من العلم بشيء واحد علوم غير متناهية ، بناء على تغاير العلم بالامتياز وبامتياز الامتياز ، وهكذا إلى غير النهاية.

__________________

(١) سقط من (ب) حرف الجر (على).

٣١٩

المبحث الرابع

انقلاب العلم النظري إلى ضروري

(قال : المبحث الرابع :

قيل : لا خلاف فى جواز انقلاب النظري ضروريا بأن يخلق الله تعالى ، وجوز القاضي(١) عكسه لتجانس العلوم بناء على كون التعلقات والتشخصات من العوارض التى ليست مقتضى الذات فيجوز على كل ما يجوز على الآخر ، كما يجوز على الإنسانية التى فى زيد ما يجوز على التى فى عمرو ، ومن قال : لو سلم التجانس فلا شك فى اختلاف الأنواع ذهل عن معنى التجانس ، ومنعه الجمهور. مطلقا لاستحالة الخلو عن الضروري ، مع التوجه ، وبعضهم فيما هو شرط للنظر للدور).

قال الإمام : لا يجوز انقلاب العلم البديهي كسبيا وبالعكس لأن كون تصور الموضوع والمحمول كافيا فى جزم الذهن بالنسبة بينهما ، أو مفتقرا إلى النظر أمر ذاتى له ، والذاتي لا يزول ، وهذا مع ظهور المنع على مقدمته الأولى مختص بالأوليات.

وذكر الآمدي (٢) وغيره أن انقلاب النظري ضروريا جائزا اتفاقا بأن يخلق الله

__________________

(١) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر أبو بكر الباقلاني ت عام ٤٠٣ ه‍. سبق الترجمة له.

(٢) هو علي بن محمد بن سالم التغلبي أبو الحسن سيف الدين الآمدي ت ٦٣١ ه‍. سبق الترجمة له.

٣٢٠