شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

أعني الألف من الفتحة والواو من الضمة ، والياء من الكسرة تسمى المصوتة الممدودة ، وهي المسماة في العربية بحروف المد لأنها كانت مدات للحركات ، وما سوى المصوتة تسمى صامتة (١) ، ويندرج فيها الواو والياء المتحركتان أو الساكنتان ، إذ لم يكن قبل الواو ضمة ، وقبل الياء كسرة وأما الألف فلا يكون إلا مصوتا ، وإطلاقها على الهمزة باشتراك الاسم (٢) ، وليس المراد بالحركة والسكون هاهنا ما هو من خواص الأجسام ، بل الحركة عبارة عن كيفية حاصلة في الحرف الصامت من إمالة مخرجه إلى مخرج إحدى المدات ، فإلى الألف فتحة ، وإلى الواو ضمة. وإلى الياء كسرة. ولا خلاف في امتناع الابتداء بالمصوت وإنما الخلان في أن ذلك بسكونه حتى يمتنع الابتداء بالساكن الصامت أيضا أو لذاته لكونه عبارة عن مدة متولدة من إشباع حركة تجانسها فلا يتصور إلا حيث يكون قبلها صامت متحرك وهذا هو الحق لأن كل سليم الحس يجد من نفسه إمكان الابتداء بالساكن ، وإن كان مرفوضا في لغة العرب كالوقف على المتحرك والجمع بين الساكنين من الصوامت إلا في الوقف مثل زيد وعمرو ، أو إذا كان (٣) الصامت الأول حرف لين والثاني مدغما نحو خويصة فإنه جائز ، كما إذا كان الأول مصوتا نحو دابة وعدم قدرة البعض على الابتداء بالساكن لا يدل على امتناعه كالتلفظ ببعض الحروف ، فإن ذلك لقصور في الآلة والاستدلال على الإمكان بأن المصوت أينما كان مشروط بالصامت ، فلو كان الصامت مشروطا به في بعض المواضع كالابتداء لزم الدور ، وليس بشيء لأن المصوت مشروط بأن يسبقه صامت والصامت في الابتداء مشروط بأن يلحقه مصوت فيكونان معا ولا استحالة فيه.

قوله : وينقسم أي الحرف باعتبار آخر إلى آني وزماني (٤) لأنه إن أمكن

__________________

(١) صامتة لعدم اقتضائها امتداد الصوت.

(٢) راجع ما كتبه صاحب المواقف في المقصد الثاني من الجزء الخامس ص ٢٧١ وما بعدها.

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (إذا).

(٤) عبارة صاحب المواقف تشعر أن هناك ثلاثة أقسام. الأول : إما زمانية صرفة وهي الحروف المصوتة كالفاء والقاف ، وإما آنية صرفة وهي الحروف الصامتة والتي لا يمكن تمديدها أصلا ـ

٢٨١

تمديده كالفاء فزماني ، وإن لم يمكن كالطاء فاني ، وهو إنما يوجد في أول زمان إرسال النفس كما في طلع ، أو في آخر زمان حبسه كما في (١) غلط.

وما يقع في وسط الكلمة مثل بطل يحتمل الأمرين ، وعروض الآني للصوت يكون بمعنى إنه طرف له كالنقطة للخط ، ومن الآني ما يشبه الزماني (٢) كالحاء والخاء ونحوهما مما لا يمكن تحديده ، لكن تجتمع عند التلفظ بواحد منها أفراد متماثلة (٣) ، ولا يشعر الحس بامتياز زمان بعضها عن بعض فيظن حرفا واحدا.

تقسيم آخر للحروف إلى متماثلة ومختلفة

(قال : وإلى متماثل كالباءين (٤) الساكنين ، ومختلف بالذات كالباء والتاء ، أو بالعرض كباءين متحرك وساكن بعده ، أو (٥) مضموم مفتوح).

يريد أن الحروف التسعة والعشرين الواقعة في لغة العرب وما سواها مما يقع في بعض اللغات أنواع مختلفة بالماهية ، وقد يختلف أفراد كل منها بعوارض مشخصة كالياء الساكنة التي يتلفظ بها زيد الآن ، أو في وقت آخر ، أو يتلفظ بها عمرو ، أو غير مشخصة كالياء الساكنة أو المتحركة بالفتحة أو الضمة أو الكسرة ، فمع قطع النظر عن اللافظ تكون أفراد النوع (٦) الواحد ، إما متحدة في السكون والحركة كالياءين الساكنتين ، أو المتحركتين بالفتحة أو

__________________

ـ كالتاء والطاء ، وإما آنية تشبه الزمانية وهي أن تتوارد أفراد آنية مرارا فيظن أنها فرد واحد زماني كالراء والخاء.

(راجع المواقف ج ٤ ص ٢٧٢).

(١) في (ب) جنسه وهو تحريف.

(٢) سقط من (أ) لفظ (الزماني).

(٣) في (ب) أجزاء بدلا من (أفراد).

(٤) في (أ) كالياءين.

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (بعده).

(٦) سقط من (ب) لفظ النوع.

٢٨٢

الضمة أو الكسرة ، وإما مختلفة كالياء الساكنة والمتحركة أو المفتوحة والمضمومة ، وهذا هو المعنى بالتماثل والاختلاف بحسب العارض ، وبهذا يندفع ما يقال إنه إن أريد بالتماثل الاتحاد في الحقيقة على ما هو المصطلح لم يكن المختلف بالعارض مقابلا للمتماثل ، وإن أريد الاتحاد في العارض أيضا كانت الياءان الساكنتان من قبيل المختلفة ضرورة أنه لا يتصور التعدد بدون اختلاف ولو بعارض.

تعريف المقطع المقصور والمقطع الممدود

(قال : والصامت مع المصوت المقصور يسمى مقطعا مقصورا مثل ل (١) ومع الممدود مقطعا ممدودا مثل لا ، وقد يقال المقطع مقصور مع ساكن بعده مثل هل ، فهو صامتان بينهما مصوت مقصور بخلاف لا فإنه صامت ومصوت ممدود فقط ، ليس بينهما مصوت مقصور على ما هو اعتبار العربية ، (٢) وذلك لأن المصوت الممدود ليس إلا إشباعا للمقصور فهو مندرج (٣) فيه جزء منه).

قد اشتبه على بعض المتأخرين معنى المقطع مع اشتهاره فيما بين القوم ، فأوردنا في ذلك ما صرح به الفارابي وابن سينا والإمام وغيرهم ، وهو أن الحرف الصامت مع المصوت المقصور يسمى مقطعا مقصورا مثل ل بالفتح ، أو الضمة ، أو الكسر ، ومع المصوت الممدود يسمى مقطعا ممدودا ، مثل لا ولو ولى ، وقد يقال المقطع الممدود بمقطع مقصور مع صامت ساكن بعده مثل هل ، وقل ، وبع لمماثلته المقطع الممدود في الوزن. فإن قيل : لا حاجة إلى هذا التفصيل فإن المقطع الممدود ليس إلا مقطعا مقصورا مع ساكن بعده سواء كان مصوتا مثل لا أو صامتا مثل هل ، ولهذا يقال : إن المقطع حرف مع حركة أو حرف متحرك مع ساكن بعده ، والأول المقصور الثاني الممدود.

قلنا : المقطع الممدود بالاعتبار الثاني صامتان هما الهاء واللام في هل بينهما مصوت مقصور هو فتحة الهاء.

__________________

(١) في (ج) زو.

(٢) في (ج) القرينة بدلا من (العربية).

(٣) في (ج) مدرج.

٢٨٣

وبالاعتبار الأول مجرد صامت ومصوت ممدود ليس بينهما مصوت مقصور على ما يراه أهل العربية من أن لا لام وألف بينهما فتحة ، وذلك لأن المصوت الممدود ليس إلا إشباعا للمصوت المقصور فيكون المقصور مندرجا في الممدود جزءا منه ، وهذا ما يقال. إن الحركات أبعاض حروف المد ، فلا يكون إلا صامتا مع مصوت ممدود.

الحروف ومكونات اللفظ والكلام والمفرد والمركب

(قال : ويتألف من الحروف الكلام المنقسم إلى المفرد والمركب بأقسامهما ، ويسمى اللفظ أيضا ، وقد يخص الكلام بما يفيد ولو كان مقطعا مثل ق ، وقى (١) ، واللفظ بما يتألف من المقاطع ، وبهذا يقع في مقابلة الحرف والمقطع حيث يقال أجزاء المركب ألفاظ أو حروف أو مقاطع).

ويفسر بالمنتظم من الحروف المسموعة المتميزة ، ويحترز بالمسموعة عن المكتوبة أو المتخيلة ، وبالمتميزة عن أصوات الطيور ، والكلام ينقسم إلى المهمل والموضوع ، والموضوع إلى المفرد والمركب ، والمفرد (٢) إلى الاسم والفعل والحرف. والمركب إلى التام الذي يصح السكوت عليه ، وإلى غير التام ، واللفظ أعم من الحروف (٣) والكلام. وقد يخص الكلام باللفظ المفيد بمعنى دلالته على نسبة يصح السكوت عليها سواء كانت إنشائية مثل : قم وهل زيد قائم؟ ، ولعل زيدا قائم؟؟ ونحو ذلك أو إخبارية مثل : زيد قائم ، وسواء كان اللفظ مقطعا مقصورا مثل ق ، أو ممدودا مثل قى وقو أو مركبا من المقاطع كما ذكر وقد يخص اللفظ بما يتألف من المقاطع فيقابله (٤) الحرف والمقطع ولذا يقال : أجزاء المركب ألفاظ أو حروف ، أو مقاطع فزيد قائم من لفظين ، وما ذا من مقطعين ، ويا زيد من مقطع ، ولفظ درى (٥) في أمر المخاطبة

__________________

(١) في (ب) ومن بدلا من (قى).

(٢) في (أ) المركب وهو خطأ.

(٣) في (ب) الحرف.

(٤) في (ب) متقابلة.

(٥) في (ب) ورى.

٢٨٤

من مقطع وحرف ، وارضى وأخشوا من لفظ وحرف ، ويشكل بمثل قى وقو فإن كلا منهما مقطع ممدود فقط إلا أن يقال : إنه من حرفين صامت ومصوت ، وأما مثل ق فمن مقطع مقصور ، ولفظ هو الضمير المستتر أعني أنت وهذا بخلاف قي وقو فإن كلا من الياء والواو اسم (١) ولا مستتر هناك.

اللفظ من قبيل الكم.

(قال : وزعم الفارابي أن اللفظ من قبيل الكم وهو ما يمكن أن يقدر جميعه (٢) بجزء منه إذ كل لفظ مقدر بمقطع مقصور أو ممدود أو بما تركب منهما ، ورد بأنه بالعرض كالجسم).

إن القول من مقولة الكم ، وإن الكم المنفصل أيضا ينقسم إلى قار هو العدد ، وغير قار هو القول. واحتج بأن (ذو) جزء (٣) يتقدر بجزئه وكل ما هو كذلك فهو كم وفاقا.

بيان الصغرى أن أجزاء الأقاويل مقاطع مقصورة أو ممدودة يقع (٤) فيها التركيب بأن يردف من (٥) مقصور بممدود مثل على أو بالعكس مثل كان ، ثم تركب هذه المقاطع مرة (٦) أخرى فيحدث أشياء أعظم مما تقدم فأصغر ما يتقدر به الألفاظ هي المقاطع البسيطة المقصورة ثم الممدودة. ثم بعدها المركبة ، وأكملها ما ذكر فيه المقصور أو لا ثم أردف بالممدود ، والقول ربما يتقدر بواحد منها ، وربما يحتاج إلى أن يقدر باثنين أو أكثر كسائر المقادير ، فإن منها ما يقدره ذراع فيستغرقه (٧) ، ومنها ما يحتاج إلى ذراعين وأكثر.

وأجيب بمنع الكبرى ، وإنما ذلك إذا كان التقدير (٨) لذاته ، وهاهنا إنما عرضي للعقول خاصة الكم من جهة الكثرة التي فيه (٩) ، كما أن الجسم يتقدر بالذراع ونحوه لما فيه من الكم المتصل.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (اسم).

(٢) في (ج) يفيد جمعية وهو تحريف.

(٣) في (ج) هو بدلا من (ذو).

(٤) في (ب) مقطع بدلا من (يقع).

(٥) في (أ) بزيادة حرف (من).

(٦) سقط من (ب) لفظ (مرة).

(٧) في (ب) فستعرفه.

(٨) في (ب) التقدر.

(٩) في (ب) منه.

٢٨٥

النوع الرابع

المذوقات

(قال : النوع الرابع المذوقات (١) ، وهي الطعوم ، وأصولها تسعة لأن الحار يفعل في اللطيف حرافة ، وفي الكثيف مرارة ، وفي المعتدل ملوحة ، والبارد في اللطيف حموضة ، وفي الكثيف عفوصة وفي المعتدل قبضا ، والمعتدل في اللطيف دسومة ، وفي الكثيف حلاوة ، وفي المعتدل تفاهة ، ثم يتركب منها أنواع لا تحصى).

__________________

(١) الذوق : الحاسة التي تميز بها خواص الاجسام الطعمية بواسطة الجهاز الحسي في الفم ومركزه اللسان.

والذوق : في الأدب والفن حاسة معنوية يصدر عنها انبساط النفس أو انقباضها لدى النظر في أثر من آثار العاطفة أو الفكر. (المعجم الوسيط ج ١).

والذوق : أصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر ، فإن ما يكثر من ذلك يقال له الأكل ، واختير في القرآن لفظ الذوق للعذاب لأن ذلك وإن كان في التعارف للقليل فهو مستصلح للكثير فخصه بالذكر ليعلم الأمرين وكثر استعماله في العذاب وقد جاء في الرحمة. قال تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) ويعبر به عن الاختبار. يقال : أذقته كذا فذاق.

والذوق : مباشرة الحاسة الظاهرة أو الباطنة ولا يختص ذلك بحاسة الفم في لغة القرآن ، ولا في لغة العرب: قال تعالى : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ). وقال (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ). فجمع الذوق واللباس حتى يدل على مباشرة الذوق وشموله ، فأفاد الإخبار عن إذاقته أنه واقع مباشر غير منتظر ، فإن الخوف قد يتوقع ولا يباشر ، وأفاد الإخبار عن لباسه أنه محيط شامل كاللباس للبدن.

وفي الصحيح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا ، فأخبر أن للإيمان طعما وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب ، والذوق عند العارفين منزلة من منازل السالكين أثبت وأرسخ من منزلة الوجد عندهم.

(راجع بصائر ذوى التمييز ج ٣ ص ٢٣ ، ٢٤).

٢٨٦

المشهور أن أصول الطعوم (١) أي بسائطها تسعة حاصلة من ضرب أحوال ثلاثة للفاعل هي الحرارة والبرودة والاعتدال بينهما (٢) في أحوال ثلاث للقابل هي اللطافة والكثافة والاعتدال بينهما وبيان أنية ما ذكر من التأثيرات ولميتها مذكور في المطولات ثم يتركب من التسعة طعوم لا تحصى مختلفة باختلاف التركيبات واختلاف مراتب البسائط قوة وضعفا وامتزاج شيء من الكيفيات اللمسية بها بحيث لا تتحيز في الحس ، وهذه المركبات قد يكون لها أسماء كالبشاعة للمركب من المرارة والقبض كما في الحضض بضم الضاد الأولى نوع من الدواء وهو عصارة شجرة تسمى فليزهرج ، وكالزعوقة للمركب من المرارة والملوحة كما في الشيحة وقد لا يكون كالحلاوة والحرافة في العسل المطبوخ والمرارة (والتفاهة في الهندبا ، والمرارة والحرافة ، والقبض في الباذنجان ، والفرق بين القبض والعفوصة أن القابض يقبض ظاهر اللسان ، والعفص ظاهره وباطنه) (٣). والتفاهة المعدومة في الطعوم هي مثل ما في اللحم والخبز.

وقد يقال : التفه لا طعم له أصلا كالبسائط ولما لا يحس بطعمه ، لأنه لا بتخلل منه شيء يخالط (٤) الرطوبة اللعابية إلا بالحيلة كالحديد ، وما قيل إن هذا هو (٥) الذي يعد في الطعوم يبطله ما قالوا : إن طعم الهندبا مركب من المرارة والتفاهة لا مرارة محضة.

__________________

(١) في (ب) الطعم.

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (بينهما).

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٤) في (أ) يخلط بدلا من (يخالط).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (هو).

٢٨٧

النوع الخامس

المشمومات وهي الروائح

(قال : النوع الخامس : المشمومات وهي الروائح ، ولا أسماء لأنواعها إلا من جهة الملاءمة ، والمنافرة كرائحة طيبة ومنتنة (١) أو المجاورة كرائحة حلوة ، أو الإضافة كرائحة المسك).

وليس فيها محل بحث ، واعلم أنهم وإن أجروا (٢) هذه الأوصاف أعني المبصرات والمسموعات والملموسات والمذوقات والمشمومات على الأنواع الخمسة من الكيفيات بل جعلوها بمنزلة الأسماء (٣) لها فهي بحسب اللغة متفاوتة في الوقوع على الكيفية أو على المحل ، أو عليهما جميعا ، وفي كون مصادرها موضوعة لذلك النوع من الإدراك كالإبصار والسماع ، أو لما يفضي إليه كالبواقي ، ومن هاهنا يقال : أبصرت الورد وحمرته وسمعت الصوت لا مصوته ، ولمست (٤) الحرير لا لينه ، وذقت الطعام وحلاوته ، وشممت العبير (٥) ورائحته.

__________________

(١) في (ب) ومنتهية وهو تحريف.

(٢) في (ب) وإن أخروا بدلا من (أجروا).

(٣) في (ب) الانتهاء بدلا من (الأسماء).

(٤) في (أ) ولبست بدلا من (لمست).

(٥) في (أ) العنبر بدلا من (العبير).

٢٨٨

القسم الثاني

الكيفيات النفسانية كالإدراك

وفيه مباحث

المبحث الأول : حقيقة الإدراك

المبحث الثاني : أنواع الإدراك

المبحث الثالث : انقسام العلم إلى قديم وحادث

المبحث الرابع : انقلاب العلم النظري إلى ضروري

المبحث الخامس : اختلاف العلماء في تعدد العلم الحادث بتعدد المعلوم

المبحث السادس : محل العلم هو القلب

المبحث السابع : العقل مناط التكليف

٢٨٩
٢٩٠

الكيفيات النفسانية

(قال : القسم الثاني : الكيفيات النفسانية أي المختصة بذوات الأنفس الحيوانية ، وهي مع الرسوخ تسمى ملكة ، وبدونه حالا).

أي من الأقسام الأربعة للكيف الكيفيات المختصة بذوات الأنفس الحيوانية بمعنى أنها إنما تكون من بين (١) الأجسام للحيوان دون النبات والجماد فلا يمتنع ثبوت بعضها لبعض المجردات من الواجب تعالى وغيره على أن القائلين بثبوت صفة الحياة والعلم والقدرة ونحوها للواجب لا يجعلونها من جنس الكيفيات والأعراض ، ثم الكيفية النفسانية إن كانت راسخة سميت ملكة (٢) وإلا فحالا ، فالتمايز بينهما قد لا يكون إلا بعارض بأن تكون الصفة حالا ثم تصير بعينها ملكة ، كما أن الشخص من الإنسان يكون صبيا ثم يصير شيخا ومثل ذلك ، وإن كان يسبق إلى (٣) الوهم ويقع في بعض

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (بين).

(٢) الملكة : صفة راسخة في النفس أو استعداد عقلي خاص لتناول أعمال معينة بحذق ومهارة مثل الملكة العددية ، والملكة اللغوية.

(راجع المعجم الوسيط). ويرادفها القوة ، والقدرة والاستعداد الدائم وتحقيق ذلك أنه تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال ، ويقال لتلك الهيئة كيفية نفسانية وتسمى حالة ما دامت سريعة الزوال ، فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك فيها وصارت بطيئة الزوال فتصير ملكة.

(راجع تعريفات الجرجاني).

(٣) في (أ) سبق أن.

٢٩١

العبارات إنه هو ذلك الشخص بعينه فليس كذلك بحسب الحقيقة للقطع بتغاير العوارض المشخصة.

الحياة مبدأ لقوة الحس والحركة

(قال : فمنها الحياة (١) وهي (٢) في الشاهد قوة تقتضي الحس والحركة أي تكون مبدأ لقوة الحس والحركة ، وهذا معنى قولهم قوة تتبع اعتدال النوع وتفيض عنها سائر القوى أي القوى الحيوانية فتكون غير قوة الحس والحركة لتغاير المبدأ ، وذي (٣) المبدأ ، وغير قوة التغذية لوجودها فى النبات مع عدم الحياة ، ولهذا كان في العضو المفلوج ، أو الذابل الحياة بأثرها من غير حس وحركة أو اغتداء).

سيجيء معنى الحياة في حق الله تعالى : وأما حياة الحي من الأجسام فقد اختلفت العبارات في تفسيرها لا من جهة اختلاف في حقيقتها ، بل من جهة عسر الاطلاع عليها والتعبير عنها إلا باعتبار اللوازم والآثار ، فقيل : هي صفة تقتضي الحس والحركة مشروطة باعتدال المزاج ، والقيد الأخير للتحقيق على ما هو رأي البعض لا للاحتراز وقيل قوة (٤) هي مبدأ لقوة الحس والحركة ، وكان هذا هو المراد بالأول ليتميز عن قوة الحس والحركة ، وقيل قوة تتبع اعتدال النوع ،

__________________

(١) الحياة : في اللغة نقيض الموت ، وهي النمو البقاء والمنفعة والحي من كل شيء نقيض الميت ، والحي أيضا كل متكلم ناطق ، وفسروا قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ). بقولهم : الحي هو المؤمن والميت هو الكافر. ومن قتل في سبيل الله لا يجوز أن يقال له : ميت ولكن يقال له شهيد ، وهو عند الله حي ، ويقال أيضا : ليس لفلان حياة أي ليس عنده نفع ولا خير.

وأما علماء الحياة المتأخرون فيرون أن الحياة هي مجموع ما يشاهد في الحيوانات والنباتات من مميزات تفرق بينها وبين الجمادات مثل التغذية والنمو والتناسل وغير ذلك. وإذا أطلقت الحياة على مجموع ما يشاهد في الحي من مميزات كالتغذية والنمو والتناسل كان لها بالنسبة إليه ابتداء وانتهاء فبدايتها الولادة ، ونهايتها الموت وتختلف مدتها باختلاف الأشخاص.

(٢) في (ب) والتي بدلا من (هي).

(٣) في (أ) و (ب) بزيادة (وذي).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (قوة).

٢٩٢

ويفيض عنها سائر القوى الحيوانية أي المدركة والمحركة على ما سيجيء تفصيلها ومعنى اعتدال النوع هو أن لكل نوع من المركبات العنصرية مزاجا خاصا هو أصلح الأمزجة بالنسبة إليه بحيث إذا خرج عن ذلك المزاج لم يكن ذلك النوع ثم لكل صنف من ذلك النوع ، ولكل شخص من ذلك الصنف مزاج يخصه هو أصبح بالنسبة إليه ويسمى الأول اعتدالا نوعيا والثاني صنفيا ، والثالث شخصيا ، ولهذا زيادة تفصيل وتحقيق يذكر في بحث المزاج فإذا حصل في المركب اعتدال يليق بنوع من أنواع الحيوان فاض عليه (١) قوة الحياة فانبعثت عنها بإذن الله تعالى الحواس الظاهرة والباطنة والقوى المحركة نحو جلب المنافع ودفع المضار فتكون الحياة مشروطة باعتدال المزاج ، ومبدأ القوة الحس والحركة فتغاير هما بالضرورة وكذا تغاير القوة الغاذية (٢) لوجودها في النبات بخلاف الحياة لكن هذا إنما يتم لو ثبت أن الحياة مبدأ لقوة الحس والحركة لا نفسها وأن الغاذية في النبات والحيوان حقيقة واحدة ليلزم من مغايرة تلك الحياة مغايرة هذه لها ، فاستدلوا على مغايرة الحياة لقوة الحس والحركة ولقوة التغذية الحيوانية بأن الحياة موجودة في العضو المفلوج للحيوان من غير حس وحركة ، وفي العضو الذابل من غير اغتذاء.

واعترض الإمام بأن عدم الإحساس والحركة وعدم الاغتذاء لا يدلان على عدم قوة الحس والحركة وعدم قوة (٣) التغذية لجواز أن توجد القوة ولا يصدر عنها الأثر لمانع من جهة القابل.

وأجيب بأن القوة ما يصدر عنه الأثر بالفعل بمعنى أنا نريد أن القوة التي تصدر عنها بالفعل آثار الحياة كحفظ العضو عن التعفن مثلا باقية ، والقوة التي يصدر عنها بالفعل الحس والحركة والتغذية غير باقية فلا تكون هي هي بهذا يشعر كلام تلخيص المحصل وليس معناه أن القوة اسم لما يصدر عنه الأثر

__________________

(١) في (ب) فافضي بدلا من (فاض).

(٢) في (ب) العادية بدلا من (الغاذية).

(٣) سقط من (أ) لفظ (قوة).

٢٩٣

بالفعل فإن ظاهر البطلان. كيف وهو قد صرح بأن في العضو المفلوج قوة الحس والحركة باقية لكنها عاجزة عن الإحساس والحركة. نعم يتوجه أن يقال : لم لا يجوز أن يكون مبدأ جميع تلك الآثار قوة واحدة هي الحياة وقد يعجز عن البعض دون البعض لخصوصية المانع لكن الحق أن مغايرة المعنى المسمى بالحياة للقوة الباصرة والسامعة وغيرهما من القوى الحيوانية والطبيعية مما لا يحتاج إلى البيان.

اعتدال المزاج ووجود البنية ليسا شرطا لإيجاد الحياة

(قال : وعندنا لا يشترط اعتدال المزاج ووجود البنية والروح الحيواني للقطع بإمكان أن يخلقها الله تعالى في الجزء ، وخالفت (١) الفلاسفة والمعتزلة تعويلا على ما يشاهد من زوالها بانتقاض (٢) البنية ، وفقد الاعتدال والروح ، ومنا من استدل على عدم الاشتراط بأنها لو اشترط فإما أن تقوم بالجزءين حياة (واحدة فيلزم قيام العرض بأكثر من محل ، وإما أن يقوم بكل جزء حياة وحينئذ) (٣) فالاشتراط من الجانبين دور ، ومن جانب واحد ترجيح بلا مرجح ، ورد بأنه قائم بالمجموع على ما سبق.

ولو سلم فدور معية ، ولو سلم فعدم المرجع ممنوع (٤) غايته عدم الاطلاع عليه).

ذهب جمهور المتكلمين إلى أن (٥) تحقق المعنى المسمى بالحياة ليس مشروطا باعتدال المزاج والبنية والروح الحيواني للقطع بإمكان أن يخلقها الله تعالى في البسائط ، بل هي (٦) في الجزء الذي لا يتجزأ ، والمراد بالبنية البدن المؤلف من العناصر الأربعة ، وبالروح الحيواني جسم لطيف بخاري يتكون من لطافة الأخلاط تنبعث من التجويف الأيسر من القلب ، ويسرى إلى البدن في عروق نابتة من القلب تسمى بالشرايين.

__________________

(١) في (ب) وقالت.

(٢) في (أ) بانتفاض بالفاء.

(٣) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٤) سقط من (أ) كلمة (ممنوع).

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (أن).

(٦) في (ب) بزيادة لفظ (هي).

٢٩٤

وذهب الفلاسفة وكثير من المعتزلة إلى أن (١) هذا الاشتراط بناء على ما يشاهد من زوال الحياة بانتقاض البنية وتفرق الأجزاء ، وبانحراف المزاج عن الاعتدال النوعي وبعدم سريان الروح في العضو لسدة (٢) أو شدة ربط يمنع نفوذه ، ورد بأن غايته الدوران وهو لا يقتضي الاشتراط بحيث يمتنع بدون (٣) تلك الأمور.

واستدل بعض المتكلمين على امتناع كون الحياة مشروطة بالبنية بأنها لو اشترطت فإما أن تقوم بالجزءين من البنية حياة واحدة فيلزم قيام العرض بأكثر من محل واحد ، وقد مر بطلانه ، وإما أن يقوم بكل جزء حياة ، وحينئذ إما أن يكون القيام بكل جزء مشروطا بالقيام بالآخر فيلزم الدور أو لا فيلزم الرجحان بلا مرجح لتماثل الأجزاء واتحاد حقيقة الحياة. لا يقال لا يجوز أن يقوم بالبعض فقط لأسباب مرجحة من الخارج. لأنا نقول : فيكون الحي هو ذلك البعض لا البنية المؤلفة.

وأجيب بأنها تقوم بالمجموع الذي هو البنية المؤلفة ، وليس (٤) هذا من قيام العرض بمحلين على ما سبق ، أو يقوم بكل جزء حياة ، ويكون اشتراط كل بالآخر بطريق المعية (٥) دون التقدم فلا يلزم الدور المحال ، أو يكون قيامها

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (أن).

(٢) في (ب) لشده بالشين وليس بالسين.

(٣) سقط من (ب) لفظ (بدون).

(٤) سقط من (ب) لفظ (ليس).

(٥) المعية : هي الوجود معا ، وهي زمانية ، ومنطقية. أما المعية الزمانية فهي الحدوث في زمان واحد ، وهي مطلقة أو نسيبة ، أما المطلقة فهي وجود الأشياء في زمان واحد ، أي في زمان متجانس الأجزاء لا تختلف أوقات وجودها فيه باختلاف موقف الشخص الذي يلاحظها ، وللمعية عند قدماء النظار أقسام مختلفة ، ومنها المعية الشرفية : كشخصين متساويين في الفضيلة ، والمعية بالرتبة : كنوعين متقابلين تحت جنس واحد ، وشخصين متساويين في القرب من المحراب ، والمعية بالذات : كجرمين مقومين لماهية واحدة في رتبة واحدة. والمعية بالعلية : كعلتين لمعلولين شخصين عن نوع واحد.

(راجع كليات أبي البقاء).

٢٩٥

ببعض الأجزاء مشروطا بقيام حياة بالآخر من غير عكس لمرجح يوجد في الخارج ، وإن لم يطلع عليه.

لا يقال : فحينئذ تكون الحياة غير مشروطة بالبنية حيث تحققت في الجزء الآخر من غير شرط لأنا نقول : عدم اشتراط قيام الحياة به بقيام حياة بالجزء الأول لا يستلزم عدم اشتراطه بوجود الجزء الأول الذي به تتحقق البنية.

الموت كيفية تضاد الحياة

(قال : وأما الموت (١) فزوال الحياة أي عدمها عما اتصف بها ، أو كيفية تضادها ، وكأن هذا مراد من قال : إنه فعل من الله تعالى أو من الملك يقتضي زوال حياة الجسم من غير حرج احتراز عن القتل على أن الفعل بمعنى الأثر إذ التأثير أمانة ، فعلى الأول معنى خلقه تقديره ، أو خلق أسبابه.

فزوال الحياة ، ومعنى زوال الصفة عدمها عما يتصف بها بالفعل وهذا معنى ما قيل إنه عدم الحياة عما من شأنه أي (٢) عما يكون من أمره وصفته الحياة بالفعل فيكون عدم ملكة للحياة كما في العمى الطارئ بعد البصر لا كمطلق العمى ، ولا يلزم كون عدم الحياة عن الجنين عند استعداده للحياة موتا فعلى هذا لا يكون (٣) الموت عدميا ، وقيل : هو (٤) كيفية تضاد الحياة فيكون

__________________

(١) الموت : عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا ، وقيل الموت : نهاية الحياة وضد الحياة ، والتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم والملكة ، وقد يطلق الموت ، ويراد به ما يقابل الفعل والايمان أو ما يضعف الطبيعة ولا يلائمها كالخوف والحزن أو الأحوال الشاقة كالفقر ، والذل والهرم والمعصية. والموت عند الصوفية هو الحجاب عن أنوار الكاشفات والتجلي ، وهو قمع هوى النفس ، فمن مات عن هواه فقد حيى بهداه (تعريفات الجرجانى).

وقيل إن الموت موتان : موت إرادي ، وموت طبيعي ، وكذلك الحياة حياتان : حياة إرادية ، وحياة طبيعية. عنوا بالموت الإرادي إماتة الشهوات وترك التعرض لها ، وعنوا بالموت الطبيعي مفارقة النفس البدن ، وعنوا بالحياة الإرادية ما يسعى له الإنسان في حياته الدنيا.

(راجع تهذيب الأخلاق لمسكويه ص ٢١٢ والمنقذ من الضلال للغزالي ص ٦٧ ، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي).

(٢) في (ب) حرف (أن) بدلا من (أي عما).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (لا).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (هو).

٢٩٦

وجوديا ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما ذكره المعتزلة من أن الموت فعل من الله تعالى ، أو من الملك يقتضي زوال حياة الجسم من غير جرح (١).

واحترز بالقيد الأخير عن القتل ، وحمل الفعل على الكيفية المضادة مبني على أن المراد به الأثر الصادر عن الفاعل إذ لو أريد به التأثير على ما هو الظاهر لكان ذلك تفسيرا للإماتة لا للموت ، وقد يستدل على كون الموت وجودا بقوله تعالى (٢) «خلق الموت والحياة». فإن العدم لا يوصف بكونه مخلوقا ، ويجاب بأن المراد بالخلق في الآية التقدير ، وهو يتعلق بالوجودي والعدمي جميعا ، ولو سلم فالمراد بخلق الله تعالى الموت إحداث أسبابه على حذف المضاف وهو كثير في الكلام.

مثل هذا وإن كان خلاف الظاهر كاف في دفع الاحتجاج.

__________________

(١) في (أ) حرج وهو تحريف.

(٢) في (ب) بزيادة (الله تعالى)

٢٩٧
٢٩٨

المبحث الأول

حقيقة الإدراك

(قال : ومنها الإدراك (١) ، وبيانه في مباحث :

المبحث الأول : لا خفاء أنا إذا أدركنا شيئا كان له تميز وظهور عند العقل ، وليس ذلك بوجوده العيني إذ كثيرا ما يدرك ولا وجود أو يوجد ولا إدراك ، بل يوجده العقلى ، وهو المعنى بالصورة ، فحقيقة إدراك الشيء حضوره عند العقل).

أي من الكيفيات النفسانية الإدراك ، وقد سبق نبذ من الكلام فيه ، والذي استقر عليه رأي المحققين من الفلاسفة أن حقيقة إدراك الشيء حضوره عند العقل ، إما بنفسه وإما بصورته المنتزعة ، أو الحاصلة ابتداء المرتسمة في العقل الذي هو المدرك أو آلته التي بها الإدراك ، وهذا معنى ما قال في الإشارات إدراك الشيء هو أن تكون حقيقته متمثلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك ، على أن المراد بتمثل الحقيقة حضورها بنفسها أو بمثالها سواء كان

__________________

(١) الإدراك في اللغة هو اللحاق والوصول ، يقال : أدرك الشيء بلغ وقته وانتهى ، وأدرك الثمر نضج ، وأدرك الولد بلغ وأدرك الشيء لحقه ، وأدرك المسألة علمها ، وأدرك الشيء ببصره رآه ، فمن رأى شيئا ورأى جوانبه ونهاياته قيل : إنه أدركه ، ويصح : رأيت الحبيب ، وما أدركه بصري ، فيكوى الإدراك بهذا المعنى أخص من الرؤية.

والإدراك عند معظم الفلاسفة إما أن يكون إدراك الجزئي أو إدراك الكلي وإدراك الجزئي قد يكون بحيث يتوقف على وجوده في الخارج ، وهو الحس ، أو لا يتوقف وهو الخيال ، وإدراك الجزئي على وجه كلي هو إدراك كلية الذي ينحصر في ذلك الجزئي.

(راجع لباب الاشارات للرازي ص ٧٤).

٢٩٩

المثال منتزعا من أمر خارج أو متحصلا ابتداء وسواء كان منطبعا (١) في ذات المدرك ، أو في آلته ، والمراد بالمشاهدة مطلق الحضور ، وفي قوله يشاهدها ما به يدرك تنبيه على انقسام الإدراك إلى ما يكون بغير آلة فيكون ارتسام الصورة في ذات المدرك ، وإلى ما يكون بآلة فيكون في محل الحس ، كما في الإبصار بحصول الصورة في الرطوبة الجليدية ، أو في المجاور كإدراك الحس المشترك بحصول الصورة الخيالية في محل متصل به ، والمراد بالمشاهدة مجرد الحضور على ما هو معناها اللغوي لا الإبصار وإدراك عين الشيء الخارجي على ما هو المتعارف ليلزم فساد التفسير ، نعم تضمنت العبارة في جانب الإدراك العقلي تكرارا بحسب اللفظ كأنه قيل (٢) حضور عند المدرك حال الحضور عنده لأن ما به الإدراك العقلي هو ذات المدرك ، وفي جانب الإدراك الحسي تكرار بحسب المعنى حتى كأن هناك حضورين أحدهما عند المدرك والآخر عند الآلة ، وليس كذلك بل الحضور عند النفس هو الحضور عند الحس وتحقيق المقام أنا إذا أدركنا شيئا فلا خفاء في أنه يحصل لنا حال لم تكن وتكاد تشهد الفطرة بأنها بحصول أمر لم يكن لا بزوال أمر كان وما ذاك إلا تميزا وظهورا لذلك الشيء عند العقل ، وليس ذلك بوجوده في الخارج إذ كثيرا ما ندرك ما لا وجود له في الخارج من المعدومات بل الممتنعات ، وكثيرا ما يوجد الشيء في الخارج ولا يدركه العقل مع تشوقه إليه ، بل بوجوده في العقل بمعنى أن يحصل فيه أثر يناسب ذلك الشيء بحيث لو وجد في الخارج لكان إياه ، وهذا هو المعنى بحصول الصورة وحضورها وتمثلها وارتسامها ووصول النفس إليها ، ونحو ذلك ، ولا يفهم من إدراك الشيء سواه والاعتراض بأن الإدراك صفة المدرك والحصول ونحوه صفة الصورة مما لا يلتفت إليه عند المحققين (٣) سواء جعلنا الإدراك مصدرا بمعنى الفاعل أو المفعول ، وأما

__________________

(١) في (ب) منطبقا.

(٢) في (أ) قبل بالباء.

(٣) في (ب) عند المحصلين.

٣٠٠