شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

المبحث الثالث

الضوء

(قال : المبحث الثالث : الضوء (١) ذاتي إن كان من ذات المحل كما للشمس ويسمى ضياء ، وإلا فلا (٢) فعرضي كما للقمر يسمى نورا ، وهو إن حصل من الضوء لذاته فأول كضوء ما يقابل الشمس ، وإلا فثان وثالث وهلم جرا كضوء وجه الأرض قبل الطلوع ، وضوء داخل البيت من الدار وهكذا إلى أن ينعدم وهو الظلمة فهي عدم ملكة له لا كيفية وجودية ، وإلا لكان مانعا للجالس في الغار من إبصار الخارج ، كالعكس للقطع بعدم الفرق في الحائل ، بين ما يحيط بالرائي أو بالمرئي وليست عدما صرف التنافي المجعولية المستفادة من قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (٣).

غني عن التعريف كسائر المحسوسات ، وتعريفه بأنه كيفية هي كمال أول

__________________

(١) الضوء : نوع من الطاقة لم تحدد طبيعته تماما حتى الآن ، ولم تستطيع أي من النظريات العديدة التي وضعت بصدده أن تفسر جميع خواصه بمقتضى النظرية الدقيقة للسير إسحاق (نيوتن). يتكون الضوء من جسيمات منبعثة من الأجسام المضيئة ، وتنتقل خلال الفراغ بسرعة كبيرة ، فسرت هذه النظرية بعض خواص الضوء مثل الانعكاس والانكسار ولم تستطيع تفسير ظاهرتي (التشتت) و (التداخل).

فسر الضوء حديثا بنظرية الكم على أنه نوع من الطاقة الاشعاعية يقذفها الجسم المضيء على دفعات متتالية تسمى (فوتونات) يعرف الضوء غالبا من ناحية تاثيره على العين ، على أنه الطاقة التي تجعل مصدرها أو الجسم الساقط عليها مرئيا مثل الشمس والمصباح والقمر. تتوقف رؤية الجسم على مقدار شدة الضوء الساقط عليه الصادر منه.

(٢) سقط من (ج) لفظ (فلا).

(٣) سورة الأنعام الآية الأولى.

٢٦١

للشفاف من حيث هو شفاف ، أو بأنه كيفية لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر (تعريف بالأخفى ، وكان المراد التنبيه على بعض الخواص ، والضوء إن كان من ذات المحل بأن لا يكون فائضا عليه من مقابلة جسم آخر (١) مضيء فذاتي كما للشمس ويسمى ضياء وإلا فعرضي كما للقمر ويسمى نورا أخذا من قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) أي ذات ضياء ، (وَالْقَمَرَ نُوراً) (٢) أي ذا نور.

العوضي إن كان حصوله من مقابلة المضيء لذاته (٣) كضوء جرم القمر ، وضوء وجه الأرض المقابل للشمس ، فهو الضوء الأول ، وإن كان من مقابلة النضيء لغيره كضوء وجه الأرض قبل طلوع الشمس من مقابلة الهواء المقابل للشمس ، وكضوء داخل البيت الذي في الدار من مقابلة هواء الدار المضيء من مقابلة الهواء المقابل للشمس ، أو لهواء آخر يقابلها ، فهو الضوء الثاني ، والثالث ، وهلم جرا. على اختلاف الوسائط بينه وبين المضيء بالذات ، إلى أن ينتهي الضوء بالكلية وينعدم ، وهو الظلمة ، أعني عدم الضوء عما من شأنه فهو عدم ملكة للضوء لا كيفية وجودية على ما ذهب إليه البعض ، وإلا لكان مانعا للجالس في الغار (٤) من إبصار من هو في هواء مضيء خارج الغار ، كما أنه مانع له من إبصار من هو في الغار (٥) ، وذلك للقطع بعدم الفرق في

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) سورة يونس آية رقم ٤.

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (لذاته).

(٤) الغار والمغار : كالكهف في الجبل ، وجمع الغار : غيران وتصغيره (غوير) ، والغار : أيضا ضرب من الشجر ، والغارة : اسم من الإغارة على العدو.

(٥) يقول صاحب المواقف : شرط الرؤية ليس هو الضوء كيف كان بل الضوء المحيط بالمرئي ، ولذلك يرى الجالس الخارج المستضيء بالنار.

قال ابن الهيثم مستدلا على أن الضوء شرط لوجود اللون : إنا نرى الألوان تضعف بحسب ضعف الضوء فكلما كان الضوء اقوى كان اللون أشد وكلما كان أضعف كان أضعف فكل طبقة من الضوء شرط لطبقة من اللون.

(راجع المواقف ٤ ص ٢٤٣).

٢٦٢

الحائل المانع من الإبصار ، بين أن يكون محيطا بالرائي والمرئي ، أو متوسطا بينهما ، وربما يمنع ذلك بأنه ليس بمانع بل إحاطة الضوء بالمرئي شرط للرؤية ، وهو منتف في الغار ، لكنه لا يتأتى على قولهم الظلمة كيفية مانعة من الإبصار تمسك القائلون بكونها وجودية بقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فإن المجعول لا يكون إلا موجودا.

وأجيب بالمنع ، فإن الجاعل كما يجعل الوجود يجعل العدم الخاص ، كالعمى فإنما المنافي للمجعولية هو العدم الصرف.

هل الضوء نفس الهواء

أو ما يخالطه ...؟

(قال : ولهم تردد في أن المضيء فيما يشاهد من الهواء هو الهواء الصرف ، أو ما يخالطه من الأجزاء).

لا خلاف بين المحققين من الحكماء في إضاءة (١) الهواء ، إنما الخلاف في أن محل الضوء هو نفس الهواء الصرف ، أو ما يخالطه من الأجزاء البخارية أو الدخانية ، أو نحو ذلك.

احتج الأولون بما يشاهد من الهواء المضيء في أفق المشرق وقت الصباح ، وبأنه لو لم يكن مضيئا لوجب أن يرى بالنهار الكواكب التي في الجهة المخالفة للشمس ، إذ لا مانع سوى انفعال الحس عن ضوء أقوى ، وضعفهما ظاهر ، لأن الكلام في الهواء الصرف والأقرب ما ذكره الإمام : وهو أن إضاءة الهواء لو كان بسبب مخالطة الأجزاء لكان الهواء كلما كان أصفى كان أقل ضوءا ، وكلما كان أكدر وأغلظ فأكثر ، والأمر بالعكس ، وفيه أيضا ضعف لجواز أن يكون الموجب مخالطة الأجزاء إلى حد مخصوص ، إذا تجاوزته أخذ الضوء في النقصان ، وحاصله أنه يجوز أن يضره الإفراط كما

__________________

(١) فى (أ) بزيادة حرف الجر (في).

٢٦٣

يضره التفريط ، (١) تمسك الآخرون بأنه لو تكيف بالضوء لوجب أن يحس به مضيئا كالجدار ، واللازم باطل لأن الهواء غير مرئي ، ورد بمنع الملازمة إذ من شرائط الرؤية اللون ، ولا لون للهواء الصرف.

الظل حاصل من الهواء المقابل للمضيء

(قال : وأما الظل فهو ما يحصل من الهواء المقابل للمضيء ، بالذات كالشمس والنار ، أو بالغير كالقمر ، وتفسيره بالمستفاد من المضيء بالغير ليس بمطرد ، لتناوله ما هو من مقابلة القمر).

أي الضوء الحاصل من الهواء المضيء بالذات كالشمس والنار ، أو بالغير كالقمر ، وقد يفسر بالضوء المستفاد والمضيء بالغير ، ولا خفاء في صدقه على الضوء الحاصل من مقابلة جرم القمر ، مع أنه ليس بظل وفاقا ، وما ذكر في المواقف من أن مراتب الظل تختلف قوة وضعفا بحسب اختلاف الأسباب والمعدات كما يشاهد في اختلاف ضوء البيت بحسب كبر الكوة وصغرها ، حتى إنه ينقسم إلى ما لا نهاية له انقسام الكوة ، فمبنى على ما يراه الحكماء من عدم تناهي انقسامات الأجسام والمقادير وما يتبعها ، وإن كانت محصورة بين حاصرين ، حتى إن الذارع الواحد يقبل الانقسام إلى ما لا نهاية له ، ولو بالفرض ، والوهم ، وما تقرر من أن المحصور بين حاصرين لا يكون إلا متناهيا ، فمعناه بجسب الكمية الاتصالية ، أو الانفصالية ، لا بحسب قبول الانقسام.

__________________

(١) فرط : إذا تقدم تقدما بالقصد يفرط ، ومنه الفارط إلى الماء أي المتقدم لإصلاح الدلو يقال : فارط وفرط ، ومنه قوله عليه‌السلام : «أنا فرطكم على الحوض» وقيل في الولد الصغير إذا مات «اللهم اجعله لنا فرطا» وقوله تعالى : (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي يتقدم. وفرس فرط يسبق الخيل ؛ والإفراط أن يسرف في التقدم ، والتفريط أن يقتصر في الفرط يقال : ما فرطت في كذا أي ما قصرت قال تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي إسرافا وتضييعا.

(راجع معجم مفردات ألفاظ القرآن ص ٣٩٠ ، ٣٩١ بتصرف).

٢٦٤

الضوء قد يكون شعاعا وقد يكون بريقا

(قال : إذا كان الضوء يترقرق على الجسم حتى كأنه يفيض منه ويكاد يستره يسمى الذاتي شعاعا ، كما للشمس ، والعرضي بريقا كما للمرآة).

قد يشاهد للضوء ترقرق وتلألؤ على الجسم حتى (١) كأنه شيء يفيض منه ، ويضطرب مجيئا وذهابا ، بحيث يكاد يستره ، فإن كان ذاتيا كما للشمس سمي شعاعا ، وإن كان عرضيا كما للمرآة سمي بريقا.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (حتى).

٢٦٥

المبحث الرابع

حدوث الضوء في المستضيء من مضيء

(قال : المبحث الرابع : لما كان حدوث الضوء في المستضيء قد يكون من مضيء عال ، أو متحرك أو متوسط بينه وبين المضيء بالذات توهم أن الضوء نفسه يتحرك انحدارا أو اتباعا ، أو انعكاسا ، فهو أجسام صغار تنفصل من المضيء ويتصل بالمستضيء ، ويبطله أنه لا يعقل الحركة بالطبع إلى جهات مختلفة ، ولا الحركة في لحظة من فلك الشمس إلى الأرض مع خرق للأفلاك ، ولا كون ما وراء الجسم المحسوس أظهر للباصرة السليمة).

زعم بعض الحكماء (١) : أن الضوء أجسام صغار تنفصل من المضيء وتتصل بالمستضيء تمسكا بأنه متحرك بالذات وكل متحرك بالذات جسم ، أما الكبرى فظاهرة ، وإنما قيدنا بالذات لأن الأعراض تتحرك بتبعية المحل ، وأما الصغرى فلأن الضوء ينحدر من الشمس إلى الأرض. ويتبع المضيء في الانتقال من مكان إلى مكان كما يشاهد في السراج المنقول من موضع إلى موضع ، وينعكس مما يلقاه إلى غيره ، وكل ذلك حركة.

والجواب : المنع ، بل كل ذلك حدوث للضوء في المقابل للمضيء والحركة وهم ، ويدل على بطلان هذا الرأي وجوه.

الأول : أنه لو كان جسما متحركا لامتنع حركته إلى جهات مختلفة ضرورة

__________________

(١) راجع ما كتبه صاحب المواقف في القسم الثاني من الجزء الخامس ص ٢٤٧.

٢٦٦

أنها ليست بالقسر والإرادة ، بل بالطبع ، والحركة بالطبع إنما تكون إلى العلو أو السفل.

الثاني : أنه لو كان جسما لامتنع حركته في لحظة من فلك الشمس إلى الأرض ، مع خرق الأفلاك التي تحته.

الثالث : أنه لو كان جسما ولا خفاء فى أنه محسوس بالبصر لكان ساترا للجسم الذي يحيط به الضوء ، فكان الأكثر ضوءا أشد استنارا ، والواقع خلافه ، ولو سلم عدم لزوم الاستتار فلا خفاء في أنه مرئي حائل في الجملة ، فيلزم أن يكون الأكثر ضوءا أقل ظهورا وأصعب رؤية لا أن يكون أعون على إدراك الباصرة السليمة ، نعم ربما يستعان بالحائل على إبصار الخطوط الدقيقة عند ضعف في الباصرة ، بحيث يحتاج إلى ما يجمع القوة ، وقد يجاب بأن ذلك إنما هو شأن الأجسام الكثيفة لا الشفافة ، وأما هذا النوع من الأجسام فإحاطته بالمرئي شرط للرؤية.

٢٦٧

المبحث الخامس

الضوء مغاير للون

(قال : المبحث الخامس : الضوء مغاير للون في الحقيقة وشرط له في صحة الرؤية.

أما الأول : فبشهادة الحس وتضاد الألوان دون الأضواء وافتراقهما في الوجود كما في الأسواد واللامضيء والبللور المرئي في الليل ضوءه دون لونه.

وأما الثاني : فلأنه لا يرى في الظلمة عند تحقق الشرائط مع القطع بوجوده ، وذهب بعضهم إلى أن الضوء ظهور اللون فالظهور المطلق (١) هو الضوء ، والخفاء المطلق هو الظلمة والمتوسط هو الظل ، ويختلف مراتبه باختلاف مراتب القرب من الطرف ، ولا تمسك لهم يعتد به.

وذهب ابن سينا إلى أن الضوء شرط وجود اللون ، لأن عدم رؤيته في الظلمة إنما هو عدمه ، لا لكون الهواء المظلم عائقا عن الإبصار ، بدليل أن الجالس في الغار يبصر الخارج حول النار. ورد بأنه لانتفاء شرط الرؤية وهو الضوء المحيط بالمرئي. وقال الإمام الرازي قبول الضوء مشروط بوجود اللون فاشتراطه بوجود الضوء دور ، وهو ضعيف لأنه دور معية).

الحق أن الضوء كيفية مغايرة للون ، وليس عبارة عن ظهور اللون على ما يراه بعض الحكماء ، وأنه شرط لرؤية اللون لا لوجود على ما يراه ابن سينا ،

__________________

(١) في (ب) سقط لفظ (المطلق).

٢٦٨

ولا تمسك لهما يعتد به فيما ادعيا. كيف وإنه قريب من إنكار الضروريات ، وما ذكره الإمام الرازي من أن قبول الجسم للضوء مشروط بوجود اللون (١) ، فلو كان وجود اللون مشروطا بوجود الضوء لزم الدور ضعيف ، لأنه إن أراد بالمشروطة توقف السبق فممنوع أو المعية فغير محال ، على أنه قد صرح بوجود الضوء بدون اللون كما في البللور المرئي بالليل.

__________________

(١) اللون : خاصة ضوئية تعتمد على طول الموجة ، ويتوقف اللون الظاهري للجسم على طول موجة الضوء الذي يعكسه ، فالجسم الذي يعكس على الموجات يبدو لونه أبيض والذي لا يعكس أية موجة يبدو أسود ، ويحدث التفريق عند ما يمر ضوء الشمس من خلال منشور زجاجي مكونا الطيف الشمسى ، وتتوقف السرعة التي يسير بها اللون على طول الموجة ، والألوان الأساسية للضوء أو الطيف ، هي الأحمر والأخضر والأزرق وهي بالاتحاد تكون كل الألوان. تحدث مخروطات اللون المختلفة في شبكة عين الإنسان رد فعل للضوء ينسب عنه الإحساس باللون.

(راجع الموسوعة العربية الميسرة ص ١٤٨١).

٢٦٩
٢٧٠

النوع الثالث

المسموعات وفيه بحثان

الأول : الصوت خلق الله

الثاني : تمايز الصوت بكيفية عما يماثله

٢٧١
٢٧٢

المبحث الأول

الصوت خلق الله

(قال : المبحث الأول : الصوت (١) عندنا بمحض خلق الله تعالى كسائر الحوادث وعند الفلاسفة : كيفية تحدث في الهواء بالتموج المعلول للقرع ، أو القلع ، لا نفس التموج أو القرع أو القلع على ما ظن لأنها ليست مسموعة ، ويدل على وجوده في الخارج ، وتعلق الإحساس به هناك أيضا إدراك جهته ، والتمييز بين قريبه وبعيده ، وليس ذلك لمجيء الهواء القارع من تالك الجهة ، أو لقوة القرع القريب وضعف البعيد وإلا لما أدرك كونه من الجانب المخالف للأذن السامعة ، ولما ميز بين القوى البعيد والضعيف القريب).

من الكيفيات المحسوسة المسموعات وهي الأصوات والحروف والصوت عندنا يحدث بمحض خلق الله تعالى من غير تأثير لتموج الهواء والقرع والقلع كسائر الحوادث ، وكثيرا ما تورد الآراء الباطلة للفلاسفة من غير تعرض لبيان

__________________

(١) الصوت : عند بعض العلماء ، هو الهواء المنضغط عن قرع جسمين ، والصوت ضربان : ضرب مجرد عن تنفس بشيء كالصوت الممتد ومتنفس بصورة ما ، وهو ضربان : ضروري كما يكون من الجمادات ومن الحيوانات ، واختياري كما يكون من الإنسان ، وذلك ضربان ضرب باليد كصوت العود ونحوه ، وضرب بالفم ، وهو أيضا ضربان نطق وغير نطق ، كصوت الناي ، والنطق إما مفرد من الكلام وإما مركب كأحد الأنواع من الكلام.

قال تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) وتخصيص الصوت بالنهي لكونه أعم من النطق والكلام ، ويجوز أنه خصه لأن المكروه رفع الصوت فوق صوته لا رفع الكلام.

(راجع بصائر ذوي التمييز ج ٣ ص ٤٤٠).

٢٧٣

البطلان إلا فيما يحتاج إلى زيادة بيان ، والصوت عندهم كيفية تحدث في الهواء بسبب تموجه المعلول للقرع الذي هو أساس عنيف ، والقلع الذي هو تفريق عنيف بشرط مقاومة المقروع للقارع والمقلوع للقالع ، كما في قرع الماء وقلع الكرباس بخلاف القطن لعدم المقاومة ، والمراد بالتموج حالة شبيهة بتموج الماء تحدث بصدم بعد صدم مع سكون بعد سكون ، وليس الصوت نفس التموج ، أو نفس القرع ، والقلع على ما توهمه بعضهم بناء على اشتباه الشيء بسببه القريب أو البعيد لأن التموج والقرع والقلع ليست من المسموعات قطعا ، بل ربما يدرك الأول باللمس والآخران بالبصر ، وقد يتوهم أنه لا وجود للصوت في الخارج وإنما يحدث في الحس وصول الهواء المتموج إلى الصماخ واستدل على بطلان ذلك بأنه لو لم يوجد إلا في الحس لما أدرك عند سماعه جهته وحده من القرب والبعد ، لأن التقدير أنه لا وجود له في مكان وجهة خارج الحس ، واللازم باطل قطعا ، لأنا إذا سمعنا الصوت نعرف أنه وصل إلينا من جهة اليمين أو اليسار ، ومن مكان قريب أو بعيد.

لا يقال : يجوز أن يكون إدراك الجهة لأجل أن الهواء المتموج يجيء منها ، ويميز القريب والبعيد ، لأجل أن أثر القارع القريب أقوى من البعيد ، وإن لم يكن الصوت موجودا في الجهة والمسافة ، لأنا نقول : لو صح الأول لما أدركت الجهة التي على خلاف الأذن السامعة ، وليس كذلك لأن السامع قد يسد أذنه اليمنى ويجيء الصوت من يمينه فيسمعه بأذنه اليسرى ، ويعرف أنه جاء من يمينه مع القطع بأن الهواء المتموج لا يصل إلى اليسرى إلا بعد الانعطاف عن اليمين ولو صح الثاني لزم أن تشتبه القوة والضعف بالقرب والبعد ، فلم يميز بين البعيد القوى والقريب الضعيف ، وظن في الصوتين (١) المتساويين في القرب والبعد المختلفين بالقوة والضعف أنهما مختلفان في القرب والبعد ، وليس كذلك ولهم تردد في مقام آخر وهو أنه إذا وصل الهواء المتموج إلى الصماخ فالمسموع هو الصوت القائم بالهواء الواصل فقط ،

__________________

(١) في (ب) الصورتين بدلا من (الصوتين).

٢٧٤

أو بالهواء الخارج أيضا ، والحق هو الأخير بدليل إدراك جهة الصوت وحده من القرب والبعد، فإنه لو لم يقع الإحساس به إلا من حيث إنه في الهواء الواصل إلى الصماخ دون الخارج الذي هو مبدأ حدوث الصوت أو واسطة (١) لم يكن عند الحس فرق بين هذا وبين ما إذا لم يوجد خارج الصماخ أصلا فلم يعرف جهته ولا مر به أو بعده ، كما أن اللمس لم يدرك الملموس إلا من حيث انتهى إليه ، لا من حيث إنه في أول المسافة لم يميز بين وروده من اليمين أو اليسار ومن القريب أو البعيد فظهر أن في معرفة جهة الصوت وحده من القرب والبعد دلالة على مطلوبين من جهة أنها تدل على أن القائم بالهواء الخارج من الصماخ أيضا مسموع ، وذلك يدل على أنها (٢) هناك موجودة ، وهذا ما قال الإمام إن التميز بين الجهات والقرب والبعد من الأصوات لما كان حاصلا علمنا أنا ندرك الأصوات الخارجية حيث هي ، ولا يمكننا أن ندركها (٣) حيث هي إلا وهي موجودة خارج الصماخ ، وما أورد من الإشكال ، وهو أن المدرك بالسمع لما لم يكن إلا الصوت دون الجهة لم يكن كون الصوت حاصلا في تلك الجهة مدركا له ، بل مدركة الصوت الذي في تلك (٤) (الجهة لا من حيث هو في تلك الجهة بل من حيث إنه صوت فقط ، وهذا لا يختلف باختلاف الجهات ، فكيف يوجب إدراك الجهة؟ ليس بشيء لأنهم لا يجعلون كون الصوت في تلك الجهة) (٥) مدركا بالسمع إلا بمعنى أنا نعرف بسماع الصوت في تلك الجهة أنه هناك ، كما نعرف بذوق الحلاوة ، أو شم الرائحة من هذا الجسم أنهما منه ، وإن لم يكن الجسم من المذوقات أو المشمومات ، وأما السبب في ذلك فحاصل ما ذكروا فيه أنا بعد ما أدركنا الصوت عند الصماخ نتبعه بتأملنا فيتأدى إدراكنا من الذي يصل إلينا إلى ما قبله فما قبله من

__________________

(١) في (أ) وسطه بدلا من (واسطه).

(٢) في (أ) أنه هناك موجود.

(٣) سقط من (ب) جملة (ولا يمكننا أن ندركها).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (الجهة).

(٥) ما بين القوسين سقط من (ب).

٢٧٥

جهته ومبدأ وروده فإن كان بقي منه شيء متأديا أدركناه إلى حيث ينقطع ويفنى ، وحينئذ يدرك الوارد ومورده وما بقى منه موجود أو جهته ، ويعد مورده وقربه وما بقي من قوة أمواجه وضعفها ، ولذلك يدرك البعيد ضعيفا لأنه يضعف تموجه حتى لو لم يبق في المسافة أثر ينتهي بنا إلى المبدأ لم يعلم من قدر البعد إلا بقدر ما بقي.

رأي الفلاسفة في إدراك وصول الصوت بالهواء

(قال : ويدل على كون إدراكه بوصول الهواء الحامل له إلى الصماخ أنه يميل مع الرياح ، وأن من تكلم في طرف أنبوبة طرفها الآخر على أذن واحد من القوم ينفرد هو بسماعه وأنه متأخر بحسب الزمان عن مشاهدة سببه ، كضرب الفأس من بعيد وأمثال هذه أمارات لا يستبعد إفادتها اليقين الحدسي ، وإن لم تقم حجة على الغير إلا أنه لو استبعد قيام أمثال تلك الكيفية بجميع أجزاء الهواء وبقاؤها على هيئاتها مع هبوب الرياح والنفوذ في المنافذ من صلب الأجسام لم يكن بعيدا ، وكذا رجوعه عن مصادمة الجسم الأملس على ما زعموا في الصدى سواء جعل الواصل نفس الهواء الراجع ، أو آخر متكيفا بكيفية على ما هو الظاهر).

رأى الفلاسفة أنه إذا وجد سبب الصوت في موضع تكيف هواء ذلك الموضع بذلك الصوت ، ثم المجاور فالمجاور في جميع الجهات إلى حد ما بحسب شدة الصوت وضعفه ولا يسمعه إلا المسامع التي تقع في تلك المسافة ، ويصل إليها ذلك الهواء ، وتمسكوا بوجوه :

الأول : أن الصوت يميل مع هبوب الريح ولا يسمعه من كان الهبوب من جهته لعدم وصول الهواء إلى صماخه ، فلو لم يكن الهواء (١) حاملا له ولم يتوقف السماع على وصول ذلك الهواء لما كان كذلك.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (الهواء).

٢٧٦

الثاني : أن من وضع طرف أنبوبة (١) في فمه ، وطرفها الآخر في صماخ (٢) إنسان ، وتكلم منها بصوت عال سمعه ذلك الإنسان دون غيره من الحاضرين وما ذلك إلا بمنع الأنبوبة وصول الهواء الحامل للصوت إلى أصمختهم.

الثالث : أنا نرى سبب الصوت كضرب الفأس على الخشبة مثلا ، ويتأخر سماع الصوت عنه زمانا يتفاوت بحسب تفاوت المسافة قربا وبعدا ، فلو لا أن السماع يتوقف على وصول الهواء لما كان كذلك.

وأجيب عن الكل بأن غايتها الدوران وهو لا يفيد القطع بالسببية ، فيجوز أن يكون ميل (٣) الصوت مع الرياح واختصاص صاحب الأنبوبة بالسماع وتأخر السماع عن ضرب الفأس بسبب آخر فلا يدل توقف السماع على وصل هواء حامل (٤) للصوت. والحق أن هذه أمارات ربما تفيد اليقين الحدسي للناظر وإن لم يقم حجة على المناظر. واستدل على بطلان توقف السماع على وصول الهواء الحامل بوجوه :

الأول : أنه لو كان كذلك لما أدركنا جهة الصوت وحده من القرب والبعد لأن الواصل لا يكون إلا ما في (٥) الصماخ.

والجواب ما سبق من أن المدرك الموقوف إدراكه على وصول الهواء ليس هو القائم بالهواء الواصل (٦) فقط كما في اللمس بل البعيد أيضا كما في الإبصار.

الثاني : أنّا ندرك أن صوت المؤذن عند هبوب الرياح يميل عن جهتنا إلى خلافها.

__________________

(١) راجع توضيح هذا المثال عند صاحب المواقف في النوع الثالث من المحسوسات ص ٢٦١.

(٢) الصماخ بالكسر : خرق الأذن وقيل هو الأذن نفسها والسين لغة فيه.

(٣) في (ب) مثل وهو تحريف.

(٤) في (ب) حائل بدلا من (حامل).

(٥) سقط من (أ) حرف (ما).

(٦) في (أ) بزيادة لفظ (الواصل).

٢٧٧

والجواب : أن ذلك إنما يكون عند إمكان الوصول في الجملة وإن لم بكن على وجهه ولذا لا يخلو عن تشويش السماع.

الثالث : أنا نسمع صوت من يحول بيننا وبينه جدار صلب مع القطع بامتناع نفوذ الهواء في المنافذ من غير أن يزول عنه ذلك الشكل ، الذي هو أضعف وأسرع زوالا من الرقم على الماء ، وقد صار مثلا في عدم البقاء.

وأجيب بأنه إذا لم يكن للحائل منافذ أصلا ، ولا يكون هناك طريق آخر للهواء فلا نسلم السماع. ألا ترى أنه كلما كانت المنافذ (١) أقل كان السماع أضعف ، وأما بقاء الشكل فإن أريد به حقيقة التشكل الذي يعرض للهواء فيصير سببا لحدوث الكيفية المخصوصة ، فلا حاجة لنا إلى بقائه لأنه من المعدات ، وإن أريد به تلك الكيفية المسببة (عنه المسماة بالصوت والحرف فلا استحالة بل لا استعداد في بقائه مع النفوذ والمضايق ، والحق أن قيام تلك الكيفية) (٢). المخصوصة الغير قارة ، لكل جزء من أجزاء الهواء ، بدليل أن الكل من في تلك المسافة يسمعها ، وبقاء أجزاء الهواء مع فرط لطافتها على تلك الهيئة والكيفية مع هبوب الرياح ومع النفوذ في منافذ الأجسام الصلبة مستبعد جدا ، وأبعد منه حديث الصدى ، وهو أن الهواء إذا تموج وقاومه جسم أملس كجبل أو جدار (٣) بحيث يرد ذلك المتموج إلى (٤) خلف على هيئته كما في الكرة المرمية إلى الحائط المقاوم لها حدث من ذلك صوت هو الصدى ، وترددوا في أن حدوثه من تموج الهواء الأول الراجع على هيئته، أو من تموج هواء آخر بيننا وبين المقاوم متكيف بكيفية الهواء الراجع ، وهذا هو الأشبه. وكيف ما كان فبقاء الهواء على كيفيته التي لا استقرار لها مع مصادمة الجسم الصل ، ثم رجوعه على هيئة وإحداثه وكيفيته فيما يجاوره ، وزواله بمجرد الوصول إلى الصماخ من المستبعدات التي تكاد تلحق بالمحالات.

__________________

(١) في (ب) الناقد وهو تحريف.

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) في (أ) جار وهو تحريف.

(٤) في (ب) المسموع بدلا من (المتموج).

٢٧٨

المبحث الثاني

تمايز الصوت بكيفية عما يماثله

(قال : المبحث الثاني : قد تعرض للصوت كيفية بها يمتاز عما يماثله في الحدة والثقل تميزا في المسموع وهو الحرف (١)).

يتميز عن صوت آخر يماثله في الحدة والثقل تميزا في المسموع والحرف وهي تلك الكيفية العارضة في عبارة ابن سينا (٢) ، وذلك الصوت المعروض في عبارة جمع من المحققين (٣) ، ومجموع العارض والمعروض في عبارة البعض وكأنه أشبه بالحق وقيد المماثلة بالحدة والثقل أي الزيرية والبمية ، احترازا عنهما ، فإن كلا منهما يفيد تميز صوت عن صوت آخر تميزا في المسموع لكن في صوتين يكونان مختلفين بالحدة والثقل ضرورة.

وقيد التميز بالمسموع احترازا عن مثل الطول والقصر والطيب وغيره فإن التميز بها لا يكون تميزا في المسموع لأنها ليست بمسموعة ، إلا أن في كونها من الكيفيات نظرا. فالأولى : أنه احتراز عن مثل الغنة (٤) والبحوحة.

__________________

(١) الحرف : يقال : حرف كل شيء طرفه وشفيره وحده ، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد. قال الفراء جمع حرف : حرف كعنب قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على وجه وهو أن يعبده في السراء دون الضراء وقيل : على شك.

(راجع بصائر ذوي التمييز ج ٢ ص ٤٤٢).

(٢) عبارة ابن سينا : بأنه كيفيّة تعرض للصوت بها يمتاز عن مثله في الجدة والثقل تميزا في المسموع.

(٣) في (أ) جميع المحققين.

(٤) في (أ) الفنة بالفاء وهو تحريف.

٢٧٩

بقى النظر (١) في دلالة قولنا : تميزا في المسموع على أن يكون ما به التميز مسموعا ، وفي أن الحدة والثقل من المسموعات بخلاف الغنة والبحوحة ، والحق أن معنى التميز في المسموع ليس أن يكون ما به التميز مسموعا ، بل أن يحصل به التميز في نفس المسموع بأن يختلف باختلافه ، ويتحد باتحاده كالحرف بخلاف مثل الغنة والبحوحة وغيرها. فإنها قد تختلف مع اتحاد المسموع وبالعكس ، وما وقع في الطوالع من أن الحروف كيفيات تعرض للأصوات فيتميز بعضها عن البعض في الثقل والخفة كلام لا يعقل له معنى ، وكأنه جعل قوله في الثقل متعلقا بمحذوف أي (٢) عن البعض المماثل له في الثقل ، وأراد بالخفة الحدة وترك قيد التميز في المسموع لشهرته ، وكفى بهذا اختلالا. والحق أن تعريف الحرف بما ذكر تعريف بالأخفى ، وكان المقصود مزيد تفصيل للماهية الواضحة عند العقل ، وتنبيه على خصوصياتها.

الحروف تنقسم إلى صامتة ومصوتة

(قال : وينقسم إلى صامت ومصوت مقصور هي الحركات ، وممدود هي المدات ، ومعنى الحركة هاهنا الكيفية الحاصلة من إمالة مخرج الحرف ، أي (٣) مخرج احدى المدات فإلى الواو ضمه وإلى الألف فتحة ، وإلى الياء كسرة ، وامتناع الابتداء بالمصوت لذاته لا لسكونه للقطع بإمكان الابتداء بالساكن وإن لم يجز استعماله في بعض اللغات ، كالوقف على المتحرك والجمع بين الساكنين من الصامت إلا لقصور في الآلة.

وينقسم أيضا إلى آني كالطاء ، وزماني كالفاء).

الحركات الثلاث تعد عندهم في الحروف وتسمى المصوتة (٤) المقصورة والألف والواو والياء إذا كانت ساكنة متولدة من حركات تجانسها ،

__________________

(١) في (ب) نفي النظر وهو تحريف.

(٢) في (ب) برياه (لا).

(٣) في (ب) إلى بدلا من (أل).

(٤) سميت مصوتة لاقتضائها امتداد الصوت.

٢٨٠