شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

بعدية زمانية امتناع اجتماع المتأخر مع المتقدم هاهنا ، وإمكانه في سائر أقسام التقدم ، فيكون للزمان زمان ، وينقل الكلام (١) إليه فيتسلسل وأجيب بأن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض نظرا إلى ذاته من غير أن يجتمعا في الوجود معلوم بالضرورة ، ككون ، الأمس قبل اليوم نظرا إلى مجرد مفهوميهما من غير احتياج إلى عارض ، وإن سمي مثله تقدما زمانيا فلا إشكال ، وإن اشترطا كون كل من المتقدم والمتأخر في زمان فلا حصر لأقسام التقدم في الخمسة ، بل التقدم فيما بين أجزاء الزمان قسم سادس يناسب أن يسمى القدم (٢) بالذات.

الثاني : أن الزمان إما ماضي ، أو مستقبل ، أو حاضر ، ولا وجود للأولين وهو ظاهر ، وكذا الثالث ، لأنه لو وجد فإما أن يكون منقسما وهو محال ضرورة امتناع اجتماع أجزاء الزمان في الوجود ، أو غير منقسم وينقل الكلام إلى الجزء الثاني الذي يصير حاضرا ، وهلم جرا فيلزم تركب الزمان من آنات متتالية ، وهو منطبق على الحركة المنطبقة على المسافة التي هي نفس الجسم ، أو منطبقة عليه فيلزم تركب الجسم من أجزاء لا تتجزأ وهو باطل إلزاما واستدلالا بأدلة الثقات.

قال : لو صح هذا الدليل لزم أن لا تكون الحركة موجودة لجريانه فيها ، إذ لا وجود للماضي فيها ، والمستقبل ، ووجود الحاضر لعدم انقسامه يستلزم الجزء الذي لا يتجزأ مع أن وجودها معلوم بالضرورة قال : هذا الكلام نقض لا يتم إلزاما لأن المتكلمين يلتزمون وجود الجزء الذي لا يتجزأ ، ولا استدلالا لأن الموجود من الحركة هو الحصول في الوسط على استمرار من أول المسافة إلى آخرها ، وهو ليس بمتجزئ إلى الماضي والمستقبل والحاضر ليتأتى الترديد المذكور بخلاف الزمان فإنه كم ينقسم لذاته ، وليس بحاصل من المبدأ إلى المنتهى للقطع بأن الحادث يوم الطوفان ليس حادثا الآن ، وسيجيء لهذا زيادة تحقيق في بحث الحركة ، وأجيب عن أصل الاستدلال بأنا نسلم أنه لا وجود

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (الكلام).

(٢) في (ب) التقدم بدلا من (القدم).

١٨١

للماضي ولا للمستقبل من الزمان ، كيف ولا معنى للماضي إلا ما فات بعد الكون ، ولا للمستقبل إلا ما هو بصدد الكون ، بل غاية الأمر أنه لا وجود لهما في الحال ، فإن قيل الماضي لا وجود له في الحال ، ولا في المستقبل وهو ظاهر ولا في الماضي لأنه إما أن يكون منقسما فيلزم اجتماع أجزاء الزمان ، أو غير منقسم فيلزم الجزء الذي لا يتجزأ ، وكذا الكلام في المستقبل.

أجيب : بأن الموجود في أحد الأزمنة أخص من مطلق الوجود وكذب الأخص لا يستلزم كذب الأعم.

فإن قيل : الموجود عام تنحصر أقسامه فيما يكون موجودا في الماضي أو في المستقبل ، أو في الحال ، والعام إذا انحصر في أقسام معدودة كل قسم (١) منها معدوم ضرورة أنه لا يوجد إلا في ضمن الخاص؟

أجيب بمنع انحصار الموجود في الأقسام الثلاثة لجواز أن يكون من الموجودات ما لا يتعلق وجوده بالزمان ، فيوجد ولا يصدق أنه موجود في شيء من الأزمنة ، كالزمان ، بخلاف الحركة فإنها لا تكون إلا في زمان فلهذا قال ابن سينا (٢) : إن عدم تناهي الحركات الماضية لا يوجب التسلسل لأنها ليست أمورا موجودة ، متصفة ، باللانهاية إذ لو كانت موجودة (٣) فوجودها إما في الماضي ، وإما في الحال ، وإما في المستقبل ، والكل محال.

نعم : يتم انحصار الزمان في الماضي والمستقبل والحال ، بل في الأولين لأن الحال ليس قسما برأسه ، بل حدا مشتركا بين الماضي والمستقبل ويجوز أن يكون كل منهما موجودا في الجملة ، وإن لم يوجد في شيء من الأزمنة لا بد (٤) لامتناع ذلك من دليل.

فإن قيل : الموجود في الجملة إما منقسم فيجتمع أجزاء الزمان أو غير منقسم فيلزم الجزء.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (قسم).

(٢) هو الحسين بن عبد الله توفي ٤٢٨ سبق الترجمة له.

(٣) سقط من (ب) من أول : متصفة إلى موجوده.

(٤) في (أ) بزيادة (لا بد).

١٨٢

قلنا : منقسم ، ولا اجتماع لأن معناه المقارنة أو المعية (١) ، أي عدم مسبوقية البعض بالبعض ، أو غير منقسم ولا جزء لجواز الانقسام بالوهم ، وإن لم ينقسم بالفعل (٢). وقد يجعل هذا جوابا عن أصل الاستدلال.

قال : الوجه الثالث : لو وجد لامتنع عدمه بعد وجوده (٣) لاقتضاء الزمان فيكون واجبا مع تركيبه وتقضيه.

ورد : بأنه يكفي لبعدية العدم كونه في الآن الذي هو طرف الماضي المنقطع به الزمان ، ولو سلم فامتناع العدم بعد الوجود إنما يقتضي الدوام لا الوجوب).

قال : الثالث : الوجه الثالث أنه لو وجد الزمان لامتنع عدمه بعد الوجود لأن هذه البعدية لا تكون إلا زمانية لأن المتأخر لا يجامع المتقدم فيلزم أن يكون للزمان زمان لأن هذا ليس من قبيل التقدم والتأخر فيما بين أجزاء الزمان للقطع بأنه ليس بذاتي وإذا امتنع عدمه كان واجب الوجود وهو محال لأنه متركب يقبل الانقسام ومنقضي (٤) يحدث ، وتنقض أجزاؤه شيئا فشيئا والواجب ليس كذلك.

وأجيب بأن كون (٥) العدم بعد الوجود لا يقتضي أن يكون في زمان بل يجوز أن يكون في الآن الذي هو طرف للزمان الذي مضى وانقضى أعني الطرف الذي به انقطع الزمان ، ولو سلم فامتناع العدم بعد الوجود لا يقتضي

__________________

(١) المعية : هو الوجود معا وهي زمانية ، ومنطقية. أما المعية الزمانية فهي الحدوث في زمان واحد ، وهي مطلقة أو نسبية ، أما المطلقة فهي وجود الأشياء في زمان واحد ، أي في زمان متجانس الأجزاء.

أما المنطقية : فهي التصديقات الموجبة أو السالبة المندرجة في فعل ذهني واحد كما في الضرب المنطقي أو الآراء المتعلقة بمنظومة فكرية واحدة ، وفي قول أرسطو : يمتنع أن يكون الموضوع كذا ولا كذا في آن واحد ، من جهة واحدة ، إشارة إلى هذه المعية.

(٢) في (ب) بالعقل بدلا من (الفعل).

(٣) في (ج) بزيادة (وجوده).

(٤) في (ب) وينقضي.

(٥) في (ب) يكون.

١٨٣

الوجوب الذاتي (١) المنافي للتركيب (٢) والتقضي لجواز لا يقتضي الوجود نظرا إلى ذاته ، غايته أن يكون دائما بتجدد الأجزاء على سبيل (٣) الاستمرار ، ولا استحالة فيه.

أدلة الفلاسفة على وجود الزمان

(قال : وأثبتته الفلاسفة بوجهين :

الأول : أنا إذا فرضنا في مسافة (٤) حركتين متوافقتين في الانقطاع فإن توافقتا في السرهة والابتداء أيضا قطعتا معا ، وإن تأخر ابتداء الثانية أو كانت أبطأ قطعت أقل ، فبين طرفي الأول إمكان قطع مسافة معينة بسرعة معينة ، وأقل منهما ببطء معين ، وبين طرفي الثانية إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة فهناك أمر مقداري لا يرجع إلى السرعة أو امتداد المسافة أو المتحرك هو المعنى بالزمان ، فإن قيل الحكم بالمعية والتأخر والسرعة فرع وجود الزمان فيدور.

قلنا : ممنوع فإن المنكرين قاطعون بهذه المعاني.

الثاني : تقدم الأب على الابن ضروري ، وليس وجود الأب وهو ظاهر ولا مع عدم الابن لأنه قد يكون لاحقا ولا تقدم ، فلا بد من الانتهاء إلى ما يلحقه التقدمية والتأخرية بذاته بحيث أنه لا يصير قبله بعد ، ولا بعد قبل ، وهو المراد بالزمان.

وأجيب بأن هذه الإمكانات والقبلية اعتبارات عقلية يتصف بها الأعدام ، فإن ما بين اليوم وأول السنة أو الشهر متفاوت وعدم الحادث متقدم).

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (الذاتي).

(٢) في (ب) التركب بدلا من (التركيب).

(٣) في (أ) بزيادته لفظ (سبيل).

(٤) المسافة : البعد ، وأصلها من السوف وهو الشم : كان الدليل إذا حصل في فلاة أخذ التراب فشمه ليعلم أعلى قصد هو أم على جور ، ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى سموا البعد مسافة.

١٨٤

قال : وأثبت تمسك الفلاسفة في وجود الزمان بوجوه :

الأول : أنا نفرض حركة في مسافة معينة بقدر من السرعة وحركة أخرى في تلك المسافة مثل الأولى في السرعة ، فإن توافقتا مع ذلك في الأخذ والترك بأن ابتدأتا معا ووقفتا معا فبالضرورة يقطعان المسافة ، معا ، وإن توافقتا في الترك دون الأخذ بأن كان ابتداء الثانية متأخرا عن ابتداء الأولى فبالضرورة تقطع الثانية أقل مما قطعته الأولى وكذا إذ توافقتا في الأخذ والترك ، وكانت الثانية أبطأ فإنها تقطع أقل ، فبين أخذ السريعة الأولى وتركها إمكان قطع مسافة معينة بسرعة معينة ، وإمكان قطع مسافة أقل منها ببطء معين ، وبين أخذ السريعة الثانية وتركها إمكان أقل من الإمكان بتلك السرعة المعينة فهناك أمر مقداري أي قابل للزيادة (١) والنقصان بالذات تقع فيه الحركة ويتفاوت بتفاوته ضرورة أن قبول التفاوت ينتهي إلى ما يكون بالذات وهو الذي عبرنا عنه بالإمكان ، وسميناه بالزمان ، فيكون موجودا وليس هو نفس السرعة ، ولا امتداد المسافة ، ولا امتداد المتحرك ، لأنه قد يختلفان كالحركة في تمام المسافة تساوي نصف تلك الحركة في السرعة مع الاختلاف في المقدار ، وكالحركتين (٢) في المقدار ، وكالحركتين المتساويتين في مقدار المسافة مع اختلاف مقدار هذا الإمكان لاختلافهما بالسرعة والبطء ، أو على العكس بأن تقطع السريعة في ساعة فرسخا ، والبطيئة نصف فرسخ (٣) ، وحركة الجسم الصغير والكبير مسافة معينة في ساعة أو حركة الجسمين المتساويين في المقدار بقطع المسافة أحدهما في ساعة ، والأخرى في نصف ساعة.

فإن قيل : قد بينتم إثبات وجود الزمان على مقدمات يبني الحكم فيها على وجود الزمان (٤) كالحكم بأن هذه الحركة مع تلك أو متأخرة عنها ، أي بالزمان ،

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (أي).

(٢) في (ب) بزيادة حرف الجر (في).

(٣) الفرسخ واحد الفراسخ فارسي معرب.

(٤) سقط من (ب) من أول على مقدمات إلى (وجود الزمان).

١٨٥

وأسرع منها أي تقطع المسافة في زمان أقل ، أو تقطع في زمان مساو لزمانها مسافة أطول فيكون دورا.

قلنا : لا نسلم توقف صحة هذه الأحكام على كون الزمان موجودا في الخارج فإن المنكرين يعترفون بكون الشيء مع الشيء أو بعده ، وكون بعض الحركات أسرع من البعض ، وأجاب الإمام بأن المقصود من هذا البرهان تحقيق ماهية الزمان وكونه مقدارا للحركة لا إثبات أصل وجوده فإنه بديهي.

الوجه الثاني : أن كون الأب قبل الابن ضروري لا يشك فيه عاقل وليست هذه القبلية نفس وجود الأب وحده لأنها إضافية بخلافه ، ولأنه قد يوجد مع الابن بخلافها ، ولا مع عدم الابن أو هو (١) وحده لأنه قد يكون عدما لاحقا لا يتصور كونه قبل الوجود مع اتحاد العدمين في كونهما عدم الابن وهذا معنى قولهم العدم قبل كالعدم بعد وليس قبل كبعد ، فتعين أن يكون قبلية الأب وبعدية الابن لأمر آخر ولا بد من أن ينتهي إلى ما تلحقه القبلية والبعدية لذاته قطعا للتسلسل وهو المراد بالزمان ، فإنه الذي يكون جزءا منه قبل ، وجزءا منه بعد ، بحيث لا يصير قبله بعد ولا بعده قبل ، وسائر الأشياء تكون قبلا لمطابقته الجزء القبل وبعد المطابقة الجزء البعد حتى لو وجد الأب في الجزء البعد والابن في الجزء القبل لكان الأب بعد الابن.

وأجيب عن الوجهين بأن ما ذكرتم من الإمكانات القابلة للتفاوت في القبلية المتصف بها وجود الأب من الاعتبارات العقلية دون الموجودات العينية بدليل أنه تتصف بها الإعدام فإن من اليوم إلى رأس الشهر ، أقل من اليوم إلى رأس (٢) السنة وإن عدم الحادث قبل وجوده ، فزعمت الفلاسفة أن المقصود التنبيه على وجود الزمان لا الاستدلال لأنه ضروري تعترف به العامة ومن لا سبيل لهم إلى الاكتساب ، ولهذا يقسمونه إلى السنين والشهور والأيام والساعات ، ويجري

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (هو).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (رأس).

١٨٦

إنكاره مجرى إنكار الأوليات (١) وإنما الخفاء في حقيقته.

اختلاف المتكلمين والفلاسفة في حقيقة

الزمان

(قال : فزعموا أن المقصود التنبيه (٢) وإلا فوجود امتداد يتصف بالمضي ، والاستقبال ضروري يعترف به العامة ، وتقسيمه إلى السنين والشهور والأيام والساعات ، وإنما الخفاء في حقيقته ، فزعم البعض أنه متجدد معلوم يقدر به متجدد موهوم ، وربما يتعاكس بحسب علم المخاطب كما يقال حين قعد عمرو في جواب متى قام زيد ..؟ وبالعكس ، ولا يخفى أن ليس في هذا إفادة تصور ، وذهب أرسطو وأتباعه إلى (٣) أنه مقدار حركة الفلك الأعظم لأنه لتفاوته كم ولامتناع تألفه من الآنات (٤) المتتالية لاستلزامه الجزء الذي لا يتجزأ متصل ، ولعدم استقراره مقدار لهيئة غير قارة ، وهي الحركة ولامتناع فنائه ضرورة أن بعدية العدم لا تكون إلا بالزمان مقدرا لحركة مستديرة.

إذا المستقيمة يجب (٥) انقطاعها لما سيأتي ، ولتقدر جميع الحركات به مقدار لأسرعها الذي هو الحركة اليومية إذ الأكبر يقدر بالأصغر ، والاكثر بالأقل كالفرسخ بالذراع والمائة بالعشرات دون العكس ، ورد ذلك بأنه مع الابتناء على الأصول الفاسدة ، إنما يتم إن (٦) لو كان قبوله التفاوت لذاته).

__________________

(١) الأوليات هي المقدمات اليقينية الضرورية وتسمى بالمبادئ الأولى والبديهيات ومبادي المنطق ومبادي العقل وهي ما لا يحتاج إلى الفعل في معرفته إلى وسط.

قال ابن سينا : الأوليات هي قضايا ومقدمات تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب يوجب التصديق بها إلا ذواتها ومثال ذلك أن الكل أعظم من الجزء وهذا غير مفاد من حس ولا استقراء ولا للشيء آخر وأما التصديق بهذه القضية فهو من جبلة الإنسان.

(راجع النجاة ص ١٠١ ، والإشارات ص ٤٦).

(٢) في (ج) بزيادة لفظ (التنبيه).

(٣) في (ج) وأشياعه بدلا من (أتباعه).

(٤) في (أ) و (ب) الآيات وهو تحريف.

(٥) في (أ) و (ب) بحسب وهو تحريف.

(٦) في (أ) و (ب) لو بدلا من (إن).

١٨٧

قال : فزعمت الأشاعرة (١) القوم ، وإن ادعى بعضهم ظهور آنية الزمان ، فقد اتفقوا على خفاء ماهيته.

فقال كثير من المتكلمين هو متجدد معلوم مقدر به متجدد غير معلوم كما يقال : آتيك عند طلوع الشمس ، وربما يتعاكس بحسب علم المخاطب حتى لو علم وقت قعود عمرو ، فقال : متى قام زيد؟ يقال في جواله : حين قعد عمرو.

ولو علم وقت قيام زيد فقال متى قعد عمرو يقال في جوابه حين قام زيد ولذلك يختلف تقدير المتجددات باختلاف ما يعتقد المقدر ظهور عند المخاطب كما تقول العامة للعامة (٢) اجلس يوما ، والقارئ اجلس قدر أما تقرأ الفاتحة ، والكاتب قدر ما تكتب صحيفة ، والتركي قدر ما ينضج مرجل (٣) لحم ، ولا يخفى إذ ليس في هذا التفسير إفادة تصور ماهية الزمان ، وأما الفلاسفة فذهب أرسطو (٤) وأشياعه إلى أنه مقدار حركة الفلك الأعظم ، واحتجوا على ذلك بأنه مقداري أي كم متصل ، أما الكمية فلقبوله المساواة واللامساواة فإن زمان دورة من الفلك مساو لزمان دورة أخرى منه ، وأقل من زمان دورتين ، وأكثر من زمان نصف دورة ، وأما الاتصال فإنه لو كان منفصلا لانتهى إلى ما لا ينقسم أصلا كوحدات العدد لأن هذا حقيقة الانفصال فيكون تألفه من الآنات المتتالية ، ويلزم منه الجزء الذي لا يتجزأ لانطباقه على الحركة المنطبقة على المسافة ، ثم

__________________

(١) راجع ترجمة وافية عن الأشاعرة في الجزء الأول.

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (للعامة).

(٣) في (أ) ما ينطبخ بدلا من (ينضج).

(٤) أرسطو : ولد عام ٣٨٤ ق. م وتوفي عام ٣٢٢ ق م ، تتلمذ على الفيلسوف اليوناني أفلاطون في أثينا وتتلمذ على يديه اسكندر الأكبر المقدوني ، ثم انصرف إلى التعليم والتأليف في شتى فنون المعرفة ، وسمى تلاميذه بالرواقيين أو المشائين. عرف المسلمون العرب أرسطو منذ أن اتصلوا بالروم ، وفي رواية أن مؤلفاته كانت محفوظة في الاسكندرية وأنها نقلت فيما نقل من المحفوظات اليونانية إلى أنطاكية في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز ، ولكن من المحقق أن مؤلفاته لم تنقل إلا في عهد المأمون وقسمها العرب إلى أربعة أقسام هي : المنطقيات ، والطبيعيات ، والإلهيات ، والخلقيات.

راجع القاموس الإسلامي ص ٦٦ و ٦٧ بتصرف).

١٨٨

إنه مقدار لأمر غير قار الذات وهو الحركة وإلّا لكان هو أيضا قار الذات أي مجتمع الأجزاء في الوجود فيكون الحادث في اليوم حادث يوم الطوفان وهو محال ، ولا يجوز أن يكون مقدار الحركة مستقيمة لأنها لازمة الانقطاع لما سيجيء من تناهي الأبعاد ، ومن امتناع اتصال الحركات المستقيمة على مسافة متناهية ، والزمان لا ينقطع لما مر فتعين أن يكون مقدار الحركة مستديرة ويلزم أن يكون أسرع. الحركات ليكون مقدارها أقصر فتصلح التقدير جميع الحركات به (١) ، فإن الأقل يقدر به الأكثر من غير عكس لتقدير الفرسخ بالذراع (٢) وتقدير المائة بالعشرة وأسرع الحركات الحركة (٣) اليومية المنسوبة إلى الفلك الأعظم فيكون الزمان مقدارا لها.

فإن قيل : هذا تعريف للزمان وتفصيل لذاتياته. فكيف يطلب بالحجة؟.

قلنا : الشيء إذ لم يتصور بحقيقة بل بوجه (٤) ما لم يمتنع إثبات أجزائها بالبرهان كجوهرية النفس ، وتركب الجسم من الهيولي والصورة ، وهاهنا لم يتصور من الزمان إلا أنه شيء باعتباره تتصف الأشياء بالقبلية البعدية وليست المقدارية من ذاتيات هذا المفهوم ، بل من ذاتيات حقيقته.

واعترض على هذا الدليل بأنه مبني على أصول فاسدة ، مثل بطلان الجزء الذي لا يتجزأ ، ومثل امتناع إيصال الحركات ولزوم السكون بين كل حركتين مستقيمتين ، ومثل امتناع فناء الزمان ، ولزوم أن يكون عدمه بعد الوجود مقتضيا لزمان آخر ، وبعد ثبوت هذه الأصول بالدليل أو التزام الخصم إياها بأن يجعل هذا احتجاجا على باقي الفلاسفة فلا نسلم أن القابل للتفاوت ، أو يلزم أن يكون كما مقتضيا لموضوع ، وإنما يلزم لو كان ذلك (٥) بحب الذات وهو ممنوع ، ودعوى الضرورة غير مسموعة.

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (به).

(٢) الذراع مؤنثة قاله سيبويه وجمعها (أذرع).

(٣) سقط من (ب) لفظ (الحركة).

(٤) في (أ) يوجد بدلا من (بوجه).

(٥) فى (أ) بزيادة لفظ (ذلك).

١٨٩

نقض أدلة الفلاسفة

(قال : ثم عروض بوجوه :

الأول : أن غير المتغير كالجسم وسكونه بل الواجب وجميع المجردات يتصف بالكون في الأمس واليوم والغد ، والحركة ، من غير فرق ، وبهذا يظهر أنه ليس مقدارا للوجود لأن المتغير لا ينطبق على الثابت وبالعكس.

الثاني : أن الحركة بمعنى الكون في الوسط ثابت فمقداره لا يكون متغيرا وبمعنى الممتد من المبدأ إلى المنتهى وهمي فمقداره لا يكون موجدا.

الثالث : أن ثبوت العرض مع عدم محله بديهي الاستحالة بخلاف ما نسميه الزمان مع عدم حركة الفلك وبهذا يظهر أنه ليس نفس الفلك ولا حركته.

وأجيب عن الأول بأن غير المتغير إنما ينسب (١) إذا نسب إلى الزمان بالحصول معه لا فيه فنسبة المتغير إلى المغير هو الزمان ، ونسبة الثابت إلى المتغير هو الدهر وإلى الثابت هو السرمد. وعن الثاني بأنه كما لا يجب بل يمتنع في وجود غير القار اجتماع جزءين منه فكذا في وجود مقداره ، وعن الثالث بأن مبناه على حكم الوهم والكل ضعيف).

قال : ثم عورض ، أي الدليل المذكور بوجوه :

أحدها : أن الزمان لو كان مقدار الحركة لامتنع انتساب الأمور الثابتة إليه ، أما الملازمة فلأنه حينئذ يكون متغيرا غير قار لأن مقدار المتغير أولى بأن يكون متغيرا ، والمتغير لا ينطبق على الثابت لأن معنى الانطباق أن يكون جزءا من هذا مطابقا لجزء من ذلك على الترتيب في التقدم والتأخر وأما بطلان اللازم

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) إنما ينسب.

١٩٠

فلأنا كما نقطع بأن الحركة موجودة أمس واليوم وغدا ، كذلك نقطع بأن السكون بل السماء وغيرها من الموجودات الثابتة حتى الواجب ، وجميع المجردات موجودة أمس واليوم وغدا ، وإن جاز إنكار هذا جاز إنكار ذاك ، وبهذا الوجه أبطلوا قول أبي البركات إن الباقي لا يتصور بقاؤه إلا في زمان مستمر ، وما لا يكون في الزمان ويكون باقيا لا بد أن يكون لبقائه مقدار من الزمان فالزمان مقدار الوجود (١) ، وذلك لأن المقدار في نفسه إن كان متغيرا استحال انطباقه على الثابت وإن كان ثابتا استحال انطباقه على (٢) المتغير ، وثانيها : أن الحركة كما سيجيء تطلق على كون المتحرك متوسطا بين المبدأ والمنتهى وهو أمر ثابت مستمر الوجود وعلى الأمر الممتد في المسافة من المبدأ إلى المنتهى ، وهو وهم محض لا تحقق له في الخارج لعدم تقرر أجزائه ، والحركة التي جعل الزمان مقدارا لها إن أخذت بالمعنى الأول لزم كون الزمان قارا غير سيال وهو محال ، وإن أخذت بالمعنى الثاني لم يكن الزمان موجودا ضرورة امتناع قيام الموجود بالمعدوم ، وثالثها : لو كان الزمان مقدار حركة الفلك لكان تصور وجودها بدونها (٣) تصور محال ، واللازم باطل لأنا قاطعون بوجود أمر سيال به القبلية والبعدية والمضي والاستقبال وإن لم يوجد حركة ولا فلك حتى لو تصورنا مدة كان الفلك معدوما فيها فوجد ، أو ساكنا (٤) فتحرك ، أو يعدم فيها الفلك أو حركته ، لم يكن ذلك بمنزلة تصورنا عدم حركة الفلك حال وجودها ، وإن أمكن إنكار هذا الأمر (٥) بدون الحركة أمكن إنكاره معها من غير فرق ، وبالجملة فارتفاع الزمان بارتفاع حركة الفلك ليس بديهيا كارتفاع مقدار الشيء بارتفاعه ، ولهذا لم يذهب أحد من العقلاء

__________________

(١) في (ب) الوجوب بدلا من (الوجود).

(٢) سقط من (ب) من قوله : الثابت إلى انطباقه على.

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (بدونها).

(٤) في (ب) سألنا وهو تحريف.

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (الأمر).

١٩١

إلى بداهة أزلية الأفلاك وأبديتها ، وبهذا يظهر أن ليس الزمان نفس الفلك الأعظم (١) ، أو حركته على ما هو رأي البعض ، وقد يجاب : أما عن الأول فبأن النسبة إلى الزمان بالحصول فيه لا يكون إلا للمتغير حقيقة بأن يكون فيه تقدم وتأخر وماض ومستقبل ، وابتداء وانتهاء كالحركة والمتحرك أو تقديرا كالسكون ، فإن معنى كونه في ساعة أنه لو فرض بدله حركة لكانت في ساعة ، وذكر ابن سينا أن معنى قولنا الجسم في الزمان أنه في الحركة والحركة في الزمان ، وأما غير المتغير أعني ما يكون قار الذات فإنما ينسب (٢) إلى الزمان بالحصول معه لا بالحصول فيه ، إذ ليس له (٣) جزء يطابق المتقدم من الزمان ، وجزء يطابق المتأخر منه ، وهذا كما أن نسبة استمرار غير المتغير (وثباته إلى استمرار غير المتغير) (٤) كالسماء إلى الأرض يكون بالحصول معه من غير تصور الحصول فيه ، ولا خفاء في الفرق بين الحصول الحركة مع الزمان ، وحصول السماء مع الزمان ، وحصول السماء مع الأرض ، وأنها معاني محصلة متمايزة (٥) ولا استنكار في أن نعبر عن كل منها بعبارة نرى أنها مناسبة لها على كل (٦) ما قالوا : إن نسبة المتغير إلى المتغير هو الزمان ، ونسبة الثابت

__________________

(١) الفلك الأعظم : ويسمى فلك الأفلاك ، لأنه اكبر الأفلاك ، ويقال له الفلك الأطلس لأنهم لم يعرفوا له كوكبا ، وحركة هذا الفلك من المشرق إلى المغرب على قطبين ثابتين ، يقال لأحدهما القطب الشمالي ، وللآخر القطب الجنوبي ، وتتم دورته في أربع وعشرين ساعة وبحركته تتحرك الأفلاك كلها مع كواكبها وحركته أسرع من كل شيء شاهده الإنسان ، والحكماء سموا هذا الفلك محددا لاعتقادهم أن ليس وراء ذلك خلاء وملاء. وقال أبو عبد الله بن عمر الرازي بعد ما أظهر فساد القول بالمحدد : من أراد أن يكتال مملكة الباري تعالى بمكيال العقل فقد ضل ضلالا بعيدا.

(راجع عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني ج ١ ص ٢٥).

(٢) في (ب) فإما.

(٣) سقط من (ب) لفظ (به).

(٤) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (متمايزة).

(٦) في (أ) بزيادة لفظ (كل).

١٩٢

إلى المتغير هو الدهر ، ونسبة الثابت إلى الثابت هو السرمد ، ويعمها الدوام المطلق ، والذي في الماضي أزل ، والذي في المستقبل هو الأبد (١).

قال الإمام : وهذا تهويل خال عن التحصيل لأن ما يفهم من كان ويكون إذا كان موجودا في الأعيان فإما أن يكون متغيرا فلا ينطبق على الثابت ، أو ثابتا فلا ينطبق على المتغير ، وهذا التقسيم لا يندفع بالعبارة ، واعترض بأنه لا استحالة في الانطباق بين المتغير والثابت ، فإنا نقول : عاش فلان ألف سنة فإنا نطبق مدة بقائه على ألف دورة من الشمس ، والمتكلمون يقولون : القديم موجود في أزمنة مقدرة لأنها لا نهاية لأولها ، والجواب أنه لا يصح حينئذ ما (٢) ذكر أن الزمان لما كان غير قار استحال أن يكون مقدار الهيئة قارة ، على أن انطباق مدة البقاء على ألف دورة إنما هو من انطباق المتغير على المتغير (٣) لأن المدة زمان ، والدورة حركة ، ثم لا يخفى إذ ليس الزمان نفس النسبة ، بل للمتغير الذي ينسب إليه المتغير ، وليس المراد مطلق النسبة ، بل نسبة المعية (٤) على ما صرح به البعض ، إلا أنه اقتصر من بيان هذه المعية على أنها ليست معية شيئين يقعان في زمان واحد.

ثم قال : وغير الحركة إذ المتحرك (٥) إنما ينسب إلى الزمان بالحصول معه لا فيه ، وهذه المعية وإن كانت بقياس ثابت إلى غير ثابت فهو الدهر وإن كانت بقياس ثابت إلى ثابت فهو السرمد ، وهذا الكون أعني كون الثابت مع غير الثابت ، والثابت مع الثابت بإزاء كون الزمانيات في الزمان ، فتلك المعية

__________________

(١) الأبد في اللغة الدهر ، والدائم والقديم ، والأزلي ، والجمع آباد وأبود ، وهو في الاصطلاح : الزمان الذي ليس له ابتداء ولا انتهاء أو المدة التي لا يتوهم انتهاؤها بالفكر والتأمل ، أو الشيء الذي لا نهاية له.

والأبد والأمد متقاربان. لكن الأبد لا يتقيد فلا يقال : أبد كذا. والأمد ينحصر فيقال : أمد كذا كما يقال : زمان كذا.

(٢) في (ب) فيما بدلا من (حينئذ ما).

(٣) في (أ) بزيادة (على المتغير).

(٤) في (ب) المعينة بدلا من (المعية).

(٥) في (ب) أو المتحرك بدلا من (إذ المتحرك).

١٩٣

كأنها متى للأمور الثابتة ، ولا يتوهم في الدهر ولا في السرمد (١) امتداد ، وإلا لكان مقدارا بالحركة ، ثم الزمان كمعلول للدهر والدهر كمعلول للسرمد ، فإنه لو لا دوام (٢) نسبة علل الأجسام (٣) إلى مبادئها ما وجدت الأجسام فضلا عن حركاتها ، ولو لا دوام نسبة الزمان إلى مبدأ الزمان (٤) لم يتحقق الزمان.

وقال ابن سينا : إن اعتبار أحوال المتغيرات مع المتغيرات هو الزمان ، واعتبار أحوال الأشياء الثابتة مع الأشياء المتغيرة هو الدهر ، ومع الأشياء الثابتة هو السرمد ، والدهر في ذاته من السرمد ، وهو بالقياس إلى الزمان ، دهر وهو يعني أن الدهر في نفسه شيء ثابت إلا أنه إذا نسب إلى الزمان الذي هو متغير في ذاته يسمى دهرا ، هذا ما وقع إلينا من شرح هذا الكلام والظاهر أنه ليس له معنى يحصل على ما قال الإمام.

وأما عن الثاني : فبأنا نختار أن الزمان مقدار للحركة بمعنى القطع وهي أمر غير قار يوجد منها (٥) جزء فجزء من غير أن يحصل جزءان دفعة وهذا معنى وجودها في الخارج ، وإنما الوهمي هو المجموع الممتد من المبدأ إلى المنتهى فكذا مقدارها الذي هو الزمان يكون بحسب المجموع وهميا لا يوجد منه جزءان دفعة ، بل لا يزال يتجدد وينصرم ، ويوجد منه شيء فشيء ، وهذا يقال : إن هناك أمرا غير منقسم يفعل سيلانه (الزمان كما أن في الحركة معنى هو الكون في الوسط يفعل سيلانه) (٦) الحركة بمعنى القطع.

واعترض بأن هذا قول بتتالي الآنات لأن ذلك الأمر الغير المنقسم ليس

__________________

(١) السرمد في اللغة : الدائم الذي لا ينقطع وفي التنزيل قول الله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، والسرمدي هو المنسوب إلى السرمد وهو ما لا أول ولا آخر وله طرفان : أحدهما دوام الوجود في الماضي ويسمى أزلا ، والآخر دوام الوجود في المستقبل ويسمى أبدا.

(٢) في (ب) لا بدلا من (لو لا).

(٣) في (ب) على بدلا من (علل).

(٤) في (ا) بزيادة (إلى مبدأ الزمان).

(٥) في (ب) فيها بدلا من (منها).

(٦) ما بين القوسين سقط من (ب).

١٩٤

غير الآن ، وأجيب بأنه لا أجزاء هناك بالفعل لأن الزمان كمية متصلة يعرض لها التجزؤ والانقسام بحسب الغرض والوهم دون الخارج فورد الإشكال بأنه لا وجود للزمان حينئذ لأن نفس الامتداد موهوم ، والجزء معدوم فما ذا يوجد منه؟ وهذا بخلاف المسافة فإن أجزاءها وإن لم تكن بالفعل إلا أن المجموع المتصل الذي يتجزأ في الوهم موجود في الخارج ، وبخلاف الحركة فإنه يوجد منها أمر مستمر هو الكون في الوسط من غير لزوم محال.

وأجيب بأن المراد أن في الفعل (١) امتداد لا وجود له في الخارج لكنه بحيث لو فرض وجوده وتجزؤه عرضت لأجزائه المفروضة قبليات وبعديات متجددة ومنصرفة (٢) ، ولا يكون الامتداد في العقل كذلك إلا إذا كان في الخارج شيء غير قار يحصل في العقل بحسب استمراره وعدم استقراره ، ذلك الامتداد الذي إذا فرض تجزية كان لحوق التقدم والتأخر لأجزائه المفروضة لذاتها من غير اقتضاء زمان آخر ، وكذا معيته (٣) للحركة وإذا لا وجود للجزءين معا إلا في العقل لزم كون القبلية والبعدية العارضتين لهما كذلك ، ولهذا يعرضان للعدم ، كيف ولو وجدتا في الخارج وهما متضايفان لزم وجود معروضيهما معا في الخارج ، ويلزم كون الزمان قار الذات ، وما يقال من أن الموجود في الخارج من الزمان معروض للقبلية والبعدية فمجاز والمراد أنه متعلق بهما بمعنى أنهما بسببه يعرضان (٤) للأجزاء المفروضة للزمان المعقول ، هذا غاية تحقيقهم في هذا المقام دفعا للإشكالات الموردة من قبل الإمام ، مثل أن قبلية عدم الحادث على وجوده لو اقتضت زمانا كانت (٥) قبلية الأمس على الغد ، ومعية الحركة للزمان كذلك ، وأن القبلية والبعدية لو وجدتا لامتنع اتصاف العدم بهما ، ولكان وجودهما بالزمان وتسلسل وللزم وجود معروضيهما (معا ضرورة كونهما متضايفين فيكون الزمان قار الذات لاجتماع أجزائه المفروضة للقبلية والبعدية ، ولو كانتا من الاعتبارات العقلية التي لا

__________________

(١) في (ب) العقل بدلا من (الفعل).

(٢) في (ب) ومنصرمة بدلا من (ومنصرفة).

(٣) في (ب) معية بدلا من (معيته).

(٤) في (ب) يمرضان بدلا من (يعرضان).

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (كانت).

١٩٥

وجود لها في الأعيان لم يلزم وجود معروضيهما) من الخارج فلم يدل على وجود الزمان وأن أجزاء الزمان ، إما أن تكون متماثلة فتمتنع اختلافها بالقبلية والبعدية الذاتيتين ، أو متخالفة يكون الزمان متصلا ، وأنت خبير بأن قولهم لا بد في الخارج من أمر غير قار يحصل منه في العقل ذلك الامتداد مجرد ادعاء ، لجواز أن يحصل لا عن موجود ، أو عن موجود قار بحسب ما له من النسب ، والإضافات إلى المتغيرات على ما سيجيء وأما عن الثالث فبأن القطع بوجود امتداد به التقدم والتأخر ومنه الماضي والمستقبل على تقدير أن لا يكون فلك ولا حركة أصلا ، أو يكون له عدم سابق ، أو لاحق ، إنما هو من الأحكام الكاذبة للوهم كحكمة بأن خارج الفلك فضاء لا يتناهى واعترض بأنا نجد القطع بهذا الامتداد في حالتي وجود الحركة وعدمها على السواء إن حقا فحق ، وإن وهما فوهم ، والتفرقة نحتاج إلى البرهان.

الزمان جوهر مستقل

عند قدماء الفلاسفة

(قال : وذهب القدماء إلى أنه جوهر مستقل ، فقيل واجب لامتناع عدمه سابقا ولا خفاء.

ورد : بأنه لا يقتضي امتناع العدم مطلقا ، وقيل ممكن وإليه ذهب أفلاطون وأشياعه ، وعمدتهم القطع بوجوده وإن لم يكن جسم ولا حركة).

وذهب القدماء ـ أي من الفلاسفة ـ إلى أن الزمان جوهر مستقل أي قائم بنفسه غير مفتقر إلى محل يقومه ، أو حركة تفعله ، فمنهم من زعم أنه واجب الوجود إذ لا يمكن عدمه لا قبل الوجود ولا بعده ، لأن التقدم والتأخر بين الوجود والعدم لا يتصور إلا بزمان ، فإن كان عين الأول ، لزم وجود الشيء حال عدمه ، ولو كان غيره لزم تعدد الزمان بل تسلسله ، ورد بعد تسليم المقدمات بأن امتناع العدم قبل الوجود أو بعده لا ينافي إمكان الذاتي بمعنى جواز العدم في الجملة ، ومنهم

١٩٦

من اعترف بإمكانه وإليه ذهب أفلاطون (١) وأتباعه وعمدتهم التعويل على الضرورة بمعنى أنا قاطعون بوجود أمر به التقدم والتأخر ، ومنه الماضي والمستقبل ، سواء وجد جسم وحركة أو لا ، حتى لو فرضنا أن الفلك كان معدوما فوجد ، ثم فنى كنا قاطعين بوجود ذلك الامر وبتقدم عدم الفلك على وجوده بمعنى كونه في زمان سابق ماض ، والوجود في زمان لاحق حاضر ، والفناء في زمان آخر مستقبل فلا يكون فلكا ، ولا حركة ، ولا شيئا من عوارضها. بل جوهرا أزليا يتبدل ويتغير ويتجدد ، وينصرم بحسب النسب والإضافات إلى المتغيرات ، لا بحسب الحقيقة والذات ، ثم إنه باعتبار نسبة ذاته إلى الأمور الثابتة (٢) سمي سرمدا ، أو إلى ما قبل المتغيرات دهرا ، وإلى مقارنتها زمانا ، ولما لم يثبت امتناع عدمه في نفسه لم يحكم بوجوبه ، وأنت خبير بحال دعوى الضرورة في مثل هذا المتنازع الهائل الذي لا يرجى فيه تقرر الآراء على شيء.

__________________

(١) أفلاطون : فيلسوف يوناني عاش بين عامي ٤٢٧ ق. م ٣٤٧ ق م ، وهو تلميذ سقراط ، ومعلم أرسطو. عاش في أثينا ، وتنقل بين مصر وقبرص وصقلية ، وأسس المدرسة التي عرفت في التاريخ الفكري بالاكاديمية ، من مؤلفاته كتاب الجمهورية ، وكتاب السياسة والقوانين ، تعرفه المراجع العربية بانه ، أفلاطون بن أرسطون أحد أساطين الحكمة الخمسة من اليونان ، أخذ عن فيثاغورس وشارك سقراط في الأخذ عنه وعنه أخذ أرسطو طاليس. من كتبه : السياسة نقله حنين بن إسحاق ، والمناسبات نقله يحي بن عدي ، وأصول الهندسة نقله قسطا بن توما ، وكتاب التوحيد واللذة نقلهما يحي بن عدى.

(راجع القاموس الإسلامي ص ١٤٥ بتصرف).

(٢) في (ب) الثانية وهو تحريف.

١٩٧

المبحث الثالث

في المكان

(قال : المبحث الثالث : في المكان (١).

والمعتبر من المذاهب. أنه السطح الباطن من الحاوي ، أو البعد الذي ينفذ فيه بعد الجسم ، فإن من البعد ماديا يحل في الجسم ويمانع ما يماثله ، ومفارقا يحل فيه الجسم ويلاقيه بجملته ، بحيث ينطبق على بعد الجسم ، ويتحد به إلا أنه عند أفلاطون موجود يمتنع خلوه عن شاغل.

وعند المتكلمين مفروض يمكن خلوه ، وهو المعنى بالفراغ المتوهم ، الذي لو لم يشغله شاغل لكان خاليا. فها هنا المقامان).

قال : المبحث الثالث في المكان.

__________________

(١) المكان الموضع ، وجمعه أمكنة وهو المحل المحدد الذي يشغله الجسم. تقول مكان فسيح ، ومكان ضيق ، وهو مرادف للامتداد ، ومعناه عند ابن سينا ، السطح الباطن من الجرم الحاوي المماس للسطح الظاهر للجسم المحوي.

راجع رسالة الحدود ص ٩٤). والمكان عند المتكلمين : الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم ، وينفذ فيه أبعاده.

(راجع تعريفات الجرجاني).

والمكان عند الحكماء الاشراقيين : هو البعد المجرد الموجود ، وهو ألطف من الجسميات ، وأكثف من المجردات ما ينفذ فيه الجسم ، وينطق البعد الحال فيه على ذلك البعد في اعماقه وأقطاره ، فعلى هذا يكون المكان بعدا منقسما في جميع الجهات ، مساو للبعد الذي في الجسم بحيث ينطبق أحدهما على الآخر ، ساريا فيه.

(راجع كشاف اصطلاحات المتون للتهانوي).

١٩٨

لا خفاء في آنية شيء ينتقل الجسم عنه وإليه ، (١) ويسكن فيه ، ولا يسع معه غيره ، وهو المسمى بالمكان ، والمعتبر من المذاهب : أن ماهية السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوى.

وإليه ذهب أرسطو وأشياعه من المشائين (٢) ، أو البعد الذي ينفذ فيه بعد الجسم ، ويتجدد به ، وإليه ذهب كثير من الفلاسفة والمتكلمين وزعموا أن من البعد ما هو مادي يحل في الجسم ، ويقوم به ، ويمتنع اجتماعه مع بعد آخر مماثل له ، قائم بذلك الجسم ، وهو المسمى بالجسم التعليمي ، ومنه ما هو مفارق لا يقوم بمحل ، بل يحل فيه الجسم ويلاقيه بجملته ، ويجامعه بعد الجسم منطبقا عليه متحدا به.

إلا إنه عند المتكلمين عدم محض ، ونفي صرف ، يمكن أن لا يشغله شاغل ، وهو المعنى بالفراغ المتوهم ، الذي لو لم يشغله شاغل (٣) لكان فارغا.

وعند بعض الفلاسفة : امتداد موجود قد يكون ذراعا ، وقد يكون أقل ، أو أكثر ، وقد يسع هذا الجسم (٤) ، وقد يسع ما هو أصغر منه ، أو أكبر ، وتوضيحه أنا إذا توهمنا خلو الإناء من الماء (٥) والهواء وغيرهما ، ففيما بين أطرافه امتداد قد يشغله الماء ، وقد يشغله الهواء ، فكذا عند الامتلاء ويسمونه البعد المفطور. بمعنى أنه مشهور مفطور عليه البديهة ، فإن كل أحد يحكم بأن الماء فيما بين أطراف الإناء وقيل بمعنى أنه ينشق ، فيدخل فيه الجسم

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (وإليه).

(٢) المشّاءون : اسم لارسطو وأتباعه ، إشارة إلى طريقة ارسطو في التعليم إذ كان يمشي وحوله تلاميذة ، ومن أشهر المشائين تاوفراسطوس الذي خلف ارسطو في إمامته ومن الأتباع المتأخرين استراتون الذي قضى زمنا بالإسكندرية ، ونهضت المدرسة حتى تولى أتباعها شرح فلسفة أرسطو.

(٣) سقط من (ب) لفظ (شاغل).

(٤) في (ب) يقع وهو تحريف.

(٥) في (أ) عن بدلا من حرف الجر (من).

١٩٩

بماله من البعد ، ويعبر عنه أفلاطون تارة بالهيولى ، لتوارد الأجسام عليه توارد الصور على المادة ، وتارة بالصورة لكونه عبارة عن الأبعاد. إذ الممتدة في الجهات بمنزلة الصورة الاتصالية الجسمية ، التي بها يقبل الجسم الأبعاد ، ويتميز عن المجردات ، وعلى هذا لا يرد (١) ما يقال ، إن امتناع كون حيز (٢) الجسم جزءا منه ، في غاية الظهور ، فكيف يذهب إليه العاقل. ثم إن هذا البعد عند أفلاطون (٣) وأتباعه ، ممتنع الخلو عن شاغل ، وعند البعض ممكن الخلو عنه ، وأصحاب الخلاء هم المتكلمون وبعض الفلاسفة. ففي هذا البحث مقامان : أحدهما في أن المكان هو السطح أو البعد ، وثانيهما في أن الخلاء (٤) ممكن أو ممتنع.

المقام الأول

(قال : المقام الأول :

ان المكان هو السطح أو البعد. وحجة السطح بوجوه.

الأول : أنه موجود يقبل التفاوت والإشارة والانتقال منه وإليه. والبعد الموجود إن قبل الحركة كان له مكان وتسلسل ، على أن جميع الأمكنة يفتقر إلى مكان ، فيكون داخلا فيها ، بكونه أحدها خارجا منها ، بكونه ظرفا لها ، وإن لم يقبل لم يقبلها الجسم ، لما فيه من البعد اللازم.

الثاني : إن تمكن الجسم حينئذ يستلزم نفوذ بعده في البعد المكاني ، فيكون فيه بعدان ، ويجتمع المثلان ، ويرتفع الآنات (٥) عن وحدة هذه الذارع مثلا ، وعن تساوي أصل المتمكن والمكان.

__________________

(١) في (ب) الإيراد وهو تحريف.

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (حيز).

(٣) في (ب) عن بدلا من (عند).

(٤) الخلاء : عند الفلاسفة خلو المكان من كل ذرة جسمانية تشغله. ويطلق الخلاء عند بعضهم على الامتداد ولما هو المفروض في الجسم أو في نفسه الصالح لأن يشغله الجسم ، ويسمى أيضا بالمكان والبعد الموهوم ، والفراغ الموهوم وحاصله البعد الموهوم الخالي من شاغل.

(٥) في (ج) الأمان وهو تحريف.

٢٠٠