شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

فيه عرض الفناء أو لا يخلق عرضا هو شرط البقاء ، والعرض لا يصلح محلا للعرض.

وثانيا : بالقلب إذ لو لم يبق ففناؤه إما بنفسه أو بغيره.

وثالثا : بالحل إذ يجوز أن تقتضي ذاته العدم في بعض الأحوال. وأن يكون مشروطا بأعراض تتجدد على التبادل إلى أن ينتهي إلى ما لا بدل له ، فيزول عنده ، وأن يكون (١) طريان الضد وانتفاء الآخر معا كما في دخول كل من أجزاء الحلقة في حيز الآخر ، وخروج الآخر عنه ، وهذا لا ينافي التقدم في العقل باعتبار العلية (٢) ، وأن يكون العدم الحادث أثرا للفاعل ، ولو سلم فليكن بمعنى أنه لا يفعله لا بمعنى أنه يفعل عدمه).

قال : المبحث الخامس : ذهب كثير من المتكلمين إلى أن شيئا من الأعراض لا يبقى زمانين ، بل كلها على التقضي والتجدد كالحركة والزمان عند الفلاسفة ، وبقاؤها عبارة عن تجدد الأمثال بإرادة الله تعالى.

وبقاء الجوهر مشروط بالعرض ، فمن هاهنا يحتاجان في بقائهما (٣) إلى المؤثر ، مع أن علة الاحتياج هي الحدوث لا الإمكان. احتج أهل الظاهر منهم بوجهين.

أن العرض اسم لما يمتنع بقاؤه ، بدلالة مأخذ الاشتقاق (٤).

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (يكون).

(٢) العلية : هي السببية ، وهي كون الشيء علة ، وتطلق على العلاقة بين العلة والمعلول.

(٣) في (ب) قيامها.

(٤) الاشتقاق في اللغة هو أخذ شق الشيء ، تقول : اشتق الكلمة من الكلمة أي أخرجها منها ، وهو عند أهل العربية أن تجد بين اللفظين تناسبا في أصل المعنى والتركيب فترد أحدهما إلى الآخر.

والاشتقاق ثلاثة أقسام : الاشتقاق الصغير : وهو أن يكون بين اللفظين تناسب في الحروف. والاشتقاق الكبير : وهو أن يكون بين اللفظين تناسب في اللفظ والمعنى دون الترتيب. والاشتقاق الأكبر : وهو أن يكون بين اللفظين تناسب في المخرج (راجع تعريفات الجرجاني ـ الاشتقاق).

١٦١

يقال : عرض لفلان أمر أي معنى لا قرار له (١) وهذا أمر عارض ، وهذه الحالة ليست بأصيلة ، بل عارضة ، ولهذا يسمى السحاب عارضا ، وليس اسما لما لا يقوم بذاته ، بل يفتقر إلى محل يقوم به (٢) ، إذ ليس في معناه اللغوي ما ينبئ عن هذا المعنى. الثاني ، أنه لو بقي فإما ببقاء محله فيلزم أن يدوم بدوامه لأن الدوام هو البقاء ، وأن يتصف بسائر صفاته من التحيز والتقوم بالذات ، وغير ذلك لكونها من توابع البقاء. وإما ببقاء آخر فيلزم أن يمكن بقاؤه مع فناء المحل ضرورة أنه لا تعلق لبقائه ببقائه ، وكلا الوجهين في غاية الضعف ، لأن العروض في اللغة إنما ينبئ عن عدم الدوام لا عن عدم البقاء في زمانين وأكثر ، ولو سلم فلا يلزم في المعنى المصطلح عليه اعتبار هذا المعنى بالكلية ، ولأن بقاءه ببقاء آخر لا يستلزم إمكان بقائه مع فناء المحل لجواز أن يكون بقاؤه مشروطا ببقاء المحل كوجوده بوجوده.

واحتج أهل التحقيق بوجهين :

الأول : أنه لو كان باقيا لكان بقاؤه عرضا قائما به ضرورة كونه وصفا له ، واللازم باطل لاستحالة قيام العرض بالعرض ، ورد بمنع الملازمة فإن البقاء عبارة عن استمرار الوجود وانتسابه إلى الزمان الثاني ، والثالث ، وليس عرضا قائما بالباقي ، ومنع انتفاء اللازم ، إذ لا يتم البرهان على امتناع قيام العرض بالعرض.

الثاني : لو بقي لامتنع زواله ، واللازم ظاهر البطلان.

وجه اللزوم : أنه لو أمكن زواله بعد البقاء لكان زواله حادثا مفتقرا إلى سبب فسببه إما نفس ذاته فيمتنع وجوده ضرورة أن ما يكون عدمه مقتضي ذاته لم يوجد أصلا.

وأما زوال شرط من شرائط الوجود فينقل الكلام إلى زوال ذلك الشرط

__________________

(١) في (ب) يعني بدلا من (أي معنى).

(٢) في (ب) يقوم به بدلا من (يقومه).

١٦٢

ويتسلسل ضرورة أنه يكون لزوال شرط له ، وهلم جرا ، وإما طريان ضد وهو باطل لوجهين:

أحدهما : لزوم الدور فإن طريان أحد الضدين على المحل مشروط بزوال الآخر ، وهو موقوف عليه ، فلو توقف زوال الآخر على طريانه كان دورا. وثانيهما : أن التضاد والتنافي إنما هو من الجانبين فدفع (١) الطارئ للباقي ليس أولى من دفع الباقي إياه ، بل الدفع أهون من الرفع ، لأن فيما يرفع قوة استقرار ، وسابقه ثبات لا تكون فيما يدفع ، وإما فاعل مختار أو موجب مع شرط حادث فيلزم أن يكون له أثر ليصح أنه مؤثر إذ حيث لا أثر لا تأثير ، والعدم نفي محض ، لا يصلح أثرا ، ورد بالنقض والقلب والحل

أما النقض فتقريره أنه لو صح هذا الدليل لزم أن لا يكون الأجسام باقية وإلا لما جاز عدمها بعين ما ذكر (٢) ، ودفعه بالمناقشة في بقائها كما نسب إلى النظام ، أو في جواز زوالها كما نسب إلى الكرامية ، وبعض الفلاسفة يندفع بأن الأول ضروري ، والثاني مبين في بابه (٣).

نعم يدفع عند المعتزلة بأن زوال الجسم يكون بأن يخلق الله تعالى فيه عرضا منافيا للبقاء هو الفناء ، وعندنا بأن ذات الجوهر وإن كان شرطا للعرض ، إلا أن بقاءه مشروط بالعرض ، فيجوز أن ينعدم بأن ينقطع تجدد ما لزمه من العرض بأن لا يخلقه الله تعالى ولا يصح هذا في العرض لأنه لا يصلح محلا للعرض حتى يقوم به عرض الفناء ، أو الذي هو شرط البقاء.

فإن قيل : قيام العرض بالعرض ليس بأبعد من قيام العرض بالمعدوم.

قلنا : مبنى على أصلهم في ثبوت المعدوم ، فإن كان جوهرا يصلح محلا للعرض ، وإن كان عرضا فلا ، كما في حال الموجود ، وأما القلب فلأن

__________________

(١) في (ب) فرفع بدلا من (فدفع).

(٢) في (ب) بغير بدلا من (بعين).

(٣) في (ب) مبنى بدلا من (مبين).

١٦٣

بالعرض لو لم يبق ففناؤه ، أي عدمه عقيب الوجود ، إما بنفسه أو غيره من زوال شرط ، أو طريان ضد ، أو وجود مؤثر ، والكل باطل بعين ما ذكروا (١) وأما الحل فيمنع بعض مقدمات بيان إبطال أجزاء المنفصلة ، وذلك من وجوه.

الأول : لا نسلم أنه لو كان زواله بنفسه لكان ممتنع الوجود ، وإنما يلزم لو اقتضى ذاته العدم مطلقا ، وأما إذا اقتضاه في بعض الأحوال كحال ما بعد البقاء فلا ، وذلك كالحركة تقتضي العدم عقيب الوجود ، غاية الأمر أن ترجح بعض الأوقات للزوال يفتقر إلى شرط لئلا يلزم تخلف المعلول عن تمام العلة.

والثاني : لا نسلم أنه لو كان زواله بزوال شرط لزم الدور أو التسلسل لجواز أن يكون وجود العرض مشروطا (٢) بوجود أعراض تتجدد في محالها على سبيل التبادل بأن يصير لاحقا بدلا (٣) عن سابق في الشرطية إلى أن ينتهي تلاحقهما إلى عرض لا يوجد الفاعل له بدلا ، فحينئذ يزول العرض المشروط بهذا الشرط بزوال شرط.

والثالث : لا نسلم أنه لو زال بطريان الضد الدور المحال أو الترجح بلا مرجح.

أما الأول : فلأنه إن أريد بتوقف طريان الضد على زوال الآخر واشتراطه به أن تحققه يحتاج إلى تحقق الزوال ، والزوال مقدم عليه ولو بالذات ليكون تقدم الطريان عليه بالعلية دورانا لملزوم (٤) ممنوع ، وإن أريد أنه لا يفارقه ويمتنع أن يتحقق بدونه فالاستحالة ممنوعة ، وذلك كدخول كل جزء من أجزاء الحلقة في حيز الآخر وخروج الآخر عنه ، فإنه لا يتحقق أحدهما بدون الآخر من غير استحالة. نعم يكون للطريان سبق علته (٥) ، وهو لا ينافي المعية

__________________

(١) في (ب) بغير بدلا من (بعين).

(٢) سقط من (أ) مشروطا.

(٣) في (ب) بعلا بدلا من (بدلا).

(٤) في (ب) لملزوم بدلا من (اللزوم).

(٥) في (ب) علته بدلا من (عليه).

١٦٤

الزمانية على أنه يجوز أن يكون العلة طريان الضد على المجاور ، ويكون طريانه على المحل وزوال الباقي عنه معا بحسب الذات ، لا تقدم أحدهما على الآخر أصلا.

وأما الثاني : فلجواز أن يكون الطارئ أقوى بحسب السبب فيرفع الباقي ، ولا يندفع به ، وإن تساويا في التضاد.

الرابع : لا نسلم أن العدم لا يصلح أثرا للفاعل ، كيف وهو حادث يفتقر إلى محدث ، والفاعل مقدم يلزم (١) أن يكون أثره العدم ، ولو سلم فنختار أنه ليس (٢) بفاعل ، بمعنى أنه لا يفعل العرض أي يترك فعله لا بمعنى أن يفعل عدمه.

قال : والحق أن بقاء العرض في الجملة كبقاء الجسم لا سيما الأعراض القائمة بالنفس وليس التعويل على مجرد المشاهدة إذ الأمثال المتواردة قد تشاهد أمرا مستمرا كالماء المصبوب من الأنبوب.

والحق يريد أن امتناع وبقاء الأعراض على الإطلاق وإن كان مذهبا للأشاعرة ، وعليه يبتنى كثير من مطالبهم إلا أن الحق أن العلم ببقاء بعض الأعراض (٣) من الألوان والأشكال سيما الأعراض القائمة بالنفس كالعلوم والإدراكات ، وكثير من الملكات (٤) بمنزلة العلم ببقاء بعض الأجسام من غير

__________________

(١) في (أ) مقدم بدلا من (معدم).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (ليس).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (بعض).

(٤) الملكة عند معظم الفلاسفة هي القدرة على الفعل أو الترك ، وتطلق عندهم بوجه خاص على الظواهر النفسية التي تتجلى فيها جوانب الأنا تجليا واضحا كالإحساس والتفكير والإرادة فملكات النفس بهذا المعنى قواها المختلفة ولكل ملكة فعل يخصها ونسبة الملكة في علم النفس إلى الظواهر النفسية المتعلقة بها كنسبة الوظيفة في علم منافع الأعضاء إلى ظواهر الحياة. وقال أرسطو النفس منها الغاذية ومنها الحساسة ومنها المحركة والناطقة ، وذهب بعض المتأخرين إلى أن ملكات النفس ثلاث ، وهي الحساسية والعقل والإرادة ، فكان الملكات عندهم أجناس كلية تندرج فيها ظواهر النفس.

(راجع المعجم الفلسفي ج ٢ ص ٤٢٠ ، ٤٢١).

١٦٥

تفرقة ، فإن كان هذا ضروريا فكذا ذاك ، وإن كان ذاك باطلا فكذا هذا ، وليس التعويل في بقاء الأعراض على مجرد المشاهدة ، أو على قياسها على الأجسام حتى يرد الاعتراض بأن الأمثال المتجددة على الاستمرار قد يشاهد أمرا مستمرا باقيا كالماء المصبوب من الأنبوب ، وبأن القياس على الجسم تمثيل بلا جامع ، ولا على أنه لما جاز وجود العرض في الزمان الثاني بطريق الإعادة مع تخلل (١) العدم فبدونه أولى لأنه ممنوع بمقدمتيه أعني الملازمة ، ووضع الملزوم ، كما أن التعويل في بقاء الأجسام ليس على المشاهدة (٢) ، أو الاستدلال بأنه لولاه لبطل الموت والحياة بناء على أن الحياة عبارة عن استمرار وجود الحيوان ، والموت عن زوالها لجواز أن تكون الحياة تجدد الأمثال على الاستمرار والموت انقطاعه.

__________________

(١) في (ب) الإعارة بدلا من (الإعادة).

(٢) المشاهدة : من منازل السالكين وأهل الاستقامة ، وهي منزلة عالية فوق منزلة المكاشفة. والمشاهدة ثلاث درجات .. مشاهدة فقط ، ومشاهدة معاينة ، ومشاهدة جمع (راجع بصائر ذوي التمييز ج ٣ ص ٣٥٦).

١٦٦

الفصل الثاني

في الكم وفيه مباحث

الأول : في أحكامه الكلية

الثاني : في الزمان

الثالث : في المكان

١٦٧
١٦٨

المبحث الأول

في الأحكام الكلية

(قال : المبحث الأول في أحكامه الكلية منها ، أي من (١) خواصه قبول القسمة لذاته ، وهما بأن يفرض فيه شيء غير شيء وبه عرفه الجمهور ، أو فعلا بأن ينفك ، ومنها قبول المساواة واللامساواة ، وهي فرع الأولى ، وعند الإمام بالعكس ، ومنها الاشتمال على العاد. وزعم الإمام أنه الصالح للتعريف (٢) إذ المساواة اتفاق في الكم فيدور قبول القسمة مختص بالمتصل فلا ينعكس ، وكأنه أخذ القبول منافيا للحصول ، ولذا قال إلا إذا أخذ القبول باشتراك الاسم ، وأما حمله على أنه أحد القسمة الانفكاكية فغلط بتصريحه بامتناعها في المقدار.

والمنفصل من الكم ما لا يكون لأجزائه حد مشترك وهو العدد لا غير ، إذ قبول الانقسام للقبول (٣) عرضي).

للأحكام الكلية ، وللزمان ، وللمكان ، فمن الأحكام الكلية بيان خواصها وهي ثلاث :

الأولى : قبول القسمة لذاته حتى إن غيره من الأجسام والأعراض إنما تقبل القسمة بواسطته ، والقسمة تطلق على الوهمية وذلك بأن يفرض فيه شيء

__________________

(١) في (أ) و (ب) أي بدلا من (ان).

(٢) في (أ) و (ب) لتعريفه.

(٣) في (أ) و (ب) المقبول بدلا من (للقبول).

١٦٩

من غير شيء ، وعلى الفعلية بأن ينفصل وينقطع بالفعل ، أو يحدث له هويتان بعد أن كانت هوية واحدة. والجمهور عرفوا الكم (١) بقبول القسمة فقالوا : هو عرض يقبل القسمة لذاته والمراد الوهمية لما سيجيء.

الثانية : قبول المساواة أو اللامساواة بمعنى أنه إذا نسب إلى كم آخر فإما أن يكون مساويا له ، أو أزيد ، أو أنقص ، وهذه الخاصة. فرع الأولى لأنه لما اشتمل على أجزاء وهمية أو فعلية لزم عند نسبته إلى كم آخر أن يكون عدد أجزائهما على التساوي ، أو على التفاوت.

وقال الإمام : إن قبول الانقسام إنما يلزم الكم بسبب الخاصة الأولى ، لأنه لما كانت الأجسام يتقدر بعضها بالبعض من غير لزوم المساواة وجب أن يكون فيها ما يقبل المساواة ، أو اللامساواة لذاته. وهو المقدار ، ولا يتصور اللامساواة إلا بأن يشتمل أحدهما على مثل الآخر مع زيادة ، فلزم أن يقبل القسمة ، أي فرض شيء غير شيء.

الثالثة : اشتماله على أمر يعده أي (٢) يعينه بالإسقاط عنه مرارا إما بالفعل كما في الكم المنفصل ، فإن الأربعة تعد بالواحد أربع مرات ، وإما بالقوة كما في المتصل ، فإن السنة تعد بالشهور ، والشهور بالأيام ، واليوم بالساعات ،

__________________

(١) الكم : في الرياضيات هو المقدار ، وهو ما يقبل القياس ، وقيل : إنه الذي يمكن أن يوجد فيه شيء يكون واحدا عادا له ، سواء كان موجودا بالفعل أو بالقوة وقيل : إنه عرض يقبل لذاته القسمة والمساواة ، واللامساواة والزيادة والنقصان. والكم في علم ما بعد الطبيعة مقابل الكيف ، وهو من مقولات العقل الأساسية ويطلق على جميع المعاني التي يتناولها علم الحساب وعلم الهندسة وعلم الميكانيكا ، كالعدد والمقدار والامتداد والكتلة والحركة إلخ.

والكمي : هو المنسوب إلى الكم تقول : مذهب اللذات الكمي. و (الكوانتم) في الفلسفة الحديثة هو الكمية المتناهية المحددة ، أو الشيء الذي يمكن أن يحمل عليه الكم ، كالزمان والمكان.

(٢) في (ب) بعده وهو تحريف.

١٧٠

وكذلك الذراع (١) يعد بالقبضات (٢) والقبضة بالأصابع ، والأصبع بالشعيرات ، والشعيرة بالشعرات. وذكر الإمام أن هذه الخاصة هي التي تصلح لتعريف الكم بها لا الأولى ، لأن المساواة لا تعرف إلا بالاتفاق في الكمية فيكون تعريف الكم بها دور ، إلا أن يقال المساواة واللامساواة مما يدرك بالحس ، لكن مع المحل لا مفردا فإنه لا ينال (٣) إلا بالعقل فقصد تعريف. ذلك (٤) المعقول بهذا المحسوس ، ولا بالثانية لأن قبول القسمة من عوارض الكم المتصل لا المنفصل ، فلا يشمله التعريف فلا ينعكس.

وأرى أنه بنى ذلك على أن قبول الشيء عبارة عن إمكان حصوله من غير حصول بالفعل ، ولا شك أن الانقسام في الكم المنفصل حاصل بالفعل ، وأما إذا أريد بالقبول أعم من ذلك أعني (إمكان فرض شيء غير شيء فلا خفاء في شموله المتصل والمنفصل ولذا قال الإمام إن قبول القسمة من عوارض المتصل دون المنفصل) (٥) إلا إذا أخذ القبول باشتراك الاسم ، وأما ما وقع في المواقف من أنه كأنه أخذ القسمة الانفكاكية فسهو ظاهر (٦) ، لأن الإمام قد صرح في هذا الموضع بأن القسمة (٧) الانفكاكية يستحيل عروضها للمقدار إذ

__________________

(١) الذراع : مقياس مصري ، فالذراع المعماري يساوي ٢٤ ، ٣ شبرا و ٧٥ ، من المتر ٤٦١ ، ٢ قدم. والذراع الاسلامبولي يساوي ٩ ، ٢ شبرا و ٦٧ ، من المتر ١٨٨ ، ٢ قدم.

(٢) القبضة : في حساب عقد الأصابع علامة ثلاثة وتسعين. يقال هذا الرجل قد ناهز القبضة. أي قارب أن يكون عمره ثلاثا وتسعين.

(راجع دائرة معارف القرن العشرين ج ٧ ص ٦١١).

(٣) في (ب) يقال وهو تحريف.

(٤) في (ب) يعرف ذلك.

(٥) سقط من (ب) من أول : ولذا قال إلى قوله : دون المنفصل.

(٦) في (ب) فهو بدلا من (فهو).

(٧) القسمة : في اللغة قسم من انقسام الشيء ، وعند الرياضيين تجزئة الشيء ، فإذا أردت أن تقدم عددا على آخر جزأت الأول بقدر العدد الثاني ويسمى الأول بالمقسوم والثاني بالمقسوم عليه ، والناتج خارج القسمة. أما عند المنطقيين فالقسمة مرادفة للتقسيم ، وهو إرجاع التصور إلى أقسامه ، ولها عندهم وجهان : الأول : إرجاع المركب إلى أجزائه أو عناصره ، ويسمى هذا الإرجاع تجزئة أو تحليلا. والثاني إرجاع الكلى إلى جزئياته أو انقسام الكلي بحسب الما صدق إلى أصناف أو أفراد تندرج تحته ، وسبيل ذلك أن يضاف إلى ذلك الكلى قيد يخصصه فينشأ عن هذه الإضافة مفهوم يسمى قسما.

والقسمة عند أفلاطون : طريقة الجدل الهابط الذي يرتب المثل فى أجناس وأنواع.

١٧١

عندها لا يبطل المقدار ويحدث مقداران آخران.

نعم المقدار يهيئ المادة لقبول الانقسام ، لكن لا يلزم حصول ذلك الاستعداد في نفس المقدار ، ولا بقاء المقدار عند حصول الانقسام ، كالحركة تهيئ الجسم للسكون الطبيعي ، ولا تبقى معه (١).

(قال : والمتصل بخلافه فإن كان غير قار (٢) فزمان وإلا فمقدار خط إن قبل القسمة في جهة فقط وسطح أن قبلهما في جهتين فقط وجسم تعليمي إن قبلها في الجهات).

قال : والمتصل من أحكام الكم انقسامه إلى المتصل والمنفصل ، ثم المتصل إلى أقسامه ، فالكم إما أن يكون لأجزائه المفروضة حد مشترك ، أو لا.

الثاني : المنفصل وهو العدد لا غير ، لأن حقيقته ما يجتمع من (٣) الوحدات بالذات ولا معنى للعدد سوى ذلك ، وغيره إنما يتصف بذلك لكونه معروضا للعدد لكون أجزائه معروضا للوحدة. كالقول الذي يوهم أنه كم منفصل على ما يستحق في بحث الحروف ، والأول المتصل ، وهو إما أن يكون قار الذات أي مجتمع الأجزاء في الوجود ، أو لا ، الثاني الزمان ، والأول المقدار وهو إن قبل القسمة في وجهة واحدة فقط فخط ، وإن قبلها في جهتين فقط فسطح ، وإن قبلها في جهات فجسم تعليمي ، فالخط امتداد واحد لا يحتمل إلا تجزئة في جهة ، والسطح امتداد يحتمل التجزئة في جهة ، وأمكن أن يعارضها تجزئة أخرى قائمة عليها حتى يمكن فيها فرض بعدين على قوائم ، ولا يمكن غير ذلك ، والجسم يحتمل التجزئة في ثلاث جهات ، وحقيقته كمية ممتدة في الجهات المتناهية بالسطح الواحد المحيط ، أو بالسطوح لها باعتبار كل جهة

__________________

(١) في (أ) و (ب) قادر وهو تحريف.

(٢) في (ب) ينفي بدلا من (يبقى).

(٣) في (ب) على بدلا من حرف الجر (من).

١٧٢

امتداد لازم كما في الفلك ، أو غير لازم ، بل متغير كما في (الشمعة مثلا بين السطوح الستة للمربع جوهر متحيز هو الجسم الطبيعي وكمية قائمة به سارية فيه هو الجسم العليمي ويسمى باعتبار كونه حشوا بين السطوح (١)). أو جوانب السطوح الواحد المحيط تحتا (٢) باعتبار كونه نازلا من فوق عمقا ، وباعتبار كونه صاعدا من تحت سمكا. والثلاثة كم متصل.

لأن الأجزاء المفروضة للخط تتلاقى على نقطة مشتركة ، وللسطح على خط مشترك ، وللجسم على سطح مشترك ، وكذا الزمان إذا اعتبر انقسامه يتوهم فيه شيء هو الآن يكون نهاية للماضي ، وبداية للمستقبل بخلاف الخمسة فإنها إذا انقسمت إلى اثنين وثلاثة لم يكن هناك حد مشترك ، وإن عين واحد من الخمسة للاشتراك كان الباقي أربعة لا خمسة ، وإن أخذ واحد (٣) خارج صارت الخمسة ستة.

(قال : ويختص بإمكان أن يوجد (٤) بشرط لا شيء ، وإن اشتركت في إمكان الأخذ لا بشرط شيء).

قال : ويختص يعني أن الجسم التعليمي يمكن أن يتخيل بشرط أن لا يكون (٥) معه غيره حتى إن أصحاب الخلاء جوزوا وجود ذلك في الخارج أيضا ، وأما السطح ، والخط فلا يمكن أخذهما كذلك ، وإلا لأمكن (٦) تخيل السطح بشرط عدم الجسم والخط بشرط عدم السطح ، وحينئذ يلزم أن يكون للسطح حد من جهة العمق كما له حدان من جهة الطول والعرض ، وأن يكون للخط حدان من جهة العرض والعمق ، كما له حد من جهة الطول ، فيكون

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) في (أ) سخنا هو تحريف.

(٣) في (ب) حدا وهو تحريف.

(٤) في (ب) يؤخذ بدلا من (يوجد).

(٥) في (أ) بزيادة (لا).

(٦) في (ب) لا يمكن.

١٧٣

المتخيل جسما لا سطحا ، أو خطا ، هذا خلف (١) ، ويشترك الثلاثة في إمكان أخذها لا بشرط شيء ، كما إذا تخيلنا مجموع الأبعاد الثلاثة ، من غير التفات إلى شيء آخر من المادة وعوارضها كان ذلك (٢) المتخيل جسما تعليميا وينتهي بالسطح ، فإذا تخيلناه من غير التفات إلى غيره كان سطحا تعليميا ، وينتهي بالخط ، فإذا تخيلناه من غير التفات إلى شيء من السطوح وغيرها كان خطا تعليميا.

انقسام الكم إلى الذاتي والعرضي

(قال : والكم منه ذاتي ، ولا يقبل التضاد ، ولا الاشتداد ومنه عرضي ، وهو المحل للذاتي أو الحال فيه ، أو في محله ، أو المتعلق به ، كما في اتصاف القوى بالتناهي ، واللاتناهي ، باعتبار آثارها).

قال : ومن الكم قد يقال الكم لما يقبل القسمة فيقسم إلى الذاتي والعرضي لأن قبول القسمة إن كان لذاته فذاتي كالعدد (٣) ، والزمان ، والمقدار ، وإلا فعرضي بأن يكون محلا للذاتي كالمعدود ، والحركة ، والجسم ، أو حالا فيه كالشكل ، أو في محله كبياض الجسم ، أو متعلقا بمحله كالقوى التي تتصف بتناهي الآثار ، ولا تناهيها. والكم بالذات لا يقبل الشدة والضعف ، إذ لا يعقل عدد أو مقدار أشد في العددية أو المقدارية ، وإنما يقبل الزيادة ، والنقصان ، والكثرة ، والقلة ، والفرق بينهما أن تعقل كل من الزيادة والنقصان

__________________

(١) في (أ) محال بدلا من (خلف).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (ذلك).

(٣) العدد : أحد المفاهيم العقلية الأساسية ، وهو بهذا الاعتبار لا يحتاج إلى التعريف إلا أن بعض العلماء يعرفونه بنسبته إلى غيره من المعاني القريبة منه فيقولون العدد هو الكمية المؤتلفة من الوحدات أو الكمية المؤلفة من نسبة الكثرة إلى الواحد ، ويسمى بالكم المنفصل ، لأن كل واحد من أجزائه منفصل عن الآخر دون اشتراك بينها بخلاف الكم المتصل وهو ما كان بين أجزائه حد مشترك. وعلم العدد هو العلم الرياضي المحض ، وينقسم إلى علم الكم المنفصل ، كالحساب والجبر. وعلم الكم المتصل ، كعلم الهندسة وحساب اللانهايات.

١٧٤

لا يكون إلا بالقياس إلى تعقل الآخر بخلاف الكثرة والقلة ، والفرق بينهما وبين الاشتداد أن العدد إذا كثر والخط إذا زاد أمكن أن يشار فيه إلى مثل ما كان مع الزيادة ، بأن يقال : هذا هو الأصل ، وهذا هو الزائد ، بخلاف ما إذا اشتد السواد ، وأيضا الكم بالذات لا يقبل التضاد ، أما العدد فلأن بعضه داخل في البعض ولا يتصور بين عددين غاية الخلاف ، ولا اتحاد الموضوع ، وأما المقدار فلأنه لا يعقل بين مقدارين غاية الخلاف ، ولا اتحاد الموضوع ، ولأن كلا منهما قابل للآخر أو مقبول له (١).

(قال : ولا تنافي بين الذاتي والعرضي ، فإن الزمان غير قار بالذات ، ومقدار للحركة المنطبقة على المسافة ، ولا بين كل قسمين من العرضي فإن الحركة يعرضها التجزي والتفاوت(٢) لقيامها بالمتجزي ، والتفاوت (٣) قلة وكثرة ، لانطباقها على المسافة وسرعة وبطء، لانطباقها على الزمان وقد بعرض المنفصل للمتصل كساعات النهار ، وقبضات الذارع).

قال : ولا تنافي ، يعني أن الشيء الواحد قد يكون كما بالذات وكما بالعرض كالزمان ، فإنه بالذات كم متصل غير قار ، وبالعرض كم منفصل (٤) قار ، لانطباقه على الحركة المنطبقة على المسافة ، التي هي مقدار ، وأيضا قد يكون الشيء الواحد (٥) كما بالعرض على وجهين ، أو أكثر من وجوه العرضية كالحركة ، فإنها كم بالعرض من جهة كونها حالة في محل للكم أعني الجسم المتحرك ولهذا يقبل التجزي ، فإن الحركة القائمة بنصف المتحرك نصف الحركة القائمة بالكل ، ومن جهة كونها منطبقة. (على الكم المتصل الذي هو المسافة ولهذا تتفاوت قلة وكثرة ، فإن الحركة إلى نصف المسافة أقل من الحركة إلى منتهاها ومن جهة كونها منطبقة) (٦).

__________________

(١) في (أ) بزيادة (أو).

(٢) في (ج) بزيادة لفظ (التفاوت).

(٣) سقط من (ج) لفظ (التفاوت).

(٤) في (ب) متصل بدلا من (منفصل).

(٥) سقط من (ب) لفظ الواحد.

(٦) ما بين القوسين سقط من (ب).

١٧٥

على الزمان الذي هو كم متصل غير قادر ، ولهذا يتفاوت بالسرعة والبطء ، فإن قطع المسافة المعينة في زمان أسرع منه في زمانين وقد يعرض الكم المنفصل للكم المتصل الغير القار ، أو القار كما يقال. هذا اليوم عشر ساعات ، وهذا الذراع ست قبضات.

(قال : المقدار قد يوجد (١) مع إضافة ويسمى الطول والعرض والعمق).

قال : والمقدار قد يؤخذ يعني أنه قد يراد بالطول والعرض والعمق نفس الامتدادات على ما مر ، فتكون كميات محضة ، وقد يراد بالطول البعد المفروض أو لا أو أطول الامتدادات ، أو البعد المأخوذ من رأس الإنسان إلى قدميه ، أو الحيوان إلى ذنبه ، أو من مركز الكرة إلى محيطها ، وبالعرض البعد المعروض (٢) ثانيا ، أو أقصر البعدين ، أو البعد الآخذ (٣) من يمين الحيوان إلى شماله ، وبالعمق البعد المفروض ثالثا والمتحيز (٤) : المعتبر من أعلى الشيء إلى أسفله ، أو فيما بين ظهر الحيوان وبطنه ، وحينئذ لا تكون كميات محضة بل مأخوذة مع إضافات ، ولهذا يصح سلبها عن الامتداد كما يقال هذا الخط طويل ، وذاك ليس بطويل ، وذلك السطح عريض ، وذاك ليس بعريض.

المقادير جواهر مجتمعة عند المتكلمين

(قال : وأنكر المتكلمون وجود العدد لما مر ، وجعلوا المقادير جواهر مجتمعة ، على أنحاء مختلفة ، أو أمورا عدمية لكونها نهايات وانقطاعات ، ورد الأول بتبدلها مع بقاء الجسم بعينه ويتوقف السطح على التناهي المفتقر إلى البرهان ، والخط في الكرة على الحركة أو القطع.

__________________

(١) في (ب) يؤخذ بدلا من (يوجد).

(٢) في (ب) المفروض بدلا من (المعروض).

(٣) في (أ) بزيادة (الآخذ).

(٤) في (أ) أو السخن بدلا من (المتحيز).

١٧٦

والثاني : بكونها ذوات أوضاع وأجيب بأن المتبدل أوضاع الجواهر والمتوقف على الغير كونها على حالة مخصوصة والإشارة إليها أنفسها).

قال : وأنكر المتكلمون : قد اشتهر خلاف من المتكلمين في وجود الكميات على الإطلاق ، أما العدد فلما مر في باب الوحدة والكثرة ، وكأنه مبني على نفي الوجود الذهني ، وإلا فالفلاسفة لا يجعلونه من الموجودات العينية ، بل من الاعتبارات الذهنية (١) ، وأما الزمان فلما سيأتي ، وأما المقادير فبناء على أن الجسم متألف من أجزاء لا يتجزأ مجتمعه على وجه التماس دون الاتصال الرافع للمفاصل والمقاطع ، والمجتمع من ترتبها على سمت واحد هو الخط ، وباعتباره يتصف بالطول ، وعلى سمتين هو السطح ، وباعتباره يتصف بالعرض والتفاوت راجع إلى قلة الأجزاء ، أو كثرتها ، ولو سلم أن المقادير ليست جواهر فهي أمور عدمية إذ السطح نهاية وانقطاع الجسم والخط للسطح كالنقطة للخط ، ولا يثبت للجسم التعليمي ، ولو ثبت فالمتألف من العدمي عدمي ، واحتج الحكماء على كون المقادير أعراضا لا جواهر هي أجزاء الجسم ، إما إجمالا فبأنها تتبدل مع بقاء الجسم بعينه ، كالشمعة المعينة تجعل تارة مدورا له سطح واحد لا خط فيه ، وتارة مكعبا لها سطوح ، وفيها خطوط ، والمكعب يجعل تارة مستطيلا يزداد طوله وينقص عرضه ، وتارة بالعكس ، وإما تفصيلا فبأن ثبوت السطح للجسم يتوقف على تناهيه ضرورة أن غير المتناهي لا يحيط به سطح ، وثبوت التناهي يفتقر إلى برهان يدل عليه ، كما سيجيء في بيان تناهي الأبعاد.

فلو كان السطح من أجزاء الجسم لما كان كذلك وثبوت الكرة (٢) للخيط يتوقف على حركتها الوضعية المستديرة ، لتحدث نقطتان لا يتحركان هما قطباها ، وبينهما خط هو المحور على محيطهما منطقة هي أعظم الدوائر ،

__________________

(١) الذهنية عند المنطقيين : قضية يكون الحكم فيها على الأفراد الذهنية وهي مقابلة للقضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها على جميع أفراد الموضوع ، ذهنيا كان أو خارجيا أو للقضايا الخارجية التي يكون الحكم فيها مخصوصا بالأفراد الخارجية.

(٢) في (ب) ثبوت الكثرة للخط.

١٧٧

وتتوقف على قطعهما لتحدث سطحا مستديرا هو دائرة محيط بها خط مستدير ، وما يتوقف ثبوته للشىء على الغير لا يكون نفسه ، ولا جزءا منه ، واحتجوا على كون المقادير وجودية بأنها ذوات أوضاع يشار إليها إشارة حسية بأنها هنا ، ولا إشارة إلى العدم. غاية ما في الباب أن عروض السطح للجسم التعليمي ، وعروض الخط للسطح ، وعروض النقطة للخط إنما يكون باعتبار التناهي ، وهو عدم الامتداد الآخذ في جهة ما ، بمعنى نفاد ذلك الامتداد وانقطاعه ، وهذا القدر لا يقتضي عدمية هذه الأمور لجواز أن يكون الوجودي مشروطا بالعدمي ومتصفا به ، وأجيب بأن الذي (١) يتغير ويتبدل مع بقاء الجسم هو وضع الجواهر المفردة (٢) بعضها مع بعض فقد تجتمع ، وقد تفترق ، ولكل من الاجتماع والافتراق هيئات مخصوصة ، فإن أريد بثبوت المقادير هذا فلا نزاع ، وإن أريد أعراض قائمة بالجسم ، غير أجزائه وهيئات ترتبها فممنوع ، ولا دلالة لما ذكرتم عليه ، وإنما يتم لو ثبت نفي الجزء الذي لا يتجزأ ، وما ذكر من توقف السطح والخط على أمر خارج عن الجسم ، وعما يتوقف عليه الجسم ليلزم كونهما عرضين ، فراجع إلى ما ذكرناه ، إذ حقيقتهما عندنا الجواهر الفردة (٣) لكن على وضع وترتيب مخصوص بأن يترتب على الطول من غير عرض ، أو على الطول والعرض من غير عمق ، والمتوقف على الغير هو تلك الحالة والترتيب المخصوص ، وما ذكر من كونها ذوات أوضاع ، فعندنا الإشارة إنما هي إلى نفس الجواهر الفردة المترتبة ترتبا مخصوصا ، والنهايات إعدام وانقطاعات بمعنى أنه ليست بعد تلك الجواهر جوهر آخر.

__________________

(١) سقط من (ب) بأن الذي.

(٢) في (ب) الفردة بدلا من (المفردة).

(٣) المتأخرون يجعلون الجوهر مرادفا للعين ويسمون الجزء الذي لا يتجزأ بالجوهر الفرد. (راجع شرح المواقف ج ٢ ص ١٩١).

الجوهر الفرد : لا شكل له باتفاق المتكلمين ، لأن الشكل هيئة أحاطها حد أو حدود والحد أي النهاية لا يعقل إلا بالنسبة إلى ذي النهاية ، فيكون هناك لا محالة جزءان. ثم قال القاضي : ولا يشبه الفرد شيئا من الأشكال لأن المشاكلة الاتحاد في الشكل ، فما لا شكل له كيف يشاكل غيره ..؟ وأما غير القاضي فلهم فيه اختلاف فقيل يشبه الكرة في عدم اختلاف الجوانب ، ولو كان مشابها للمضلع لاختلف جوانبه فكان منقسما. إلخ ...

(راجع كشاف اصطلاحات الفنون ج ١ ص ٢٩٠ وما بعدها).

١٧٨

المبحث الثاني

في الزمان(١)

(قال : أنكره المتكلمون لوجوده :

الأول : أنه لو وجد لتقدم بعض أجزائه بالضرورة وليس إلا بالزمان فيتسلسل.

ورد : بأنه بالذات فإن تقدم الأمس على اليوم لا يفتقر إلى عارض.

الثاني : الزمان إما ماض أو مستقبل ولا وجود لهما ، أو حاضر ولو وجد لكان غير منقسم ضرورة امتناع اجتماع أجزاء الزمان في الوجود ، وحينئذ يلزم تناهي الآنات المستلزم لوجود الجزء الذي لا يتجزأ ، وهذا بخلاف الحركة ، فإن الموجود منها هو الحصول في الوسط وهو مستمر من المبدأ إلى المنتهى ، ولا يصح في الزمان للقطع بأن زمان الطوفان لا يوجد الآن ، ورد بأنا لا نسلم (٢) أنه لا وجود لهما مطلقا ، بل في الحال وعلى التبادل فإن قيل :

__________________

(١) الزمان : الوقت كثيرة وقليله ، وهو المدة الواقعة بين حادثين أولاهما سابقه ، وثانيهما لا حقة ، ومنه زمان الحصاد ، وزمان الشباب ، وزمان الجاهلية ، وجمع الزمان أزمنة ، والزمان في أساطير اليونانيين هو الإله الذي ينضج الأشياء ويوصلها إلى نهايتها.

والفرق بين الزمان والدهر ، والسرمد ، أن نسبة المتغير إلى المتغير هي الزمان ، ونسبة الثابت إلى المتغير هي الدهر ، ونسبة الثابت إلى الثابت هي السرمد.

(٢) في (ب) ثم.

١٧٩

فلا الماضي في الماضي ولا لمستقبل في المستقبل لأنه يعود التقسيم السابق.

أجيب : بأن الموجود في أحد الأزمنة (١) أخص من مطلق الموجود ، وكذب الأخص لا يستلزم كذب الأعم ، فإن قيل إذا انحصر العام في عدة أمور كل منها معدوم كان معدوما بالضرورة ، ولذا قالوا لا وجود لجميع الحركات الماضية من الأزل وإلا فإما في الماضي أو المستقبل أو الحال والكل محال.

أجيب : بمنع الانحصار ، فإن من الموجودات ما لا يكون في شيء من الأزمنة كالزمان ، وإنما ذلك فيما يكون زمانيا كالحركة.

نعم يتم انحصار الزمان في الثلاثة بل في الماضي والمستقبل لكن وجودهما في نفسهما لا يستلزم وجودهما في زمان.)

قال : المبحث الثاني في الزمان.

احتج المتكلمون على نفيه بوجوه :

الأول : لو وجد لكان بعض أجزائه متقدما على البعض ، للقطع بأنه ليس أمرا قار الذات مجتمع الأجزاء ، بحيث يكون الحادث الآن حادثا يوم الطوفان (٢) بل لو وجد لم يكن إلا أمرا متقضيا متصرما يحدث جزء منه بعد جزء ،

__________________

(١) زعم المتكلمون : أن الزمان أمر اعتباري موهوم ، وعرفه الأشاعرة بقولهم : إنه متجدد معلوم يقدر به متجدد آخر موهوم.

وقال الرازي في المباحث المشرقية : إن للزمان كالحركة معنيين أحدهما أمر موجود في الخارج غير منقسم ، وهو مطابق للحركة وثانيهما أمر متوهم لا وجود له في الخارج.

(٢) يوم الطوفان : هو اليوم الذي غرق فيه قوم نوح قال تعالى : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) (سورة العنكبوت آية ١٤) والطوفان : المطر الغالب ، والماء الغالب يغشى كل شيء وقيل هو الموت الذريع الجارف ، وقيل السيل ، وقيل القتل الذريع ، وقيل الطوفان من كل شيء ما كان كثيرا مطيفا بالجماعة ، وقيل كل حادثة تحيط بالإنسان ثم صار متعارفا في الماء المتناهي في الكثرة وقال الأخفش الواحد في القياس طوفانه وأنشد :

غير الجدة من آياتها

خرق الريح وطوفان المطر

وطوف تطويفا أكثر من الطوفان قال الشاعر : ـ

أطوف ما أطوف ثم آوي

إلى بيت قعيدته لكاع

١٨٠