شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

١

٢

٣
٤

المنهج الثالث

القدم والحدوث

وفيه مبحثان :

١ ـ الأول في تفسيرهما وأقسامهما

٢ ـ زعم الفلاسفة أن كل حادث لا بد له من مادة ومدة وما يتعلق بذلك

٥
٦

المبحث الأول

في تفسيرهما وأقسامهما وما يتعلق بذلك

(المبحث الأول : (١) قد يراد بهما (٢) عدم المسبوقية بالغير والمسبوقية (٣) به (٤) ، وقد يخص الغير بالعدم وهو المتعارف ، وقد يقالان باعتبار تفاوت ما مضى من زمان الوجود زيادة ونقصا ، فالقدم الذاتي أخص من الزماني ، وهو من الإضافي والحدوث بالعكس).

والمتصف بهما حقيقة هو الوجود ، وأما الموجود فباعتباره ، وقد يتصف بهما العدم ، فيقال للعدم الغير المسبوق بالوجود قديم ، وللمسبوق حادث ، ثم كل من القدم والحدوث قد يوجد حقيقيا ، وقد يوجد (٥) إضافيا.

أما الحقيقي فقد يراد بالقدم عدم المسبوقية بالغير ، وبالحدوث المسبوقية به ، ويسمى ذاتيا ، وقد يخص الغير بالعدم ، فيراد بالقدم عدم المسبوقية بالعدم ، وبالحدوث المسبوقية به ، وهو معنى الخروج من العدم إلى الوجود ، ويسمى زمانيا ، وهذا (٦) هو المتعارف عند الجمهور ، وأما الإضافي ، فيراد بالقدم كون ما مضى من زمان وجود الشيء أكثر ، وبالحدوث كونه أقل.

__________________

(١) في تفسيرهما وأقسامهما وما يتعلق بذلك. والثاني : فيما زعمت الفلاسفة من أن كل حادث لا بد له من مادة ومدة وما يتعلق بذلك.

(٢) القدم والحدوث.

(٣) أي كون وجود الشيء لم يسبق بغيره وسواء كان ذلك الغير عدما أم لا.

(٤) فعدم المسبوقية بالغير هو القدم والمسبوقية به هو الحدوث.

(٥) في (ب) وقد يؤخذ بدلا من (يوجد).

(٦) سقط من (ب) لفظ (وهذا).

٧

فالقدم الذاتي أخص من الزماني ، والزماني من الإضافي ، بمعنى أن كل ما ليس مسبوقا بالغير أصلا ليس مسبوقا بالعدم ، ولا عكس ، كما في صفات الواجب ، وكل ما ليس مسبوقا بالعدم ، فما مضى من زمان وجوده يكون أكثر بالنسبة إلى ما حدث بعده ولا عكس ، كالأب ، فإنه أقدم من الابن ، وليس قديما بالزمان ، والحدوث الإضافي أخص من الزماني ، والزماني من الذاتي ، بمعنى أن كل ما يكون زمان وجوده الماضي أقل فهو (١) مسبوق بالعدم ، ولا عكس ، وكل ما هو مسبوق بالعدم ، فهو مسبوق بالغير ولا عكس.

(قال : لا قديم بالذات (٢) سوى الله تعالى (٣) ، وأما بالزمان (٤) فزادت الفلاسفة كثيرا من الممكنات (٥) ، والمتكلمون صفات الله تعالى (٦) ، ولزم المعتزلة حيث جعلوا العالمية ، والقادرية ، والحيية ، والموجدية ، أحوالا ثابتة في الأزل مع الذات ، ولا نعني بالوجود إلا ما عنوا بالثبوت).

لما سيأتي من أدلة توحيد الواجب ، وما وقع في عبارة بعضهم ، من (٧) أن صفات الله تعالى واجبة أو قديمة بالذات ، فمعناه بذات الواجب بمعنى أنها لا تفتقر إلى غير الذات. وأما القديم بالزمان ، فجعله الفلاسفة شاملا لكثير من الممكنات كالمجردات والأفلاك وغير ذلك على ما سيأتي. والمتكلمون منا لصفات الله تعالى فقط ، حيث بينوا أن ما سوى ذات

__________________

(١) في (أ) فيكون بدلا من (فهو).

(٢) أي ليس مسبوقا بالغير.

(٣) فهو الذي لم يسبق بالغير.

(٤) بأن لم يكون وجوده مسبوقا وإن سبق بالغير فقد اقتضى كونه أعم صدقه على القديم بالذات لكن على اصطلاح الفلاسفة ، وأما أهل الحق فلا يطلق القديم بالزمن عندهم على الواجب تعالى لإيهامه الحدوث.

(٥) زعموا قدمها بالزمان كالمجرات التي هي العقول والنفوس والأفلاك فهي عندهم قديمة لكنها مسبوقة بذات الواجب تعالى فهي قديمة بالذات لا بالزمان.

(٦) سموا الصفات قديمة بالزمان نظرا إلى أنها لا بد من الذات فهي مسبوقة بالذات لعدم قيامها بنفسها.

(٧) سقط من (أ) حرف (من).

٨

الله تعالى وصفاته حادث بالزمان ، وأما المعتزلة فقد بالغوا في التوحيد ، فنفوا القدم الزماني أيضا عما سوى ذات الله تعالى ، ولم يقولوا بالصفات الزائدة القديمة ، إلا أن القائلين منهم بالحال. أثبتوا لله تعالى أحوالا أربعة : هي العالمية والقادرية والحيية والموجودية ، وزعموا أنها ثابتة في الأزل مع الذات ، وزاد أبو هاشم (١) حالة خامسة علة للأربعة مميزة للذات هي الإلهية ، فلزمهم القول بتعدد القدماء ، وهذا تفصيل ما قال الإمام في المحصل (٢) : أن المعتزلة ، وإن بالغوا في إنكار ثبوت القدماء ، لكنهم قالوا به في المعنى ، لأنهم قالوا : الأحوال الخمسة المذكورة ثابتة في الأزل مع الذات فالثابت في الأزل على هذا القول أمور قديمة ، ولا معنى للقديم إلا ذلك ، واعترض عليه الحكيم المحقق (٣) ، بأنهم يفرقون بين الوجود والثبوت ، ولا يجعلون الأحوال موجودة ، بل ثابتة ، فلا تدخل فيما ذكره الإمام ، من تفسير القديم ، بما لا أول لوجوده إلا أن يغير التفسير ، ويقول : القديم ما لا أول لثبوته ، وكان في قوم الإمام : ولا معنى للقديم إلا ذلك دفعا لهذا الاعتراض ، أي لا نعني بالوجود إلا ما عنوا بالثبوت ، فلا فرق في المعنى بين قولنا : لا أول لوجوده ، ولا أول لثبوته ، حتى لو نوقش (٤) في اللفظ غيرنا الوجود إلى الثبوت ، وما نقل في المواقف عن الإمام ، أن الأحوال الأربعة هي: الوجود ، والحياة ، والعلم ، والقدرة ، فلا يخلو عن تسامح (٥).

__________________

(١) أحد زعماء المعتزلة وقد ترجمنا له.

(٢) تم تحقيق هذا الكتاب للأستاذ طه عبد الرءوف وقامت بنشره (مكتبة الكليات الأزهرية) حسين امبابي وشريكه.

(٣) هو نصير الدين الطوسي.

(راجع ترجمة له وافية في الجزء الأول من هذا الكتاب).

(٤) في (ب) لو ناقش اللفظ بإسقاط حرف الجر (في).

(٥) سقط من (أ) لفظ (عن تسامح).

٩

القديم بالزمان يمتنع استناده إلى المختار

(والقديم بالزمان (١) يمتنع استناده إلى المختار لأن القصد إلى الإيجاد (٢) مقارن للعدم ضرورة ، والمنازع (٣) مكابر).

يعني أن أثر المؤثر المختار لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم ، لأن القصد إنما يتوجه إلى تحصيل ما ليس بحاصل ، وهذا متفق بين الفلاسفة ، والمتكلمين ، والنزاع فيه مكابرة ، وما نقل في المواقف عن الآمدي أنه قال : سبق الإيجاد قصدا ، كسبق الإيجاد إيجابا ، في جواز كونهما بالذات ، دون الزمان ، وفي جواز كون أثرهما قديما ، فلا يوجد في كتاب (٤) الأبكار إلا ما قال على سبيل الاعتراض ، من أنه لا يمتنع أن يكون وجود العالم أزليا ، مستندا إلى الواجب تعالى ، ويكونان معا في الوجود ، لا تقدم إلا بالذات ، كما في حركة اليد والخاتم ، وهو لا يشعر بابتنائه على كون الواجب مختارا ، لا موجبا ولذا (٥) مثل بحركة اليد والخاتم واقتصر في الجواب على دفع السند قائلا : لا نسلم استناد حركة الخاتم إلى حركة اليد ، بل هما معلولان لأمر خارج.

نعم. صرح في شرح الإشارات : بأن الفلاسفة لم يذهبوا إلى أن القديم يمتنع أن يكون فعلا لفاعل مختار ، ولا إلى أن المبدأ الأول ليس بقادر مختارا ، بل إلى أن قدرته واختياره لا يوجبان كثرة في ذاته ، وأن فاعليته ليست كفاعلية المختارين من الحيوان ، ولا كفاعلية المحبورين من ذوي الطبائع الجسمانية ، وإلى أنه أزلي تام في الفاعلية ، وأن العالم أزلي مستند إليه ، وأنت خبير بأن هذا احتراز عن شناعة نفي القدرة ، والاختيار عن الصانع ،

__________________

(١) بناء على عدم مرادفته للإضافي وصدقه على عير القديم فهو مستند لسابقه بالذات.

(٢) الذي به يتحقق تأثير المختار.

(٣) في عدم صحة كون القديم مستندا للمختار.

(٤) في (ب) فلا يوجد في ذات إنكارا لإنكار وهو تحريف.

(٥) في (ب) ولهذا بدلا من (ولذا).

١٠

وإلا فكونه عندهم موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار أشهر من أن يمنع.

(قال : دون الموجب لو أمكن (١) إذ في التخلف (٢) عن تمام العلة (٣) ترجح بلا مرجح ، وما يقال إن تأثير حال البقاء إيجاد للموجود مدفوع لما سبق).

أي لو أمكن مؤثر قديم موجب بالذات على ما يدعيه الفلاسفة لم يمتنع استناد الأثر القديم إليه ، بل وجب أن يكون معلوله الأول ، وسائر ما يصدر عنه بالذات ، أو بالوسائط القديمة قديما ، وإلا لكان وجوده بعد ذلك ترجحا بلا مرجح ، حيث لم يوجد في الأزل ، ووجد فيما لا يزال مع استواء الحالين نظرا إلى تمام العلة ، واستدل الإمام على امتناع استناد القديم إلى الموجب أيضا ، بأن تأثيره في شيء يمتنع أن يكون حال بقائه ، وإلا يلزم (٤) إيجاد الموجود ، فتعين أن يكون حال حدوثه أو عدمه ، فيكون حادثا لا قديما.

وجوابه. ما سبق أن الممتنع إيجاد الموجود بوجود حاصل بغير هذا الإيجاد ، هو غير لازم ، وأن معنى تأثير المؤثر في الشيء ، وإيجاده إياه حال بقائه ، هو أن وجوده يفتقر إلى وجود المؤثر ، ويدوم بدوامه ، من غير أن يكون هناك تحصيل ما لم يكن حاصلا ليلزم حدوثه.

القديم يمتنع عدمه

(قال : فالقديم (٥) يمتنع عدمه لأنه إما واجب (٦) أو مستند إليه (٧) بطريق

__________________

(١) التأثير بالإيجاب الذاتي ولكنه عند التحقيق لا يمكن ، ضرورة أن القديم إذا لم يكن مختارا فلا يتخلف عنه أثره ، وإذا لم يتخلف عنه كان قديما معه ، والقدم وجوب ينافي الأثرية.

(٢) أي لأجل أنه يتحقق في تخلف المعلول.

(٣) التي هي المستند إليه التام على هذا التقدير.

(٤) في (ب) لزم بدلا من (يلزم).

(٥) مطلقا سواء كان واجبا بالذات أو بالغير على رأي الفلاسفة.

(٦) واجب بالذات فامتناع عدمه ظاهر وإلا لم يكن واجبا.

(٧) في وجوده إليه أي الواجب بالذات.

١١

الإيجاب (١) ابتداء أو انتهاء ، لامتناع التسلسل من غير توقف على شرط حادث ضرورة ، فلو عدم عدم الواجب.

فإن قيل : فلا يكون إلا واجبا :

قلنا : امتناع العدم لتمام (٢) علة الوجود لا يستلزم الوجوب الذاتي).

(المبحث الثاني) لما امتنع استناد القديم إلى الفاعل بالاختيار ، فما ثبت (٣) قدمه يمتنع عدمه ، لأنه إما واجب لذاته ، وامتناع عدمه ظاهر ، وإما ممكن مستند إلى الواجب بطريق الإيجاب ، إما بلا واسطة كمعلولة الأول ، أو بواسطة قديمة كالثاني والثالث. لما سيأتي من امتناع التسلسل ، وأيا ما كان يمتنع عدمه ، لأنه لما كان من مقتضيات ذات الواجب ولوازمه ، بوسط أو بغير وسط ، لزم من (٤) إمكان عدمه إمكان عدم الواجب وهو محال.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يتوقف صدوره عن الموجب (٥) على شرط حادث.

قلنا : لأنه حينئذ يكون حادثا ، والكلام في القديم.

فإن قيل : فالقديم إذا امتنع عدمه كان واجبا لا ممكنا (٦).

قلنا : امتناع عدم الشيء لا ينافي إمكانه الذاتي ، لجواز أن لا يكون ذلك لذاته ، بل لتمام علته الموجبة ، فعندنا لما كان الواجب فاعلا بالاختيار لا موجبا بالذات ، لم يكن شيء من معلولاته قديما ممتنع العدم ، وإنما ذلك على رأي الفلاسفة.

__________________

(١) الذي لا يصح معه التخلف بوجه سواء كان هذا الواجب المستند لغيره أوجبه.

(٢) في (ج) التمايز على بدلا من (لتمام علة).

(٣) في (ب) يثبت قدمه بدلا من (ثبت).

(٤) في (أ) بزيادة (من).

(٥) في (ب) الواجب بدلا من (الموجب).

(٦) في (ب) بزيادة (ولا يكون غير هذا).

١٢

فإن قيل : صفات الواجب عندكم موجودات قديمة ، فيمتنع استناده إليه بطريق الاختيار ويتعين الإيجاب.

قلنا : علة الاحتياج إلى المؤثر عندنا الحدوث لا الإمكان ، وصفات الواجب وإن كانت مفتقرة إلى ذاته ، لا تكون آثارا له البتة (١) ، وإنما يمتنع عدمها لكونها من لوازم الذات. ولو سلم (٢) ، فالتأثير والتأثر إنما يكونان بين المتغايرين ، ولا تغاير هاهنا. وسيجيء لهذا زيادة بيان.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (البتة).

(٢) في (ب) ولو سلمنا بزيادة ضمير (المتكلمين).

١٣

المبحث الثاني

في زعم الفلاسفة أن الحادث له مادة ومدة

(قال : زعمت الفلاسفة أن كل حادث مسبوق بمادة ومدة (١).

أما المادة (٢). فلأنه قبل الوجود (٣) ممكن ، وإمكانه وجودي يفتقر إلى الحل ، وليس هو الحادث لامتناع تقدم الشيء على نفسه ، بخلاف إمكان لقديم.

ورد : بأنه إن أريد الإمكان الذاتي ، فلا نسلم أنه وجودي ، وإن أريد الاستعدادي المخالف له في اقتضاء الرجحان والتفاوت والتحقق. فلا نسلم أن كل حادث ممكن).

أي موجود بعدم العدم مسبوق بمادة ومدة. وعنوا بالمادة ، ما يكون موضوعا للحادث إن كان عرضا ، أو هيولا إن كان صورة ، أو متعلقة إن كان نفسا ، وبالمدة الزمان وبنوا على ذلك ، قدم المادة والزمان ، لا بمعنى أن محل هذا السواد ، ومحل هذه مثلا وبدون هذه النفس (٤) مثلا قديم لظهور استحالته ، ولا بمعنى أن قبل كل مادة مادة لا إلى بداية ، كما في الحركة والزمان ، (لأنه يستلزم اجتماع المواد الغير متناهية في الوجود ضرورة أن كلا منها جزء ما

__________________

(١) قصدوا بالمدة الزمن ، وبالمادة ما يكون موضوعا لحادث وهو ما يقوم وجوده وجود الحادث كالجرم بالنسبة إلى العرض.

(٢) فقد قالوا بسبقها لكل حادث.

(٣) أي قبل أن يوجد.

(٤) في (أ) وبدون هذه النفي.

١٤

تركب عنها وهو محال لما سيأتي بخلاف الحركة والزمان) (١) ، فإنهما على التحديد والانقضاء، بل بمعنى أنه لا بد أن يكون للمركب مادة بسيطة قديمة ، هي (٢) الحاصل للصور ، والأعراض الحادثة ، إذ (٣) لو كانت حادثة لكانت لها مادة أخرى وتسلسل.

واحتجوا على ثبوت المادة بأن الحادث قبل وجوده ممكن لامتناع الانقلاب ، وكل ممكن فله إمكان ، وهو وجودي لما سبق من الأدلة ، وليس بجوهر لكونه إضافيا بحقيقته ، فيكون عرضا ، فيستدعي محلا موجودا ليس هو نفس ذلك الحادث ، لامتناع تقدم الشيء على نفسه ، ولا أمرا منفصلا عنه ، لأنه لا معنى لقيام إمكان الشيء بالأمر المنفصل عنه بل متعلقا به ، وهو المعنى بالمادة ، وما توهم من أن إمكان الشيء هو اقتدار الفاعل عليه ، فيكون قائما بالفاعل فاسدا ، لأنه معلل بالإمكان وعدمه بعدمه ، فيقال. هذا مقدور لكونه ممكنا ، وذاك غير مقدور لكونه ممتنعا ، ولأنه لا يكون إلا بالقياس إلى القادر بخلاف الإمكان.

فإن قيل : الدليل منقوض بالممكن القديم كالمواد ، والمجردات ، فإنها ممكنة ، ولا مادة لها.

قلنا : إمكاناتها قائمة بها إذ ليس للقديم حالة ما قبل الوجود ، حتى يكون هناك (٤) إمكان يستدعي محلا غيره.

فإن قيل : إمكان الشيء صفة له ، فلا يقوم إلا به ، ولو سلم قيامه بمحله كما في الصور والأعراض ، لم يكن ذلك إلا حال وجودهما ، والكلام فيما قبل الوجود.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٢) في (ب) في بدلا من (هي).

(٣) في (ب) أن لو بدلا من إذ لو).

(٤) في (ب) له بدلا من (هناك).

١٥

قلنا : سنورد من كلامهم ما يدفع هذا الإشكال.

والجواب : أنه إن أريد بالإمكان ، الإمكان الذاتي (١) اللازم لماهية الممكن ، فلا نسلم أنه وجودي ، بمعنى كونه أمرا محققا يستدعي محلا موجودا في الخارج ، وقد مر بيان ضعف أدلتهم على ذلك ، وإن أريد الإمكان الاستعدادي ، فلا نسلم أن كل حادث فهو قبل وجوده ممكن بالإمكان الاستعدادي ، لجواز أن يحدث من غير أن يكون هناك مادة وأمور معدة لها ، إلى وجود ذلك الحادث ، ولا يكون هذا من الانقلاب في شيء ، لأن المقابل (٢) للوجوب والامتناع هو الإمكان الذاتي ، لا الاستعدادي ، وفي قوله المخالف له إشارة إلى التغاير بين الإمكانين ، وذلك من وجوه.

أحدها (٣) : أن الذاتي لا يقتضي رجحان الوجود أو العدم ، بل كلاهما بالنظر إليه على السواء ، والاستعدادي يقتضيه ، لأنه حالة مقربة للمادة إلى تأثير المؤثر فيها وإيجاد الحادث (٤).

وثانيها : أن الاستعدادي يتفاوت بالقرب والبعد ، فإن استعداد المضغة للإنسانية ، أقرب من استعداد العلقة ، وهو من النطفة ، وهو من المادة النباتية ، وهو من المعدنية ، وهو من العنصرية ، وهكذا حتى أن الهيولى الأولى أبعد الكل ولا كذلك الإمكان الذاتي. فإنه لا يتصور تفاوت واختلاف في إمكان وجود الإنسان لماهيته ، وما توهم من تفاوته عند اعتبار التعلق بأمر خارج ، كإمكان وجود الإنسان لماهيته بالنظر إلى العلقة والمضغة مثلا ، فعائد إلى الاستعدادي.

وثالثهما : أن الذاتي اعتبار عقلى ولا تحقق له في الأعيان بخلاف الاستعدادي ، فإنه كيفية حاصلة للشيء ، مهيئة إياه لإفاضة الفاعل وجود

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (الذاتي).

(٢) في (ب) القابل بدلا من (المقابل).

(٣) في (ب) أولها بدلا من (أحدهما).

(٤) في (ب) واتحاد بدلا من (إيجاد).

١٦

الحادث فيه ، كالصورة والعرض أو معه كالنفس مختلفة بالقرب والبعد والشدة والضعف ، بحسب حدوث شرط شرط وارتفاع مانع مانع مسماة بالقوة عند عدم الحادث زائلة عند وجوده (١) ككون الجسم في أوسط الحيز عند الوصول إلى نهايته ، وهل ذلك الزوال بواجب فيه تردد؟

(قال : فإن قيل : دوام المعلول بدوام علته التامة ضرورى (٢) فيمتنع استناد الحادث إلى القديم ، بل لا بد له من سبق حوادث متعاقبة (٣) مفيدة استعدادات متفاوتة مفتقرة إلى محل متعلق به (٤).

قلنا : القديم مختار يوجد الحادث متى شاء).

أعلم أن للفلاسفة في التقصي عن هذا الإشكال وجهين :

أحدهما : أن المراد الإمكان الذاتي ، ومعنى كون إمكان الحادث قبل وجوده وجوديا ، تعلقه بموضوع موجود في الخارج ، وتقريره أن الإمكان لا محالة يكون بالقياس إلى وجود ، والوجود إما بالذات ، كوجود البياض في نفسه ، وإما بالعرض كوجود الجسم أبيض ، أما الإمكان بالقياس إلى وجود بالعرض ، وهو إمكان أن يوجد شيء شيئا آخر ، أو يوجد له شيء آخر ، كالبياض للجسم ، والصورة للمادة ، والنفس للبدن ، ولا خفاء في احتياجه إلى وجود شيء حتى يوجد له شيء آخر ، وأما الإمكان بالقياس إلى وجود بالذات ، وهو إمكان وجود الشيء في نفسه ، فذلك الشيء إن (٥) كان مما يتعلق وجوده بالغير ، أي يكون بحيث إذا وجد كان موجودا في غيره كالعرض والصورة ، أو مع غيره كالنفس ، فهو كالأول في الاحتياج إلى موضوع يقوم به إمكان ذلك

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (وجوده).

(٢) أي لو صح تخلفه عنها احتاج في ترجح وجوده بعدها إلى مرجح ولا مرجح إلا الاختيار ، ولا اختيار للعلة فيلزم من تأخره ترجيح بلا مرجح لاستواء أوقات الحصول بالنظر إلى الحاصل وإلى العلة.

(٣) بعضها إثر بعض.

(٤) لاستحالة قيام الصفة بنفسها فتفتقر إلى محل وذلك المحل هو الذي نعني بالمادة.

(٥) في (ب) إذا بدلا من (إن).

١٧

الشيء قبل وجوده ، بمعنى كون ذلك الشيء في ذلك الموضوع أو معه بالقوة ، فهو صفة للموضوع من حيث هو (١) فيه كعرض في موضوع وصفة للشيء من حيث هو بالقياس إليه كإضافة المضاف إليه ، وإن لم يكن ذلك الشيء مما يتعلق وجوده بالغير ، بل يكون قائما بنفسه (٢) من غير تعلق بموضوع ، أو مادة ، فمثله لا يجوز أن يكون حادثا ، وإلا لكان إمكانه قبل حدوثه قائما بنفسه ، إذ لا علاقة له بشيء من الموضوعات ليقوم به ، وهو محال لأنه عرض لا جوهر ، وضعف هذا الوجه ظاهر ، لأن الإشكال عائد ، ولأنه لو ثبت أن إمكان الحادث عرضي يستدعي محلا ، أو استدل على ذلك استدلالا فاسدا. بأنه لو لم يكن إمكان الحادث أمرا موجودا لم يكن للحادث إمكان وجود ، فلم يكن ممكن الوجود على ما في الشفاء (٣) ، لم يحتج إلى ذكر (٤) من التفاصيل.

وثانيهما : أن المراد الإمكان الاستعدادي ، والدليل قائم على ثبوته لكل حادث وتقريره أن العلة التامة للحادث ، لا يجوز أن تكون ذات القديم وحده ، أو مع شرط قديم ، وإلا لزم قدم الحادث ، لأن المعلول دائم بدوام علته التامة بالضرورة ، لما في التخلف من الترجح بلا مرجح ، بل لا بد من شرط حادث ، وحدوثه يتوقف على شرط آخر حادث ، وهكذا إلى غير النهاية ، ويمتنع توقف الحادث على تلك الحوادث جملة لامتناع التسلسل ، ولأن مجموعها بحدوثه ، يفتقر إلى شرط آخر حادث ، فيكون داخلا خارجا ، وهو محال. بل لا بد من حوادث متعاقبة ، يكون كل سابق منها معدا لللاحق من غير اجتماع في الوجود كالحركات ، والأوضاع الفلكية ، ويحصل بحسبها للحادث حالات مقربة إلى الفيضان من العلة هي استعداداته المتفاوتة في

__________________

(١) في (ب) كونه بدلا من (هو فيه).

(٢) سقط من (أ) لفظ (نفسه).

(٣) كتاب الشفاء في المنطق : لأبي علي حسين بن عبد الله المعروف بابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ ه‍. قيل في ثمانية عشر مجلدا شرحه أبو عبد الله محمد بن أحمد الأديب التيجاني. قال الشيخ أبو سعيد أبو الخير :

قطعنا الأخوة عن معشر

بهم مرض من كتاب الشفا

فماتوا على دين رسطاليس

وعشنا على سنة المصطفى

(٤) في (ب) إلى ما ذكر.

١٨

القرب والبعد المفتقر إلى محل ليس هو نفس الحادث ، ولا أمرا منفصلا عنه لما تقدم ، بل متعلقا به ، هو المعنى بالمادة ، وهذا أيضا ضعيف ، لابتنائه على كون الصانع القديم موجبا بالذات ، إذ الفاعل بالاختيار يوجد الحادث متى تعلق به إرادته القديمة ، التي من شأنها الترجيح والتخصيص ، من غير توقف على شرط حادث.

وجوب سبق المدة لكل حادث

(وأما المدة (١) فلأن تعاقب الحوادث (٢) ، وسبق العدم على الوجود ، لا يتصور إلا بالزمان.

ورد : بأن مبنى الأول على ما مر ، والثاني على ما زعموا أن السبق ومقابلته يكون : إما بالعلية ، أو بالطبع (٣) ، أو بالزمان أو بالشرف ، أو بالرتبة (٤) الحسية ، أو العقلية طبعا أو وضعا.

وعندنا : قد يكون بالذات كما في أجزاء الزمان من غير افتقار إلى زمان آخر ، ولا يضرنا تسميته زمانيا ، على ما قال بعضهم إن السبق بالزمان قسمان (٥) وبعضهم إن الحقيقي منه ليس إلا الذي فيما بين أجزاء الزمان ، وإنما يعرض للغير بواسطته ، حتى إن مضى تقدم الأب على الابن ، تقدم زمانه على زمانه (٦) ، وقد يرجع الرتبى والشرفي أيضا (٧) إلى الزماني ، والزماني ما

__________________

(١) فقد قالوا : بوجوب سبقها كل حادث.

(٢) وجودا بأن لا يجتمع اثنان منها معا كما هو المستدل عليه بأن الحادث لا بد أن يستند إلى حادث وهلم إلى ما لا ينتهى.

(٣) وذلك بأن تكون طبيعية أي حقيقية المتقدم والمتأخر تقتضيان حاجة المتأخر منهما إلى المتقدم منهما.

(٤) بأن يكون مكان المتقدم منهما قبل مكان المتأخر سواء كانت المكانة حسية أو عقلية.

(٥) أحدهما أن يكون حصول المتقدم في زمن قبل حصول المتأخر ، وثانيهما : أن يكون تحقق المتقدم قبل تحقق المتأخر ، وإن وقعا معا في غير زمان.

(٦) أي الابن فقد ظهر أن هذا البعض سمي التقدم الذي بين أجزاء الزمان زمانيا وبالغ في تخصيصه باسم الزماني على رد المصطلح عليه في تسميته زمانيا إليه مع اعترافه بأن التقدم في أجزاء الزمان ليس واقعا في زمن هذا.

(٧) سقط من (ج) لفظ (أيضا).

١٩

إلى بالطبع ، فينحصر التقدم بالحقيقة فيما بالذات وما بالطبع (١)).

احتجوا على كون الحادث مسبوقا بالزمان بوجهين :

أحدهما : أنه لا بد له من سبق حوادث متعاقبة ، بمعنى حصول هذا بعد حصول ذاك ، بحيث لا يجتمع المتقدم والمتأخر ، وما ذاك إلا بالزمان.

وثانيهما : أنه لا معنى للحادث إلا ما يكون وجوده مسبوقا بالعدم ، وظاهر أن سبق عدم الشيء على وجوده لا يعقل إلا بالزمان ، وهذا التقرير لا يبتني على أن التقدم أمر وجودي ، وأنه هو الزمان حتى يرد الاعتراض بأنا لا نسلم أنه وجودي ، بل اعتباري يعرض للعدم أيضا ، والحاكم بثبوته الوهم وحكمه مردود ، كما في تحيز الباري حيث يحكم به الوهم ، بناء على أن ما يشاهد من الموجودات متحيزة ، وإنما يبتنى على صحة الحكم بأن هذا متقدم على ذلك كقدم (٢) الحادث على وجوده ، ولا خفاء في أنه حكم عقلي ضروري ، والزمان معروض التقدم لا نفسه.

والجواب : أن مبنى الأول على افتقار كل حادث إلى سبق حوادث متعاقبة ، وقد مر ما فيه.

ومبنى الثاني : على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن أقسام التقدم والتأخر والمعية منحصرة بحكم الاستقراء في خمسة ، بمعنى (٣) أن كلا منها يكون إما بالعلية ، كتقدم حركة اليد على حركة المفتاح ، وإما بالطبع كتقدم الجزء على الكل ، وإما بالزمان كتقدم الأب على الابن ، وإما بالشرف كتقدم المعلم (٤) على المتعلم ، وإما بالرتبة وهي قد تكون حسية بأن يكون الحكم بالترتيب ، وتقدم البعض على البعض مأخوذا من الحس لكونه في الأمور

__________________

(١) إذ الطبعي ما يكون فيه المتقدم معه الحصول المتأخر كالجزء مع الكل.

(٢) في (ب) كعدم الحادث بدلا من (كقدم).

(٣) في (ب) يعني بدلا من (بمعنى).

(٤) في (ب) العالم بدلا من (العلم).

٢٠