شرح المقاصد - ج ٢

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٢

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٤

الوجه الثاني : أن كل ما يصدر عن العلة ، فله ماهية ووجود ضرورة كونه أمرا موجودا وكل منهما معلول ، فيكون الصادر عن كل علة حتى الواحد المشخص (١) المحض متعددا.

وأجيب : بأنا لا نسلم كون الوجود مع الماهية متعددا بحسب الخارج لما سبق من أن زيادته على الماهية ، إنما هو بحسب الذهن فقط.

ولو سلم ، فلا نسلم أن كلا منهما معلول بل المعلول (٢) هو الوجود ، أو اتصاف الماهية به ، لأن هذا هو الحاصل من الفاعل.

الوجه الثالث : أن النقطة التي هي مركز الدائرة مبدأ محاذياته للنقط المفروضة على المحيط.

وأجيب بأن المحاذاة أمر اعتباري لا تحقق له في الخارج ، فلا يكون معلولا لشيء ولو سلم فمحاذاة النقطتين ، إضافة قائمة بهما ، أو بكل (٣) منهما إضافة قائمة بها ، فلا يكون فاعلا للمحاذيات على ما هو المتنازع.

ولو سلم فاختلاف الحيثية ظاهر لا مدفع له.

الوجه الرابع : أنه لو لم يصدر عن الواحد إلا الواحد ، لما صدر عن المعلول الأول إلا واحد هو الثاني ، وعنه واحد هو الثالث وهلم جرا (٤) فتكون الموجودات سلسلة واحدة ، ويلزم في كل موجودين فرضا أن يكون أحدهما علة للآخر ، والآخر معلولا له بوسط أو بغير وسط ، وهذا ظاهر البطلان.

وأجيب : بأن ذلك إنما يلزم لو لم يكن في المعلول الأول مع وحدته بالذات كثرة بحسب الجهات والاعتبارات ، ولو لم يصدر عن الواجب مع المعلول الأول أو يتوسطه شيء آخر وهكذا إلى ما لا يحصى (٥) بيانه على ما

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (المشخص).

(٢) في (أ) و (ج) بزيادة لفظ (هو).

(٣) في (ب) أو بكليهما بدلا من (أو بكل منهما).

(٤) في (ج) هكذا بدلا من (وهلم جرا).

(٥) فى (ب) يخفى بدلا من (يحصى).

١٠١

ذكروه : أنه إذا صدر عن المبدأ الأول الذي ليس فيه تكثر جهات واعتبارات شتى (١). كان ذلك الشيء واحدا بالحقيقة والذات ، لكن يعقل له بحسب الاعتبارات المختلفة أمور ستة هي : الوجود ، والهوية ، والإمكان ، والوجوب بالغير ، وتعقل ذاته ، وتعقل مبدئه. فيجوز أن يصدر عنه بحسب تلك الاعتبارات أمور متكثرة. ويظهر ابتداء سلاسل متعددة. وكذا يجوز أن يصدر عن ذلك الشيء الواحد (٢) الذي هو المعلول الأول معلول ثان. وعن المبدأ الأول يتوسطه معلول ثالث. ويتوسط المعلول الأول والثاني والثالث (٣) معلول رابع وهكذا عن كل معلول يتوسط ما فوقه أو ما تحته. وعن الواجب يتوسط ما تحته جملة أو فرادى ، فيكون هناك سلاسل غير محصورة ، ولبعض المحققين رسالة في تفصيل ذلك ، وأورد نبذا منه في شرحه للإشارات واعتراض الإمام بأن الوجود والوجوب والإمكان اعتبارات عقلية ، لا تصلح علة للأعيان الخارجية ، ولما كان ظاهرا أنها ليست عللا (٤) مستقلة ، بل شروطا ، وحيثيات تختلف بها أحوال (٥) العلة الموجودة.

اعترض : بأنه لو كفى مثل هذه الكثرة في أن يكون الواحد مصدرا للمعلولات الكثيرة. فذات الواجب تعالى تصلح أن تجعل (٦) مبدأ للممكنات باعتبار ماله من كثرة السلوب والإضافات من غير أن يجعل بعض معلولاته واسطة في ذلك. ويحكم بأن الصادر الأول عنه (٧) ليس إلا واحدا.

وأجيب : بأن السلوب والإضافات لا تعقل إلا بعد ثبوت الغير ، فلو كان لها دخل في ثبوت الغير لكان دورا.

__________________

(١) في (أ) شيء وفي (ب) شتى.

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (الواحد).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (الثالث).

(٤) في (ب) علة بدلا من (عللا).

(٥) سقط من (أ) لفظ (أحوال).

(٦) في (ب) لجعلها بدلا من (أن تجعل).

(٧) في (أ) بزيادة لفظ (له).

١٠٢

واعترض. بأن تعقلها إنما يتوقف على تعقل الغير لا على ثبوته ، والمتوقف عليها ثبوت الغير لا تعقله فلا دور.

والجواب : أن المراد أنه لا يصح الحكم بالسلوب والإضافات في نفس الأمر إلا بعد ثبوت الغير ضرورة اقتضاء السلب مسلوبا ، وبالإضافة منسوبا ، فلا يصح الحكم باستناد ثبوته إليها للزوم الدور.

١٠٣

المبحث الرابع

الواحد لا يكون قابلا وفاعلا

عند الفلاسفة

(قال : المبحث الرابع (١) : زعمت الفلاسفة أن الواحد لا يكون قابلا (٢) وفاعلا لأنهما أثران (٣) وقد مر ، ولأن نسبة الفاعل بالوجوب (٤) والقابل بالإمكان (٥).

والجواب : بعد تسليم كونها بالإمكان الخاص المنافي للوجوب أو بالإمكان العام الذي يمكن أن يتحقق بدون الوجوب أنه لا امتناع في الوجوب ، واللاوجوب بجهتين بحيثية (٦)).

من حيث هو واحد ، لا يكون قابلا للشيء ، وفاعلا له ، وبنوا على ذلك امتناع اتصاف الواجب بصفات حقيقية ، واحترز بقيد حيثية الوحدة عن مثل النار تفعل الحرارة بصورتها ، وتقبلها (٧) بمادتها ، وتمسكوا في ذلك بوجهين :

الأول : أن القبول والفعل أثران فلا يصدران عن واحد لما مر.

__________________

(١) من مباحث العلية والمعلولية.

(٢) للاتصاف بشيء.

(٣) مختلفان لظهور أن الفعل مرتب على القبول والشيء لا يترتب على نفسه.

(٤) لأن الفاعل عندهم علة الفعل.

(٥) ونسبة الفعل للقابل بالإمكان إذ قول الشيء لا يستلزم اتصاف القابل به فإذا اعتبر الفعل إلى القابل كان ذلك الفعل ممكنا.

(٦) سقط من (ج) لفظ (بحيثية).

(٧) في (أ) وتقيلها بمادتها وهو تحريف.

١٠٤

ورد : بعد تسليم كون القبول أثرا بأنا لا نسلم أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، على أنه لو صح ذلك لزم أن لا يكون الواحد قابلا لشيء وفاعلا لآخر. فإن دفع باختلاف الجهة ، فإن الفاعلية لذاته وقابليته ، باعتبار تأثره عما يوجد المقبول.

قلنا : فليكن حال (١) القابلية والفاعلية للشيء الواحد أيضا كذلك.

فإن قيل : الشيء لا يتأثر عن نفسه.

قلنا (٢) : أول المسألة ، ولم لا يجوز باعتبارين كالمعالج لنفسه.

فإن قيل : الكلام على تقدير (٣) اتحاد الجهة.

قلنا : فيكون لغوا إذ لا اتحاد جهة أصلا.

الثاني : أن نسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب ، ونسبة القابل إلى المقبول بالإمكان. لأن الفاعل التام للشىء من حيث هو فاعل يستلزمه ، والقابل له (٤) لا يستلزمه ، بل يمكن حصوله فيه ، فيكون قبول الشيء للشيء ، وفاعليته له متنافيين لتنافي لازميهما (٥) أعني الوجوب والإمكان.

واعترض. بأنه إنما هي (٦) إمكان عام ، لأن معنى قابلية الشيء للشيء أنه لا يمتنع حصوله فيه ، وهو لا ينافي الوجوب.

وقيل : بل معناه أنه لا يمتنع حصوله فيه ، ولا عدم حصوله. وهو معنى الإمكان الخاص ، ولو فرضناه الإمكان العام ، فليس معناه أحد نوعيه ، أعني الوجوب بل معناه مفهومه الأعم بحيث يحتمل الإمكان الخاص ، فينافي تعين الوجوب الذي لا يحتمله.

والجواب بعد تسليم ذلك : أنه يجوز أن يكون الشيء واجبا للشيء من حيث كونه فاعلا له ، غير واجب من حيث كونه قابلا له.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (حال).

(٢) في (ب) لنا بدلا من (قلنا).

(٣) في (ب) قبول بدلا من (تقدير).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (له).

(٥) في (ب) لتلازميهما وهو بعيد عن الصواب.

(٦) في (أ) بزيادة لفظ (إنما هي).

١٠٥

المبحث الخامس

لا تأثير للقوى الجسمانية

(قال : لا تاثير للقوى الجسمانية عندنا (١) فلا يشترط في ظهور أفعالها الوضع (٢) ، ولا يمتنع دوامها (٣) لخلق الله تعالى. وعند الفلاسفة (٤) يشترط في تأثيرها الوضع (٥) للقطع بأن النار لا تسخن إلا ما له بالنسبة إليه وضع مخصوص ، ويلزم تناهي فعلها بحسب الشدة ، وهو ظاهر (٦) ويتوسط المدة والعدة ، لأن القسرى يختلف باختلاف القابل والطبيعي باختلاف الفاعل ، لتفاوت الصغير والكبير في المفارقة ، وتساويهما في القبول ، لأن المفارقة للطبيعة ، التي هي في الكبير أقوى ، والقبول للجسمية التي هي فيهما على السواء. فاذا فرض في حركتيهما الاتحاد في المبدأ بتفاوت الجانب (٧) الآخر ويلزم التناهي ، ولا ينتقض (٨) بحركة الأفلاك لأنها (٩) تستند إلى إرادات من نفوسها المجردة (١٠). والجواب بعد تسليم التأثير منع كون القوة بقدر الحجم).

__________________

(١) يقصد أهل السنة. لأن النار لا تأثير لقوتها الحرارية في الجسم المتصل بها وكذا الطعام بالنسبة للشبع ، والماء بالنسبة للنبات والري.

(٢) أي لا يشترط لظهور تلك الأفعال وضع مخصوص.

(٣) أي دوام الأفعال المنسوبة لتلك القوى.

(٤) قوى الأجسام مؤثرة في أفعالها.

(٥) أي وضع مخصوص يكون عليه الجسم المؤثر فيه بالنسبة للمؤثر بقوته.

(٦) سقط من (أ) و (ب) وهو ظاهر وسقط من (ج) وبتوسط.

(٧) في (ج) اتحاد بدلا من (الجانب).

(٨) ولا ينتقض هذا الدليل إجمالا بحركة الأفلاك.

(٩) لأنها أي حركة الأفلاك لا يسلم استنادها ابتداء إلى قوى نفوس لها تأثير إرادات جزئية وهي حالة فيها.

(١٠) المنفصلة عن الأفلاك لعدم حلولها فيها.

١٠٦

القائلون باستناد الممكنات إلى الله تعالى ابتداء لا يثبتون للقوى الجسمانية تأثيرا ، ولا يشترطون في ظهور الأفعال المترتبة عليها بخلق الله تعالى وضعا ، ولا يمنعون دوام تلك الأفعال ، كما في نعيم الجنة وعذاب الجحيم.

وأما الفلاسفة فيثبتون لها تأثيرا ، ويشترطون فيه الوضع قطعا منهم بأن النار لا تسخن كل شيء ، والشمس لا يضيء بها كل شيء بل ماله بالنسبة إليهما وضع مخصوص ، بل ويقطعون بأنه يلزم تناهيها بحسب العدة والمدة والشدة ، بأن يكون عدد آثارها وحركاتها متناهيا ، وكذا زمانها في جانبي الازدياد والانتقاص ، بأن لا تزداد إلى غير نهاية ، ولا تنتقص إلى غير نهاية ، وذلك أن (١) المتصف حقيقة بالتناهي ، والا تناهي ، هو الكم المتصل أو المنفصل والقوة التي محلها جسم متناه إنما تتصف بهما باعتبار كمية (٢) المتعلق ، أعني الحركات والآثار الصادرة (٣) عنها ، إما كمية انفصالية وهي عدد الآثار ، وإما كمية اتصالية وهي زمان الآثار وهو (٤) مقدار ممكن فيه فرض التناهي واللاتناهي في جانب الازدياد وهو الاختلاف بحسب المدة ، وفي جانب الانتقاض وهو الاختلاف بحسب الشدة. بيان ذلك ان الشيء الذي يتعلق به شيء ذو مقدار أو عدد ، كالقوى التي يصدر عنها عمل متصل في زمان ، أو أعمال متوالية لها عدد ، فبفرض النهاية واللانهاية فيه يكون بحسب مقدار ذلك العمل ، أو عدد تلك (٥) الأعمال ، والذي بحسب المقدار يكون أما مع فرض وحدة العمل ، واتصال زمانه ، أو مع فرض الاتصال في العمل نفسه لا من حيث يعتبر وحدته أو كثرته ، وبهذه الاعتبارات تصير القوى أصنافا ثلاثة :

الأول : قوى تفرض صدور عمل واحد عنها (٦) في أزمنة مختلفة كرماة تقطع سهامهم مسافة محدودة في أزمنة مختلفة ، ولا محالة يكون التي زمانها أقل أشد

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (أن).

(٢) في (ب) هيئة بدلا من (كمية).

(٣) في (ب) الظاهرة بدلا من (الصادرة).

(٤) في (ب) وهي بدلا من (وهو).

(٥) في (ب) أو عدم بدلا من (عدد).

(٦) في (ب) لفظ منها بدلا من (عنها).

١٠٧

قوة عن التي زمانها أكثر ، ويجب من ذلك أن يقع عمل (١) غير المتناهية لا في زمان.

والثالث : قوى يفرض صدور أعمال متوالية عنها مختلفة بالعدد كرماة يختلف عدد رميهم ، ولا محالة يكون التي يصدر عنها عدد أكثر أقوى من التي يصدر عنها عدد أقل. ويجب من ذلك أن يكون لعمل (٢) غير المتناهية عدد غير متناه ، فالاختلاف الأول بالشدة ، والثاني بالمدة ، والثالث بالعدة ، ولما كان امتناع اللاتناهي بحسب الشدة وهو أن يقع الأثر في الزمان الذي هو في غاية (٣) القصر بل في الآن ظاهر الامتناع أن تقع الحركة إلا في زمان قابل للانقسام بحيث تكون القوة التي توقع الحركة في نصف ذلك الزمان أشد تأثيرا ، اقتصروا على بيان امتناع اللاتناهي بحسب العدة والمدة ، فقالوا لا شك ان التأثير القسرى يختلف باختلاف القابل المقسور ، بمعنى أنه كلما كان أكبر كان تحريك القاسر له أضعف لكون معاوقته (٤) وممانعته أكبر وأقوى ، لأنه إنما يعاوق (٥) بحسب طبيعته ، وهي في الجسم الكبير أقوى منها في الجسم الصغير لاشتماله على مثل طبيعة الصغير مع الزيادة ، فإذا فرضنا تحريك جسم بقوته جسما من مبدأ معين ، ثم تحريكه جسما آخر مماثلا له بحسب الطبيعة ، وأكبر منه بحسب المقدار بتلك البقوة بعينها ، ومن ذلك المبدأ بعينه لزم أن يتفاوت منتهى حركة الجسمين بأن تكون حركة الأصغر أكثر من حركة الأكبر لكون المعاوقة (٦) فيه أقل ، فبالضرورة تنتهي حركة الأكبر ويلزم منها (٧) انتهاء حركة الأصغر ، لأنها إنما تزيد على حركة الأكبر بقدر زيادة مقداره على مقدار الجسم (٨) إذ المفروض أنه لا تفاوت إلا بذلك. والتأثير الطبيعي يختلف باختلاف الفاعل.

بمعنى أنه كلما كان الجسم أعظم مقدارا كانت الطبيعة فيه أقوى وأكثر آثارا

__________________

(١) في (ب) على بدلا من (عمل).

(٢) في (أ) العمل بدلا من (لعمل).

(٣) في (ج) و (ب) بزيادة (هو).

(٤) في (أ) مفارقته بدلا من (معاوقته).

(٥) في (أ) يفارق بدلا من (يعاوق).

(٦) في (ب) المعاوقة بدلا من (المفارقة).

(٧) في (أ) منه بدلا من (منها).

(٨) سقط من (أ) لفظ (الجسم).

١٠٨

لأن القوى الجسمانية المتشابهة إنما تختلف باختلاف محالها بالصغر والكبر ، لكونها متجزئة بتجزئتها. وأما في قبول الحركة فالصغير والكبير فيه (١) متساويان لأن ذلك للجسمية ، وهي فيهما على السوية ، فإذا فرضنا حركة الصغير والكبير بالطبع من مبدأ معين لزم التفاوت (في الجانب الآخر ضرورة أن الجزء لا يقوى على ما يقوى عليه الكل ، فتنقطع حركة الصغير ، ويلزم منه انتهاء حركة الكبير لكونهما على نسبة جسميهما ، فقوله) (٢). لتفاوت الصغير والكبير بيان للاختلاف القسري ، باختلاف القابل ، وقوله : وتساويهما في القبول بيان لعدم اختلاف الطبيعي باختلاف القابل. وقوله : فإذا فرض في حركتيهما أي حركتي الصغير والكبير شروع في تقدير الدليل وهو جامع للقسري والطبيعي ، ولم يقع في كلام القوم إلا بطريق التفصيل على ما شرحناه. فإن نوقض الدليل إجمالا بالحركات الفلكية ، فإنها مع عدم (٣) تناهيها عندهم مستندة إلى قوى جسمانية لها إدراكات جزئية. إذ التعقل الكلي لا يكفي في جزئيات الحركة على ما سيجيء.

وتفصيلا بأنه لم لا يجوز أن تكون القوى الجسمانية أزلية (٤) لا يكون لحركاتها مبدأ ولو سلم فإنا لا نسلم إمكان ما فرضتم من اتحاد المبدأ ، بل مبدأ حركة الأصغر أصغر من مبدأ حركة الأكبر. ولو سلم فلم لا يجوز أن يكون التفاوت الذي لا بد منه (٥) هو التفاوت بالسرعة والبطء بأن يكون حركة الأصغر أسرع في القسرية ، وأبطأ في الطبيعية من غير انقطاع. ولو سلم فالتفاوت بالزيادة والنقصان لا يوجب الانقطاع كما إذا فرضنا لحركة فلك (٦) القمر ، وفلك زحل مبدأ من موازاة نقطة معينة من الفلك الأعظم ، فإن دورات القمر أضعاف دورات زحل مع عدم (٧) تناهيهما.

أجيب : عن الأول : بأن حركات الأفلاك إرادية (مستندة إلى إرادات وتعقلات جزئية مستندة) (٨). إلى نفوسها المجردة في ذواتها المقارنة في أفعالها

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (فيه).

(٢) سقط من (ب) ما بين القوسين.

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (عدم).

(٤) في (ب) لذاته وهو بعيد عن الصواب.

(٥) سقط من (ب) لفظ (بد).

(٦) في (ب) تلك وهو تحريف.

(٧) سقط من (أ) لفظ (عدم).

(٨) ما بين القوسين سقط من (ب).

١٠٩

بالمادة (١) المدركة للجزئيات بواسطة الآلات. وكلامنا في تأثير القوى الحالة في الأجسام.

وعن الثاني والثلث : بأن فرض المبدأ الواحد للحركتين بأن يعتبرا من نقطة واحدة من أوساط المسافة يماسها الطرف الذي يليها كاف في إثبات المطلوب ، ولا خفاء في إمكانه. وإن لم يكن للحركة بداية. وليس المراد بالمبدإ مجموع حيز الجسم حتى يكون مبدأ حركة الجسم(٢) الأصغر أصغر.

وعن الرابع : بأن الاختلاف بالسرعة والبطء يكون تفاوتا بحسب الشدة. وليس الكلام فيه ، بل في التفاوت بحسب المدة والعدة ، ومعناه الزيادة والنقصان في زمان الحركة وعددها.

وعن الخامس : بأن دورات القمر أن زحل (٣) ليست جملة موجودة يمكن الحكم عليها بالزيادة والنقصان ، ولا هناك أيضا قوة موجودة تستند تلك الدورات إليها ، بل إنما تستند إلى إرادات متجددة متعددة متعاقبة لا توجد إلا مع الحركات بخلاف ما نحن فيه ، فإن كون جملة الأفعال ، وإن لم تكن حاصلة (٤) في الحال لكن كون القوة قوية عليها أمر حاصل في الحال متفاوت بالزيادة والنقصان بالنسبة إلى تحريك الصغير والكبير وفي هذا نظر ، وعليه زيادة كلام يذكر في إبطال التسلسل.

وأجيب عن أصل الدليل بعد تسليم تأثير القوى ، بأن ما ذكرتم من اختلاف القسرية (٥) ، باختلاف القابل والطبيعة ، باختلاف الفاعل بحيث يكون تفاوت القوة على المعاوقة ، أو على التحريك في الجسم الصغير والكبير بنسبة مقداريهما حتى لو كان مقدار الصغير نصف مقدار الكبير ، كانت قوة معاوقته أو تحريكه ، نصف قوة (٦) معاوقة الكبير أو تحريكه ليلزم أن تكون حركته القسرية ضعف حركة الكبير وحركته الطبيعية نصفها ممنوع ، لجواز أن تكون القوة من الأعراض التي لا تنقسم بانقسام المحل كالوحدة والنقطة والأبوة (٧).

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (المادة).

(٢) سقط من (أ) لفظ (الجسم).

(٣) زحل : كوكب مشهور من السيارة.

(٤) سقط من (ب) و (ج) لفظ «حاصلة».

(٥) في (ب) الغيرية بدلا من (القسرية).

(٦) سقط من (ب) لفظ (قوة).

(٧) في (ب) والإبرة وهو تحريف.

١١٠

المبحث السادس

استحالة تراقى عروض العلية والمعلولية

(قال : المبحث السادس (١) : يستحيل تراقي عروض العلية والمعلولية لا إلى نهاية (٢) سواء كان في معروضات متناهية ، ويسمى دورا أو غير متناهية ، ويسمى تسلسلا (٣).

أما الأول : فلاستحالة تقدم الشيء على نفسه بالمعنى الذي يصح قولنا : (وجد فوجد على ما هو اللازم في العلية حيث يصح أن يقال) (٤) : وجدت حركة اليد ، فوجدت حركة الخاتم بخلاف العكس.

فإن قيل : تقدم الشيء على نفسه غير لازم ، لأن المحتاج إلى الشيء لا يلزم أن يكون محتاجا إلى ذلك الشيء ، اذ العلة القريبة كافية ، وإلا لزم التخلف ، ولأن الشيء يجوز أن يكون بماهيته علة لما هو علة ، لما هو علة لوجوده.

قلنا : ما لم توجد البعيدة لم توجد القريبة ، وما لم توجد القريبة لم توجد المعلول ، وهو معنى الاحتياج ، وما ذكر من كون الشيء بماهيته علة لما هو علة

__________________

(١) في استحالة الدور والتسلسل.

(٢) يعني أن العلية والمعلولية يستحيل أن يعرضا على وجه يتصاعد عروضهما فيه إلى غير نهاية وذلك بأن يكون ما فرضا فيه من المعروضات كلما عرض له أحدهما عرض له الآخر بحيث لا يقف ذلك العروض على معروض يعرض له أحدهما دون الآخر.

(٣) ولا ينافي عدم التناهي في المعروض التناهي في العدد وهو الدور.

(٤) ما بين القوسين سقط من (ج).

١١١

لوجوده (١) مع أنه محال (٢) ليس مما نحن فيه (٣)).

يريد بيان استحالة الدور والتسلسل ، وعبر عنهما بعبارة جامعة ، وهي أن يتراقى (٤) عروض العلية والمعلولية لا إلى نهاية ، بأن يكون كل ما هو معروض للعلية ، معروضا للمعلولية ، ولا ينتهي إلى ما تعرض له العلية دون المعلولية فإن كانت المعروضات متناهية فهو الدور بمرتبة ، إن كانا اثنتين ، وبمراتب إن كانت فوق الاثنتين ، وإلا فهو التسلسل ، أما بطلان الدور فلأنه يستلزم تقدم الشيء على نفسه ، وهو ضروري الاستحالة.

وجه الاستلزام أن الشيء إذا كان علة لآخر كان متقدما عليه ، وإذا كان الآخر علة له ، كان متقدما عليه. والمتقدم على المتقدم على الشيء متقدم على ذلك الشيء ، فيكون الشيء متقدما على نفسه ، ويلزمه كون الشيء متأخرا عن نفسه ، وهو معنى احتياجه إلى نفسه ، وتوقفه على نفسه ، والكل بديهي الاستحالة ، وربما يبين بأن التقدم أو التوقف أو الاحتياج نسبة لا تعقل إلا بين اثنين ، وبأن (٥) نسبة المحتاج إليه إلى المحتاج الوجوب وعكسها وتوقف الإمكان والكل ضعيف (٦). لأن التغاير الاعتباري كاف.

فإن قيل : إن أريد بتقدم الشيء على نفسه التقدم بالزمان فغير لازم في العلة أو بالعلية ، فنفس المدعى. لأن قولنا لشيء لا يتقدم على نفسه بالعلية بمنزلة قولنا : الشيء لا يكون علة لنفسه.

قلنا : المراد التقدم بالمعنى الذي يصحح قولنا : وجد فوجد على ما هو

__________________

(١) فيصدق أن الشيء كان علة لما هو علة له ولا يلزم في ذلك تقدم الشيء على وجود نفسه بل اللازم فيه.

(٢) محال في نفسه.

(٣) بتقدير تسليمه الذي نحن فيه والدور توقف الشيء على نفس ما يتوقف عليه لا توقف الشيء على نفس ماهية غيره.

(٤) في (ب) بتوالي بدلا من (يتراقي).

(٥) سقط من (ب) و (ج) حرف (أن).

(٦) في (أ) لا يرقي بدلا من (ضعيف).

١١٢

اللازم في كون الشيء علة للشيء ، بمعنى أنه ما لم توجد العلة لم يوجد المعلول ، ألا ترى أنه يصح أن يقال ، وجدت حركة اليد ، (١) فوجدت حركة الخاتم ولا يصح أن يقال : وجدت حركة الخاتم ، فوجدت حركة اليد ، ولا خفاء في استحالة ذلك بالنظر إلى الشيء ونفسه(٢).

فإن قيل : يجوز أن يكون الشيء علة لما هو علة له من غير لزوم تقدم الشيء على نفسه وسند (٣) والمنع وجهان :

الأول : أن المحتاج إلى المحتاج إلى الشيء لا يلزم أن يكون محتاجا إلى ذلك الشيء فإن العلة القريبة للشيء كافية في تحققه (٤) من غير احتياج إلى البعيدة ، وإلا لزم تخلف الشيء عن علته القريبة.

والثاني : أن يكون الشيء بماهيته علة لشيء وهو علة لوجود ذلك الشيء.

قلنا : اللزوم ضروري ، والسند مدفوع لأنه ما لم توجد العلة البعيدة للشيء لم توجد العلة القريبة ، وما لم توجد العلة القريبة لم يوجد ذلك الشيء.

(فما لم توجد البعيدة لم يوجد ذلك الشيء وهو معنى الاحتياج والتخلف. إنما يلزم لو وجدت القريبة بدون البعيدة من غير وجود المعلول ولأن كون ماهية الشيء) (٥) علة لما هو علة لوجوده ، مع أنه ظاهر الاستحالة (٦) ، لما فيه من وجود. المعلول قبل وجود العلة ليس مما نحن فيه. أعني الدور المفسر بتوقف الشيء على ما يتوقف عليه.

__________________

(١) في (ج) السيد بدل (اليد) وهو تحريف.

(٢) سقط من (ب) لفظ (ونفسه).

(٣) سقط من (أ) لفظ (سند).

(٤) في (ب) تحقيقه.

(٥) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٦) في (ج) مع ما فيه من ظهور الاستحالة.

١١٣

أدلة استحالة التسلسل

(قال : وأما الثاني فلوجوه (١) :

الأول : أنه لو لم تنته سلسلة المعلولات (٢) إلى علة محضة (٣) لكانت الجملة التي هي نفس مجموع الوجودات الممكنة المستند كل منها إلى الآخر موجودا ممكنا (٤) وفاعلها المستقبل ليس نفسها ولا جزءا منها لامتناع عليه الشيء لنفسه ولعلله ، بل خارج واجب ، فوجد بعض أجزاء السلسلة ، ويوجب انقطاعها ، وعدم استناد ذلك الجزء إلى جزء آخر لامتناع اجتماع المؤثرين ، وعلى هذا لا يرد ما يقال :

إن أريد بالعلة التامة. فلا نسلم استحالة كونها نفس الجملة. فإن التامة قد لا تتقدم كما في المركب وإن أريد الفاعل فلا نسلم استحاله كونه جزء الجملة فإن قد لا يكون فاعلا لكل جزء كالنجار للسرير (٥).

ولو سلم (٦) فلم لا يجوز أن تكون السلاسل غير متناهية (٧) ، فتكون العلة الخارجة عن هذه داخلة في تلك من غير انتهاء إلى الواجب.

ولو سلم ، فإنما يفيد ثبوت الواجب لا بطلان التسلسل على أنه منقوض بمجموع الممكنات مع الواجب. لكن يرد أنه إن أريد أن العلة المستقلة للمركب من الأجزاء الممكنة تكون علة لكل جزء بنفسها ، ففي المركب

__________________

(١) أبطل التسلسل بوجوه سبعة.

(٢) بأن تكون مترتبة على أن كل فرد منها له علة بحيث لا تنتهي تلك الأفراد.

(٣) محضة : أي خاصة. من كونها معلولة لأخرى ويلزم من ذلك كون تلك العلة واجبة ، وكل ممكن له علة.

(٤) أي يلزم على ما ذكر أن تكون تلك الجملة موجودا ممكنا.

(٥) فإنه فعل الجملة ولم يفعل كل جزء منه ، وإنما فعل الهيئة التركيبة دون المادة.

(٦) ما ذكر من امتناع كون فاعل الجملة غير فاعل لجميعها بل التزم كون فاعل الجملة لا بد أن يكون فاعلا لكل جزء فلا يكون الفاعل جزءا من تلك الجملة بعينها.

(٧) في نفسها فإنه كما صح فرض أفراد السلسلة الواحدة غير متناهية يصح فرض سلاسل لا تتناهى أفرادها.

١١٤

المرتب الأجزاء زمانا (١) يلزم تقدم المعلول أو تخلفه عن المستقل بالإيجاد وإن أريد أنها تكون علة لكل جزء إما بنفسها (٢) أو لجزء منها بحيث لا يكون علة شيء من الأجزاء خارجة عن علة المركب ، وتكون العلة المستقلة للمركب المرتب الأجزاء أيضا مرتبة الأجزاء. وفي أجزاء السلسلة لا يمتنع أن يكون علة بهذا المعنى.

كما قيل المعلول المحض لا إلى نهاية. فإنه يقع لكل جزء منه جزء من السلسلة وهكذا كل مجموع قبله ، ولا يقدح في استقلاله (٣) بالإيجاد (٤) احتياجه في الوجود إلى علله أو احتياج السلسلة إلى المعلول المحض أيضا ، وبهذا يبطل الاستدلال بأنه لا أولوية لبعض الأجزاء ، وبأن كل جزء يفرض فعليته أولى بالعلية (٥) هذا بعد تسليم احتياج السلسلة إلى غير علل الأجزاء ، كيف ولا وجود لها غير وجودات الأجزاء؟!).

احتجوا على بطلان التسلسل بوجوه :

الأول : أنه (٦) لو تسلسلت العلل والمعلولات من غير أن ينتهي إلى علة محضة لا يكون معلولا لشيء لكان هناك جملة هي نفس (٧) مجموع الممكنات الموجودة المعلول كل من آحادها واحد منها ، وتلك الجملة موجودة ممكنة (٨). أما الوجود فلانحصار أجزائها في الموجود. ومعلوم أن المركب لا يعدم إلا بعدم شيء من أجزائه. وأما الإمكان فلافتقارها إلى جزئها الممكن ومعلوم أن المفتقر إلى الممكن لا يكون إلا ممكنا ، ففي جعلها نفس الموجودات الممكنة تنبيه

__________________

(١) سقط من (ج) لفظ (زمانا).

(٢) في (ج) وإما بدلا من (أو).

(٣) أي استقلال ما قبل المعلول المحض وما قبل آخر كل مجموع.

(٤) أي لا يقدح في كونه مستقلا إيجاد المعلول.

(٥) وهذا الكلام كله إنما يحتاج إليه إذا أريد القدح في الدليل.

(٦) سقط من (ب) لفظ (أنه).

(٧) في (أ) بزيادة لفظ (نفس).

(٨) في (ب) موجود ممكن بحذف (التاء فيهما).

١١٥

على أنها مأخوذة بحيث لا يدخل فيها المعدوم أو الواجب لا يقال المركب من الأجزاء الموجودة قد يكون اعتباريا لا تحقق له في الخارج كالمركب من الحجر والإنسان ومن الأرض والسماء.

لأنا نقول : المراد أنه (١) ليس موجودا واحدا يقوم به وجود غير وجودات الأجزاء. وإلا فقد صرحوا بأن المركب الموجود في الخارج قد لا يكون له حقيقة مغايرة لحقيقة الآحاد كالعشرة من الرجال ، وقد يكون إما مع صورة ممنوعة كالنبات من العناصر ، وإما بدونها لا يزداد إلا هيئة (٢) اجتماعية كالسرير من الخشبات ، وإذا كانت الجملة موجودا ممكنا ، فموجدها بالاستقلال.

أما نفسها وهو ظاهر (٣) الاستحالة ، وأما جزء منها ، وهو أيضا محال لاستلزامه كون ذلك الجزء علة لنفسه ولعلله لأنه لا معنى لإيجاد الجملة ، إلا إيجاد الأجزاء التي هي عبارة عنها ، ولا معنى لاستقلال الموجد (٤) إلا استغناؤه عما سواه ، وإما أمر خارج عنها ، ولا محالة يكون موجدا لبعض الأجزاء ، وينقطع إليه البتة (٥) سلسلة المعلولات لكون الموجد الخارج عن جميع الممكنات واجبا بالذات ، ولا يكون ذلك البعض معلولا لشيء من أجزاء الجملة لامتناع اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد. إذ الكلام في المؤثر المستقل بالإيجاد فيلزم الخلف من وجهين : لأن المفروض أن السلسلة غير منقطعة ، وأن كل جزء منها معلول لجزء آخر ، وبما ذكرنا من التقرير يندفع نقض الدليل تفصيلا بأنه إن أريد بالعلة التي لا بد منها لمجموع السلسلة العلة التامة ، فلا نسلم استحالة كونها نفس السلسلة. وإنما يستحيل لو لزم تقدمها ، وقد سبق أن العلة التامة للمركب لا يجب بل لا يجوز تقدمها إذ من جملتها الأجزاء التي هي نفس المعلول.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (إنه).

(٢) في (ب) ماهية.

(٣) في (ج) فظاهر الاستحالة بإسقاط الضمير (وهو).

(٤) سقط من (ج) لفظ (الموجد) وزيادة (الهاء) في (الاستقلال).

(٥) سقط من (أ) لفظ (البتة).

١١٦

فإن قيل : فيلزم أن يكون واجبا لكون وجودها من ذاتها وكفى بهذا (١) استحالة قلنا : ممنوع وإنما يلزم لو لم يفتقر (٢) إلى جزئها الذي ليس نفس ذاتها سواء سمى غيرها ، أو لم يسم، وإن أريد العلة الفاعلية فلا نسلم استحالة كونها بعض أجزاء السلسلة ، وإنما يستحيل لو لزم كونها علة لكل جزء من أجزاء المعلول حتى نفسه وعلله ، وهو ممنوع لجواز أن يكون بعض أجزاء المعلول المركب مستندا إلى غير فاعله كالخشب من السرير ، سلمنا ذلك. لكن لا نسلم أن الخارج من السلسلة يكون واجبا لجواز أن توجد سلاسل غير متناهية من علل ومعلولات غير متناهية ، وكل منها يستند إلى علة خارجة عنها داخلة في سلسلة أخرى من غير انتهاء إلى الواجب. ولو سلم (٣) لزم الانتهاء إلى الواجب ، فلا يلزم بطلان التسلسل لجواز أن يكون مجموع العلل والمعلولات الغير المتناهية موجودا ممكنا (٤) مستندا إلى الواجب ، وإجمالا بأنه منقوض بالجملة التي هي عبارة (٥) عن الواجب. وجميع الممكنات الموجودة. فإن علتها ليست نفسها ، ولا جزءا منها لما ذكر ، ولا خارجا عنها لاستلزامه مع تعدد الواجب معلولية الواجب ، واجتماع المؤثرين إن كان علة لكل جزء من أجزاء الجملة ، وأحد الأمرين إن كان علة لبعض الأجزاء ووجه الاندفاع أنا قد (٦) صرحنا بأن المراد بالعلة الفاعل المستقل بالإيجاد وأخذنا الجملة نفس جميع الممكنات بحيث يكون كل جزء منها معلولا لجزء (٧) ، فلم يكن الخارج عنها إلا واجبا ، وأقل ما لزم من استقلاله بالعلية (٨) أن يوجد في الجملة جزء لا يكون معلولا لجزء آخر بل للخارج خاصة ، وهو معنى الانقطاع ولم يمكن أن يكون المستقل بالعلية جزءا من الجملة للزوم كونه علة لنفسه ولعلله تحقيقا بمعنى الاستقلال ، إذ لو كان الموجد لبعض الأجزاء شيئا آخر لتوقف حصول الجملة عليه أيضا ، فلم يكن أحدهما مستقلا ، وهذا بخلاف المجموع المركب من الواجب

__________________

(١) في (ب) به بدلا من (بهذا).

(٢) في (ج) أن يفتقر إلى جزئها وحذف (لو لم)

(٣) في (ب) لزوم بدلا من (لزم).

(٤) في (أ) زيادة لفظ (ممكنا).

(٥) سقط من (ج) لفظ (عبارة).

(٦) في (ب) سقط لفظ (وقد).

(٧) في (أ) بزيادة لفظ (جزء).

(٨) في (ب) بالفعلية بدلا من (العلية).

١١٧

والممكنات. فإنه جاز أن يستقل بإيجاده بعض أجزائه الذي هو موجود بذاته مستغن عن غيره ، وأمات السرير ففاعله المستقل ليس هو النجار وحده ، بل مع فاعل الخشبات ، نعم قد (١) يرد على المقدمة القائلة بأن العلة المستقلة للمركب من الأجزاء الممكنة علة (٢) لكل جزء منه اعتراض. وهو أنه إما أن يراد أنها بنفسها علة مستقلة لكل جزء حتى يكون علة هذا الجزء هي بعينها علة ذلك الجزء ، وهذا باطل. لأن المركب قد يكون بحيث تحدث أجزاؤه شيئا فشيئا كخشبات السرير ، وهيئته الاجتماعية ، فعند حدوث الجزء الأول. إن لم توجد العلة المستقلة التي فرضناها علة لكل جزء لزم تقدم المعلول على علته ، وهو ظاهر. وإن وجدت لزم تخلف المعلول. أعني الجزء الآخر من علته المستقلة بالإيجاد ، وقد مر بطلانه ، وإما أن يراد أنها علة لكل جزء من المركب ، إما بنفسها أو بجزء منها بحيث يكون كل جزء معلولا لها أو لجزء منها من غير افتقار إلى أمر خارج عنها ، وإذا كان المعلول المركب مترتب الأجزاء كانت علتها المستقلة أيضا مترتبة الأجزاء يحدث كل جزء منه لكل (٣) جزء منها يقارنه بحسب الزمان ، ولا يلزم التقدم ولا التخلف ، (٤) وهذا أيضا (٥) فاسد من جهة أنه لا يفيد المطلوب (٦) أعني امتناع كون العلة المستقلة للسلسلة جزءا منها إذ من (٧) أجزائها ما يجوز أن يكون علة بهذا المعنى من غير أن يلزم علية الشيء لنفسه أو لعلله ، وذلك مجموع الأجزاء التي كل منها معروض للعلية والمعلولية بحيث لا يخرج عنها إلا المعلول المحض (٨) المتأخر عن الكل بحسب العلية المتقدم عليها بحسب الرتبة حيث يعتبر من الجانب المتناهي ، ولذا يعبر عن ذلك المجموع تارة بما قبل المعلول الأخير ، وتارة بما بعد المعلول الأول. ففي الجملة هي جزء من السلسلة تتحقق السلسلة عند تحققها ، ويقع بكل جزء منها جزء منها ولا يلزم من عليتها للسلسلة تقدم الشيء على نفسه.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (قد).

(٢) في (ب) (علته) بدلا من (علة).

(٣) سقط من (أ) لفظ (لكل).

(٤) في (ب) والتخلف بدلا من (ولا التخلف).

(٥) في (ج) بزيادة لفظا (أيضا).

(٦) في (ب) المقصود بدلا من (المطلوب).

(٧) سقط من (ج) و (أ) حرف الجر (من).

(٨) في (أ) بزيادة لفظ (المحض).

١١٨

فإن قيل : المجموع الذي هو العلة أيضا ممكن محتاج إلى علة.

أجيب : بأن علته المجموع الذي قيل ما فيه من المعلول الأخير ، وهكذا في كل مجموع قبله لا إلى نهاية.

فإن قيل : ما بعد المعلول المحض لا يصلح علة مستقلة بإيجاد السلسلة لأنه ممكن يحتاج إلى علته ، وهكذا كل مجموع يفرض ، فلا توجد السلسلة إلا بمعاونة من تلك العلل ، ولأنه ليس بكاف في تحقق السلسلة ، بل لا بد من المعلول المحض أيضا.

قلنا : هذا لا يقدح في الاستقلال لأن معناه عدم الافتقار في الإيجاد إلى معاونة علة خارجة ، وقد فرضنا أن علة كل مجموع أمر داخل فيه لا خارج عنه وظاهر أنه لا داخل لمعلوله (١) الأخير في إيجاده.

فإن قيل : إذا أخذت الجملة أعني (٢) من أن تكون سلسلة واحدة أو سلاسل غير متناهية على ما ذكرتم ، فهذا (٣) المنع أيضا مندفع ، إذ ليس هناك معلول أخير ، ومجموع مرتب قبله (٤).

قلنا : بل وأراد (٥) بأن يجعل علتها الجزء الذي هو المجموعات الغير المتناهية التي قبل كان معلولاتها الأخيرة لغير المتناهية.

فإن قيل : نحن نقول من الابتداء علة الجملة لا يجوز أن تكون جزءا منها لعدم أولوية بعض الأجزاء أو لأن كل جزء يفرض فعلته ، أولى منه بأن تكون علة للجملة لكونها أكثر تأثيرا.

قلنا : ممنوع بل الجزء الذي هو ما قبل المعلول الأخير متعين للعلية ، لأن

__________________

(١) في (ب) المعلول بحذف (الهاء).

(٢) في (ب) أعم بدلا من (أعني).

(٣) في (ب) فهنا بدلا من (هذا).

(٤) في (ب) علية بدلا من (قبلة).

(٥) في (أ) ورد بدلا من (وأراد).

١١٩

غيره من الأجزاء لا يستقل بإيجاد الجملة على ما لا يخفى ، وعلى أصل الدليل منع آخر ، وهو أنا لا نسلم افتقار الجملة المفروضة إلى علة غير علل الآحاد. وإنما يلزم لو كان لها وجود مغاير لوجود ذات (١) الآحاد المعللة كل منها بعلته.

وقولهم : إنها ممكن مجرد عبارة بل هي ممكنات تحقق كل منها بعلته. فمن أين يلزم الافتقار إلى علة أخرى؟ وهذا كالعشرة من الرجال لا يفتقر إلى غير علل الآحاد ، وما يقال أن وجودات الآحاد غير وجود كل منها كلام خال عن التحصيل (٢).

برهان القطع والتطبيق على استحالة التسلسل

(قال : الثاني (٣) نفصل من السلسلة (٤) جملة بنقصان واحد من طرفها (٥) ، ثم نطبق بين الجملتين ، فإن وقع بإزاء كل جزء من التامة (٦) جزء من الناقصة لزم تساوي الكل والجزء، وإلا لزم انقطاع الناقصة ، وتناهي التامة بالضرورة (٧) حيث لا تزيد عليها إلا بواحد(٨) ، ونوقض أصل الدليل بسلسلة الأعداد عند الكل ، ومعلومات الله تعالى عندنا ، وحركات الأفلاك عند الفلاسفة ، ولزوم انقطاع الناقصة بتضعيف الواحد مرارا غير متناهية مع تضعيف الاثنين كذلك. ومقدورات الله تعالى ومعلوماته ، ودورات زحل مع دورات القمر. وحاصله أنه يجوز أن يكون بإزاء كل جزء جزء لعدم تناهيهما لا لتساويهما. فإن سمى

__________________

(١) في (أ) لوجودات بدلا من (وجود ذات).

(٢) في (ب) التحض بدلا من (التحصيل).

(٣) من الأوجه التي يبين بها استحالة التسلسل ما يسمى برهان القطع والتطبيق.

(٤) التي فرض عدم تناهيها.

(٥) المتناهي : إحدى الجملتين يكون ابتداؤها مما قبل الفرد الناقص والأخرى يكون ابتداؤها من نفس ذلك الفرد إلى ما لا ينتهي فيهما.

(٦) وهي التي اعتبرت بلا نقصان فرد منها.

(٧) سقط من (ج) لفظ (بالضرورة).

(٨) إذا الفرض أن التامة هي الناقصة بعينها مع زيادة الجزء المنقوص ومعلوم أن الزائد بالمتناهي متناه.

١٢٠