شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

وسيستمر ذلك معهم إلى يوم يبعثون ، وصدق ربي في قوله :

__________________

د ـ الجدل في حق القرآن :

قال بشر (مستدلا على خلق القرآن) : قال الله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا).

قال عبد العزيز : أي شيء في هذا من الحجة والدليل على خلقه؟

فقال بشر : هل في الخلق أحد يشك في هذا ، أو يخالف عليه ، إن معنى جعلناه خلقناه قال عبد العزيز : يا أمير المؤمنين ، إن القرآن نزل بلسانك ولسان قومك ، وأنت أعلم أهل الأرض بلغة قومك ، ولغة العرب كلها ، ومعاني كلامها ، وبشر رجل من أبناء العجم ، يتأمل كتاب الله تعالى ، على غير ما أنزل الله ، وغير ما عناه الله عزوجل ، ويحرفه عن مواضعه ، ويبدل معانيه ، ويقول ما تنكره العرب ، وكلامها ولغاتها ، وأنت أعلم خلق الله بذلك ، وإنما يكفر بشر الناس ، ويستبيح دماءهم بتأويل ، لا بتنزيل.

قال بشر : «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا» يروغ عبد العزيز إلى الكلام والخطب والاستعانة بأمير المؤمنين ، لينقطع المجلس ، قد أتيتك بما لا تقدر على رده ، ولا دليلي فيه لينقطع المجلس بثبات الحجة عليك ، وإيجاب العقوبة لك ، فإن كان عندك شيء ، فتكلم به وإلا فقد قطع الله مقالتك ، وأدحض حجتك.

قال عبد العزيز : يا بشر أخبرني عن جعل هذا الحرف بحكم لا يحتمل غير الخلق.

قال بشر لا ، وما بين جعل وخلق عندي فرق ، ولا عند غيري من سائر الناس من العرب والعجم ، ولا يعرف الناس إلا هذا.

قال عبد العزيز : أخبرني عن نفسك ، ودع ذكر العرب وسائر الناس ، فأنا من الناس ، ومن الخلق ، ومن العرب وأنا أخالفك على هذا ، وكذلك سائر العرب يخالفونك.

قال بشر : هذه دعوى منك على العرب ، وكل العرب ، والعجم يقولون ما قلت أنا؟ ولم يخالف في هذا غيرك.

قال عبد العزيز : أخبرني يا بشر. إجماع العرب والعجم بزعمك أن جعل وخلق واحد ، لا فرق بينهما هذا الحرف وحده ، أو في سائر ما في القرآن من (جعل).

قال بشر : بل ما في سائر القرآن من (جعل) وسائر ما في الكلام والأخبار والأشعار قال عبد العزيز : قد حفظ عليك أمير المؤمنين ما قلت ، وشهد به عليك.

قال بشر : أنا أعيد عليك هذا القول متى شئت. ولا أرجع عنه ولا أخالفه قال عبد العزيز لبشر :

زعمت أن معنى جعلناه قرآنا عربيا. خلقناه قرآنا عربيا. قال : نعم هكذا.

قال عبد العزيز : قال الله عزوجل (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) فيكون المعنى : خلقتكم الله عليكم كفيلا ، لا معنى له عند بشر غير هذا ومن قال هذا فقد أعظم الفرية على الله عزوجل وكفر به ، وحل دمه بإجماع الأمة.

وقال الله عزوجل : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) فزعم بشر ولا تجعلوا الله. ولا تخلقوا الله لا معنى له عنده غير ذلك. وكل من قال هذا من الخلق ، فهو كافر حلال الدم بإجماع الأمة لأنه حكى أن الله أخبر بمثل هذا ، وقال الله عزوجل : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) فزعم بشر أن معنى ويجعلون لله البنات. يخلقون لله البنات. لا معنى لذلك غير هذا.

٦١

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) (١).

__________________

فقال المأمون : ما أقبح هذه المقالة وأعظمها وأشنعها ، فحسبك يا عبد العزيز فقد صح قولك وأقر بشر بما حكيت عنه وكفر نفسه من حيث لا يدري.

قال عبد العزيز : يا أمير المؤمنين. إن رأيت أن تأذن لي أن أنتزع بآيات بقيت وأختصر قال المأمون : قل ما شئت.

قال عبد العزيز : قال الله عزوجل : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) فزعم بشر أن معنى جعلوا لله خلقوا لله أندادا فهو ومن قال هذا فهو كافر حلال الدم.

وقال تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) فزعم بشر أن معنى جعلوا لله خلقوا لله لا معنى لذلك غير هذا ومن قال هذا كافر حلال الدم بإجماع الأمة.

قال المأمون : حسبك فقد أثبت حجتك كلها فى هذه المسألة وانكسر قول بشر ، وأبطلت دعواه ، فارجع إلى بيان ما قد انتزعت ـ وشرحه ومعانيه ـ وما أراد الله عزوجل به وما هو من جعل مخلوق ، وما هو غير مخلوق ـ وما تتعامل به العرب في لغتهم ...

تراجع رسالة الحيدة كلها ، وقد طبعتها إدارة الفتوى والدعوة والإرشاد والبحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية.

ه : جدل الخوارج

جاء في نهج البلاغة وشرحه لابن أبي الحديد. قام شيخ إلى علي رضوان الله عليه فقال:

«أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام ، أكان بقضاء الله وقدره ...؟

فقال : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، ما وطئنا موطئا ، ولا هبطنا واديا إلا بقضاء الله وقدره.

فقال الشيخ : فعند الله احتسب عناي ما أرى لي من الأجر شيئا.

فقال : مه أيها الشيخ ، لقد عظم الله أجركم في مسيركم ، وأنتم سائرون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا مضطرين.

فقال الشيخ : وكيف والقضاء والقدر ساقانا.

فقال : ويحك لعلك ظننت قضاء لازما ، وقدرا حتما ، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ، ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة عباد الأوثان ، وجنود الشيطان وشهود الزور ، أهل العمى عن الصواب ، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسه إن الله تعالى أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وكلف تيسيرا ، ولم يعص مغلوبا ولم يطع كارها ، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ، ولم يخلق السموات وما بينهما باطلا ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.

فقال الشيخ : فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما ..؟

فقال : هو الأمر من الله والحكم ، ثم تلا قوله سبحانه وتعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا فيه إحسانا

(١) سورة النحل آية رقم ١١١.

٦٢

الحالة السياسية والعلمية والاجتماعية

في عصر التفتازاني

٦٣
٦٤

الحالة السياسية

جاء القرن الثامن الهجري ، وجروح العالم الإسلامي لم تلتئم بعد ، نتيجة لما أحدثه المغول في رقعة البلاد الإسلامية ، من تخريب وتشريد وقتل ، واستمر الوضع على ذلك فترة ليست بالقصيرة ، حتى أراد الله سبحانه وتعالى بالمسلمين خيرا ، فدخل في دين الله أفواجا مغول روسيا والتركستان ، وكان هذا تحولا جديدا في قوة المسلمين في ذلك القرن. فقد نشطت الدولة العثمانية سياسيا وعسكريا ، وامتدت سيطرتها على كثير من البلاد الإسلامية ، واتخذت من مدينة الأناضول قاعدة لها ، واستطاعت الجيوش الإسلامية أن تضيف إقليما جديدا إلى رقعة البلاد هو شبه جزيرة البلقان ، كما استطاع جيش الخلافة أن يوجه ضربات موجعة للجيش الصليبي ، الذي سيره الغرب تباعا للاستيلاء على بيت المقدس ، والذي هزم في النهاية عن طريق القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي. (١)

وما كادت الغيوم تنقشع عن سماء الأمة الإسلامية ، وسحب الأحزان تتوارى حتى ظهر في نهاية هذا القرن رجل يسمى (تيمور لنك) من طلاب الملك والسلطة ، وخلفه جيش لا تغيب عنه الشمس ، من مسلمي بلاد ما وراء النهر. وفي فترة وجيزة ، استطاع أن يقيم لنفسه ملكا ، امتد من الصين إلى روسيا ، واكتسح أمامه بلاد فارس والجزيرة من غير أن يقف في طريقه شيء ، وأنزل بأرواح المسلمين وأملاكهم الكثير من الدمار والخراب ، واستطاع في فترة

__________________

(١) راجع البداية والنهاية لابن كثير. ج ١٣ ص ٣٤٢ ، وتاريخ مصر لابن إياس ج ١ ص ١٣٣.

٦٥

وجيزة أن يطوي تلك البلاد ، ويجعلها تحت قبضته ، ودارت بينه وبين الجيش العثماني معركة ضارية على حدود أنقرة ، انتصر فيها (تيمور لنك) على الجيش العثماني ، وبذلك أصبحت بلاد الشام ممهدة أمام جيشه لو لا أن تداركها الله سبحانه وتعالى بالجيش المصري الذي أوقع بالتتار هزيمة منكرة ، وردهم على أعقابهم خاسرين.

وبالجملة فإن البلاد الإسلامية في ذلك الوقت كانت ممالك صغيرة ، يحكمها أمراء من العجم والمماليك ، ولم يكن للخلافة في ذلك الحين غير الاسم والرسم ، ومن الأدلة على ذلك ، أنه حدث في عام ٧٣٧ ه‍ أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون (١) ، اعتقل الخليفة المستكفي بالله (٢) ، ومنعه من الاجتماع بالناس ، ثم أفرج عنه بعد ذلك ، ولكنه ما لبث أن نفاه مع أهله وذويه إلى بلدة قوص من أعمال الصعيد ، وبقي الخليفة بها إلى أن مات.

من هنا نستطيع أن نقول : إن القرن الثامن الهجري ، لم يكن خيره عاما بالنسبة للمسلمين ، فالخطر يحدق بهم من كل جانب ، وآثار الدمار والخراب التي أوجدها المغول في كثير من البلاد الإسلامية ، لا تزال ماثلة أمام أعينهم ، لقد كانت تحيط بهم وتكاد تكتم أنفاسهم ، عوامل مضللة خانقة ، يشنها عليهم أتباع الوثنية والزندقة ، وأنصار الصليب والإلحاد ، وكوكبة ضارية من جنود إبليس ، وفرق الضلال.

ومع ذلك كله ، فلقد استطاع المسلمون في هذا العصر ، أن يجتازوا المحن

__________________

(١) هو الملك الناصر محمد بن قلاوون عبد الله الصالحي ، له آثار ضخمة ، وتاريخ حافل بجلائل الأعمال ولي سلطنة مصر والشام سنة ٦٩٢ ه‍. وخلع منه ثم عاد وبقي فيها إلى موته سنة ٧٤١ ه‍ وامتلك قيادة الدولة فخطب له بمصر وطرابلس والمغرب والشام والحجاز والعراق وديار بكر والروم.

انظر السلوك للمقريزي وتاريخ ابن كثير ١٤ ـ ٤٧ والدرر الكامنة ٤ ـ ١٤٤.

(٢) هو سليمان الملقب بالمستكفي بالله ابن المسترشد بالله الهاشمي ، البغدادي المصري الملقب بالحاكم بأمر الله.

(راجع البداية والنهاية لابن كثير ١٤ ـ ١٩).

٦٦

الشداد ، والآلام الفواتن التي حلت بهم ، وأن يتمسكوا بدينهم وعقيدتهم ، وأن يوجدوا لأنفسهم نهضة علمية وثقافية ، حالت بينهم وبين الدمار والانهيار ، وإذا كان ذلك كذلك فعلينا أن نلقي بعض الأضواء على الجانب العلمي الذي حققه المسلمون في ذلك القرن.

٦٧

الحالة العلمية

المتصفح لكتب التراجم والأعلام الخاصة بالقرن الثامن الهجري. الرابع عشر الميلادي ، يهوله كثرة العلماء الذين أنتجهم هذا القرن ، وزخر بهم تاريخ الأمة الإسلامية ، في فترة من فترات حياتها.

وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على نهضة علمية ، وثورة فكرية ، واكبت ما عاشت فيه البلاد من إسفاف اجتماعي ، يتمثل في الفقر المدقع الذي كاد أن يشمل كل أفراد المجتمع ، والأوبئة الفتاكة ، والأمراض المعدية (١) التي حلت بالبلاد نتيجة للدمار والتخريب ، التي أوجدتها الحروب المتلاحقة في هذا العصر ، وكأن المسلمين الذين انهزموا في ميدان الحروب ، وطحنتهم المعارك الضارية ، وانهزموا أيضا في المجال الاجتماعي ، بإجداب أرضهم ، وقلة مواردهم ، قد أرادوا أن يعوضوا ذلك في مجال العلم ، العلم الذي يشمل كل جوانب الحياة ، فنشطت الحركة العلمية نشاطا ملحوظا ، وشمل الإنتاج الفكري جميع المعارف الإنسانية ، والعقدية ، والفقهية ، والشرعية.

فإذا كان المسلمون قد هزمتهم سيوف المغول الإلحادية ، وسهام الصليبية المشركة ، فإن أقلام علماء المسلمين من أمثال ابن تيمية (٢) ، وابن القيم

__________________

(١) راجع حسن المحاضرة للسيوطي ٢ ـ ٢٩٨ ـ ٣٠٦ ، والسلوك للمقريزي ٢ ـ ٧٣.

(٢) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضري ، النميري الحراني الدمشقي الحنبلي ، أبو العباس ، تقي الدين ابن تيمية الإمام شيخ الإسلام ، ولد في حران وتحول به أبوه إلى دمشق فنبغ واشتهر وطلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها فقصدها. فتعصب عليه ـ

٦٨

الجوزية (١) ، وسعد الدين التفتازاني وغيرهم. قد صاولت فكرهم المنحط ، ونازلت معتقداتهم المسفّهة في الضلال ، وأصابت منها مقتلا ، وإذا كانت الحروب قد أشاعت الفوضى ، وأنزلت بالناس المجاعة ، وتحول الكثير من أفراد المجتمع إلى لصوص وقطاع طرق ، فإن فقهاء هذا العصر ، قد قعدوا القواعد ، وأصلوا الأصول ، وقدموا لمجتمعهم الصورة المثلى لما يجب أن يعيش عليه المجتمع الإسلامي ، إذا قلت موارده ، أو ضاقت عليه سبل الرزق ، وهذا ما فعله العالم الجليل المعز بن عبد السلام (٢) ، وابن رفعة (٣) ، وابن جماعة ، وغيرهم من الفقهاء الأعلام.

وأيضا فإن تتابع الحوادث في هذا العصر ، وتقلبات الليالي ، وصروف

__________________

ـ جماعة من أهلها فسجن مدة ، ونقل إلى الاسكندرية ثم أطلق فسافر إلى دمشق سنة ٧٢٠ ه‍ واعتقل بها سنة ٧٢٠ وأطلق ثم أعيد ومات معتقلا بقلعة دمشق عام ٧٢٨ ه‍. تصانيفه تزيد على أربعة آلاف كراسة منها السياسية الإلهية والآيات النبوية ، والفتاوى ، والإيمان ، والجمع بين النقل والعقل وغير ذلك.

(راجع فوات الوفيات ١ : ٣٤ والمنهج الأحمد ، والدرر الكامنة ١ : ١٤٤ ، والبداية والنهاية ١٤ : ٢٥).

(١) هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الدمشقي ، أبو عبد الله شمس الدين من أركان الإصلاح الإسلامي ـ ولد عام ٦٩١ ه‍ بدمشق ـ تتلمذ على الشيخ ابن تيمية. وهو الذي هذب كتبه ، ونشر علمه ، وسجن معه في قلعة دمشق ، وأهين وعذب بسببه. من كتبه. «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية و «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر» وغير ذلك كثير ـ توفي عام ٧٤١ ه‍.

(راجع الدرر الكامنة ج ٣ ص ٤٠٠ وجلاء العينين ص ٢٠).

(٢) هو عبد العزيز عبد السلام بن أبي القاسم عز الدين الملقب «سلطان العلماء» فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد ولد عام ٥٧٧ ه‍ بدمشق ، تولى الخطابة والتدريس بزاوية الغزالي ثم بالجامع الأموي. أنكر على الصالح إسماعيل تسليمه قلعة (صغب للفرنج) فغضب عليه وحبسه ثم أطلق سراحه فجاء إلى مصر. لم مصنفات كثيرة ، توفي بالقاهرة عام ٦٦٠ ه‍.

(٣) هو أحمد بن محمد بن علي الأنصاري أبو العباس. نجم الدين ، المعروف بابن الرفعة. فقيه شافعي من فضلائهم ، حضر إلى مصر كان محتسب القاهرة ، ونائب في الحكم له كتب منها : بذل النصائح الشرعية في ما على السلطان وولاة الأمور وسائر الرعية والإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان. ندب لمناظرة ابن تيمية فسأل ابن تيمية عنه بعد ذلك فقال : رأيت شيخا يتقطر فقه الشافعية من لحيته توفي عام ٧٧٠ ه‍.

(راجع البدر الطالع ١ : ١١٥ وطبقات الشافعية : ٥ : ١٧٧).

٦٩

الأيام ، جعل علماء المسلمين ، يرصدون هذه الحوادث بدقة ، ويتتبعون جزئياتها ، بعين لماحة وفكر متقد ، لتتخذ من ذلك الأجيال اللاحقة دروسا وعبرا ، فظهر المؤرخون العمالقة ، أمثال العماد ابن كثير (١) في موسوعته التاريخية (البداية والنهاية) وابن حجر العسقلاني (٢) في كتابيه المحلقين (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة). وكتاب (أنباء الغمر) وابن خلدون (٣) (مفخرة العرب) في دائرة معارفه الكبرى المسماة (العبر) وديوان (المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر) وغير هذا كثير. ولو ذهبنا نعدد صنوف المعرفة التي أنتجتها عقول المفكرين في هذا العصر ، لأعيانا الحصر والعد ، ويكفي أن نقول في النهاية ، إن عصر التفتازاني العلمي هو عصر عمالقة الرجال ، وأفذاذ المفكرين الأبطال.

__________________

(١) هو : إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضو بن درع القرشي البصروي ثم الدمشقي أبو الفداء. عماد الدين ، حافظ مؤرخ فقيه ، ولد في قرية من أعمال بصرى والشام وانتقل مع أبيه إلى دمشق سنة ٧٠٦ ه‍ ورحل في طلب العلم وتوفي بدمشق عام ٧٧٤ ه‍. له مصنفات كثيرة منها البداية والنهاية ، وتفسير القرآن الكريم ، والاجتهاد في طلب الجهاد وغير ذلك.

(راجع الدرر الكامنة ١ : ٣٧).

(٢) هو أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني أبو الفضل. شهاب الدين ابن حجر من أئمة العلم والتاريخ ، أصله من عسقلان بفلسطين ومولده ووفاته بالقاهرة ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث ، ورحل إلى اليمن والشام وإلى الحجاز وغيرهما. له تصانيف كثيرة منها الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ولسان الميزان ، والإحكام لبيان ما في القرآن من الأحكام وتقريب التهذيب ، والإصابة في تميز أسماء الصحابة ، وتهذيب التهذيب وغير ذلك. توفي عام ٨٤٢ ه‍.

(٣) هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون أبو زيد ولي الدين الخضرمي الاشبيلي من ولد وائل ابن حجر ، الفيلسوف المؤرخ العالم الاجتماعي البحاثة. أصله من إشبيلية ومولده ومنشأه بتونس ، رحل إلى فارس وغرناطة وتلمسان والأندلس ، وتولى أعمالا واعترضته دسائس ووشايات ، جاء إلى مصر فأكرمه سلطانها الظاهر برقوق ، وولي فيها قضاء المالكية ولم يتزي بزي القضاء محتفظا بزي بلاده. من تصانيفه : العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ، ورسالة في المنطق ، وله شعر توفي عام ٨٠٨ ه‍.

(راجع الضوء اللامع ٤ : ١٤٥).

٧٠

الحالة الاجتماعية

لا أحد ينكر أن موارد العالم الإسلامي كثيرة ومتنوعة ، وأرضه خصبة ومنتجة ، وأهله يميلون إلى العمل ، وإلى السعي في الأرض ، والضرب في فجاجها ، ولكن ما حل في القرن السابع الهجري ، من سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد عام ٦٥٦ ه‍ على يد المغول والتتار ، ثم ما حاولته الصليبية في الغرب ، من انتهاز ضعف المسلمين ، وشن الغارات عليهم ، الواحدة بعد الأخرى (١) ، قد أضعف موارد البلاد وأنهك اقتصادياتها ، فمزارعها وحدائقها وبساتينها نهبا مباحا للجيوش المغيرة ، وكلأ سهلا أمام شراسة الهجمات ، من قوم لا يؤمنون بعقيدة ، ولا يهتدون بوحي ، الأمر الذي جعلهم يتسلطون على الأهالي الآمنين ، تسلط الذئاب المفترسة للقطيع الوديع ، والذي جعل الكثير من أفراد الشعب تفضل الموت جوعا وعطشا في منازلهم ، على الموت في مزارعهم أو حوانيتهم بيد المغيرين المتسلطين.

ويصور لنا العماد ابن كثير ما حدث في سنة ٧١٨ ه‍ فيقول :

«قل المطر في بلاد الجزيرة والموصل ، فحصل الجدب والقحط ، وارتفعت الأسعار ، وعدمت الأقوات ، بحيث أكلوا كل ما وجدوا من الجمادات

__________________

(١) استطاع السلطان الأشرف ابن قلاوون أن يسترد من الصليبيين عكا سنة ٦٩٠ ه‍ ، وصور وصيدا وبيروت وقلعة الروم وجميع الساحل.

(انظر البداية والنهاية لابن كثير ١٣ ـ ٣١٩ ، والنجوم الزاهرة ٨ ـ ٣).

٧١

والحيوانات. ولما قلت الأموال التي يشترون بها ، ما يسدون به رمقهم ، باعوا كل شيء يملكونه حتى أولادهم وأهليهم ، وبيع الولد في ذلك الحين بخمسين درهما ، بل وبأقل من ذلك. وما حدث في الجزيرة والموصل ، حدث مثله في مصر والشام ، ومكة والمدينة ، واشتد الأمر على الناس حتى أكلوا الكلاب والحمير والخيل والبغال ، ولم يبق شيء من الدواب عند أحد من الناس ، وبيع الكلب في ذلك الوقت بخمسة دراهم (١) فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

هذه صورة الحياة الاجتماعية في القرن الثامن الهجري ، تؤلم القلوب ، وتدمع العيون ، وتوقظ الإنسانية من غفلتها ، وتدفعها إلى تصور البلاء الذي يصيب الله به عباده ، إذا ما ابتعدوا عن نهجه القويم ، أو تهاونوا في تكاليفه العظيمة ، أو سلكوا مسالك الشيطان ، أو أغرتهم قوتهم ، فظنوا أنهم هم القادرون والمسيطرون ، وصدق الله في قوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (٢).

__________________

(١) راجع تاريخ مصر لابن أياس ج ١ ص ١٣٣ والبداية والنهاية لابن كثير ج ١٣ ص ٣٤٣.

(٢) سورة الإسراء آية رقم ١٦.

٧٢

سعد الدين التفتازاني

اسمه ونسبه ـ مولده – نشأته

اعداده الفكري وتكوينه العلمي

شيوخه وأساتذته ـ آثاره ومؤلفاته

٧٣
٧٤

اسمه ونسبه

تتفق الكثرة الكثيرة من أصحاب كتب التراجم على أنه هو : مسعود بن عمر ابن عبد الله التفتازاني. ذكر ذلك الإمام السيوطي في كتابه (بغية الوعاة) (١) فهو عنده مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني. وكذلك صاحب (شذرات الذهب) (٢) وطاشكبري زاده في كتابه (مفتاح السعادة) (٣) والإمام البغدادي في (هدية العارفين) (٤).

ويكاد ينفرد العلامة ابن حجر في كتابه (أنباء الغمر) (٥) وفي موضع آخر من كتابه (الدرر الكامنة) (٦) من أن اسمه هو (محمود) بدلا من مسعود وهذا مما لا نوافقه عليه ، ولا ندري كيف وقع العلامة الكبير ، المدقق الحصيف ، في تحريف اسم أحد الأعلام الذي تزدان المكتبة العربية والإسلامية بذخائر كتبه ومؤلفاته ، وإن كنا نرجع ذلك إلى التصحيفات ، والتحريفات التي يقع فيها كثير من نساخ المخطوطات ، بالإضافة إلى التحريفات التي يعتمدها بعض الأفراد رغبة في النكاية والتشهير.

__________________

(١) بغية الوعاة ص ٣٩١.

(٢) شذرات الذهب ج ٦ ص ٣١٩ إلى ص ٣٣٢.

(٣) مفتاح السعادة ج ١ ص ١٦٤ ـ ص ١٦٧.

(٤) هدية العارفين ج ٢ ص ٤٢٩ ـ ص ٤٣٠.

(٥) أنباء الغمر ج ٢ ص ١٤.

(٦) الدرر الكامنة ج ٤ ص ٣٤٠.

٧٥

مولده

المتصفح لكتب التراجم يجد تاريخين لمولد السعد ، والاختلاف في تاريخ ولادة الأعلام ووفاتهم ، يكاد يكون ظاهرة عامة لا يخلو منها كتاب من كتب التراجم. فمثلا : صاحب الترجمة التي بين أيدينا. يذكر عنه طاشكبري زاده (١) ، أنه ولد في صفر سنة ٧٢٢ ه‍ وهذا التاريخ يؤكده طاشكبري زاده لأنه نقله عن فتح الله الشرواني تلميذ التفتازاني والذي ذكر في أوائل شرحه لكتاب أستاذه (الإرشاد) أنه زار مرقده بسرخس فوجد مكتوبا عليه «ولد عليه الرحمة والرضوان في صفر سنة ٧٢٢ ه‍» ويؤيد هذا التاريخ أيضا الذي ذكره فتح الله الشرواني أنه وجد مكتوبا على ظهر بعض نسخ المطول ، وينقل هذا عن صاحب (روضات الجنات) (٢) حيث يقول إن هذا التاريخ وجدته على بعض نسخ المطول القديمة ، ويوافقه أيضا الشيخ البهائي فيقول :

ولد العلامة التفتازاني في صفر سنة ٧٢٢ ه‍. وتوفي سنة ٧٩٢ ه‍ فكان عمره ٧٠ سنة. ويؤكد هذا التاريخ الإمام البغدادي في (هدية العارفين) (٣) والشوكاني في (البدر الطالع) (٤) ، واللكنوي في (كتائب (٥) أعلام الأخيار). ودائرة المعارف (٦) الإسلامية وأرمنيوس فنبري في (تاريخ بخارى) (٧).

__________________

(١) مفتاح السعادة ج ١ ص ٣٠٤.

(٢) روضات الجنات ص ٣٠٩.

(٣) هدية العارفين ج ٢ ص ٤٢٩.

(٤) البدر الطالع ج ٢ ص ٣٠٣.

(٥) كتائب أعلام الأخيار ص ٤٣٤.

(٦) دائرة المعارف الاسلامية ج ٩ ص ٤٠٢.

(٧) تاريخ بخارى ص ٢٤٦.

٧٦

وجورج زيدان في (تاريخ آداب اللغة العربية) (١) وهناك رأي آخر يتزعمه ابن حجر في كتابه (الدرر الكامنة) (٢) حيث يقرر أنه ولد سنة ٧١٢ ه‍ ويقول : إن هذا ما وجد بخط ابن الجزري ، ونقل عنه هذا التاريخ الإمام السيوطي في كتابه (بغية الوعاة) (٣) ، وابن العماد في (شذرات (٤) الذهب). وذكره أيضا ابن تغرى بردى في (المنهل (٥) الصافي).

من هنا تأتي حيرة الباحث المدقق ، ويتساءل بينه وبين نفسه : أي الرأيين أقرب إلى الصواب؟ وأيهما يرجح؟ لأن الاختيار في مثل هذه الحالة ، أو الترجيح بين الآراء لا يتم في العادة إلا من خلال أدلة قوية ، ترجح أحد القولين على الآخر ، ونحن نميل إلى ترجيح الرأي الأول اعتمادا على ما ذكر في كثير من كتب التراجم. أن أول كتاب ألفه السعد هو كتاب شرح التصريف. وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة ، وكان ذلك سنة ٧٣٨ ه‍ ، وكذلك ذكر الخونساري. أن سعد الدين شرع في تأليف شرحه المطول على التلخيص في أواسط سنة ٧٤٢ ه‍ ، وفرغ منه سنة ٧٤٨ ه‍. وقال : وكان عمره حين الشروع عشرين سنة ، وهذا كله يؤكد أن مولده كان سنة ٧٢٢ ه‍ ، وأيما كان الأمر ، فلقد ولد التفتازاني ، وعاش عيشة ممتدة طويلة ، بلغت السبعين عاما ، قام فيها بأعمال خالدة ، وترك فيها بصماته المضيئة المنيرة على جبهة التاريخ ، وإذا كان ذلك كذلك ، فكيف كانت نشأته ..؟

__________________

(١) آداب اللغة العربية ج ٣ ص ٢٤١.

(٢) الدرر الكامنة ج ٤ ص ٣٥٠.

(٣) بغية الوعاة ج ٢ ص ٢٨٤.

(٤) شذرات الذهب ج ٦ ص ٣١٩.

(٥) المنهل الصافي ج ٣ ص ٣٥٦.

٧٧

نشأته

ولد التفتازاني بقرية تفتازان ، التابعة لمدينة (نسا) وهي مدينة بخراسان. تحيط بها سرخس ، ومرو ، ونيسابور ، ويعلل العلماء سبب تسميتها بهذا الاسم أن المسلمين لما وردوا خراسان قصدوها ، فبلغ أهلها أخبار الجيش المغير الفاتح ، فهربوا ، ولم يتخلف بها غير النساء ، فلما أتاها المسلمون لم يجدوا فيها رجلا واحدا فقالوا : هؤلاء نساء ، والنساء لا يقاتلن ، فننسى أمرها الآن إلى أن يعود رجالهن فتركوها ومضوا ، فسميت بذلك (نسا) والنسبة الصحيحة إليها (نسائي) وقيل نسوي أيضا.

وهذه المدينة كانت ملتقى أبناء المسلمين النازحين إليها لحفظ القرآن ، والتفقه في أمور الدين ، ولقد ترك التفتازاني قريته الصغيرة ، ورحل إلى (نسا) ولا ندري كم من الأعوام قضاها في تلك المدينة؟ ، ولا الحلقات الأولى التي تلقى فيها قواعد الخط ، وإملاء الكتابة ، واستظهار القرآن ، والتفقه في أمور الدين ..؟

لا شك أنه عاش فيها فترة يهملها التاريخ تماما ، حتى يحدثنا ابن العماد الحنبلي بأنه يترك (نسا) وينتقل فجأة إلى سمرقند ، ويظهر ظهورا بارعا في حلقة العضد مع طلاب كبار ، ودعوا عهد الطفولة ، وأخذوا يعبون من المعرفة عبا ، ويصاولون أستاذهم في أقيسة أرسطو ، وشذرات ابن سينا ، وتهويمات الفارابي في مدينته الفاضلة ، ويصبون اللعنات على أفلاطون لقوله بنظرية العقول

٧٨

العشرة ، كم بقي التفتازاني في سمرقند؟ إننا لا نكاد نعلم شيئا عن الفترة الأولى التي قضاها في سمرقند ، حتى إذا كان عام ٧٤٢ ه‍ ينتقل فجأة إلى جرجانية ، وهي مدينة عظيمة على شاطئ نهر جيحون. وأهل خوارزم يسمونها بلسانهم (كركانج) فعربت إلى الجرجانية. يصفها صاحب معجم البلدان بأنها أعظم المدن التي رآها ، وأكثرها أموالا ، وأحسنها أحوالا.

دخل التفتازاني هذه المدينة ، وهو عالم كبير تسبقه شهرته ، لشرحه كتاب التصريف للزنجاني ، ولقد أعجبه المقام في هذه المدينة ، وعكف على التأليف والتصنيف ، وأصبح له طلاب وتلاميذ يتسابقون إليه ، ويجنون الثمار من بين يديه ، وفيها أتم كتابه (المطول على التلخيص).

ما كاد يهل عام ٧٤٨ ه‍ حتى قرر الرحيل من الجرجانية إلى بلدة (هراة) وهي مدينة عظيمة مشهورة من أمهات مدن خراسان. فيها بساتين كثيرة ، ومياه غزيرة ، وخيرات وفيرة حتى قال شاعرها أحمد السامي الهروي.

هراة أرض خصبها واسع

ونبتها اللقاح والنرجس

ما أحد منها إلى غيرها

يخرج إلا بعد ما يفلس

ويقول الأديب البارع الزوزني :

هراة أردت مقامي بها

لشتى فضائلها الوافرة

نسيم الشمال وأعنابها

وأعين غزلانها الساحرة

وكانت (هراة) في ذلك مملوءة بالعلماء وبأهل الفضل والحكمة ، ومساجدها تضج بالمناقشات العلمية ، وصولات العلماء ، ومختلف الآراء والأفكار ، ومن علماء (هراة) الحسين بن إدريس الهروي المحدث. روى عنه ابن حبان. وللحسين هذا كتاب في التاريخ صنفه على حروف المعجم.

إلى هذه المدينة التي تموج بكل أنواع الحياة ألقى السعد رحله فيها ، وكان يتأبط كتابه الضخم (المطول على التلخيص) والذي كتبه في جرجانية فأهداه إلى ملك (هراة) معز الدين أبو الحسين بمجرد دخوله إلى المدينة.

٧٩

فهل ترى التفتازاني طابت نفسه ، وهدأت روحه بمقامه بالقرب من البساتين الفواحة بالعطر ، والحدائق المليئة بالأرج؟ غالب الظن أنه لم يكن هادئ البال ، ولا مستريح الفكر ، لأننا لم نجد له إنتاجا يذكر في هذه المدينة ، أم إنه كان هادئ البال ومستريح الفكر ، ونعيم الحياة ، ورغد العيش يغريان بالكسل ، ويدفعان إلى التراخي ..؟ أربع سنوات كوامل قضاها في (هراة) كيف كان يشغل وقته؟ وفي أي الأعمال كان يقدح فكره؟ إننا نفاجأ به يغادر هراة من غير دواع دعته إلى المغادرة والهجرة ، حيث يسرع السير إلى بلدة (حام) ولقد طاب له فيها المقام واستقر بها النوى ، ويفرغ فيها من كتابه (شرح الشمسية) في المنطق عام ٧٥٢ ه‍ ثم يتركها إلى غيرها. فمتى ترك بلدة (حام) وإلى أي البلاد كانت وجهته؟ لا نستطيع أن نحدد تاريخا ثابتا لمفارقته لهذه البلدة. ولكن ابن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب) يحدثنا عن وجوده فجأة عام ٧٥٦ ه‍. في (غجدوان) وهي من قرى بخارى ، ولقد أتم فيها كتابه (المختصر على التلخيص) ولا يطيب له المقام في بلدة (غجدوان) أكثر من عامين ينتقل بعدها إلى (كلتستان) إحدى مدن (تركستان) وفيها يفرغ من كتابه (التلويح على توضيح غوامض التنقيح) ويبقى في (كلتستان) عاما واحدا ليعود منها مرة أخرى إلى (هراة) عام ٧٥٩ ه‍ حيث يشرع في تأليف كتابه (فتاوى الحنفية) ثم يترك (هراة) إلى جرجانية حيث يطيب مقامه فيها فيستقر حوالي عشر سنوات ، وفي الحقيقة كانت هذه العشر أخصب سني حياته ، حيث كتب (شرح العقائد النسفية) سنة ٧٦٨ ه‍. وفرغ من (الإرشاد في النحو) سنة ٧٧٤ ه‍ كما ذكره الشوكاني وابن العماد واللكنوي أو سنة ٧٧٨ ه‍ كما ذكره (طاشكبري زاده) ويروي (خواندمير) أنه لما غزا (تيمور) خوارزم ولعل ذلك بين عامي ٧٨٠ ه‍ ٧٨١ ه‍ ١٣٧٩ م طلب ملك محمد السرخي بن ملك معز الدين حسين كرت إلى ابن أخيه بير محمد غياث الدين بير علي. وكان يومئذ من بطانة تيمور أن يستأذن مولاه في إيفاد التفتازاني إلى سرخس ، فأذن تيمور ، ولكنه عرف بعد ذلك فضله في العلم ، فأرسل إليه يستقدمه إلى سمرقند ، وقعد التفتازاني أول الأمر عن إجابة دعوته ، معتذرا بأنه يتهيأ للسفر إلى الحجاز فأرسل إليه يدعوه ثانية ، فانتقل

٨٠