شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

الإنسان كاتب ، ويمتنع (١) أن يكون معناه أنه يوجد كاتبا أو توجد له الكتابة : بل معناه أن ما صدق عليه هذا ، يصدق عليه ذاك أو يحمل.

والمحققون على أنه لا فرق بين قولنا : يوجد له ذاك (٢) ، ويثبت ، ويصدق عليه ، ويحمل ونحو ذلك إلا بحسب العبارة (٣) ، وما ذكرنا هو الموافق لكلام المحقق في التجريد.

(قال : والإمكان ذاتي لا غير).

إذ لو كان غيريا لكان الشيء في نفسه واجبا أو ممتنعا ، أي ضروري الوجود أو العدم بالذات ، ثم يصير لا ضروري الوجود والعدم بالغير ، فيرتفع ما بالذات ، وهو محال بالضرورة ، وهذا معنى الانقلاب.

(قال : قد يؤخذ بمعنى سلب ضرورة الوجود أو العدم ، فيعم الإمكان الخاص ، وضرورة الطرف الآخر ، فيصدق على الممتنع ممكن العدم ، وعلى الواجب ممكن الوجود ، وقد يتوهم ، أنه بمعنى سلب ضرورة أحد الطرفين فيعم الكل).

الإمكان بمعنى سلب ضرورة الوجود والعدم ، هو الإمكان الخاص المقابل للوجوب ، والامتناع بالذات ، وقد يؤخذ بمعنى سلب ضرورة الوجود ، فيقابل الوجوب ، ويعم الإمكان الخاص ، والامتناع فيصدق على الممتنع أنه ممكن العدم ، وقد يؤخذ بمعنى سلب ضرورة العدم ، فيقابل الامتناع ويعم الإمكان الخاص ، والوجوب فيصدق على الواجب ، أنه ممكن الوجود. وهذا هو الموافق للغة (٤) والعرف ، ولهذا (٥) سمي بالإمكان العامي ، فإن العامة تفهم منه نفي الامتناع ، فمن إمكان الوجود نفي امتناع الوجود ، ومن إمكان العدم

__________________

(١) في (ب) ويمنع بدلا من (يمتنع).

(٢) في (ب) ذلك بدلا من (ذاك).

(٣) في (أ) الغبارة وهو تحريف.

(٤) في (أ) اللغة بدلا من (للغة).

(٥) في (ب) ويسمى بإسقاط لفظ (لهذا).

٤٦١

نفي امتناع العدم. وقد سبق إلى كثير من الأوهام ، أن للإمكان العام مفهوما واحدا ، يعم الإمكان الخاص. والوجوب والامتناع ، هو سلب ضرورة أحد الطرفين ، أعني الوجود والعدم وهو بعيد جدا. إذ لا يفهم هذا المعنى من إمكان الشيء على الإطلاق ، بل إنما يفهم من إمكان وجوده نفي الامتناع ، ومن مكان عدمه نفي الوجوب. ولهذا يقع الممكن العام مقابلا للممتنع ، شاملا للواجب كما في تقسيم الكلي إلى الممتنع ، وإلى الممكن الذي أحد أقسامه أن يوجد منه فرد واحد ، مع امتناع غيره كالواجب ، وبهذا ينحل ما يقال على قاعدة كون نقيض الأعم أخص من نقيض الأخص ، من أنه لو صح هذا الصدق (١) في قولنا : كل ما ليس بممكن عام ليس بممكن خاص ، لكنه باطل ، لأن كل ما ليس بممكن خاص ، فهو إما واجب أو ممتنع ، وكل منهما ممكن عام ، فيلزم أن كل ما ليس بممكن عام فهو ممكن عام.

(قال : وقد يعتبر بالنظر إلى الاستقبال ، ومن اشترط فيه العدم في الحال كأنه أراد به إمكان طريان الوجود في المستقبل ، ففي إمكان العدم يشترط الوجود في الحال ، ولا يلزم الجمع بين النقيضين).

بمعنى جواز وجود الشيء في المستقبل ، من غير نظر إلى الماضي والحال ، وذلك لأن الإمكان في مقابلة (٢) الضرورة ، وكلما كان الشيء أخلى عن الضرورة كان أحق باسم الممكن ، وذلك في المستقبل ، إذ لا يعلم فيه حال الشيء من الوجود والعدم ، بخلاف الماضي والحال ، فإنه قد تحقق فيهما وجود الشيء أو عدمه ، ومنهم من اشترط في الممكن الاستقبال العدم في الحال. لأن الوجود ضرورة ، فيجب الخلو عنه.

ورد ؛ بأن العدم أيضا ضرورة ، فيجب الخلو عنه أيضا ، (٣) وتحقيقه أنه

__________________

(١) سقط من (أ) حرف الجر (في).

(٢) في (ب) مقابل بدلا من (مقابلة).

(٣) سقط من (ب) لفظ (أيضا).

٤٦٢

ممكن في جانبي الوجود والعدم ، وكما أن الوجود يخرجه إلى جانب الوجود كذلك (١) ، ويشترط الخلو عنه. كذلك العدم يخرجه إلى جانب الامتناع ، فيلزم اشتراط الخلو عنه أيضا ، فيلزم ارتفاع النقيضين بل اجتماعهما ، والظاهر أن من اشترط ذلك أراد بالإمكان الاستقبالي ، إمكان حدوث الوجود ، وطريانه في المستقبل ، وهو إنما يستلزم إمكان عدم الحدوث ، لا إمكان حدوث العدم ، ليلزم اشتراط الوجود في الحال ، بل لو اعتبر الإمكان الاستقبالي في جانب العدم ، بمعنى إمكان طريان العدم وحدوثه ، يشترط الوجود في الحال من غير لزوم محال :

(قال : وقد يعتبر (٢) بمعنى تهيؤ المادة لحصول الشيء (٣) ، باعتبار تحقق الشرائط ، فتتفاوت (٤) شدة (٥) وضعفا (٦) وتسمى استعدادية).

إشارة إلى الإمكان الاستعدادي ، وهو تهيؤ المادة لما يحصل لها من الصور والأعراض ، بتحقق بعض الأسباب والشرائط ، بحيث لا ينتهي إلى حد الوجوب الحاصل عند تمام العلة ، ويتفاوت شدة وضعفا بحسب القرب من الحصول أو البعد (٧) عنه بناء على حصول الكثير مما لا بد منه ، والقليل كاستعداد الإنسانية الحاصل للنطفة ، ثم للعلقة ، ثم للمضغة ، وكاستعداد الكتابة الحاصل للجنين ، ثم للطفل ، وهكذا إلى أن يتعلم ، وهذا الإمكان ليس لازما للماهية ، كالإمكان الذاتي ، بل يوجد بعد العدم ، بحدوث بعض الأسباب والشرائط ، وبعدم بعد الوجود لحصول الشيء بالفعل.

(قال : وعروض الإمكان (٨) يكون بالنظر إلى المفهوم ، من

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (كذلك).

(٢) مطلق الإمكان لمعنى آخر غير ما تقدم.

(٣) كتهيؤ النطفة لحصول الإنسانية ، وتهيؤ الجنين لحصول تعلم الكتابة وهذا التهيؤ يوجب إمكان حصول المتهيأ له.

(٤) الإمكان الناشئ عن التهيؤ.

(٥) بحصول كل الشرائط أو جلها.

(٦) بعدم حصول جل الشروط.

(٧) سقط من (أ) جملة (أو البعد).

(٨) الصرف الذي لا يشوبه شيء من الضرورة الغيرية.

٤٦٣

حيث هو (١) مقيسا إلى الوجود ، وأما مع اعتبار الوجود أو العدم ، فيعرض الوجوب أو الامتناع الغيري ، فهو (٢) ينفك عنهما (٣) تعقلا (٤) لا تحققا).

يعني أن الماهية إذا أخذت مع وجودها ، أو وجود علتها كانت واجبة بالغير ، وإذا أخذت مع عدمها ، أو عدم علتها ، كانت ممتنعة بالغير ، وإنما يعرض لها الإمكان الصرف ، إذا أخذت لا مع وجودها ، أو عدمها ، أو وجود علتها ، أو عدمها ، بل اعتبرت من حيث هي هي ، واعتبرت نسبتها إلى الوجود ، فحينئذ يحصل من هذه المقايسة معقول هو الإمكان.

فالإمكان ينفك عن الوجوب بالغير ، والامتناع بالغير بحسب التعقل ، بأن لا يلاحظ للماهية ، ولا لعلتها وجود أو عدم ، لا (٥) بحسب التحقق في نفس الأمر ، لأن كل ممكن فهو إما موجود ، فيكون واجبا (٦) بالغير ، أو معدوم فيكون ممتنعا بالغير ، اللهم إلا على رأي من يثبت الواسطة.

(قال : والغيريان (٧) يتشاركان في اسم الضرورة عند تقابل المضاف إليه (٨) ، وحينئذ يتصادقان ، وعند اتحاده يتنافيان ، فبينهما منع الجمع مع جواز الانقلاب ، وكذا بين الذاتين مع استحالة كما بين الذاتي وغير الذاتي (٩) ، من الوجوب والامتناع ، لاستلزامه الإمكان المنافي للذاتي ، والاستدلال بأن

__________________

(١) مفهوم ومعقول بأن لم يلاحظ معه حصول في فرد معين في الخارج ولا عدم حصوله بل لوحظ مقطوع النظر عن الفردية الخارجية المعينة حال كونه.

(٢) أي الإمكان عند رعاية ذلك الاعتبار.

(٣) أي عن الامتناع والوجوب.

(٤) أي في مطلق تعقل الحقيقة هل هي موجودة أم لا مع قطع النظر عما وقع في الخارج.

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (لا).

(٦) سقط من (ب) لفظ (واجبا).

(٧) أي العارضان لمعروضهما بالغير لا بالذات.

(٨) فيهما ويعني بالمضاف إليه الوجود أو العدم وتقابل المضاف إليه يحصل بأن يضاف الوجوب إلى الوجود والامتناع إلى العدم. فيقال عند الاشتقاق من كل منهما مضافين إلى المتقابلين هذا واجب الوجود وهذا ممتنع العدم.

(٩) في (ج) والغيري.

٤٦٤

الذاتي لو كان بالغير ، لارتفع بارتفاعه فممنوع الملازمة ، وبين الإمكان ، والذاتيين انفصال حقيقي ، والانقلاب محال.

فإن قيل : الحادث ممتنع في الأزل ، ثم يمكن ، والمقدورية ممكنة قبل الوجود ، ثم تمتنع.

قلنا : فرق بين أزلية الإمكان ، وإمكان الأزلية. فالحادث ممكن في الأزل والأبد ، والحادث في الأزل ممتنع دائما ، وامتناع المقدورية بعد الوجود غيري لا ذاتي).

يعني أن الوجوب بالغير ، والامتناع بالعير يتشاركان في اسم الضرورة ، إلا أن الأول ضرورة الموجود. والثاني : ضرورة العدم ، وهذا يعني تقابل المضاف إليه ، وإذا أخذ الوجوب والامتناع متقابلي المضاف إليه ، بأن يضاف أحدهما إلى الوجود والآخر إلى العدم ، صدق كل منهما على ما صدق عليه الآخر ، بطريق الاشتقاق ، بمعنى أن كل ما يجب وجوده بالغير ، يمتنع عدمه (١) بالغير ، وبالعكس ، وكل ما يجب عدمه بالغير يمتنع وجوده بالغير (٢) ، وبالعكس. وإذا أضيف كل منهما إلى الوجود أو إلى العدم (٣) امتنع صدق أحدهما على الآخر ، إذ لا شيء مما يجب وجوده يمتنع وجوده ، ولا شيء مما يجب عدمه يمتنع عدمه ، وهو ظاهر ، فبينهما منع الجمع دون الخلو ، إذ لا يصدق شيء منهما على الواجب بالذات ، أو الممتنع بالذات ، لكن جزء هذه المنفصلة المانعة للجمع. أعني قولنا : إما أن يكون الشيء واجبا بالغير ، أو ممتنعا بالغير مما يجوز انقلاب أحدهما إلى الآخر بأن ينعدم الموجود الواجب بالغير ، لانتفاء علته ، فيصير ممتنعا بالغير ، ويوجد الممتنع المعدوم (٤) بالغير لحصول علته ، فيصير واجبا بالغير ، بخلاف الوجوب الذاتي ، والامتناع

__________________

(١) في (ب) وجوده من (عدمه).

(٢) سقط من (ب) قوله : (وكل ما يجب عدمه بالغير يمتنع وجوده بالغير).

(٣) في (أ) العلم وهو تحريف.

(٤) في (ب) المعدوم الممتنع بالغير.

٤٦٥

الذاتي ، فإن بينهما أيضا منع الجمع ، ضرورة امتناع كون الشيء واجبا وممتنعا بالذات دون الخلو لارتفاعهما عن الممكن ، لكن يمتنع انقلاب أحدهما إلى الآخر ، لأن (١) ما بالذات لا يزول ، وكذا بين الوجوب بالذات ، والوجوب بالغير ، وبين (٢) الامتناع بالذات ، والامتناع بالغير ، منع الجمع دون الخلو (٣) مع امتناع الانقلاب. أما منع الجمع ، فلأن الواجب بالغير أو الممتنع بالغير لا يكون إلا ممكنا ، وهو ينافي الواجب بالذات ، أو الممتنع بالذات ، ولأنهما لو اجتمعا لزم توارد العلتين المستقلتين ، أعني الذات والغير على معلول واحد ، هو الوجود أو العدم ، وأما عدم منع الخلو فلارتفاع الوجوب بالذات ، والوجوب بالغير ، عن الممتنع بالذات أو بالغير ، وارتفاع الامتناع بالذات ، والامتناع بالغير عن الواجب بالذات أو بالغير ، وأما امتناع الانقلاب فظاهر ، وقد يستدل على امتناع كون الواجب بالذات واجبا بالغير ، بأنه لو كان كذلك لارتفع بارتفاع الغير. فلم يكن واجبا بالذات ، وفيه نظر. لأنا لا نسلم : أنه لو كان واجبا بالغير لارتفع بارتفاعه ، وإنما يلزم لو لم يكن واجبا بالذات ، وهو ظاهر وبين الإمكان والوجوب الذاتي ، والامتناع الذاتي انفصال حقيقي. بمعنى أن كل مفهوم فهو إما واجب أو ممتنع ، أو ممكن ، لأنه إما أن يكون ضروري الوجود أو لا ، والثاني : إما أن يكون ضروري العدم أو لا فالثلاثة لا تجتمع ولا ترتفع ، وهذا في التحقيق منفصلتان ، كل منهما مركبة من الشيء ونقيضه ، وكذا كل منفصلة. تكون من أكثر (٤) من جزءين فهي متعددة على ما تقرر في موضعه ، والاعتراض بضروري الوجود والعدم ليس بشيء لأنه مفهوم إذا لاحظه العقل لم يكن إلا ضروري العدم ، وهذا كما يقال على قولنا : كل مفهوم إما ثابت أو منفي يفرض مفهوما هو ثابت ومنفي فيجتمعان أو ليس بثابت ولا منفي فيرتفعان. فنقول : هذا المفهوم (٥) منفي لا غير ، وفيما بين الواجب والممتنع والممكن الانقلاب محال ، لأن ما بالذات لا يزول. فإن قيل : لم لا

__________________

(١) في (ب) إذ ما بالذات بدلا من (لأن ما بالذات).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (بين).

(٣) سقط من (ب) جملة (دون الخلو).

(٤) سقط من (ب) حرف الجر (من).

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (المفهوم).

٤٦٦

يجوز أن يختلف مقتضى الذات بحسب الأوقات؟

قلنا : لأنه حينئذ لا يكون مقتضى الذات ، بل مع دخل للأوقات.

فإن قيل : الحادث ممتنع في الأزل ، لأن الأزلية تنافي الحدوث ، ثم ينقلب ممكنا فيما لا يزال ، وكون الحادث مقدورا ممكن قبل وجوده ، ثم ينقلب بعد وجوده ممتنعا ضرورة امتناع القدرة على تحصيل الحاصل.

أجيب عن الأول : بأن قولكم في الأزل ، وإن كان قيدا للحادث ، فلا نسلم أنه يصير ممكنا فيما لا يزال. بل الحادث في الأزل ممتنع أزلا وأبدا ، وإن كان قيدا للممتنع ، فلا نسلم أن الحادث ممتنع في الأزل ، بل هو ممكن أزلا وابدا ، فأزلية الإمكان ثابتة للحادث ، وإمكان الأزلية منتف عنه دائما ولا انقلاب أصلا (١).

وعن الثاني : فإنا لا نسلم أن مقدورية الشيء بعد وجوده ، تصير ممتنعة بالذات ، بل إنما تمتنع بالغير لمانع ، هو الحصول حتى لو ارتفع لبقي (٢) مقدورا كما كان.

__________________

(١) في (ب) والانقلاب أصلا (وهو تحريف).

(٢) في (ب) لكان مقدورا بدلا من (لبقي).

٤٦٧

المبحث الثالث

الوجود رابطة وتوابعه مواد للقضايا

(قال : المبحث الثالث : إذا جعل الوجود رابطة (١) ، فالثلاثة في نفسها مواد القضايا (٢) ، وباعتبار التعقل أو التلفظ جهاتها (٣) وحينئذ إن كان المحمول أحدهما ، أو الوجود أو العدم ، كما في قولنا : الباري واجب أو موجود ، واجتماع النقيضين ممتنع أو معدوم ، والإنسان ممكن ، أو موجود بتعدد الاعتبارات ، ويكون نسبة الثلاثة إلى موضوعاتها بالوجوب ، ونسبة الغيريين بالإمكان ، وكل ممكن الوجود لغيره ، ممكن الوجود في نفسه من غير عكس).

بين الموضوع والمحمول ، فالكيفية الحاصلة لتلك النسبة من الوجوب ، والامتناع ، والإمكان كما في قولنا : الإنسان حيوان أو حجر أو كاتب من حيث أنها الثابتة في نفس الأمر تسمى مادة القضية ، ومن حيث أنها تتعقل أو تتلفظ بها (٤) تسمى جهة القضية سواء طابقت المادة بأن تكون نفسها. كقولنا الإنسان حيوان بالوجوب ، وحينئذ تصدق القضية ، أو لم تطابقها ، بأن تكون أعم منها أو أخص ، أو مبانيا ، وحينئذ (٥) قد تصدق القضية ، كقولنا الإنسان

__________________

(١) وهو مذهب المحققين من الحكماء ، فإن قيل زيد قائم فمعناه أن زيدا يوجد قائما ولا يكفي في الربط غير ذلك.

(٢) باعتبار تحقق أحد هذه الثلاثة في نسبة كل محمول لموضوعه في نفس الأمر.

(٣) جهاتها : أي القضايا فإذا قلنا الإنسان حيوان بالضرورة فكون الحيوانية واجبة للإنسان في نفس الأمر مادة هذه القضية.

(٤) سقط من (أ) لفظ (بها).

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (قد).

٤٦٨

حيوان بالإمكان العام ، وقد تكذب كقولنا : الإنسان حيوان بالإمكان الخاص ، وإنما لم يقتصروا على المواد ، بل تجاوزوا إلى الجهات ، بما لها من التفاصيل ، لأن الغرض من معرفة القضايا تركيب الاقيسة لاستخراج النتائج ، وهي لا تحصل من المقدمات بحسب موادها الثابتة (١) في نفس الأمر ، بل بحسب جهاتها المعتبرة عند العقل ، ثم كلامهم متردد في أن المعتبر في المادة ، هو الربط الإيجابي حتى تكون مادة نسبة الحيوان إلى الإنسان هو الوجوب ، سواء قلنا : الإنسان حيوان ، أو ليس بحيوان ، أو أعم من الإيجابي والسلبي ، حتى تكون المادة في قولنا : الإنسان حيوان هو الوجوب الذاتي (٢) وفي قولنا : الإنسان ليس بحيوان هو الامتناع ، والأظهر الأول. ثم المحققون على أن في كل قضية الوجود ، واللاوجود رابطة ، والوجوب والامتناع والإمكان جهة سواء ، صرح بها (٣) أو لم يصرح. وسواء كان المحمول أحد هذه الامور أو غيرها. حتى إن قولنا : الباري تعالى واجب وموجود في معنى يوجد واجبا ، ويوجد موجودا ، وقولنا : (٤) اجتماع النقيضين ممتنع ومعدوم ، في معنى يوجد ممتنعا ومعدوما ، أو لا يوجد ممكنا وموجودا.

وقولنا : الإنسان ممكن وموجود في معنى يوجد ممكنا وموجودا ، فاذا كان المحمول أحد هذه الأمور تتعدد الاعتبارات ، أي يعتبر وجود هو المحمول وآخر هو الرابطة. ووجوب أو امتناع أو إمكان هو المحمول ، وآخر هو الجهة ، وتكون نسبة كل من الوجوب والامتناع والإمكان إلى موضوعاتها بالوجوب إذا أخذت ذاتية ، وإذا أخذ الوجوب والامتناع غيريين ، فبالإمكان وممكن الوجود لغيره يجب أن يكون ممكن الوجود في نفسه ، وممكن الوجود في نفسه قد يجب وجوده للغير كلوازم الماهية ، وقد يمتنع كالذوات المستقلة ، وقد يمكن كسواد الجسم. وهذا معنى قولنا : كل ممكن لغيره ، ممكن الوجود في نفسه من غير عكس.

__________________

(١) في (ب) موادها الباقية بدلا من (الثابتة).

(٢) سقط من (أ) لفظ (الذاتي).

(٣) في (أ) بزيادة (بها).

(٤) سقط من (ب) لفظ (قولنا).

٤٦٩

المبحث الرابع

في اعتبارية الوجوب وما يجري مجراه

(قال : المبحث الرابع : كل ما يوصف أي فرد يفرض منه بمفهومه (١) كالوجوب والقدم ، والوحدة ومقابلاتها (٢) والتعين والبقاء (٣) والموصوفية فهو اعتباري (٤) إذ لو وجد لزم التسلسل ، للقطع بامتناع الصفة الموجودة ، المحمولة على الشيء بالاشتقاق عينه ، وإنما ذلك في الاعتباريات. فمعنى كون الشيء واجبا في الخارج. أنه بحيث إذا عقل مستندا إلى الوجود لزم في العقل معقول هو الوجوب (٥) ، وكذا الكلام في البواقي (٦)).

لا خفاء في أن امتناع اعتبار عقلي ، وكذا الوجوب والإمكان عند المحققين ، لأن الوجوب مثلا لو كان موجودا لكان واجبا ضرورة أنه لو كان ممكنا لكان جائزا لزوال نظرا إلى ذاته ، فلم يبق الواجب واجبا ، وهو محال

__________________

(١) أي كل شيء إذا فرد منه موجودا فإن ذلك الفرد يلزم بذلك الشيء.

(٢) أي مقابلات هذه الثلاث. فمقابل الوجوب. الإمكان. ومقابل الوحدة الكثرة. ومقابل القدم الحدوث.

(٣) مقابل البقاء (الفناء).

(٤) أي كل ما كان بالوصف المذكور فهو اعتباري لا عين له قائمة موجودة في الخارج مثل البياض والسواد.

(٥) وليس معنى كون الشيء واجبا في الخارج أن وجوبه من الأمور الوجودية الخارجية كالبياض والسواد وتحقيقه أن الاعتباري قد يختص به الأمر الخارجي بأن يتحقق له مقتضاه من نفي كل ما ينافيه كالوجوب ينتفي عن موصوفه إمكانه وامتناعه.

(٦) فوحدة زيد مثلا في الخارج أن يكون بحيث إذا لوحظ مع ما ينافيها من الكثرة تعقل أمر آخر بينهما ثم اتصافه بمعنى هو عدم تلك الكثرة.

٤٧٠

لما سبق من امتناع الانقلاب ، والواجب ماله الوجوب ، فينقل الكلام إلى وجوبه ويلزم التسلسل في الأمور المترتبة الموجودة معا وهو محال. وكذا الإمكان ، ولما كان هذا الدليل بعينه جاريا في الوجود ، والبقاء والقدم والحدوث ، والوحدة ، والكثرة ، والتعين ، والموصوفية ، واللزوم ، ونحو ذلك ، جعله صاحب التلويحات (١) قانونا في ذلك. فقال : كل ما يكون نوعه متسلسلا ومترادفا ، أي كل ما يتكرر نوعه بحيث يكون أي فرد يفرض منه موصوفا بذلك النوع ، فيكون مفهومه تارة تمام حقيقته محمولا عليه بالمواطأة ، وتارة وصفا عارضا به (٢) محمولا عليه بالاشتقاق ، يلزم أن يكون اعتباريا ، لئلا يلزم التسلسل في الأمور الموجودة ، ولهذا لم تكن الأمور الموجودة متصفة بمفهوماتها ، فلم يكن السواد أسود ، والعلم علما (٣) والطول طويلا ونحو ذلك.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون وجوب الوجوب مثلا عينه ، ونفس ماهيته ، لا أمرا زائدا عليه ، قائما به كبياض الجسم ليلزم التسلسل ، وكذا البواقي.

قلنا : لأنه لو كان كذلك لكان محمولا عليه بالمواطأة ضرورة واللازم باطل لأن الوجوب إذا كان واجبا ، كان حمل الوجوب عليه بالاشتقاق دون المواطأة. لأنه لا معنى للواجب لا ما له الوجوب ، وأما إذا أريد أن لوجود موجود. بمعنى أنه وجود الوجوب واجب بمعنى أنه وجوب. والإمكان ممكن ، بمعنى ، أنه إمكان إلى غير ذلك ، فلم يكن له فائدة ، ولم يتصور فيه نزاع. نعم يصح ذلك في الأمور الاعتبارية ، بأن يعتبر العقل له (٤) أوصافا متعددة ، تنقطع بانقطاع الاعتبار من غير تعدد في الخارج ، وقدرة في المطارحات بوجه آخر

__________________

(١) كتاب التلويحات في المنطق والحكمة : للشيخ شهاب الدين يحيى عمر بن حبش الحكيم السهروردي المقتول سنة ٥٨٧ سبع وثمانين وخمسمائة ، وهو من الكتب المتوسطات فيه ، أوله : عونك يا لطيف. السبحات لجلالك. رتب على ثلاثة علوم : المنطق والطبيعي والإلهي. كل منها على تلويحات. وعليه شرح لعز الدولة سعد بن منصور المعروف بابن كمونة الإسرائيلي.

(راجع كشف الظنون ج ١ ص ٤٨٢).

(٢) في (ب) لفظ (به) بدلا من (له).

(٣) في (ب) عالما بدلا من (علما).

(٤) سقط من (ب) لفظ (له).

٤٧١

يندفع عنه هذا المنع ، وهو أن الوجوب ، والإمكان ، والوجود والوحدة (١) والكثرة (٢) والتعين ، ونحو ذلك حالها واحد في أنها أمور موجودة عندكم ، اعتبارية عندنا ، وكل موجود فله وحدة وتعين ووجوب ، أو إمكان وقدم أو حدوث ، فلو كان الإمكان مثلا موجودا لكان له وحدة موجودة ، لها إمكان موجود له وحدة موجودة. وهلم جرا فيلزم التسلسل في وحدات الإمكان ، وإمكانات الوحدة ، التي هي أمور مترتبة مجتمعة في الوجود ، مع القطع بأن ليست الوحدة نفس الإمكان ، وكذا يلزم سلسلة من وجودات الإمكان ، وإمكانات الوجود ، وأخرى من تعينات الإمكان ، وإمكانات التعين ، على هذا فقس. ولما كان هاهنا مظنة إشكال ، وهو أنا قاطعون ، بأن الباري تعالى موجود وواجب ومتعين وواحد وقديم وباق في الخارج ، لا في الذهن فقط وكذا إمكان الإنسان وحدوثه ، وكثرته ونحو ذلك.

أشار إلى الجواب : بأن هذا لا يقتضي كون الوجوب والإمكان وغيرهما أمورا متحققة في الخارج ، لها صور عينية ، قائمة بالموضوعات كبياض الجسم ، لأن معنى قولنا : الباري تعالى واجب في الخارج ، أنه بحيث إذا نسبه العقل إلى الوجود ، حصل له معقول هو الوجوب (٣) ، ومعنى قولنا : الإنسان ممكن أنه إذا نسبه إلى الوجود ، حصل له معقول هو الإمكان (٤).

__________________

(١) الوحدة : ضد الكثرة ، لأنها كون الشيء بحيث لا ينقسم ، والكثرة كونه بحيث تنقسم. والوحدة في فلسفة ابن سينا من لوازم الماهيات لا من مقوماتها قال : فقد بان بهذه الوجوه الثلاثة ، التي أحدها : كون الوحدة غير ذاتية للجواهر بل لازمة لها. والثاني : كون الوحدة معاقبة للكثرة في المادة ، والثالث : كون الوحدة مقولة على الأعراض.

(راجع النجاة ص ٣٤).

(٢) الكثرة : ضد الوحدة واللفظان متقابلان ومتضايفان ، لأنك لا تفهم أحدهما دون نسبته إلى الآخر.

والدليل بقولك : إنه الشيء الذي لا ينقسم من الجهة التي قيل له إنه واحد ، وتعرف الكثير بقولك إنه الشيء الذي يقبل الانقسام إلى وحدات مختلفة ، والواحد بالعدد ، إما أن يكون فيه بوجه من الوجوه كثرة بالفعل. فيكون واحدا بالتركيب والاجتماع وإما لا يكون.

(راجع النجاة ٣٦٥).

(٣) في (ب) الإمكان بدلا من (الوجوب).

(٤) إمكان الواجب لذاته ، ووجوب الممكن لذاته أو امتناعه وهو محال ضرورة التنافي بين الوجوب الذاتي والامتناع الذاتي.

٤٧٢

ومعنى قولنا : الشيء متعين أو واحد أو كثير أو قديم أو حادث في الخارج ، أنه بحيث إذا نسبه العقل إلى هذه المفهومات كانت النسبة بينهما الإيجاب لا السلب. وهذا ما يقال : إن انتفاء مبدأ المحمول في الخارج ، لا يوجب انتفاء الحمل في الخارج كما في قولنا : زيد أعمى.

الاستدلال على اعتبارية الإمكان والوجوب

(قال : وقد يستدل بأن الوجوب والإمكان لو كانا موجودين لزم محالات.

أحدها : عدم الصدق على العدم (١).

الثاني : إمكان الواجب (٢). لأن الوصف (٣) لاحتياجه إلى الموصوف ممكن (٤) ، والممكن نظرا إلى نفسه جائز الزوال ، وأيضا إذا كان ما به واجبية الشيء ممكنا ، فهو أولى.

الثالث : تقدم الشيء على نفسه ، والتسلسل ضرورة تقدم المقتضى بالوجوب.

الرابع : سبق وجود الممكن على إمكانه ضرورة تقدم المعروض على العارض (٥).

الخامس : قيام الصفة الموجودة بالمعدوم أو بغير موصوفها (٦) ، ضرورة

__________________

(١) أي عدم صدق الوجوب والإمكان على المعدوم.

(٢) الذي هو الوجوب أو الإمكان.

(٣) إذ الممكن هو ما لا يكون له الوجود إلا من الغير.

(٤) في (أ) بزيادة : ومعنى قولنا الإنسان ممكن أنه إذا نسبه إلى الوجود حصل له معقول هو الإمكان.

(٥) بالزمان أو بالذات وإذ لزم على ذلك التقدير تقدم وجود المعروض وهو ذات الممكن على العارض وهو الإمكان.

(٦) بمعنى أن الإمكان لو كان موجودا لزمه أحد أمرين ، إما قيام الصفة الموجودة بالموصوف المعدوم وإما قيام تلك الصفة بما تحقق أنه غير موصوفها ، وكلاهما ضروري البطلان وإنما لزم أحد الأمرين.

٤٧٣

أن إمكان الشيء لكونه ذاتيا يكون قبل وجوده ، ولا بد له من محل.

السادس : الانقلاب ضرورة ، إن الإمكان نسبة بين الممكن ووجوده ، فلو وجد لتأخر عنهما فيكون فيكون الممكن مثله واجبا أو ممتنعا وفي أكثر الوجوه للجدال مجال).

كون الامتناع وصفا اعتباريا لا تحقق له في الأعيان (١) مما لا نزاع فيه ، ولا حاجة إلى الاستدلال عليه (٢) ، وأما الوجوب والإمكان فقد استدل على كونهما اعتباريين بوجوه :

الأول : أنهما لو كانا موجودين لما صدقا على المعدوم ، ضرورة امتناع قيام الصفة الموجودة بالمعدوم ، واللازم باطل ، لأن الممتنع واجب العدم ، والمعدوم الممكن ممكن الوجود والعدم ، ومبناه على أن كلا من الوجوب والإمكان مفهوم واحد ، يضاف تارة إلى الوجود ، وأخرى إلى العدم ومع ذلك فقد اعترض بأن انتفاء بعض جزئيات المفهوم لا ينافي كونه وجوديا يوجد منه بعض الجزئيات كسائر الكليات.

الثاني : لو كان الوجوب موجودا لزم إمكان الواجب ، وهو محال بالضرورة بيان اللزوم من وجهين :

أحدهما : أن الوجوب إذا (٣) كان وصفا قائما موجودا بالواجب ، كان محتاجا إلى موصوفه ضرورة ، وكل محتاج إلى الغير فهو ممكن ، وكل ممكن فهو جائز الزوال ، نظرا إلى نفسه ، وإن كان لازم الوجود نظرا إلى غيره وزوال الوجوب عن الموجود يستلزم إمكانه ضرورة.

وثانيهما : أن واجبية الواجب تكون للوجوب الممكن في نفسه ، ضرورة احتياجه إلى الموصوف ، وما يكون واجبيته لأمر ممكن ، لا يكون لذاته بل ممكنا بطريق الأول ، لأن المحتاج إلى الواجب ممكن ، فكيف إلى الممكن؟

__________________

(١) في (أ) بزيادة : لا تحقق له في الأعيان.

(٢) سقط من (أ) لفظ (عليه).

(٣) في (ب) إن بدلا من (إذا).

٤٧٤

والجواب : أنا لا نسلم أن الوجوب ما به الواجبية بل نفسها ، وأن الوجوب على تقدير إمكانه ، يكون (١) جائز الزوال في نفسه ، وإنما يكون كذلك لو لم يكن مقتضى ذات الواجب ، كالوجود. ولا معنى للواجب ، إلا ما يكون وجوده ، ووجوبه ، وسائر صفاته لذاته ، وإن سميت كلا منها ممكنا في نفسه.

وأما الجواب : بأن وجوب الواجب نفسه ، لا وصف له فضعيف. لأن المتنازع هو الوجوب ، بمعنى ضرورة الوجود اقتضائه ، ولا خفاء في أنه إذا كان أمرا محققا موجودا كان زائدا في الذهن والخارج جميعا.

الثالث : أن الوجوب لو كان موجودا لكان ممكنا لما مر (٢) ، فيحتاج إلى سبب متقدم عليه بالوجود ، الوجوب ضرورة أن الشيء ما لم يكن موجودا واجبا بالذات ، أو بالغير لم يصلح سببا لوجود شيء آخر ، فذلك الوجوب. إن كان نفس هذا (٣) الوجوب لزم تقدم الشيء على نفسه ، وإن كان غيره ينقل الكلام إليه ويتسلسل ، وفي هذا التقرير دفع لما يقال : إن وجوب الواجب بذات الواجب لا بوجوبه.

الرابع : لو كان الإمكان موجودا ، وهو وصف عارض للممكن لزم تقدم وجود الممكن على الإمكان ، ضرورة تقدم المعروض على العارض ، ولو بالذات (٤) ، واللازم باطل للقطع بصحة قولنا : أمكن فوجد دون العكس.

والجواب : بأنه من عوارض الماهية دون الوجود ، فلا يلزم إلا تقدم الماهية بمعنى الاحتياج إليها ، مدفوع بأن المتنازع هو الإمكان الذي هو نسبة (٥) بين الممكن ووجوده ، فيكون متأخرا عنهما.

__________________

(١) في (أ) بزيادة الفعل (يكون).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (لما مر).

(٣) سقط من (ب) لفظ (هذا).

(٤) في (ب) بزيادة جملة (ولو بالذات).

(٥) النسبة عند الفلاسفة : إيقاع التعلق بين الشيئين (تعريفات الجرجاني). وهي أحد مفاهيم العقل الأساسية.

والنسبة قد تكون نسبة توافق أو تشابه ، أو تماثل أو تعلق ؛ تقول بيني وبينك في المحبة نسبة.

والنسبة الثبوتية ثبوت شيء لشيء كثبوت المحمول للموضوع. وهو الإيجاب والنسبة السلبية انتفاء شيء عن شيء. وهو السلب.

٤٧٥

الخامس : أن الإمكان لو كان موجودا لزم قيامه بالمعدوم ، أو بغير ما هو موصوف بالإمكان ، واللازم ضروري البطلان ، وجه اللزوم ان إمكان الشيء من أوصافه الذاتية ، ولا بد للوصف من محل يقوم به ، فقبل وجود الممكن يكون قيامه ، إما بالممكن المعدوم وهو الأمر الأول أو بغيره وهو الثاني.

والجواب : أن الوصف الذاتي ما يكون مقتضى الذات ، ولا يلزم من كونها موجودة أن يوجد قبل الذات.

السادس : أن الإمكان نسبة بين الممكن ووجوده ، فيكون متأخرا عنهما ، فقبل تحققه يكون الممكن إما واجبا أو ممتنعا ، وبعده يصير ممكنا وهو معنى الانقلاب.

فإن قيل : فعلى تقدير كونه اعتباريا أيضا يكون متأخرا ، ويلزم المحال.

قلنا : إذا لم يكن له تحقق في الخارج لم يكن بينه وبين الماهية تقدم وتأخر ، إلا بحسب العقل. بمعنى : أنه إذا لاحظ العقل الماهية والوجود والنسبة بينهما ، حصل له معقول عارض للماهية ، هو الإمكان ، من غير لزوم انقلاب ، لأن الماهية دائما بهذه الحيثية.

احتجاج المخالف في نفي عدمية الوجوب والإمكان

(قال : احتج المخالف بأن الوجوب والإمكان لو كانا عدميين ، لزم محالات (١) أحدهما كون العدم مؤكدا للوجود (٢) ، ومقتضيا لثباته ، ضرورة أن الوجوب كذلك (٣).

قلنا : اعتبار عقلي لا عدم محض.

__________________

(١) على رأيه لزم محالات أربعة.

(٢) أي لو كان الوجوب عدميا لزم كونه نقيضا للوجود.

(٣) لأنه يؤكده ويقتضيه حيث يقال مثلا له وجود واجب وهو واجب الوجود.

٤٧٦

الثاني : ارتفاع النقيضين (١) ضرورة أن للوجوب واللاإمكان عدميان لصدقهما على الممتنع.

قلنا : قد يكون الصادق على المعدوم وجوديا ، باعتبار بعض الأفراد (٢) ولو سلم فقد يكون النقيضان عدميين ، كالامتناع واللاامتناع ، والعمى. واللاعمى. ومعنى ارتفاع النقيضين في المفردات عدم صدقهما على الشيء ، لا خلوهما عن الوجود والثبوت ، كما في القضايا ، وذلك كالمساواة (٣) ، والعموم ، والخصوص (٤) ، والمباينة (٥) ، فإنها في المفردات باعتبار الصدق على الشيء. وفي القضايا باعتبار ثبوتها في نفسها.

الثالث : سلب الإمكان عن الممكن ، والوجوب عن الواجب (٦) عند عدم فرض العقل ، بل مطلقا لأن إمكانه لا في معنى لا إمكان له ، وكذا الوجوب.

قلنا : ممنوع ، بل قد يكون المحمول عدميا ، والحمل ضروريا كالمعدوم والممتنع. فالإمكان عدمي ، أريد (٧) ممكن بالضرورة ، بمعنى أنه بحيث (٨) لو أسنده العقل إلى الوجود ، لزم معقول هو الإمكان ومعنى إمكانه لا أن ذلك

__________________

(١) أي لو كان الوجوب والامتناع عدميين لزم ارتفاع النقيضيين أي لزم تقرر مفهومين مقابلين سلبا وثبوتا وليس أحدهما ثبوتا في الخارج والآخر سلب ذلك الثبوت والنقيضان هما ثبوت في الخارج وسلب ذلك الثبوت.

(٢) دون بعض ألا يرى إلى الإنسان فإن مقابله لا إنسان واللاإنسان صادق على الممتنع وله أفراد وجودية.

(٣) فإنها في المفردات لزوم الصدق كالإنسان والبشر وفي القضايا لزوم الحصول في الواقع للنسبة لحصول أخرى كقولنا كل ناطق إنسان وكل بشر ناطق.

(٤) بإطلاق أو من وجه فإن ذلك في المفردات لزوم صدق العام الصدق الخاص دون العكس أو صحة المفارقة في الطرفين.

(٥) فإنها في المفردات عدم صحة اجتماع الضدين كالفرس والإنسان.

(٦) بمعنى أن الإمكان والوجوب لو كانا عدميين لزم سلب كل منهما عن موصوفه وقبل وجود فرض العقل ذلك الإمكان. لذلك الممكن وذلك الوجوب لذلك الواجب.

(٧) في (أ) و (ب) زيد.

(٨) سقط من (ج) لفظ (بحيث).

٤٧٧

الوصف الصادق عليه عدمي ، ولا إمكان له أنه لا يصدق عليه ذلك الوصف. وكذا في الوجوب. فإن قيل : ثبوت الشيء للشيء فرع ثبوته في نفسه.

قلنا : ممنوع في الثبوت بمعنى الصدق ، إذ كثير من الأوصاف سلبي).

قد سبقت إشارة إلى الفرق بين الموجود والوجودي ، والاعتباري والعدمي والتمسكات السابقة (١) إنما دلت على أن ليس الوجوب والإمكان أمرين موجودين في الخارج ، من غير دلالة على كونهما وجوديين أو عدميين ، وتمسكات المخالف. إنما تدل على أنهما ليسا عدميين من غير دلالة على كونهما موجوديين أو اعتباريين ، فالظاهر أنهما لم يتواردا على محل واحد ، إلا أنا اقتفينا أثر القوم.

فالوجه الأول ؛ من تمسكات المخالف ، وهو مختص (٢) بالوجوب أنه لو كان عدميا لزم كون العدم مؤكدا للوجود ، ومقتضيا لثباته ضرورة أن الوجوب تأكد الوجود واقتضاؤه ، واللازم باطل ، لأن العدم مناف (٣) للوجود ، فكيف يؤكده؟!.

والجواب : أنه ليس عدما محضا ليس له شائبة الوجود ، بل هو أمر اعتباري مفهومه ضرورة الوجود واقتضاؤه ، فيصلح مؤكدا له.

الثاني : أن (٤) الوجوب والإمكان لو كانا عدميين لزم ارتفاع النقيضين ، لأن نقيضيهما. أعني اللاوجوب واللاإمكان أيضا عدميان ، لصدقهما على الممتنع مع القطع بأن الوجودى لا يصدق على المعدوم ، وكون النقيضين عدميين هو معنى ارتفاعهما.

والجواب : أن صدق الشيء على المعدوم لا ينافي كونه مفهوما ، يوجد بعض أفراده كالإنسان الصادق على الممتنع وعلى الفرس ، ونحن لا نعني بالموجود والوجودي ، ما يكون جميع أفراده الممكنة موجودة البتة ، ولو سلم ،

__________________

(١) في (أ) بزيادة (السابقة).

(٢) سقط من (ب) (وهو مختص بالوجوب).

(٣) في (أ) العدم ضد بدلا من (مناف).

(٤) بزيادة الحرف (أن) في (أ).

٤٧٨

فلا نسلم استحالة كون النقيضين عدميين. كيف وهو واقع كالامتناع واللاامتناع ، والعمى واللاعمى ، وما ذكر من أنه ارتفاع النقيضين ممنوع ، بل معنى ارتفاع النقيضين في المفردات ، أن لا يصدقا على شيء حتى لو لم يصدق الوجوب واللاوجوب على شيء ، بل كانا مسلوبين (١) عنه ، كان ذلك ارتفاعا للنقيضين ، وليس معناه خلو النقيضين عن الوجوب والثبوت في نفسهما ، بأن يكون الامتناع معدوما ، وكذا اللاامتناع لصدقه على المعدوم الممكن ، فإن (٢) استحالة ذلك ممنوعة ، نعم (٣) ارتفاع النقيضين في القضايا هو أن لا تصدق القضيتان المتناقضتان في أنفسها ، ولا يثبت مدلولاهما بأن يكذب قولنا ، هذه ممكن ، وهذا ليس بممكن ، وهذا كسائر النسب من المساواة والعموم والخصوص ، والمباينة ، فإنها في المفردات ، تكون باعتبار صدقها على الشيء. وفي القضايا باعتبار صدقها في نفسها ، وثبوت مدلولاتها مثلا.

إذا قلنا الإنسان أخص من الحيوان ، فمعناه أن كل ما صدق عليه الإنسان صدق عليه الحيوان من غير عكس.

وإذ قلنا : الضرورية أخص من الدائمة ، فمعناه أنه كلما صدقت الضرورية في نفس الأمر ، صدقت الدائمة من غير عكس. بمعنى أن كل موضوع ومحمول يصدق بينهما الإيجاب الضروري (٤) ، يصدق بينهما الإيجاب الدائمي ، وليس كل موضوع ومحمول يصدق بينهما الإيجاب الدائمي ، يصدق بينهما الإيجاب الضروري.

الثالث : لو كان الوجوب والإمكان عدميين لا تحقق لهما إلا بحسب العقل ، لزم أن لا يكون الواجب واجبا ، والممكن ممكنا. لا عند فرض العقل ، واعتباره وصفي الوجود والإمكان ، لأن ما لا تحقق له إلا باعتبار العقل لا يقع وصفا للشيء (٥) إلا باعتباره ، واللازم باطل للقطع بأن الواجب واجب ،

__________________

(١) في (ب) مساويين عنه بدلا من (مسلوبين).

(٢) في (أ) واستحالة ذلك بدون (فإن).

(٣) سقط من (ب) لفظ (نعم).

(٤) في (ب) الإيجاب (الدائمي) بدلا من الضروري.

(٥) في (أ) للشيء وصفا بدلا من (وصفا للشيء).

٤٧٩

والممكن ممكن سواء وجد فرض العقل أو لم يوجد.

والجواب : أنا لا نسلم الملازمة ، لجواز أن يكون المحمول مما لا تحقق له إلا في العقل ، ويكون صدقه على الموضوع دائما ، بل ضروريا في نفس الأمر.

كقولنا : اجتماع النقيضين معدوم وممتنع ، فإن هذا الحكم ضروري صادق في نفس الأمر ، مع أنه لا تحقق للعدم والامتناع إلا بحسب العقل ، فكذا هاهنا الوجوب والإمكان عدميان ، والحكم بأن الشيء واجب أو ممكن ضروري ، بمعنى أنه في نفس الأمر بحيث إذا نسبه العقل إلى الوجود ، حصل معقول هو الوجوب أو الإمكان.

الرابع : أنهما لو كانا عدميين لزم سلب الوجوب عن الواجب ، والإمكان عن الممكن بحسب الخارج ، سواء وجد اعتبار العقل أو لم يوجد ، لأن العدم في نفسه ، عدم بالنسبة إلى كل شيء. وهذا معنى قولهم إمكانه ، لا في معنى لا إمكان (١) له.

والجواب : المنع. فإن معنى قولنا (٢) : إمكانه لا أن ذلك الوصف الصادق على الموضوع عدمي ، ومعنى لا إمكان له ، أنه لا يصدق عليه ذلك الوصف ، كما في صدق العدم والامتناع. فإن بنى ذلك على أنه لا تمايز في الإعدام.

أجيب : بأن التمايز العقلي ضروري ، وهو كاف.

فإن قيل : ثبوت الشيء للشيء. فرع ثبوته في نفسه ، فما لا يكون ثابتا في نفسه لا يكون ثابتا لغيره.

قلنا : نعم بمعنى حصوله للشيء في الخارج كبياض الجسم ، وأما بمنع الحمل على الشيء ، والصدق عليه. كما في قولنا : زيد أعمى ، والعنقاء لا موجود ، واجتماع النقيضين ممتنع فلا ، فإن الأوصاف الصادقة على الشيء بعضها ثبوتية ، وبعضها سلبية.

__________________

(١) في (ب) الإمكان بدلا من (لا إمكان).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (قولنا).

٤٨٠