شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

يقول أحد المفكرين الإسلاميين موضحا ومعلقا الخلافات الناشبة من علم الكلام : «كانت المناقشات في الأصل مما لا ينبغي أن يتجاوز حدود المناظرات المنطقية والعلمية والفنية ، ولكنا أقحمنا اسم الله عزوجل في مناقشات لا معنى لها.

فحاول كل فريق منا إسناد الكفر والإلحاد إلى الفريق الآخر» (١).

ونقول وكيف لا يتم ذلك ...

والنظام المعتزلي يقول : إن الله عزوجل لا يقدر على شيء من الشر ، وإن إبليس يقدر على الخير والشر.

وقال هشام الفوطى : إن الله لا يوصف بأنه عالم لم يزل.

وقال بعض المعتزلة : يجوز على الله سبحانه وتعالى الكذب إلا أنه لم يقع منه. وقال المجبرة : لا قدرة للآدمي ، بل هو كالجماد مسلوب الاختيار والفعل.

وقالت المرجئة : إن من أقر بالشهادتين ، وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا (٢). ونقول لهؤلاء جميعا قول الله تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً)(٣). يقول الشيخ محمد الغزالي : وعفا الله عن أجدادنا فقد أولعوا بذلك ، وأعانهم عليه أن الدولة الإسلامية كانت سيدة العالم.

فلا بأس على رجالها أن يشتغلوا بالترف العقلي ، وأن يحولوا فراغهم من الجهاد في سبيل الله إلى جهاد في هذا الميدان الخطر ، فانشغلوا بأنفسهم عن أعدائهم ، ثم ذهب الرجال وبقي الجدال ، بقي إلى اليوم يهدد وحدة الأمة ، ويهز كيانها (٤) ونصل بذلك إلى السؤال الثالث : هل المسلمون الآن بحاجة إلى

__________________

(١) راجع عقيدة المسلم للشيخ محمد الغزالي.

(٢) نقد العلم والعلماء لابن الجوزي ص ٨١.

(٣) سورة الكهف آية رقم ٥.

(٤) عقيدة المسلم للشيخ محمد الغزالي.

٤١

الكلام؟ وهل يعطينا درس نشأته عبرة استمراره ..؟

وإذا كان الجواب بالنفي ، وهو أن المسلمين الآن ليسوا في حاجة إليه ، فكيف نرد طغيان جهمية القرن العشرين ..؟ لقد كانت الجهمية الأولى تقول : إن القرآن كلام الله مخلوق؟

أما الجهمية الحديثة المتمثّلة في الاستشراق وأتباعه ، والتبشير وأذنابه ، فإنها تقول ببشرية القرآن ـ أي أن القرآن مصنوع ومؤلف. قام بتأليفه محمد وهو مرآة لأفق خاص من الحياة ، هو أفق الحياة في شبه الجزيرة العربية وفي مكة بوجه خاص (١).

كيف نحاج المذاهب الحديثة الهدامة؟. وما وسيلتنا في الرد على المذهب «الاسمي» الذي يقرر أتباعه ـ قاتلهم الله ـ أن لفظ الله لا يوجد له مسمى. وكيف نحاج أصحاب المذهب «التجريبي» والذي يعبر عن أحد أصوله ، (لود فيج باخ) فيلسوف ألماني بقوله :

«الله كان فكرتي الأولى.

والعقل كان فكرتي الثانية.

والإنسان بمحيطه الواقعي هو فكرتي الثالثة والأخيرة» (٢).

كيف نحول بين مجتمعنا وبين الاستماع إلى هذه المذاهب التي تتسرب إليه عن طريق التلفاز تارة ، والمذياع تارة أخرى.

إن أتباع المذهب العقلي يسمون هذا العصر ، عصر التنوير أو عصر الإنسان ويفسر (وولف) الألماني التنوير بقوله : «إقصاء الدين عن مجال التوجيه ، وإحلال العقل محله».

__________________

(١) الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي : الدكتور محمد البهي.

(٢) المصدر السابق.

٤٢

أما (لوك) الإنجليزي و (فليتر) الفرنسي فإنهما يفسران عصر الإنسان بقولهما : عصر الإله الجديد. العقل الذي استغنى عن آلهة الخرافة والكنيسة.

لقد كانت الباطنية القديمة تقول : إن الله منزه عن مشابهة المخلوقات ، ولو كان موجودا لأشبه الموجودات ، ولو كان معدوما لأشبه المعدومات ، فهو لا موجود ولا معدوم.

أما الباطنية الحديثة المتمثلة في عدمية (سيرجى نيكاييف) وإلحادية (ماركس) وتخريبية (فرويد) وأحفاد اليهودية العالمية التي يمثلها (دارون) فإنها تقول : الدين خرافة.

والرسل مجموعة من الأفاكين.

و «الله» أسطورة الرجعيين ، فقد ذهبنا لنفتش عنه فلم نعثر له على أثر. وصدق الله العظيم إذ يقول : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (١). وفي قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٢)

والآن يحق لنا أن نتساءل ما هي الأسلحة الفكرية التي أعدتها مدرسة القرآن للدخول بها في معارك الإلحاد الجديدة السافرة ..؟

إن الإلحاد المتنمر يحاجج شبابنا بسلاح لم يعرفوه ، وبأسلوب لم يعهدوه ، إن أبناءنا لا يعرفون شيئا عن الجزء الذي لا يتجزأ ، ولا عن الجوهر الفرد ، ولا عن العدم والوجود عند (سارتر) ووجوديته ، ولم يتدربوا على خداع المقاييس العصرية. مقاييس الشيطان ، التي تخرب ولا تعمر ، وتفسد ولا تصلح ، وتشكك ولا تيقن؟؟

ثم ما رأي علماء العقيدة؟.

__________________

(١) سورة الكهف آية رقم ٥.

(٢) سورة الفرقان آية رقم ٤٤.

٤٣

وما وجهة نظر فقهاء الشريعة؟

وما ذا يقول جهابذة الأصول؟

إن الأمر جد لا يحتمل التعطيل ولا التعليل (١).

__________________

(١) أرسل هذه الصيحة لكل علماء العالم الإسلامي لعلنا نجد عندهم الجواب. ثم ما رأي الأزهر ، ومجمع البحوث العلمية فيه ، وعلماء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، ورابطة العالم الإسلامي ، وإدارة البحوث العلمية والإفناء والدعوة والإرشاد بالسعودية ..؟ وأيضا أساتذة الجامعات في العالم العربي والإسلامي؟.

٤٤

علم الجدل

نشأته ـ تطوره

٤٥
٤٦

علم الجدل

نشأته ـ وتطوره

قلنا عند بداية حديثنا عن علم الكلام ، إذا كان هذا علم يدافع به عن العقائد الإيمانية وأسلحته الدفاعية هي : العقل ومعداته. فبما ذا يسمى العلم الآخر ..؟

العلم الذي يستعمله خصوم أهل السنة والجماعة من الخوارج ، والباطنية والجهمية ، وبقية الفرق الضالة الخارجة عن مذهب السلف.

نعم. ما ذا يسمى هذا العلم. إننا نرى ويشاركنا في رأينا هذا كثير من العلماء والمفكرين أنه علم الجدل ، وإذا كان ذلك كذلك. فما هو هذا العلم ، ومتى نشأ ، وما هي الأدوار التي مر بها حتى وصل إلينا ..؟

يقول ابن سيده : جدل الشيء : يجد له جدلا ، أحكم فتله. والجدل معناه الصرع على الجدالة وهي الأرض سميت بذلك لشدتها (١).

ويقول صاحب لسان العرب : الجدل لغة : هو اللدد في الخصومة ، والقدرة عليها. وقد جادله مجادلة وجدالا ، ورجل جدل ومجدال. شديد الجدل. يقال جادلت الرجل فجدلته جدلا ، أي غلبته. ورجل جدل إذا كان أقوى في الخصام.

والاسم الجدل (٢) وهو شدة الخصومة.

__________________

(١) أساس البلاغة للزمخشري ص ١١١. ولسان العرب ص ١٠٣ ج ١١.

(٢) راجع لسان العرب ج ١١ ص ١٠٥.

٤٧

وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

«أنا خاتم النبيين في أم الكتاب ، وإن آدم لمنجدل في طينته» أي ملقى على الجدالة وهي الأرض (١).

الجدل اصطلاحا :

حقيقة الجدل : هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة لإلزام الخصم. قال الجرجاني : «الجدل عبارة عن مراد يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها» (٢).

وقال أبو البقاء في كتاب (الكليات) : «الجدل ، هو عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجة أو شبهة ، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره» (٣).

ويقول ابن سينا في تعريف الجدل :

«فغرضنا الآن في هذا الفن تحصيل صناعة يمكننا بها أن نأتي بالحجر على كل ما يوضع مطلوبا من مقدمات ذائعة ، وأن نكون إذا أجبناه يؤخذ منا ما يناقض وضعنا» (٤).

ويحسن أن نضع إلى جانب هذا التعريف لابن سينا تعريف أرسطو لنبين الفرق بينهما.

يقول أرسطو في استهلال الطوبيقا : «إن قصدنا في هذا الكتاب أن نستبين طريقا يتهيأ لنا به أن نعمل من مقدمات ذائعة قياسا في كل مسألة تقصي وأن نكون ـ إذا أوجدنا جوابا ـ لم نأت فيه بشيء مضاد» (٥).

يتألف التعريف من عناصر ثلاثة هي :

__________________

(١) الحديث رواه أحمد بن حنبل في مسنده ج ٤ ص ١٢٧.

(٢) راجع التعريفات للجرجاني ص ٦٦.

(٣) كتاب الكليات لأبي البقاء ص ١٤٤.

(٤) راجع الشفاء الجدل ص ٢١.

(٥) انظر الترجمة القديمة في منطق أرسطو «الجزء الثاني» نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي ص ٧٢٣.

٤٨

(أ) الطريق.

(ب) الاستدلال من المشهورات.

(ج) عدم التناقض عند الجواب.

ويتفق أرسطو وابن سينا في العنصرين الأخيرين ، ويختلفان في العنصر الأول. فالجدل عند أرسطو : طريق أو منهج ، وعند ابن سينا صناعة (١).

هذا الفرق له أثره في اعتبار الجدل ملحقا بالمنطق العام لأرسطو ، أو هو نوع من القياس ، ولكنه ليس يقينا ، أي ان المنطق واحد ، وطريقه واحد ، أعلاه البرهان. والجدل مرتبة أضعف منه ، وأما في اعتبار الجدل نوعا متميزا من المنطق وصناعة خاصة هي الصناعة الجدلية.

وإذا أردنا أن نتعرف على رأي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في تعريف الجدل فإنه يقول :

الجدل : هو المعارضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، وأصله من جدل الشيء أحكم فتله ، كأن كلا من المتجادلين يفتل الآخر عن رأيه. وقد ورد الجدل في القرآن على وجوه مختلفة.

الأول : معارضة نوح وقومه. قال تعالى : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا)(٢).

الثاني : مجادلة أهل العدوان. قال تعالى : (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها) (٣).

الثالث : جدال إبراهيم والملائكة في باب قوم لوط. قال تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (٤).

__________________

(١) راجع مقدمة كتاب الجدل للدكتور إبراهيم مدكور ص ٢٤ ، ٢٥.

(٢) سورة هود آية رقم ٣٢.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ٧١.

(٤) سورة هود آية رقم ٧٤.

٤٩

الرابع : جدال صناديد قريش في إثبات إله العالمين. قال تعالى : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) (١).

وجدال الكفار في القرآن. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) (٢).

وجدال المنكرين في إنكار الحجة والبرهان بالشبهة والبطلان. قال تعالى : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) (٣).

وجدال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في باب الخائنين والمنافقين. قال تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) (٤).

وجدال الصحابة في حقهم. قال تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ) (٥).

وجدال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الكتاب باللطف والإحسان. قال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٦).

وجدال الصحابة إياهم. قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٧).

وجدال بمعنى الخصومة بين الحجاج. قال تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) (٨).

__________________

(١) سورة الرعد آية رقم ١٣.

(٢) سورة غافر آية رقم ٥٦.

(٣) سورة غافر آية رقم ٥.

(٤) سورة النساء آية رقم ١٠٧.

(٥) سورة النساء آية رقم ١٠٩.

(٦) سورة النحل آية رقم ١٢٥.

(٧) سورة العنكبوت آية رقم ٤٦.

(٨) سورة البقرة آية رقم ١٩٧.

٥٠

وجدال ابن الزبعرى (١) في حق عيسى وعزير والأصنام. قال تعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) (٢).

وجدال موجود في جبلة الإنسان. قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(٣).

وقيل الأصل في الجدل : الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة أي الأرض الصلبة.

نشأة علم الجدل :

يرى كثير من المفكرين والعلماء أن الجدل ظاهرة إنسانية وجدت مع وجود الإنسان على ظهر البسيطة.

بل إن هذه الظاهرة وجدت في غير الجنس البشري كالملائكة وإبليس ويعللون ذلك أن النفس البشرية مجبولة على حب الدفاع عنها ، وتقريب مطالبها الدنيوية ، ولن يتم لها ذلك إلا باستعمالها أسلحة الجدل وقوارع الحجج ، وهذه الظاهرة لن يتخلى عنها البشر حتى في ساحة الحشر ويوم الحساب الأعظم ، قال تعالى :

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) (٤).

والقرآن الكريم يحدثنا عن موقف الملائكة من ربهم عند ما أخبرهم بقوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٥).

__________________

(١) هو عبد الله بن الزبعرى القرشي السهمي ، كان من أشد قريش على المسلمين ثم أسلم عام الفتح.

(انظر ترجمته في الإصابة رقم ٤٦٧٠).

(٢) سورة الزخرف آية رقم ٥٨.

(٣) سورة الكهف آية رقم ٤٥.

(٤) سورة النحل آية رقم ١١١.

(٥) سورة البقرة آية رقم ٣٠.

٥١

لقد خفيت على الملائكة حكمة الله سبحانه وتعالى في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنوعها ، وفي تحقيق إرادة الخالق ، وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها على يد خليفة الله في أرضه هذا الذي قد يفسد أحيانا ، وقد يسفك الدماء أحيانا ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل ، خير النمو الدائم ، والرقي الدائم خير الحركة الهادمة البانية ، خير المحاولة التي لا تكف ، والتطلع الذي لا يقف والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير.

عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء ، والخبير بمصائر الأمور.

قال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

وأيضا الجدل الذي تم بين أبناء آدم.

قال تعالى :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) (١).

لقد حكم أحدهما رغباته وشهواته ، والرغبة تعمي وتصم. وكما قال (اسبينوزا) : «إن الرغبة هي التي ترينا الأشياء مليحة لا بصيرتنا».

والحقيقة أن القارئ لتاريخ البشرية يرى أن هذه الرغبة لم يخل منها عصر من العصور ، ولا جيل من الأجيال.

فلما كانت دولة اليونان القديمة ظهر فيها علم المنطق والجدل فوضعوا لهما الأصول وقعدوا لهما القواعد. وكان العقلاء منهم ينظرون إلى الجدل نظرة اشتباه وإنكار وهو الذي سموه ـ بعد ـ بالسفسطة أو ترفّقوا فسموه علم البراهين الخطابية ، وحسبوه صناعة لازمة في معرض الإقناع والتأثير.

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٢٧ ـ ٢٨.

٥٢

وكان الجدل في نشأته الأولى في دولة اليونان كعلم له قواعد وأصول. معظما مبجّلا بين الحكماء وتلاميذهم ، وجمهرة المعنيين بالحكمة والمعرفة ، وكان اسم «السوفيست» أعظم شأنا من اسم الفيلسوف ، لأن السوفيست ينتمي إلى ربّة الحكمة «صوفية» فهو الحكيم الذي ألهمته تلك الربة وفرغ من مئونة المعرفة.

فلما ظهر الحكيم (فيثاغورس) (١) استكبر هذه الدعوى وتواضع فسمى نفسه فيلسوفا أي محبا للحكمة.

وتصدى لتعليم الجدل أو البراهين الخطابية أناس يقصدهم المتعلمون ليعرفوا كيف ينتصرون على خصومهم في مجال المنازعة والملاحة ، ويضع الآباء أبناءهم في كفالتهم ليدربوهم على صناعة الجدل ، والتأثير في سبيل الإقناع بالحجة أيا كان حظها من الحقيقة.

ومما يحكى عن أستاذ جدلي أنه اتفق مع تلميذ له على أن يخرجه للدفاع في القضاء والمنازعات العامة خلال سنتين بأجر متفق عليه.

فلما انتهت السنتان طلب الأستاذ أجره.

فقال التلميذ : بل أناقشك في هذا الأجر هل تستحقه بعملك أو تطلبه بغير حق ..؟ فإن أقنعتك بأنك لا تستحقه فلا حق لك فيه باعترافك ، وسكوتك حجة على هذا الاعتراف.

وإن لم أقنعك فلا حق لك فيه ، لأنك لم تعلمني كيف أقيم البرهان على دعواي.؟؟

وكان جواب الأستاذ كمثال تلميذه ، مثلا للبرهان المطلوب في هذه الصناعة فقال له: إنني أقبل أن أناقشك ولكن على غير النتيجة التي خلصت إليها.

__________________

(١) ولد بجزيرة (ساموس) من أعمال آسيا الصغرى ثم ارتحل إلى بلاد الشرق في طلب العلم وأخيرا استقر به المقام في جنوب إيطاليا ، حيث أنشأ هذه المدرسة وأخذ هو وتلاميذه يصيغون العلوم الرياضية.

٥٣

أناقشك حقي فتعطيه مرة إذا ثبت عليك. وتعطيه مرتين إذا لم أثبته أمامك ، لأنني علمت تلميذا ما يغلب به أستاذه في صناعة البرهان.

وبلغ من التفاهم على الفصل بين البرهان والحقيقة في صناعة الجدل أنهم أصبحوا يقولون عن الحجة أنها حجة خطابية ، أي تقع ولا يشترط فيها أن تدل على الحقيقة.

وإذا تركنا المدارس اليونانية وما كان فيها من جدل عقيم ، وسفسطات تدع الحليم حيران ، وتصيب الرءوس بالدوار وانتقلنا إلى مسرح الجزيرة العربية في الجاهلية فإننا نرى حشدا هائلا من الديانات والنحل ، مثل اليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية ، والزرادشتية ، والمانوية ، والمزدكية ، والصابئة وأصحاب الروحانيات ، وأصحاب الأشخاص. كلها تدعي الحق وتدمغ الآخرين بالباطل ، وتستعمل أسلحة الجدل ومنطق العقل ، ومغالطة الفكر في إثبات حقها ، وإبطال زيف ما عداها (١).

من ذلك ما يحكيه ابن هشام في السيرة النبوية عن سلمة بن سلامة من أهل بدر قال:

«كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا عليّ بردة لي مضطجع فيها بفناء أهلي.

فذكر القيامة والبعث ، والحساب والميزان ، والجنة والنار ، قال ذلك لقوم أهل شرك ، أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائنا بعد الموت.

فقالوا له : ويحك يا فلان ، أو ترى هذا كائنا ، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ، يجزون فيها بأعمالهم ..؟

قال : نعم.

__________________

(١) راجع التفكير فريضة إسلامية ـ للأستاذ العقاد.

٥٤

فقالوا : ويحك يا فلان ، فما آية ذلك ..؟

قال : نبي مبعوث من نحو هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة واليمن.

فقالوا : ومتى نراه ..؟

قال : فنظر إليّ وأنا أحدثهم سنا فقال : إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه (١).

فهذه صورة من الجدل والحوار الذي كان يجري بين هؤلاء الأعراب الذين لا يصدقون بوحي ولا يؤمنون برسول ، ويشككون في الحياة الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، ويقولون : «إن هي إلّا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر».

وبين أصحاب كتاب ورسول يدينون بعقيدة البعث ويبشر كتابهم الذي بين أيديهم بنبي جديد.

وكان للقسيسين والرهبان دور في الحوار والجدل وهم يبشرون بدينهم ويطالبون الآخرين في اتباعهم والاستماع إليهم.

من ذلك ما جاء في كلام المستشرق (دوزي) :

«إن الأساقفة أرادوا أن ينصّروا المنذر الثالث ملك الحيرة حوالي عام ٥١٣ من الميلاد. وأن المنذر ليصغي إليهم إذ دخل عليه قائد من قواده فأسر إليه بضع كلمات.

ولم يكد ينتهي منها حتى بدت على أسارير الملك أمارات الحزن العميق فتقدم إليه قسيس من القسيسين يسأله عما أشجاه.

فأجابه الملك : يا له من خبر سيئ ، لقد علمت أن رئيس الملائكة قد مات ، فوا حسرتاه عليه.

__________________

(١) راجع سيرة ابن هشام ج ١ تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد.

٥٥

فقال القسيس : هذا محال ، وقد غشك من أخبرك ، فإن الملائكة خالدون يستحيل عليهم الفناء.

فأجابه الملك : أحق ما تقوله ..؟

قال القسيس : نعم.

قال الملك : فكيف إذن تريد أن تقنعني بأن الله ذاته يموت ..؟» (١).

انظر إلى تلك المناقشة التي تلمح فيها قوة العقل التي ترد أعقد المسائل إلى أقرب البدهيات ، ليدركها النظر السليم ، وليفحم المجادل العنيد ، وألا تلمح سذاجة الفطرة القوية. قد التقت مع التفكير المعقد فحلت عقدته وبينت له ما ينبغي أن يدركه الفكر القويم.

ثم جاء الإسلام ، جاء الإسلام بالدعوة إلى التوحيد ، توحيد الخالق فلا إله إلا الله.

وتوحيد العقيدة فلا دين إلا الإسلام ، وتوحيد البشرية : كلكم لآدم وآدم من تراب.

وأخذ الوحي يتتابع والآذان تتسمع إلى الآيات البينات التي تأتي من عند الله. وكأنها أوامر فورية تلتقطها الآذان ، وتعيها القلوب فتسمع وتطيع ، كما يسمع الجنود في ثكنتهم أوامر القائد فيبادرون إلى الطاعة ، وإلى التنفيذ.

إن هذا الوحي يبلغه إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمر ربه (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢).

ولا خيار للمؤمن ولا للمؤمنة فيما يأتي من عند الله مصداقا لقوله تعالى :

__________________

(١) راجع كتاب تاريخ الجدل للشيخ محمد أبو زهرة ص ٣٥ نقلا عن كلام المستشرق (دوزي) ترجمة الأستاذ كامل كيلاني.

(٢) سورة النساء آية رقم ٨٠.

٥٦

(ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١).

ولكن هل خلت فترة الوحي المتتابع من الجدل والنقاش.؟ الحقيقة أنه كان هناك جدل مع المشركين عبدة الأوثان (٢).

وجدل مع هؤلاء الكافرين عباد الشمس والقمر والكواكب والنجوم (٣) وجدل مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى (٤).

جادل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل هذه الطوائف ، وأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرفق بهم والحسن من مناقشتهم.

قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (٥).

وقال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٦).

وقال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٧).

وبعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، افترقت الأمة الإسلامية وتباينت إلى شيع وأحزاب ، ودخلوا في فتنة عمياء كما أخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ستكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي» (٨) إلخ.

__________________

(١) سورة الأحزاب آية ١ رقم ٣٦.

(٢) قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) سورة البقرة آية رقم ١٧.

(٣) قال تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) فصلت آية رقم ٢٧.

(٤) قال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) التوبة آية رقم ٣٠.

(٥) سورة النحل آية رقم ١٢٥.

(٦) سورة النحل آية رقم ١٢٥.

(٧) سورة العنكبوت آية رقم ٤٦.

(٨) الحديث رواه الإمام مسلم في إيمان ١٨٦ وأبو داود في الفتن ٢ والترمذي في الفتن ٣ ، وابن ماجه في الفتن ١٠ وأحمد بن حنبل في مسنده ٤ ج ١ ص ١٨٩.

٥٧

ومزقتهم الأهواء والأغراض فافترقوا فرقا وجماعات مصداقا لما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ستفترق أمتي».

فكانت الخوارج وكانت الشيعة ، وكانت المعتزلة ، وكانت الأشاعرة وكانت القدرية ، وكانت الجهمية ، وكانت الباطنية.

وغير ذلك كثير من أشياء تذهب بلب الحليم ، وتصيب الرءوس بالدوار ولكل فرقة من هذه الفرق جدل ومناقشات (١) يلتبس فيها الحق بالباطل والواقع

__________________

(١) أ ـ جدل القدرية :

كان على عهد هشام بن عبد الملك رجل قدري فبعث هشام إليه فقال له : قد كثر كلام الناس فيك.

قال : نعم يا أمير المؤمنين ، ادع من شئت فيجادلني فإن أدركت عليّ بذلك فقد أمكنتك من علاوتي :

فقال هشام : قد أنصفت فبعث إلى الأوزاعي فلما حضر قال له هشام : يا أبا عمرو ناظر هذا القدري.

فقال له الأوزاعي : اختر إن شئت ثلاث كلمات ، وإن شئت أربع وإن شئت واحدة.

فقال له القدري : بل ثلاث كلمات.

فقال الأوزاعي للقدري : أخبرني عن الله عزوجل هل قضى على ما نهى ..؟ قال القدري :

ليس عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه واحدة ، ثم قال : أخبرني عن الله عزوجل : أحال دون ما أمر؟

قال القدري : هذه أشد من الأولى ، ما عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : هذه اثنتان يا أمير المؤمنين ، ثم قال أخبرني عن الله عزوجل. هل أعان على ما حرم؟

فقال القدري : هذه أشد من الأولى والثانية ، ما عندي في هذا شيء.

فقال الأوزاعي : يا أمير المؤمنين. هذه ثلاث كلمات. فأمر هشام فضربت عنقه فقال هشام للأوزاعي : فسر لنا هذه الكلمات الثلاث ما هي؟

قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أما تعلم أن الله تعالى قضى على ما نهى. نهى آدم عن الأكل من الشجرة ، ثم قضى عليه فأكلها ، أما تعلم أن الله تعالى حال دون ما أمر ، أمر إبليس بالسجود لآدم ، ثم حال بينه وبين السجود ، أما تعلم يا أمير المؤمنين أن الله أعان على ما حرم؟ حرم الميتة والدم ولحم الخنزير ، ثم أعان عليه بالاضطرار.

فقال هشام : أخبرني عن الواحدة ما كنت تقول له؟

قال : كنت أقول له : أخبرني عن الله عزوجل حيث خلقك ، خلقك كما شاء أو شئت ، فإنه

٥٨

بالأسطورة ، والخيال بمقاييس العقل ، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن : هل توقف الجدل في تاريخ الانسانية ، وهل امتنعت البشرية عن المعارك الكلامية ،

__________________

ـ يقول كما شاء ، فأقول له : أخبرني عن الله عزوجل يتوفاك إذا شئت أو إذا شاء ، فإنه كان يقول : إذا شاء ، فأقول له : أخبرني عن الله عزوجل إذا توفاك تصير حيث شئت أو حيث شاء ، فإنه كان يقول حيث شاء يا أمير المؤمنين : فمن لم يمكنه أن يحسن خلقه ، ولا يزيد في رزقه ولا يؤخر أجله ولا يصير لنفسه حيث شاء فأي شيء في يده من المشيئة يا أمير المؤمنين؟

قال : صدقت يا أبا عمرو.

قال الأوزاعي : يا أمير المؤمنين : إن القدرية ما رضوا بقول الله تعالى ، ولا بقول الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا بقول أهل الجنة ، ولا بقول أهل النار ، ولا بقول الملائكة ، ولا بقول أخيهم إبليس.

فأما قول الله تعالى : فهو : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وأما قول الملائكة فهو : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا).

وأما قول الأنبياء فقال شعيب عليه‌السلام : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

وقال إبراهيم عليه‌السلام :

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ).

وأما قول أهل الجنة فإنهم قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ).

وأما قول أهل النار فهو (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ).

وأما قول إبليس : فهو : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي).

ب ـ جدل المعتزلة :

جاء في كتاب الانتصار : أن المنانية تزعم أن الصدق والكذب متضادان ، وأن الصدق خير ، وهو من النور ، والكذب شر وهو من الظلمة.

قال لهم إبراهيم النظام : حدثونا عن إنسان قال قولا كذب فيه ، من الكاذب ...؟

قالوا : الظلمة.

قال : فإن ندم بعد ذلك على ما فعل من الكذب ، وقال قد كذبت وأسأت ، من القائل قد كذبت ..؟

فاختلطوا عن ذلك ولم يدروا ما يقولون.

فقال إبراهيم النظام :

«إن زعمتم أن النور هو القائل قد كذبت وأسأت فقد كذب لأنه لم يكن الكذب منه ، ولا قاله. والكذب شر ، فقد كان من النور شر ، وهذا هدم قولكم.

وإن قلتم : إن الظلمة قالت : قد كذبت وأسأت فقد صدقت والصدق خير. فقد كان من الظلمة صدق وكذب ، وهما عنده مختلفان خيرا وشرا على حكمكم».

لقد أخذ الطرق على المناقش حتى أفحمه ولم يدر كيف يجيب وهكذا كان يدور الجدل ، وتكون الغلبة لأكثر القوم وأقربهم حجة. وأقدرهم مصاولة وجدلا.

٥٩

والمناقشات البيزنطية؟ نعتقد أن هذا لن يكون ، لأن الجدل في جبلة الإنسان

__________________

ج ـ جدل الخوارج :

لما قتل الخوارج عبد الله بن خباب بن الأرت ، أرسل إليهم علي أن أسلموا قاتل عبد الله ابن خباب ، فأرسلوا إليه إنا كلنا قتله ، ولئن ظفرنا لقتلناك ، فأتاهم علي في جيشه ، وبرزوا إليه بجمعهم فقال لهم قبل القتال ما ذا نقمتم مني ..؟

فقالوا أول ما نقمنا منك أنا قاتلنا بين يديك يوم الجمل ، فلما انهزم أصحاب الجمل أبحث لنا ما وجدنا في عسكرهم من المال ، ومنعتنا من سبي نسائهم وذراريهم. فكيف استحللت ما لهم دون النساء والذرية ..؟

فقال : إنما أبحت لكم أموالهم بدلا عما كانوا أغاروا عليه من بيت مال البصرة قبل قدومي عليهم. والنساء والذرية لم يقاتلونا.

وكان لهم حكم الإسلام ، بحكم دار الإسلام ، ولم يكن منهم ردة عن الإسلام ، ولا يجوز استرقاق من لم يكفر ، وبعد لو أبحت لكم النساء أيكم يأخذ عائشة أم المؤمنين في سهمه ..؟

فخجل القوم من هذا ثم قالوا له :

نقمنا عليك محو إمرة أمير المؤمنين عن اسمك في الكتاب بينك وبين معاوية لما نازعك معاوية في ذلك.

فقال : فعلت مثل ما فعل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم الحديبية حين قال سهيل بن عمرو : لو علمت أنك رسول الله ما نازعتك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فكتب هذا ما صالح عليه محمد ابن عبد الله وسهيل بن عمرو.

وأخبرني رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لي منهم يوما مثل ذلك ، فكانت قصة في هؤلاء الأبناء قصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الآباء.

فقالوا له : فلم قلت للحكمين فإن كنت أهلا للخلافة فأثبتاني ، فإن كنت في شك في خلافتك فغيرك بالشك أولى.

فقال : إنما أردت بذلك النصفة لمعاوية. ولو قلت للحكمين احكما لي بالخلافة لم يرض بذلك معاوية ، وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصارى نجران إلى المباهلة. وقال لهم :

«تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ، ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين».

فأنصفهم بذلك من نفسه ، ولو قال : أبتهل فأجعل لعنة الله عليكم لم يرض النصارى بذلك ، لذلك أنصفت أنا معاوية من نفسي ، ولم أدر غدر عمرو بن العاص.

قالوا : فلما حكمت الحكمين في حق كان لك ..؟

فقال : وجدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ، ولو شاء لم يفعل ، وأقمت أنا أيضا حكما لكن حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم بالعدل ، وحكمي خدع حتى كان من الأمر ما كان ، فهل عندكم شيء سوى هذا ..؟

فسكت القوم. وقال أكثرهم. صدق والله ، وقالوا : التوبة.

٦٠