شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

المعدوم : فأي حاجة للمستدل إلى إثبات ذلك بالتكلف ، ليفرع عليه ثبوت المنفي؟. وهلا قال : من أول الأمر : ـ لو كان المعدوم ثابتا وهو صادق على المنفي لزم ثبوته.

قلنا : زعمه أن الذوات المعدومة الممكنة ثابتة ، ومقصود المستدل إثبات : أن الوصف الذي هو المعدوم المطلق ثابت منه ثبوت موصوفه. وإلى هذا يشير قول المواقف : لو كان المعدوم ثابتا كان المعدوم أعم بإعادة لفظ المعدوم دون ضميره. ألا يرى أن ما آل إليه كلامه ، أنه لو كان المعدوم ثابتا. لكان المعدوم ثابتا فلو لم يرد الموصوف وبالثاني الوصف لكان لغوا. ومما يجب التنبه له : أن المراد بالأعم في تقرير الإمام ، ما (١) يشمل العموم المطلق ، والعموم من وجه ليتم الحسر ، وفي تقرير المواقف يجوز أن يحمل على المطلق ويبين الملازمة بأنه صادق على كل منفي (٢).

أدلة القائلين بشيئية المعدوم والرد عليهم

(قال : تمسك المخالف بوجوه. الأول : أن المعدوم متميز ، لأنه معلوم ومراد ومقدور وكل متميز ثابت. لأن التميز إنما يكون بالإشارة العقلية ، والإشارة إلى النفي الصرف محال.

الثاني : أنه ممكن ، وكل ممكن ثابت لأن الإمكان ثبوتي.

قلنا : كل من التميز والإمكان عقلي ، يكفيه ثبوت المتميز والممكن في الذهن ، ولو اقتضيا الثبوت عينا لزم ثبوت الممتنعات لتميزها ، والمركبات الخياليات (٣) لتميزها وإمكانها.

الثالث : أن معنى ثبوت المعدوم ، أن السواد المعدوم مثلا سواد في نفسه ؛ إذ لو كان ذلك بالغير لزم ارتفاعه بارتفاع الغير ، فلا يبقى السواد الموجود سوادا حينئذ (٤).

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (ما).

(٢) في (ب) نفي بدلا من (منفي).

(٣) في (ب) الخاليات بدلا من (الخياليات) وفي (ج) الخيالية.

(٤) سقط من (ج) لفظ (حينئذ).

٣٦١

قلنا : ممنوع إذ كما ترتفع سواديته يرتفع وجوده.

فإن قيل : فلا يكون السواد سوادا وهو محال.

قلنا : بمعنى السلب فيمتنع الاستحالة ، أو بمعنى العدول بأن نتصور (١) ماهية السواد مع كونها لا سوادا فتمتنع الملازمة.

فإن قيل : السواد سواد ، وإن لم يوجد الغير ضرورة أن لكل شيء ماهية هو بها مع قطع النظر عن كل ما عداه. قلنا : قطع النظر عن الشيء (٢) لا يوجب انتفاءه).

القائلون بأن المعدوم الممكن ثابت في الخارج تمسكوا (٣) بوجوه :

الأول : أنه متميز وكل متميز ثابت ، أما الصغرى فلأنه قد يكون معلوما فيتميز عن غير المعلوم ، ومرادا فيتميز عن غير المراد ، ومقدورا فيتميز عن غير المقدور. وأما الكبرى فلأن التميز عند العقل لا يتصور إلا بالإشارة العقلية بهذا وذاك ، والإشارة تقتضي ثبوت المشار إليه ضرورة امتناع الإشارة إلى النفي الصرف (٤).

الثاني : أنه ممكن ، وكل ممكن ثابت لأن الإمكان وصف ثبوتي على ما سيأتي ، فيكون الموصوف به ثابتا بالضرورة.

والجواب عن الأول : أنه إن أريد أن التميز يقتضي الثبوت في الخارج فممنوع ، وإنما يلزم لو كان التميز بحسب الخارج ، وإن أريد في الذهن فلا يفيد.

وعن الثاني : أنا لا نسلم (٥) كون الإمكان ثبوتيا بمعنى كونه ثابتا في الخارج ، بل هو اعتبار عقلي يكفي ثبوت الموصوف به في العقل ، ثم لا خفاء في أن الممتنعات كشريك الباري ، واجتماع النقيضين وكون الجسم في آن

__________________

(١) في (ج) يتقرر بدلا من (يتصور).

(٢) سقط من (أ) جملة (كل ما عداه قلنا قطع النظر عن الشيء).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (عدد).

(٤) في (ب) العدم بدلا من (النفي).

(٥) في (ب) لا ثم وهو تحريف.

٣٦٢

واحد في حيزين (١) بعضها متميز عن البعض (٢) وعن الأمور الموجودة مع أنها منتفية قطعا ، وإن مثل جبل من الياقوت ، وبحر من الزئبق من المركبات الخيالية ، متميز مع أنها غير ثابتة وفاقا ، فيورد بالأول معارضة أو نقض على الوجه الأولى ، وبالتالي على الوجهين ، وقد يورد النقض بالأحوال من الوجود وغيره ، فإنها مع تميزها ليست بثابتة في العدم ، إذ لا عدم لها ولا وجود ، لما سبق من أن الحال صفة للموجود ، لا موجودة ولا معدومة ، وفيه نظر لأن قاعدة الخصم ليست سوى أن كل متميز ثابت في الخارج ، فإن كان موجودا ، ففي الوجود ، أو معدوما ففي العدم ، أو لا موجودا ولا معدوما ففي تلك الحال ، والوجود وغيره من الأحوال ليس لها حالة العدم أصلا فمن أين يلزم ثبوتها في العدم.

الثالث : أن معنى كون المعدوم الممكن ثابتا في الخارج ، أن السواد المعدوم مثلا (٣) سواد في نفسه ، سواء وجد الغير أو لم يوجد ، وبيانه ظاهر ، لأنه لو كان كونه سوادا بالغير لزم ارتفاع كون السواد سوادا عند ارتفاع الغير واللازم باطل. لأنه يستلزم أن لا يبقى السواد الموجود سوادا عند ارتفاع ذلك الغير ، الذي هو الموجب لكونه سوادا وهو محال.

والجواب : أنا لا نسلم (٤) استلزامه لذلك ، وإنما يلزم لو كان وجود السواد باقيا عند ارتفاع موجب السوادية وهو ممنوع ، لم لا يجوز أن يكون ارتفاع ذلك الغير كما يوجب ارتفاع سواديته ، يوجب ارتفاع وجوده لكونه العلة للوجود أو لازمها.

فإن قيل : لو ارتفع عند ارتفاع ذلك الغير سوادية السواد ، لزم أن لا يكون السواد سوادا ، وهو بديهي الاستحالة.

قلنا : إن أريد به (٥) أنه يلزم السلب أي ليس السواد المعدوم سوادا ، فلا

__________________

(١) في (أ) جزين وهو تحريف.

(٢) في (أ) عن الآخر وهو تحريف.

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (مثلا).

(٤) في (ب) لا ثم بدلا من (لا نسلم).

(٥) سقط من (أ) لفظ (به).

٣٦٣

نسلم استحالته ، وإن أريد العدول ، أي السواد المتقرر في نفسه لا سواد ، فلا نسلم (١) لزومه ، وإنما يلزم لو كان السواد متقررا في نفسه حينئذ (٢).

فإن قيل : لكل شيء ماهية هو بها (٣) هو مع قطع النظر عن كل ما عداه لازما كان أو مفارقا ، فيكون السواد سوادا وسواء وجد غيره أو لم يوجد.

قلنا : لا يلزم من هذا سوى أن يكون السواد سوادا ، نظرا (٤) إلى الغير أو لم ينظر وقطع النظر عن الشيء لا يوجب انتفاءه ليلزم كون السواد سوادا ، وجد الغير أو لم يوجد ، وهذا كما أنه يكون موجودا مع قطع النظر عن الغير لا مع انتفائه.

الاختلاف إذا كانت الشيئية بعض الثبوت العيني

(قال : هذا في الشيئية بعض الثبوت العيني ، وأما أن الشيء اسم للموجود أو المعدوم ، أو ما ليس بمستحيل أو القديم أو الحادث أو غير ذلك فلغوي ، والمرجع (٥) إلى النقل والاستعمال).

يعني أن ما ذكرنا من الاختلاف والاحتجاج ، إنما هو في شيئية المعدوم بمعنى ثبوته في الخارج ، وأما أنه هل يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة ، فبحث لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال. وقد وقع فيه اختلافات نظرا إلى الاستعمالات. فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ، ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازا كما في قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦).

وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٧).

__________________

(١) في (ب) فلا ثم وهو تحريف.

(٢) سقط من (ب) لفظ (حينئذ).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (بها).

(٤) في (ب) نظرنا إلى الغير أو لم ننظر.

(٥) سقط من (ج) لفظ (إلى).

(٦) سورة النحل آية رقم ٤٠ وقد جاءت هذه الآية محرفة في الأصل حيث ذكر «إنما أمرنا» بدلا من «إنما قولنا».

(٧) سورة مريم آية رقم ٩.

٣٦٤

لا ينفي الاستعمال المجازي بل الحقيقي ، وما ذكره أبو الحسين البصري (١) والنصيبي (٢) من أنه حقيقة في الوجود مجاز في المعدوم ، وهو مذهبنا بعينه ، وعند كثير من المعتزلة ، هو اسم للمعلوم ، ويلزمهم أن يكون المستحيل شيئا وهو لا يقولون به ، اللهم إلا أن يمنع كون المستحيل معلوما على ما سيأتي أو يمنع عدم قولهم بإطلاق الشيء عليه. فقد ذكر جار الله أنه اسم لما يصح أن يعلم ، يستوي فيه الموجود والمعدوم ، والمحال والمستقيم ، والذي لا قائل به هو كونه شيئا ، بمعنى الثبوت في الخارج.

وعند بعضهم هو اسم لما ليس بمستحيل موجودا كان أو معدوما ، وما نقل عن أبي العباس الناشئ (٣). أنه اسم للقديم ، وعن الجهمية (٤). أنه اسم للحادث ، وعن هشام بن الحكم (٥) أنه اسم للجسم ، فبعيد جدا من جهة أنه لا

__________________

(١) هو أبو عبد الله الحسين بن علي المعروف بالكاغدي من أهل البصرة على مذهب أبي هاشم وإليه انتهت رئاسة أصحابه في عصره ، له من الكتب نقض كلام الراوندى في أن الجسم لا يجوز أن يكون مخترعا لا من شيء. توفي بمدينة السلام سنة ٣٩٩ ه‍ (الفهرست لابن النديم).

(٢) هو عسكر عبد الرحيم بن عسكر بن أسامة العدوي النصيبي أبو عبد الرحيم فاضل من أهل نصيبين ، اشتغل بالحديث وسمع ببغداد ومصر وحدث ببغداد ونصيبين ودمشق وجمع مجاميع. توفي سنة ٦٣٦ ه‍.

راجع مفتاح السعادة ج ٢ ص ١٧٤).

(٣) هو علي بن عبد الله بن وصيف المعروف بالناشئ الأصفر من أهل بغداد كان إماميا أخذ علم الكلام عن ابن نوبخت وغيره وصنف كتبا. توفي عام ٣٦٦ ه‍. (وفيات الأعيان ج ١ ص ٣٥٤).

(٤) الجهمية هم أصحاب جهم بن صفوان الترمذي. قالوا : لا قدرة للعبد أصلا لا مؤثرة ولا كاسبة بل هو بمنزلة الجمادات فيما يوجد منها ، والله لا يعلم الشيء قبل وقوعه ، وعلمه حادث لا في محل ، ولا يتصف الله بما يوصف به غيره كالعلم والحياة ، إذ يلزم منه التشبيه ، والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما حتى لا يبقى موجود سوى الله تعالى. ووافقوا المعتزلة في نفي الرؤية وخلق الكلام.

(راجع كشاف اصطلاحات الفنون ص ٢٨٣).

(٥) هو هشام بن الحكم الشيباني أبو محمد متكلم مناظر كان شيخ الإمامية في وقته ، سكن بغداد وانقطع إلى يحيى بن خالد البرمكي فكان القيم بمجالس كلامه ، صنف كتبا منها الإمامة والقدر والدلالات على حدوث الأشياء والرد على الزنادقة وغير ذلك كثير. توفي عام ١٩٠ ه‍.

(راجع فهرست ابن النديم ج ١ ص : ١٧٥).

٣٦٥

يقبله أهل اللغة ، ولا تقوم عليه شبهة لا من جهة وقوع استعماله ، في غير ما ذكر كل منهم ، فإن له أن يقول هو مجاز. كما نقول نحن في مثل قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ) (١) وكون الأصل في الإطلاق هو الحقيقة مشترك الإلزام ، فلا بد من الرجوع إلى أمر آخر من نقل ، أو كثرة استعمال أو مبادرة فهم أو نحو ذلك.

الأدلة على ثبوت الحال

(قال : احتج المثبتون للحال (٢) بوجوده :

الأول : أن الوجود ليس بموجود وإلا تسلسل ، ولا معدوم وإلا اتصف بنقيضه ، والقول بأنه لا يرد عليه القسمة اعتراف بالواسطة. قلنا : موجود ووجوده عينه ، أو معدوم وإنما يلزم الاتصاف بالنقيض ، لو كان الوجود عدما أو الموجد معدما.

الثاني : الكلي ليس بموجود ، وإلا لكان مشخصا ولا معدوم وإلا لما كان جزءا للموجود ، وكذلك (٣) حال كل جنس أو فصل مع نوعه ، على أنه لو وجد يلزم في الأعراض قيام العرض بالعرض.

قلنا : لا تركب في الخارج ، إذ ليس هنا شيء هو إنسان وآخر خصوصية زيد ، ولا في السواد شيء هو لون وآخر قابض للبصر ، وآخر مركب منهما يقوم واحد منهما بآخر ، على أن مثل هذا القيام ليس من قيام العرض بالمحل في شيء ، وإنما التمايز في الذهن ، فثبت فيه الكلي والجنس).

__________________

(١) سورة النحل آية ٤٠.

(٢) الحال يذكّر ويؤنث ويطلق على معان متقاربة كالكيفية والمقام والهيئة والصفة والصورة. والحال في اصطلاح المتكلمين وسط بين الموجود والمعدوم وهو صفة لا موجودة بذاتها ولا معدومة لكنها قائمة بموجود كالعالمية ، والحال عند ديكارت وسبينوزا إحدى كيفيات الموجود أو الجوهر.

(راجع النجاة ص ٣٢٣ وما بعدها).

(٣) في (ج) وكذا.

٣٦٦

لكان له وجود وتسلسل ، ولا معدوم وإلا لا تصف بنقيضه ، أي بما يصدق على نقيضه وذلك لأن العدم على تقدير الواسطة ليس نقيضا للوجود ، بل أخص منه ، وإنما نقيضه اللاوجود (١).

وأجاب صاحب التجريد (٢) : بأن الوجود لا يرد عليه القسمة إلى الموجود والمعدوم ، فلا يكون أحدهما ، ولا يخفى ما فيه من تسليم المدعي والاعتراف بالواسطة.

فإن قيل : الواسطة يجب أن تكون قسما من الثابت ، والوجود ليس بثابت كما أنه ليس بمنفي ، وإنما هو ثبوت ، وهذا كما أن كلا من الثبوت والنفي ، ليس ثابتا ولا منفيا ولم يلزم من ذلك كونه واسطة بينهما.

قلنا : العذر أشد من الجزم (٣) ، لأن ما ذكرنا (٤) قول بالواسطة بين الثابت والمنفي بارتفاع النقيضين.

وأجاب الإمام : بأنا نختار أن الوجود موجود ، ووجوده عينه لا زائد ليلزم تسلسل الوجودات ، فامتيازه عن سائر الموجودات يكون بقيد سلبي ، هو أن لا ماهية له وراء الوجود. وقد يجاب بأنا نختار أنه معدوم ، واتصاف الشيء بنقيضه إنما يمتنع بطريق المواطأة. مثل إن الموجود عدم ، والموجود معدوم ، وإما بطريق الاشتقاق مثل إن الوجود ذو عدم ، فلا نسلم استحالته ، فإنه بمنزلة

__________________

(١) اللاوجود : هو العدم ويرادفه لفظ (ليس) وهو العدم أو المعدوم بخلاف (ايس) فهو يدل على الوجود أو الموجود.

قال ابن سينا : فإن الهيولي لا تسبق الصورة بالزمان ، ولا الصورة الهيولي أيضا : بل هما مبدعان معا عن ليسية.

(راجع الأجرام العلوية ٤٣ ـ ٤٤).

(٢) التجريد : هذا الكتاب يسمى تجريد الكلام للعلامة المحقق نصير الدين أبي جعفر محمد بن محمد الطوسي. المتوفى سنة ٦٧٢ ه‍ ، والكتاب على ستة مقاصد ، الأول في الأمور العامة ، والثاني في الجوهر والأعراض ، والثالث في إثبات الصانع ، والرابع في النبوة ، والخامس في الإمامة ، والسادس في المعاد. هو كتاب مشهور شرحه جمال الدين حسن بن يوسف شيخ الشيعة.

(راجع كشف الظنون ج ١ ص ٣٤٥).

(٣) في (أ) الجزم وهو تحريف.

(٤) في (ب) ما ذكرت قول بالواسطة.

٣٦٧

قولنا : الحيوان ذو لا حيوان ، هو السواد أو البياض وسائر ما يقوم به من الأعراض. والأقرب أنه (١) إن أريد الوجود المطلق فمعدوم أو الخاص كوجود الواجب ، ووجود الإنسان ، فموجود ، ووجوده زائد عليه (٢) ، عارض له ، هو المطلق أو الحصة منه ، وليس له وجود آخر ليتسلسل ، فإن أريد بكونه موجودا بوجود هو نفسه ، هذا المعنى فحق. وإن أريد بمعنى أنه نفسه وجود فلا يدفع الواسطة بين المعدوم والموجود ، بمعنى ماله الوجود هذا والحق أن هذه (٣) لشبهة قوية.

والثاني : أن الكلي (٤) الذي له جزئيات متحققة مثل الإنسان ، ليس بموجود ، وإلا لكان مشخصا ، فلا يكون كليا ، فلا يكون كليا ، ولا معدوما ، وإلا لما كان جزءا من جزئياته الموجودة ، كزيد مثلا ، لامتناع تقدم الموجود بالمعدوم ، وأيضا الجنس كالحيوان ليس بموجود لكليته ، ولا معدوم لكونه جزءا من الماهية الحقيقية كالإنسان ، وأيضا جنس الماهيات الحقيقية من الأعراض ، كلونية السواد ليس بمعدوم لما ذكر ، ولا موجود لاستلزامه قيام العرض بالعرض. قيل : ـ أي اللون بالسواد لأنه المحمول طبعا. وقيل بالعكس : لأن الجنس مقوم للنوع ، وقيل : أي اللون بالفصل الذي (٥) هو قابض البصر ، مثلا لكونه المحمول ، وقيل بالعكس. لكون الفصل مقوما للجنس ، والكل فاسد. لأن جزء المركب سيما المحمول عليه لا يكون عرضا

__________________

(١) في (أ) بزيادة (أنه).

(٢) سقط من (ب) لفظ (عليه).

(٣) سقط من (أ) لفظ (هذه).

(٤) الكلي : هو المنسوب إلى الكل ويرادفه العام. والكلي عند المنطقيين هو الشامل لجميع الأفراد الداخلين في صنف معين ، أو هو المفهوم الذي لا يمنع تصوره من أن يشترك فيه كثيرون.

قال ابن سينا : اللفظ المفرد الكلي ، هو الذي يدل على كثيرين بمعنى واحد متفق. إما كثيرين في الوجود كالإنسان ، أو كثيرين في جواز التوهم كالشمس. وبالجملة الكلي ، هو اللفظ الذي يمنع مفهومه أن يشترك في معناه كثيرون فإن منع من ذلك شيء فهو غير نفس مفهومه.

(راجع النجاة ص ٨).

(٥) في (ب) (أي) بدلا من (الذي).

٣٦٨

قائما به ولا بالعكس ، وكذا المحمول الأعم ، والنعت (١) لا يلزم أن يكون عرضا للموضوع بل يمتنع لأن العرض لا يكون محمولا على المحل إلا بالاشتقاق ، وكذا المقوم للشيء بمعنى كونه داخلا ، في قوامه كالجنس للنوع ، أو بمعنى كونه علة لتقومه وتحصله ماهية حقيقية كالفصل للجنس ، لا يقتضي كون ذلك الشيء عرضا قائما به سيما إذا كان محمولا ، ألا ترى أن الحيوان محمول على الإنسان ، مقول له (٢) ومحمول على الناطق خارج ، والناطق مقوم له علة لتحصله ، وكان الغلط من اشتراك لفظ العروض والقيام ، وإلى ما ذكرنا أشار في المتن (٣) بقوله ، على أن مثل هذا القيام ، ليس من قيام العرض بالمحل في شيء ، ولم يتعرض لمنع امتناع قيام العرض بالعرض ، لأنه ربما ثبت بالدليل ، أو يكون على طريق الإلزام ، ولما كان هاهنا (٤) به تحقيق به يخرج الجواب عن هذا الوجه بالكلية ، جعلناه العمدة ، وهو أن ليس في الخارج تمايز بين الكلي ، والتشخص يحصل من تركبهما الشخصي ، ولا بين الجنس (٥) والفصل (٦) يحصل من تركبهما النوع ، لظهور أن ليس في الخارج شيء ، هو الإنسان الكلي ، وآخر هو خصوصية زيد ، يتركب منهما زيد ، وكذا

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (النعت).

(٢) في (أ) بزيادة (مقول له).

(٣) سقط من (ب) لفظ (في المتن).

(٤) في (أ) بزيادة (به).

(٥) الجنس في اللغة الضرب من كل شيء وهو أعم من النوع ، يقال الحيوان جنس ، والإنسان نوع.

قال ابن سينا : الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالأنواع أي بالصور والحقائق الذاتية وهذا يخرج النوع والخاصة والفصل القريب ، وقوله في جواب ما هو يخرج الفصل البعيد والعرض العام (راجع المعجم الفلسفي ج ١ ص ٤١٦ بتصرف).

(٦) للفصل عند المنطقيين معنيان : أحدهما ما يتميز به شيء عن شيء ذاتيا كان أو عرضيا لازما أو مفارقا شخصيا أو كليا ، وثانيهما ما يتميز به الشيء في ذاته وهو الجزء الداخل في الماهية ، كالناطق مثلا فهو داخل في ماهية الإنسان ومقوم لها ويسمى بالفصل المقوم ، وهذا المعنى الثاني هو الذي أشار إليه ابن سينا في قوله : وأما الفصل فهو الكلي الذاتي الذي يقال على نوع تحت جنس في جواب أي شيء هو منه كالناطق للإنسان.

(راجع النجاة ص ١٤).

٣٦٩

ليس في الخارج شيء هو اللون ، وآخر هو قابض البصر ، وآخر مركب منهما هو السواد ، ليلزم من قيام واحد من الثلاثة بآخر منها على ما مر من التفصيل ، قيام العرض بالعرض بل في الوجود أمر واحد ، وإنما التركب والتمايز بحسب العقل فقط ، فلا يلزمنه إلا كون الكلي أو الجنس موجودا في الذهن ، ولا استحالة فيه.

وأنا أتعجب منهم. كيف ادعوا أن جزء الموجود يجب أن يكون من أفراد اللاموجود ، الذي هو نقيض الموجود ، ويمتنع أن يكون من أفراد المعدوم ، الذي ليس عندهم نقيض الموجود بل أخص منه.

(قال : وإنما يلزم الجهل لو أخذت في الذهن على أنها صور لأمور متمايزة في الخارج).

اعترض الإمام على قولهم ، لا تمايز بين الأجناس والفصول في الأعيان ، بل في الأذهان ، بأن حكم العقل إن طابق الخارج عاد كلام مثبتي الحال ، وثبت المطلوب ، وإن لم يطابق كان جهلا ولا عبرة به.

فأجيب : بأن الكلام في تصور الأجناس والفصول ، ولا حكم فيه تعتبر مطابقته ولا مطابقته (١) ، وإنما يلزم الجهل لو حكم بأنها متمايزة في الخارج ، ولا تمايز ، فدفع بأن مراده : أن هذه التصورات بل الصور ، إن طابقت الخارج فذاك ، وإلا كان جهلا.

والجواب : أنه إن أريد بالمطابقة أن يكون في الخارج بإزاء كل صورة هوية على حدة. فلا نسلم لزوم الجهل على تقدير عدمها ، وإنما يلزم لو أخذت في الذهن على أنها صور لأمور متمايزة في الخارج ، وإن أريد بالمطابقة (٢) أن تكون بإزائها هوية يكون المتحقق بها في الخارج تلك الهوية ، والمتحقق من تلك الهوية في الذهن تلك الصور فلا نسلم أن المطابقة تستلزم

__________________

(١) سقط من (ب) ولا مطابقته.

(٢) في (أ) (بزيادة) لفظ (بالمطابقة).

٣٧٠

أن يكون هناك أمور متمايزة بحسب الخارج ، وإنما يلزم ذلك ، لو لم ينتزع العقل من أمر واحد صورا مختلفة ، باعتبارات مختلفة على ما سيحقق في بحث الماهية.

نقض أدلة إثبات الحال

(قال : ونوقض الوجهان بالحال. فإن الأحوال متماثلة في الثبوت ، متخالفة في الخصوصيات فيزيد ثبوتها ويتسلسل ، وإنها تحمل على جزئياتها ، فإن كانت ثابتة تشخصت ، وإلا انتفت ، وعلى أحوال هي أعراض فيقوم العرض بالعرض.

فإن قيل : الأحوال لا تقبل التماثل والاختلاف ، فلا يزيد ثبوتها ليتسلسل (١) ، ولا يكون شيء منها كليا وحالا (٢) ، والآخر (٣) جزئيا ومحلا على أن التسلسل إنما يمتنع في الموجود (٤) دون الثابت.

قلنا : قبول المفهومين التماثل والاختلاف ضروري وامتناع التسلسل (٥) سيجيء).

تقرير الأول : أن الأحوال لو كانت ثابتة لكانت متشاركة في الثبوت ،

__________________

(١) في (ج) ليتسر ولا وهو تحريف.

(٢) في (ج) ولا حالا.

(٣) في (ج) ولا الآخر.

(٤) سقط من (أ) كلمة (في الموجود).

(٥) التسلسل : في اللغة بمعنى اتصال الماء وجريانه في الحلق.

وعند المحدثين : عبارة عن توارد رجال إسناد الحديث واحدا فواحدا على حالة وصفة واحدة عند رواية ذلك الحديث.

وعند الحكماء : عبارة عن ترتيب أمور غير متناهية مجتمعة في الوجود والترتيب سواء كان الترتب وضعيا أو عقليا.

وأما التسلسل مطلقا : فهو ترتب أمور غير متناهية عند الحكماء وكذا عند المتكلمين. وأما التسلسل المستحيل عندهم فترتب أمور غير متناهية مجتمعة في الوجود.

(راجع كشاف اصطلاحات الفنون ج ٤ ص ٢٤ ، ٢٥).

٣٧١

متخالفة بالخصوصيات ، فكان ثبوتها زائدا عليها ضرورة أن ما به الاشتراك مخالف لما به الامتياز ، وثبوتها ليس بمنفي فيكون ثابتا ، وبتسلسل لما ذكرتم في الوجود.

وتقرير الثاني : أن الحال قد يكون كليا محمولا على جزئيات ثابتة ، فإن كان ثابتا كان متشخصا ، وإن كان منفيا امتنع كونه جزءا من الثابت ، وكذا إذا كان جنسا لأنواع ، وإذا كان من أجناس الأعراض ، لزم قيام العرض بالعرض. على ما ذكرتم فما هو جوابكم؟ فهو جوابنا.

فإن قيل : الحال لا تقبل التماثل والاختلاف. لأن ذلك من صفات الموجود (١) فلا يتحقق فيها ما به الاشتراك ، وما به الاختلاف ليلزم زيادة ثبوتها ، ويتسلسل ، ولا يتعين حال للكلية ، وآخر للجزئية ، أو حال للحالية. وآخر للمحلية ليلزم ما ذكرتم ، بخلاف الموجودات فإنها قابلة لذلك باعترافكم. وأيضا (٢) لا نسلم : استحالة التسلسل في الأمور الثابتة ، وإنما قام الدليل على استحالته في الموجودات.

قلنا : قبولها التماثل والاختلاف ضروري ، لأن المعقول من الشيء. إن كان هو المعقول من الآخر فهما متماثلان ، وإلا فمختلفان.

وما قيل : إنهم جعلوا التماثل والاختلاف : إما حالا أو صفة ، وعلى التقديرين فلا يقوم إلا بالموجود ليس بشيء ، لأن الصفة قد تقوم بالثابت ، وإن لم يكن موجودا وإن أريد أنه حال أو صفة موجودة فممنوع ، واستحالة التسلسل في الأمور الثابتة ، مما قام عليه بعض أدلة امتناع التسلسل على ما سيجيء ، وأما ما ذكره الإمام. من أنا لو جوزناه أفسد (٣) إبطال حوادث لا أول لها ، وإثبات الصانع القديم فضعيف ، لأنا لا نجوزه في الموجودات ، وبه يتم إثبات الصانع ، وتقرير القوم في النقض (٤) بالحال. أن الأحوال متخالفة

__________________

(١) في (ب) الموجودات.

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (أيضا).

(٣) في (أ) انسد وهو تحريف.

(٤) في (أ) بزيادة حرف الجر (في).

٣٧٢

بخصوصياتها ، ومتشاركة في عموم كونها حالا ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فيلزم أن يكون للحال حال آخر (١) إلى غير النهاية. ودفعه الإمام بأن الحالية ليست صفة ثبوتية ، حتى يلزم أن يكون للحال حال آخر (٢) وذلك لأنه لا معنى للحال إلا ما يكون موجودا ، ولا معدوما وهو صفة سلبية فلا يكون الاشتراك فيها اشتراكا في حال ليلزم تسلسل الأحوال.

ورده الحكيم المحقق ، بأن الحال عندهم ليس سلبا محضا ، بل هو وصف ثابت للموجود ، ليس بموجود ولا معدوم ، ولهذا لم يجعلوا المستحيل حالا مع أنه ليس بموجود ولا معدوم ، فإذن (٣) الحال يشتمل عندهم على معنى غير سلب الوجود والعدم يختص بتلك الأمور التي يسمونها حالا ، وتشترك الأحوال فيه ، وهي لا توصف بالتماثل والاختلاف ، لأن المثلين عندهم ذاتان يفهم منهما معنى واحد ، والمختلفان ذاتان لا يفهم منهما معنى واحد ، والحال ليس بذات لأنها التي تدرك بالانفراد ، والحال لا تدرك بالانفراد ، والمشترك ليس بمدرك بالانفراد ، حتى يحكم بأن المدرك (٤) من أحدهما هو المدرك من الآخر أو ليس ..

من أدلة إثبات الحال

(قال : الثالث : الإيجاد ليس بموجود ، وإلا احتاج إلى إيجاد (٥) آخر وتسلسل ، ولا معدوم ، وإلا لما كان الفاعل موجودا.

قلنا : عدم مبدأ المحمول لا يستلزم عدم الحمل ، فزيد أعمى ، مع أن

__________________

(١) في (أ) بزيادة حرف الجر (في).

(٢) سقط من (ب) لفظ (آخر).

(٣) في (أ) فإن ذا.

(٤) الدرك هو اللحاق بالشيء ونيله ، والشعور به ، وعلمه.

والدرك عند «توما الاكويني» أولى عمليات العقل الثلاث ، وهي التصور والحكم والاستدلال ، ويسمى بإدراك الفرد ، وهو تصور بسيط ، أو علم أول غير مصحوب بتصديق بخلاف المفهوم. فهو علم مركب.

(٥) سقط من (ج) لفظ (إيجاد).

٣٧٣

العمى معدوم واجتماع الضدين ممتنع ، مع أن الامتناع معدوم.

أي من وجوه إثبات الحال : إن الإيجاد ليس بموجود ، وإلا احتاج إلى إيجاد له محتاج إلى آخر ، وهكذا إلى ما لا نهاية له ، ولا معدوم ، وإلا لما كان الفاعل موجدا ، لأنه بعد صدور المعلول عنه ، لم يحصل له صفة ، وكما لم يكن قبل الصدور موجدا ، فكذا بعده ، لا يقال إيجاد عينه ، لأنا نقول : مثل هذا لا يصح في الأمور الموجودة ، لأن ذلك إيجاد للمعلول ، وهذا إيجاد للوصف الذي هو إيجاد (١).

والجواب : إنا نختار. أنه معدوم ، ولا نسلم لزوم أن لا يكون الفاعل موجدا ، فإن صحة الحمل الإيجاب لا تنافي كون (٢) الوصف ، الذي أخذ منه المحمول معدوما وما في الخارج كما في قولنا : زيد أعمى في الخارج (٣) ، واجتماع الضدين ممتنع في الخارج ، مع أن كلا من العمى والامتناع معدوم في الخارج.

ذكر تفريعات المثبتين لشيئية المعدوم والحال

(قال : ولهم على الأصلين (٤) تفريعات (٥) : مثل اتفاقهم على أن الذوات المتحققة في العدم غير متناهية (٦) ، ولا تأثير للمؤثر فيها ، ولا تباين بينها ، وأنه يجوز القطع ، بأن للعالم صانعا ، متصفا بالحياة والقدرة والعلم مع الشك في وجوده).

__________________

(١) في (ب) الإيجاد.

(٢) سقط من (ب) لفظ (كون).

(٣) في (ب) أعمى مطلقا بدلا من (في الخارج).

(٤) شيئية المعدوم وثبوت الواسطة.

(٥) تنبئ بوضوح اختلالها على فساد أصلها.

(٦) وذلك أن المعدومات الممكنة لا تتناهى في العلم القديم وإن كانت غير شيء فيلزمهم حيث أثبتوا جميع المعدومات الممكنة كونها لا تتناهى في ثبوتها.

٣٧٤

أي للقائلين بكون المعدوم شيئا ، والحال ثابتا على هذين الأصلين تفريعات. مثل اتفاقهم على أن الذوات الثابتة في العدم من كل نوع غير متناهية ، وعلى أنه لا تأثير للمؤثر في تلك الذوات ، لأنها ثابتة في العدم من غير سبب ، وإنما التأثير في إخراجها من العدم إلى الوجود ، وعلى أنه لا تباين بين تلك الذوات ، بمعنى أنها متساوية في الذاتية ، وإنما الاختلاف بالصفات لا في الحقيقة ، وإلا لصح على كل ما صح على الآخر ، وهو باطل بالضرورة نعم : أفراد كل نوع متساوية في الحقيقة وهو ظاهر ، وعلى أنه يجوز القطع بأن للعالم صانعا متصفا بالعلم ، والقدرة ، والحياة مع الشك في وجوده ، حتى يقوم عليه البرهان ، وذلك لأنهم جوزوا اتصاف المعدوم (١) الثابت بالصفات الثبوتية ، واعترض بأن هذا يستلزم جواز الشك في وجود الأجسام بعد العلم باتصافها بالمتحركية والساكنية ، لجواز أن تتصف بذلك في العدم ، فيحتاج وجودها إلى دلالة منفصلة ، وذلك جهالة عظيمة.

والجواب ؛ بأنا بعد ما نتصور ذاتا متصفة بتلك الصفات ونصدق بأن صانع العالم يجب أن يكون كذلك ، يجوز أن نشك في أن للعالم صانعا كذلك. أو بأنا بعد العلم بأن كل ما لو وجد ، كان صانع العالم فهو بحيث لو وجد كان متصفا (٢) بتلك الصفات ، يجوز أن نشك في أنه موجود في الخارج ليس بشيء لأنه لا يتفرع حينئذ (٣) على كون المعدوم شيئا وثابتا في الخارج ، بل يصح على قول النافين أيضا ، ألا يرى أنا نستدل على وجود الواجب ، ومعناه أن الذات المتصفة بوجوب الوجود يفتقر التصديق بوجودها إلى الدليل ، ونقطع بأن شريك الباري ممتنع ، ومعناه أن الذات المتصفة بالوجود ، وسائر صفات الكمال المغايرة للباري تعالى وتقدس ، تمتنع أن توجد في الخارج.

واعلم أنهم وإن (٤) جعلوا هذا التفريع متفقا عليه إلا أنه إنما يصح على رأي القائلين بأن للمعدوم صفة.

__________________

(١) في (ب) العدم.

(٢) سقط من (أ) لفظ (متصفا).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (حينئذ).

(٤) سقط من (ب) لفظ (وإن).

٣٧٥

(قال : واختلافهم في أن الذوات المعدومة (١) هل تتصف بصفة الجنس كالسوادية ، وما يتبعها في الوجود ، كالحلول في المحل ، وأن التميز هل يغاير الجوهرية ، وأن المعدوم هل له بكونه معدوما صفة ، وأنه هل يمكن وصفه بالجسمية) (٢).

من تفاريع القول بكون المعدوم شيئا : اختلافهم في أن الذوات المعدومة هل تتصف بصفة الجنس ، كالجوهر بالجوهرية ، والسواد بالسوادية إلى غير ذلك ، وبما يتبع صفة الجنس ، كالحلول في المحل التابع للسوادية مثلا.

فقال الجمهور : نعم لأنها متساوية في الذاتية ، فلو لم تتخالف بالصفات لكانت واحدة ، ولأنها إما (٣) متماثلة ، فتكون متماثلة في الوجود ، لأن ما بالذات لا يزول بالعرض ، وإما متخالفة فتكون بالصفات ، ضرورة اشتراكها في الذاتية ، ولأن التميز اللازم للجوهر حالة الوجود ، ليس لأنه ذات ، ولا لأنه موجود ، وإلا لكان لازما للعرض ، فتعين أن يكون لصفة يتصف بها في العدم.

وأجيب : بأن التساوي في الذاتية لا يمنع الاختلاف بالحقيقة ، كالحقائق المشاركة في الوجود ، وحينئذ لا يرد شيء مما ذكر (٤).

وذهب (٥) أبو إسحاق بن عياش : (٦) إلى أنها في العدم عارية عن جميع الصفات ، لأنها لما كانت متساوية في الذات ، فاختصاص بعضها بصفة

__________________

(١) التي حكموا بثبوتها في ذلك العدم والمراد بالذات ما تحقق في نفسه في التعقل ولو احتاج إلى محل في الوجود فتخرج الأحوال وتدخل الأعراض الوجودية قبل وجودها.

(٢) أي التركب أو لا يمكن وصفه بها فنفي جمهورهم ذلك بمعنى أنهم قالوا لا يوصف بالجسمية إلا الأفراد الحادثة وإلا فإن كان ذاتيا لم يختلف وقال الخياط ومن تبعه منهم : يوصف بذلك لعدم صحة الهيولي وحدها وكأنه لا ينظر إلى خصوصيات التركيب.

(٣) في (ب) سقط لفظ (إما).

(٤) في (أ) بزيادة جملة (مما ذكر).

(٥) في (ب) وزعم بدلا من (وذهب).

(٦) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عياش من كبار أئمة المعتزلة له مؤلفات كثيرة في علم المنطق والكلام وغير ذلك من الكتب نقض كتاب ابن أبي بشتر في إيضاح البرهان.

(راجع الفهرست ص ٢٤٦).

٣٧٦

معينة لا تكون لذاته وهو ظاهر ، ولا لصفة أخرى وإلا تسلسل ، بل لمباين ، ولا يجوز أن يكون موجبا لأن نسبته إلى الكل على السواء فيكون مختارا. وفعل المختار حادث فيلزم كون المعدوم موردا للصفات المتزايلة وهو باطل بالاتفاق (١) ، فتعين أن يكون ذلك حالة الوجود.

والجواب : أنه يجوز أن يكون لذاته المخصوصة ، فظهر أن مبنى كلام الطرفين على عدم التفرقة بين العارض الذي هو الذات المطلقة ، والمعروض الذي هو الذات المخصوصة ، ومنها اختلافهم في أن التميز هل يغاير الجوهرية؟

فالجمهور : على أن الجوهرية صفة تابعة للجوهر حالتي الوجود والعدم ، والتميز وهو اقتضاء الجوهر حيزا ما ، صفة تابعة ثابتة للجوهر الموجود أي صادرة عن الجوهر بشرط الحدوث ويسمونه الكون. وحصول الجوهر في الحيز المعين ويسمونه الكائنية معلل بالتحيز بمعنى الكون ، وذهب الشحام والبصري (٢) وابن عياش (٣) إلى أن الجوهرية نفس التحيز ، إذ لا معنى للجوهرية إلا المتحيز بالذات ، ومنها اختلافهم في أن المعدومية هل هي صفة ثابتة (٤) للمعدومات حالة العدم ، فأثبته أبو عبد الله البصري (٥) ، ونفاه غيره لأنها لافتقارها إلى الذات ممكن ، فإن كان علتها الذات ، أو الفاعل الموجب من غير توسط (٦) الاختيار أصلا لزم دوامها ، فلا توجد الذات ، وإن كان هي الفاعل بالاختيار ابتداء أو انتهاء لزم حدوثها وهو محال ، ومنها اختلافهم في أن

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (بالاتفاق).

(٢) البصري هو أبو علي محمد بن خلاد البصري من أصحاب أبي هاشم خرج إليه إلى العسكر وأخذ عنه وكان مقدما من أصحابه ، وله من الكتب كتاب الأصول ، وممن أخذ عن أبي هاشم ، ولا كتاب له يعرف.

(راجع الفهرست ص ٢٤٧ ، ٢٤٨).

(٣) سبق أن ترجم له.

(٤) سقط من (أ) لفظ (ثابتة).

(٥) سبق أن ترجم له.

(٦) في (ب) تسلط وهو تحريف.

٣٧٧

الجواهر المعدومة. هل هي أجسام في العدم؟ فنفاه الجمهور ، وأثبته أبو الحسين الخياط (١).

أدلتهم على ثبوت الحال تقسيمه

(قال : ومثل تقسيم الحال إلى العلل بصفة موجودة ، كالعالمية المعللة بالعلم ، وغير المعلل كلونية السواد ، وتعطيل اختلاف الذوات بالأحوال إلى غير ذلك).

من تفاريع القول بالحال تقسيمه إلى حال هو معلل بصفة موجودة في الذات ، كالعالمية المعللة بالعلم ، والقادرية المعللة بالقدرة ، وإلى حال ليس كذلك كلونية السواد ، فإنها لا تعلل بصفة في السواد ، وكذا وجود الأشياء ، ومنها تعليل اختلاف الذوات في العدم بالأحوال ، فإن القائلين بكون الذوات المعدومة متخالفة بالصفات ، جعلوا تلك الصفات أحوالا ، ودل (٢) ذلك على أن الحال عندهم لا يجب أن يكون صفة لموجود ، ومنها تقسيمهم تلك الصفات في الجواهر إلى ما يعود إلى الجملة ، أعني مجموع ما يتركب عنه البنية كالحيثية ، وما هو مشروط بها كالعلم والقدرة ، وإلى ما يعود إلى التفصيل ، أي الافراد كالجوهرية ، والوجود ، والكون ، والكائنية. وفي الأعراض إلى الصفة النفسية كالسوادية ، والصفة الحاصلة بالفاعل كالوجود ، وإلى ما يتبع العرض بشرط الوجود كالحلول في المحل (٣).

__________________

(١) أبو الحسن عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط أستاذ أبي القاسم البلخي وله كتب كثيرة في النقض على ابن الراوندي ، وكان أبو الحسين فقيها صاحب حديث ، واسع الحفظ لمذاهب المتكلمين ، ومن كتبه في الرد على ابن الراوندي الانتصار.

(راجع طبقات المعتزلة ص ٨٥).

(٢) سقط من (ب) لفظ (دل).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (لا) وهو تحريف.

٣٧٨

أدلة بطلان ثبوت المعدوم والحال

(قال : فإن قلت : بطلان ثبوت المعدوم والواسطة في غاية الجلاء ، فكيف ذهب على الكثير من العقلاء؟

قلت : كان مبنى الأول : على أن السواد المعدوم مثلا سواد في الخارج لا يتعلق سواديته بأسباب الوجود.

والثاني : على أن من الصفات ما قام الدليل على أنها ليست بموجودة ، ولا سبيل إلى نفيها ، لاتصاف الموجود بها ، وجد فرض العقل أو لم يوجد ، كالوجود والإيجاد والعالمية ، واللونية فجزموا بأنها لا موجودة ولا معدومة). (١)

لما كان بطلان (٢) القول بثبوت المعدوم في الخارج ، وتحقق الواسطة بينه وبين الموجود جليا بل ضروريا ، وقد ذهب إليهما سيما إلى تحقق (٣) الواسطة كثير من العلماء المحققين ، حاول التنبيه على ما يصلح مظنة للاشتباه في المقامين.

أما الأول فهو أن العقل جازم بأن السواد سواد في الواقع (٤) ، وإن لم يوجد أسباب الوجود من الفاعل والقابل ، فإن أسباب الماهية غير أسباب الوجود ، على ما سيجيء فعبروا عن هذا المعنى بالثبوت في الخارج ، لما رأوا فيه من شائبة التقرر والتحقق ، مع نفيهم الوجود الذهني ، وهو قريب من قول

__________________

(١) بل هي رتبة بين ذلك فلم تنته في ثبوتها إلى حد الوجود ولا هي في حيز العدم لثبوتها فهذا هو الذي يشبه أن يكون مستند مثبت الواسطة ويشبه أن يكون هو مبنى إثباتها ، وإن رد عليه بأن كونها للموجود لا ينفي عدمها وكونها غير موقوفة على فرض العقل لا يخرجها عن عدمها لصحة الاتصاف بالعدميات من غير فرض فارض.

(٢) سقط من (أ) لفظ (بطلان).

(٣) سقط من (أ) لفظ (إلى تحقق).

(٤) سقط من (ب) لفظ (الواقع).

٣٧٩

الفلاسفة : أن الماهيات ليست بجعل الجاعل ، وحاصله : أنهم وجدوا تفرقة بين الممتنعات والمعدومات الممكنة فإن لها ماهيات تتصف بالوجود تارة ، وتتعرى عنه أخرى بحسب حصول أسباب الوجود ولا حصولها ، فعبروا عن ذلك بالشيئية والثبوت في الخارج.

وأما الثاني : فهو (١) أنهم وجدوا بعض ما يتصف به الموجود كوجود الإنسان ، وإيجاد الله تعالى إياه ، وعالمية زيد ، ولونية السواد ، قد قام الدليل على أنه ليس بموجود ، ولم يكن لهم سبيل إلى الحكم بأنه لا تحقق له أصلا لما رأوا الموجودات تتصف به سواء : وجد اعتبار العقل أو لم يوجد على أنه لو وجد اعتبار العقل وفرضه فهو عندهم ليس بموجود في العقل ، فجزموا بأن لهذا النوع من المعاني تحققا ما في الخارج ، وليست بموجودة ولا معدومة بل واسطة ، وسموه بالحال توضيحه : أنه (٢) إذا صدر المعلول عن العلة ، فنحن نجد في كل منهما صفة كانت معدومة قبل الصدور ، أعني الموجدية والوجود ، فلا تكون حينئذ معدومة ، ضرورة التفرقة بين الحالين ، وقد قام الدليل على أنها ليست بموجودة فتكون واسطة.

(قال : وأما ابتناء ذلك (٣) على أنهم (٤) لم يجعلوا تقابل العدم والوجود ، وتقابل السلب والإيجاب (٥) ، بل العدم والملكة. إذ العدم ارتفاع ما من شأنه الوجود (٦) ، فجعلوا (٧) المفهومات الاعتبارية : التي لا يتصور عروض الوجود لها لا موجودة ، ولا معدومة فإنما يصح ذلك (٨) إذا لم يجعل الممتنع معدوما).

__________________

(١) في (ب) فإنهم بدلا من (فهو).

(٢) في (ب) سقط لفظ (أنه).

(٣) أي الاثبات للواسطة.

(٤) الذين أثبتوا الواسطة.

(٥) أي النفي والثبوت.

(٦) فالإنسان لما كان من شأنه الوجود ، أي يقبل أن يوجد وكذا البياض لقبوله الوجود ، كان ارتفاع كل منهما بخلاف ما لا يقبل الاتصاف بالوجود الخارجي كالنسب والإضافات مثل التأثير والتأثر والعلية والمعلولية فلا تقبل أن تكون موجودة في الخارج لأنها اعتبارية محضة ، فليس ارتفاعها عن الخارج عدما.

(٧) في (أ) فجهلوا.

(٨) سقط من (أ) لفظ ذلك.

٣٨٠