شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

في تقدمه وتحققه عن الوجود ، ومنها اختلافهم في أنه موجود أو لا فقيل : موجود بوجود هو نفسه. فلا يتسلسل. (وقيل : بل اعتباري محض لا تحقق له في الأعيان إذ لو وجد فإما أن يوجد بوجود زائد فيتسلسل) (١). أو بوجود هو نفسه فلا يكون إطلاق الموجود على الوجود وعلى سائر الأشياء بمعنى واحد ، لأن معناه في الوجود أنه الوجود ، وفي غيره أنه ذو الوجود ، ولأنه إما أن يكون جوهرا فلا يقع صفة للأشياء ، أو عرضا فيتقوم المحل دونه ، والتقوم بدون الوجود محال ، ولأن ما ذكر في زيادة الوجود على الماهية من أنا نعقل الماهية ونشك في وجودها جار (٢) ، بعينه في وجود الوجود فإنا نعقل الوجود ونشك في وجوده فلو وجد لكان وجوده زائدا وتسلسل. وبهذا يتبين بطلان ما ذهب إليه الفلاسفة من أن ماهية الواجب نفس الوجود المجرد. وذلك لأنا بعد ما نتصور الوجود المجرد نطلب بالبرهان وجوده في الأعيان ، فيكون وجوده زائدا ويتسلسل ، ولا محيص إلا بأن الوجود المقول على الوجودات اعتبار عقلي ، كما سبق. وقيل : الوجود ليس بموجود ولا معدوم ، بل واسطة على ما سيأتي. ومنها اختلافهم في أن الوجودات الخاصة نفس الماهيات أو زائدة عليها كما سبق.

ومنها اختلافهم في أن لفظ الوجود مشترك (٣) بين مفهومات مختلفة على ما نقل عن الأشعري ، أو متواطئ يقع على الوجودات بمعنى (٤) واحد لا تفاوت فيه أصلا ، أو مشكك يقع عليها بمعنى واحد هو مفهوم الكون. لكن لا على السواء. وهو الحق.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) في (أ) جاز وهو تحريف.

(٣) مشترك بين الوجودات بناء على اختلاف حقائقها كما يقول الشيخ : إنه نفس الماهية وهي متباينة وكما يقول الحكماء : إنه في الواجب حقيقة مباينة لمعناه في الممكنات.

(٤) سقط من (ب) لفظ (بمعنى واحد).

٣٤١

المبحث الثالث

تقسيم الوجود عينيا وذهنيا ولفظيا وخطيا

المبحث الثالث : الوجود يتناول عينيا ، وذهنيا ، ولفظيا ، وخطيا. والأول : متأصل(١) يكون الموجود به حقيقة الشيء.

والثاني (٢) غير متأصل بمنزلة الظل من الجسم ، يكون الموجود به صورة الشيء. والأخيران مجازيان ، يكون الموجود بهما اسم الشيء وصورة اسمه. ولكل لاحق دلالة على السابق ، إلا أن الأولى عقلية ، لا يختلف فيها الطرفان ، والأخريان وضعيتان يختلف في أولاهما الدال فقط.

وفي ثانيهما الطرفان جميعا (٣) على مراتب كثيرة (٤) أعلاها : الوجود (٥) في الأعيان ، وهو الوجود المتأصل المتفق عليه الذي به تحقق ذات الشيء وحقيقته بل نفس تحققها ثم الوجود في الأذهان وهو وجود غير متأصل بمنزلة الظل للجسم (٦) ، يكون المتحقق به الصورة المطابقة للشيء بمعنى أنها لو تحقق في

__________________

(١) في (ب) بكون. وقوله : متأصلا لتقدمه في الثبات والتحقق والاتفاق عليه ، وسمي عينيا لاقتضائه ظهور حقيقة صاحبه في العيان ، فمفهوم الإنسان مثلا لما كان له وجود عيني تحققت له حقيقة خارجية عينية في أفراده بذلك الوجود.

(٢) والثاني : الوجود الذهني ، غير ثابت في الحقائق العيانية التي هي الأصل في العلوم وفي المدارك.

(٣) أي يصح اختلافهما معا بل ويقع باعتبار أن المدلول الذي هو اللفظ الموضوع يجوز أن يختلف بكثرة الأوضاع ، كما وضع لمعنى الأسد لفظ الأسد والهزبر مثلا في لغة واحدة أو في لغتين ، كما وضع له الأسد في العربية و «إزم» بكسر الهمزة وفتح الزاى ثم ميم ساكنة في البربر.

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (كثيرة).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (المشخص).

(٦) في (ب) الشجر بدلا من (الجسم).

٣٤٢

الخارج لكانت ذلك الشيء ، كما أن الشجر لو تجسم لكان ذلك الشجر ، ثم الوجود في العبارة ثم في الكتابة وهما من حيث الإضافة إلى ذات الشيء وحقيقته مجازيان ، لأن الموجود من زيد في اللفظ صوت موضوع بإزائه ، وفي الخط نقش موضوع بإزائه اللفظ الدال عليه ، لا ذات زيد ولا صورته.

نعم. إذا أضيف إلى اللفظ الموضوع بإزائه أو النقش الموضوع بإزاء ذلك اللفظ كان وجودا حقيقيا ، (١) من قبيل الوجود في الأعيان ، ولكل لاحق فيما ذكرنا من الترتيب دلالة على السابق ، فللذهني على العيني ، وللفظي على الذهني ، وللخطي على اللفظي ، فتحقق ثلاث دلالات. أولاها : عقلية محضة : لا يختلف فيها بحسب اختلاف الأشخاص والأوضاع الدال ولا المدلول ، إذ بأي لفظ عبر عن السماء. فالموجود منها في الخارج هو ذلك الشخص وفي الذهن هو الصورة المعينة المطابقة له ، والأخريان أعني دلالة اللفظ على الصورة الذهنية. ودلالة الخط على اللفظ وضعيتان يختلف في الأولى منهما الدال بأن تعين طائفة لفظا (٢) كالسماء ، وطائفة أخرى لفظا آخر كما في الفارسية وغيرها ، لا المدلول لأن الصورة الذهنية لا تختلف باختلاف اللغات ، وتختلف في الثانية : أعني دلالة الخط على اللفظ الدال والمدلول جميعا ، واختلاف الدال لا يختص بحالة اختلاف المدلول ، بل قد يكون (٣) مع اتحاده كلفظ السماء ، يكتب بصور مختلفة بحسب اختلاف الاصطلاحات في الكتابة. فإن قيل : ـ

معنى الدلالة : (٤) كون الشيء بحيث يفهم منه شيء آخر ، فإذا اعتبرت فيما

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (حقيقيا).

(٢) في (أ) طابقه بدلا من طائفة وهو تحريف.

(٣) في (ب) يقع بدلا من (يكون).

(٤) الدلالة : هي أن يلزم من العلم بالشيء علم بشيء آخر ، والشيء الأول هو الدال ، والثاني هو المدلول. فإن كان الدال لفظا كانت الدلالة لفظية وإن كان غير ذلك كانت الدلالة غير لفظية.

وكل واحدة من اللفظية وغير اللفظية تنقسم إلى عقلية وطبيعية ووضعية.

فالعقلية : هي أن يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة طبيعية تنقله من أحدهما إلى الآخر. كدلالة الحمرة على الخجل والصفرة على الوجل. والدلالة الوضعية أن يكون بين الدال والمدلول علاقة الوضع كدلالة اللفظ على المعنى.

(راجع تعريفات الجرجاني).

٣٤٣

بين الصور الذهنية ، والأعيان الخارجية ، لا معنى لفهمها والعلم بها سوى حصول صورها ، (١) كان بمنزلة أن يقال : يحصل من حصول الصور حصول الصور.

قلنا : المراد أنه إذا حكم على الأشياء كان الحاصل في الذهن هو الصور ، ويحصل منها الحكم على الأعيان الخارجية. فإنا إذا قلنا : العالم حادث ، فالحاصل في الذهن صورة العالم وصورة (٢) الحدوث ، وقد حصل منها العلم بثبوت الحدوث للعالم الموجود (في الخارج فإن قيل نحن) (٣) قاطعون بأن المواضع إنما عين الألفاظ ، بإزاء ما نعقله من الأعيان ، وللدلالة عليها ولهذا يقول بالوضع والدلالة من لا يقول بالصور الذهنية في الخارج (٤).

فإن قيل : نحن نعم إذا لم يكن للمعقول وجود في الخارج ، كان المدلول هو نفس الصورة عند من يقول بها كالمعدوم والمستحيل.

قلنا : مبني هذا الكلام على إثبات الصور الذهنية (٥) ، فإنه مما يكاد يقضي به بديهة العقل. ولما كان عند سماع اللفظ ترتسم الصورة (٦) في النفس ، فيعلم ثبوت الحكم لما في الخارج ، جعلوا الخارج مدلول الصورة ، والصورة مدلول اللفظ ، وأما كون مدلول الخط هو اللفظ فظاهر ، والحكمة فيه قلة المئونة ، حيث اكتفى بحفظ صور متعددة (٧) تترتب بترتب الحروف في الألفاظ ، من غير احتياج إلى أن يحفظ لكل معنى صورة مخصوصة.

__________________

(١) في (ب) صور لما.

(٢) سقط من (ب) وصورة لحدوث.

(٣) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٤) سقط من (ب) (في الخارج فإن قيل : نحن).

(٥) في (أ) يفضي بالفاء.

(٦) يطلق لفظ الصورة على بقاء الإحساس في النفس بعد زوال المؤثر الخارجي أو على عودة الإحساسات إلى الذهن بعد غياب الأشياء التي تثيرها وتسمى بالصورة الذهنية والفرق بين الصورة التالية والصورة الذهنية ، أن الأولى تعقب الإحساس مباشرة على حين أن الثانية هي التي تعود إلى مسرح الشعور دون تأثير حسي مباشر.

(راجع النجاة ٢٦٤).

(٧) في (ب) صور معدودة.

٣٤٤

الاستدلال على إثبات الوجود الذهني

(قال : ويستدل على تحقق الذهني (١) : بأن نحكم إيجابا على ما لا ثبوت له ، في الخارج ، كالممتنعات (٢) مع استحالة الإثبات لما لا ثبوت له ، وبأن نجد من المفهومات ما هو كلي يمتنع بكليته في الخارج. ومن القضايا حقيقية لا يقتصر الحكم فيها على الموجود في الخارج ، واعترض بأنه يكفي في الإيجاب تميز الموضوع عند العقل ، وهو معنى التعقل فيرجع الكل إلى أن الفهم والتعقل ، يقتضي الثبوت في العقل وفيه النزاع.

والجواب : أن اقتضاء التعقل والتميز إضافة بين العاقل والمعقول ضروري ، ولا تعقل الإضافة إلى النفي السرف ، بل لا بد من ثبوت (ما) وإذ ليس في الخارج ففي العقل.

فإن قيل : يجوز أن يقوم بنفسه ، كالمثل المجردة (٣) لأفلاطون والمعلقة لغيره ، أو ببعض المجردات كصور الكائنات بالعقل الفعال عند الفلاسفة.

قلنا : معلوم بالضرورة أن الممتنع (٤) بل المعدوم سيما (٥) ما ليس من قبيل الذوات لا يقوم بنفسه ، ولا ببعض المجردات بهويته بل بصورته ، وفيه المدعي

__________________

(١) الذهني : هو المنسوب إلى الذهن ويرادفه العقلي ، ويطلق على كل ما له صلة بالذهن في مظهره الوظيفي. والذهنية عند المنطقيين قضية يكون الحكم فيها على الأفراد الذهنية ، وهي مقابلة للقضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها على جميع أفراد الموضوع.

(راجع المعجم الفلسفي).

(٢) فتقول مثلا : الجمع بين الضدين مفهوم كلي ، وشريك الإله تعالى ممتنع وثبوت النقيضين في شيء واحد محال.

(٣) ولد أفلاطون في أثينا سنة ٤٢٧ ق. م في أسرة عريقة. تعلم الشعر والحكمة. وفي سنة ٣٧٠ ق م سافر إلى إيطاليا ، وفيها عرف «الفيثاغوريين» ودرس مذهبهم ، وفي أخريات أيامه أقام «بأثينا» وأنشأ بها مدرسة تطل على حديقة «أكاديموس» فسميت لذلك بالأكاديمية. مات سنة ٣٤٧ ق. م.

(الموسوعة الفلسفية الميسرة).

(٤) في (ج) المتبع وهو تحريف.

(٥) في (ج) سئماما وهو تحريف.

٣٤٥

من جهة استلزامه كون التعقل بحصول الصورة ، لا من جهة استلزامه أن للمعقولات نوعا من التمييز غير التميز بالهوية الخارجية سواء اخترعه العقل أو لاحظه (١) من محل آخر ، لأن اقتضاء التميز الثبوت في العقل أول المسألة) (٢).

كون العلم سيما العلم بما لا تحقق له في الأعيان مقتضيا لثبوت أمر في الذهن ظاهر يجري مجرى الضروريات ، فمن هنا زعم بعضهم أن إنكار الوجود الذهنى إنكار للأمر الضروري واستدل المثبتون بوجوه.

الأول : أنا نحكم حكما إيجابيا على ما لا تحقق له في الخارج أصلا ، كقولنا : اجتماع النقيضين مستلزم لكل منهما ، ومغاير لاجتماع الضدين ، ونحو ذلك. ومعنى الإيجاب الحكم بثبوت أمر لأمر ، وثبوت الشيء لما لا ثبوت له في نفسه بديهي الاستحالة ، فيلزم ثبوت الممتنعات ، لتصح هذه الأحكام ، وإذ ليس في الخارج نفي الذهن. وتقرير آخر أن من الموجبات ما لا تحقق (٣) لموضوعه في الخارج. والموجبة تستدعي وجود الموضوع في الجملة فيكون في الذهن. وما يقال إنا نحكم على الممتنعات بأحكام ثبوتية ، فمعناه أحكام إيجابية فلا يرد عليه : أنه إن أريد الثبوت في الخارج فمحال أو في الذهن فمصادرة (٤) على أنه يجوز أن يقال المراد الثبوت في الجملة وكونه منحصرا في الخارجي والذهني لا يستلزم أن يراد أحدهما ليلزم المحال والمصادرة.

__________________

(١) في (أ) لاحظ بدلا من (لاحظه).

(٢) ففي الاستلزام بذلك الوجه مصادرة إذ كأنه قيل تميز المعقولات تقتضي وجودها في الذهن لأن تميزها يقتضي وجودها ولا يخفى فساده ، وهذا رد على صاحب المواقف.

(راجع المواقف الجزء الثالث).

(٣) في (ب) بزيادة (له).

(٤) المصادرة : عند أهل النظر يطلق على قسم من الخطأ في البرهان. خطأ مادته من جهة المعنى. وهي جعل النتيجة مقدمة من مقدمتي البرهان بتغييرها ، وإنما اعتبر التغيير بوجه ما ليقع الالتباس. كقولنا هذه نقلة ، وكل نقلة حركه فهذه حركة فالصغرى هاهنا عين النتيجة ، ومنهم من يجعل المصادرة من قبيل الخطأ من جهة الصورة قائلا بأن الخطأ في الصورة إما بحسب نسبة بعض المقدمات إلى بعض وهو أن لا يكون على هيئة شكل منتج ، وإما بحسب نسبة المقدمات إلى النتيجة بأن لا يكون اللازم قولا غير المقدمات وهو المصادرة على المطلوب.

(راجع كشاف اصطلاحات الفنون مادة صدر ج ٤).

٣٤٦

الثاني : إن الكلي مفهوم ، وكل مفهوم ثابت ضرورة تميزه عند العقل. فالكلي ثابت وليس في الخارج ، لأن كل ما هو في الخارج مشخص فيكون في الذهن.

الثالث : إن من القضايا موجبة حقيقية ، وهي تستدعي وجود الموضوع ضرورة ، وليس في الخارج لأنه قد لا يوجد في الخارج أصلا ، كقولنا : كل عنقاء حيوان ، وعلى تقدير الوجود لا تنحصر الأحكام في الأفراد الخارجية ، كقولنا : كل جسم متناه ، أو حادث ، أو مركب (١) من أجزاء لا تتجزأ ، إلى غير ذلك من القضايا المستعملة في العلوم ، فالحكم على جميع الأفراد لا يكون إلا باعتبار الوجود في الذهن ، وفي المواقف ما يشعر بأن قولنا : الممتنع معدوم قضية حقيقية. وليس كذلك في اصطلاح القوم واعترض بأنا : لا نسلم أن الايجاب يقتضي وجود الموضوع ، قولكم (٢) إن ثبوت الشيء للشيء فرع ثبوته في نفسه.

قلنا : معنى الإيجاب أن (٣) ما صدق عليه الموضوع ، هو ما صدق عليه المحمول من غير أن يكون هناك ثبوت أمر لأمر ، بمعنى الوجود والتحقق فيه ، وإنما ذلك بحسب العبارة ، وعلى اعتبار الوجود الذهني ، بل اللازم هو تميز الموضوع ، والمحمول عند العقل بمعنى تصورهما ، فيكون مرجع الوجوه الثلاثة : إلى أنا نتصور ونفهم أمورا لا وجود لها في الخارج ، فتكون ثابتة في الذهن لأن تعقل الشيء إنما يكون بحصوله في العقل بصورته ، إن كان من الموجودات العينية ، وإلا فبنفسه (٤) ، وهذا نفس المتنازع. لأن القول بكون التعقل بالحصول في العقل إنما هو رأي القائلين بالوجود الذهني ، وإلا لكان بشيء ما كافيا في إثبات المطلوب.

والجواب : أنه لا بد في فهم الشيء وتعقله وتمييزه عند العقل من تعلق بين

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (مركب).

(٢) في (ب) كقولكم.

(٣) سقط من (ب) لفظ (أن).

(٤) في (ب) والأقيسة بدلا من (وإلا بنفسه).

٣٤٧

العاقل والمعقول ، سواء كان العلم عبارة عن حصول صورة الشيء في العقل ، أو عن إضافة مخصوصة بين العاقل والمعقول ، أو عن صفة ذات إضافة (١) ، والتعلق بين العاقل وبين العدم الصرف محال بالضرورة. فلا بد للمعقول من ثبوت في الجملة ، ولما امتنع ثبوت الكليات بل سائر المعدومات سيما الممتنعات في الخارج تعين كونه في الذهن.

فإن قيل : في رد هذا الجواب أن المعقولات التي لا وجود لها في الخارج لا يلزم أن تكون موجودة في الذهن ، لجواز أن تكون صورا (٢) قائمة بأنفسها ، كالمثل المجردة الأفلاطونية (٣) على ما سيأتي. في بحث الماهية ، وكالمثل المعلقة التي يقول بها بعض الحكماء ، زعما منهم أن لكل موجود شبحا في عالم المثال. ليس بمعقول ولا محسوس على ما سيأتي في آخر المقصد.

الرابع : أو قائمة ببعض المجردات كما تدعيه الفلاسفة من ارتسام صور الكائنات في العقل الفعال ، وينبغي أن يكون هذا مراد الإمام بالأجرام الغائبة عنا ، وإلا فقيام المعدومات بالأجسام مما لا يعقل.

قلنا : الكلام في المعدومات سيما الممتنعات ، ولا خفاء في امتناع قيامها بأنفسها بحسب الخارج ، ولا بالعقل الفعال بهوياتها ، إذ لا هوية للممتنع بل غاية الأمر أن يقوم به تصورها بمعنى تعقله إياها ، وهو يستلزم المطلوب من جهة استلزامه كون التعقل بحصول الصورة في العاقل ، فترتسم الصورة في القوة

__________________

(١) في (ب) تعلق بدلا من (إضافة).

(٢) سقط من (أ) صورا.

(٣) المثل الأفلاطونية مبدأ المعرفة ومبدأ الوجود معا ، فهي مبدأ المعرفة لأن النفس لا تدرك الأشياء ولا تعرف كيف تسميها إلا إذا كانت قادرة على تأمل المثل. وهي مبدأ الوجود ، لأن الجسم لا يتعين في نوعه إلا إذا شارك بجزء من مادته في مثال من المثل.

والمثال عند «أفلاطون» صورة مجردة ، وحقيقة معقولة أزلية ثابتة قائمة بذاتها لا تتغير ولا تندثر ولا تفسد : قال الفارابي : إن أفلاطون في كثير من أقاويله يومئ إلى أن للموجودات صورا مجردة في عالم الإله وربما يسميها بالمثل الإلهية.

(راجع كتاب الجمع بين رأي الحكيمين).

٣٤٨

العاقلة. وهو المعنى الموجود الذهني ، ثم إذا كان طريق التعقل واحدا كان تعقل الموجودات أيضا بحصول صورها في العقل. وذكر صاحب المواقف : أن المرتسم في العقل الفعال إن كان الصور والماهيات الكلية يثبت الوجود الذهني ، إذ غرضنا إثبات نوع من التميز للمعقولات ، غير التميز بالهوية الذي نسميه بالوجود الخارجي ، سواء اخترع العقل تلك الصور أو لاحظها من موضوع آخر ، كالعقل الفعال وغيره ، وفيه نظر ، لأن غاية ذلك أن يكون للمعقولات تميز عند العقل بالصورة والماهية ، لكن كون ذلك بحصول الصورة في العقل هو أول المسألة.

اتصاف الذهن بالحرارة والبرودة بديهي الاستحالة

(قال : تمسك المانعون (١) بأن اتصاف الذهن بالحرارة والبرودة وحصول السموات فيه بديهي الاستحالة ، وبأنه لو وجد في الذهن ما لا تحقق له في الخارج لوجد فيه ، لأن الموجود في الوجود في الشيء موجود فيه ورد (٢) بأن ذلك في الوجود المتأصل ، فالحار ما يقوم به هوية الحرارة لا صورتها ، والمحال حصول هويات السموات في الذهن لا صورها (٣). والحاصل في الذهن صورة المعدوم ، وفي الخارج هوية الذهن ، بخلاف وجود الماء في الكوز والكوز في الدار).

لما كان مبنى الوجود الذهني على استلزام التعقل إياه. اقتصر المانعون على إبطال ذلك وتقريره من وجوه :

__________________

(١) جمهور المتكلمين قالوا : إن الذهن لو حصل وجود معقوله فيه لزم اتصافه بذلك المعقول وإن كان وصفا إذ لا معنى لاتصاف الشيء بوصف إلا وجوده فيه ولزم كونه محالا لذاته إن كان ذاتا وكلاهما محال. أما الأول : فلما يستلزمه من صحة الجمع بين الضدين. وأما الثاني : فلما يستلزمه من تحمل الضيف ما لا يسمع منه أقل القليل وكلاهما بديهي البطلان.

(راجع الإرشاد للجويني).

(٢) في (ج) ودد بدالين بدون (الراء).

(٣) أي حصول صور السموات في الذهن فإنه جائز ، والحصول الذهني هو الحصول الصوري الممكن لا الحصول المحال.

٣٤٩

الأول : لو كان تصور الشيء مستلزما لحصوله في العقل ، لزم من تصور الحرارة والبرودة أن يكون الذهن حارا باردا وهو محال ، لما فيه من اجتماع الضدين ، واتصاف العقل بما هو من خواص الأجسام.

الثاني : أنه يلزم أن تحصل السموات بعضها في العقل عند تعقلها في (١) الكل ، وفي الخيال عند تخيلها ، وهو باطل بالضرورة.

الثالث : أنه يلزم من تعقل المعدومات وجودها في الخارج ، لكونها موجودة في العقل الموجود في الخارج ، مع القطع بأن الموجود في الموجود في الشيء موجود في ذلك الشيء ، كالماء الموجود في الكوز الموجود في البيت.

والجواب : أن مبنى الكل على عدم التفرقة بين الوجود المتأصل الذي به الهوية العينية ، وغير المتأصل الذي به الصورة العقلية ، فإن المتصف بالحرارة ما تقوم به هوية الحرارة لا صورتها ، والتضاد إنما هو بين هويتي الحرارة والبرودة لا بين صورتيهما (٢) والذي علم بالضرورة استحالة حصوله في العقل والخيال هو هويات السموات لا صورها الكلية أو الجزئية (٣) ، والموجود في الموجود في الشيء إنما يكون موجودا في ذلك الشيء ، إذا كان الوجودان متأصلين ، ويكون الموجودان هويتين كوجود الماء في الكوز ، والكوز في البيت ، بخلاف وجود المعدوم في الذهن الموجود في الخارج. فإن الحاصل في الذهن من المعدوم صورة ، والوجود غير متأصل ، ومن الذهن في الخارج هوية. والوجود متأصل. وبالجملة فماهية الشيء أعني صورته العقلية مخالفة لهويته العينية في كثير من اللوازم ، فإن الأولى : كلية ومجردة بخلاف الثانية ، والثانية : مبدأ للإمكان (٤) بخلاف الأولى (٥) ومعنى المطابقة بينهما : أن الماهية إذا وجدت في الخارج كانت تلك الهوية ، والهوية إذا جردت (٦) عن العوارض المشخصة واللواحق الغريبة ، كانت تلك الماهية ، فلا يرد ما يقال إن الصورة العقلية إن ساوت الصورة الخارجية لزمت المحالات ، وإلا لم تكن صورة لها.

__________________

(١) في (أ) بزيادة (في الكل).

(٢) سقط من (أ) لفظ (بين).

(٣) سقط من (ب) لفظ (أو).

(٤) في (أ) للآثار وهو تحريف.

(٥) في (ب) بخلاف الأول.

(٦) في (ب) بحردث.

٣٥٠

المبحث الرابع

الوجود يرادف الثبوت

(قال : المبحث الرابع : الوجود يرادف الثبوت ويساوق الشيئية (١) ، والعدم يرادف النفي ، فلا المعدوم ثابت ، ولا بينه وبين الموجود واسطة ، وخوله في الأمرين إفرادا وجمعا. فقيل : المعلوم إما لا ثبوت له ، وهو المعدوم أو له ثبوت باعتبار ذاته ، وهو الموجود ، أو تبعا لغيره. وهو الحال ، فهو صفة لموجود لا موجودة ولا معدومة ، فتتحقق الواسطة. وقال جمهور المعتزلة : إن كان له كون في الأعيان فموجود ، وإلا فمعدوم وإن كان له تحقق في نفسه فثابت ، وإلا فمنفي (٢). الموجود أخص من الثابت والمنفي من المعدوم ، فالمعدوم قد يكون ثابتا ولا واسطة بينه وبين الموجود. وقال بعضهم : إن كان له كون في الأعيان فإما بالاستقلال ، وهو الموجود أو بالتبعية وهو الحال وإلا فمعدوم ، إما متحقق في نفسه فثابت ، أو لا فمنفي (٣) ، فالمعدوم ثابت (٤) وبينه وبين الموجود واسطة).

__________________

(١) الشيئية عند الحكماء تساوق الوجود وتساويه وإن غايرته مفهوما لأن مفهوم الشيئية العلم والإخبار عنه ، فإن قولنا (السواد موجود) يفيد فائدة معتدا بها دون (السواد شيء).

«ومشيئة الله عبارة عن تجلية الذات والعناية السابقة لإيجاد المعدوم أو إعدام الموجود ، وإرادته عبارة عن تجليه لإيجاد المعدوم فالمشيئة أعم من وجه من الإرادة ، ومن تتبع مواضع استعمالات المشيئة والإرادة في القرآن يعلم ذلك. وإن كان بحسب اللغة يستعمل كل منها مقام الآخر. انتهى ..

(راجع التعريفات للجرجاني. وكشاف اصطلاحات الفنون ج ٤ مادة الشيء).

(٢) في (أ) بزيادة (الواو) ولا محل لها.

(٣) وحيث كان الثابت أعم من الموجود والمنفي نقيضه ومن المعلوم ان نقيض الأعم أخص من نقيضه الأخص لزم كون المنفي أخص من المعدوم الذي هو نقيض الموجود الذي هو أخص من الثابت ولخصوصه لا يصدق إلا الممتنع بخلاف المعدوم فيصدق على الممكن الذي لم يوجد.

(٤) في (ج) وبينه بزيادة (الواو).

٣٥١

قد اختلفوا في (١) أن المعدوم هل هو ثابت وشيء أم لا؟ وفي أنه هل بين الموجود والمعدوم واسطة أم لا؟ والمذاهب أربعة (٢) حسب الاحتمالات الأربعة (٣) أعني إثبات الأمرين أو نفيهما ، أو إثبات الأول ونفي الثاني أو بالعكس. وذلك أنه إما أن يكون المعدوم ثابتا أو لا. وعلى التقديرين إما أن يكون بين الموجود والمعدوم واسطة أو لا. والحق نفيهما بناء على أن الوجود يرادف الثبوت ، والعدم يرادف النفي ، فكما أن النفي ليس ثابتا ، فكذا المعدوم ، وكما أنه لا واسطة بين الثابت والمنفي ، فكذا بين الموجود والمعدوم ، وأما الشيئية فتساوق الوجود بمعنى أن كل موجود شيء ، وبالعكس ، ولفظ المساوقة يستعمل عندهم فيما يعم الاتحاد في المفهوم. فيكون اللفظان مترادفين والمساواة في الصدق فيكونان متباينين ، ولهم تردد في اتحاد مفهوم الوجود والشيئية. بل ربما يدعي نفيه بناء على أن قولنا : السواد موجود ، يفيد فائدة يعتد بها بخلاف قولنا : السواد شيء فصار الحاصل أن كل ما يمكن أن يعلم إن كان له تحقق في الخارج أو الذهن فموجود وثابت وشيء وإلا فمعدوم ، ومنفي ولا شيء ، وأما المخالفون : فمنهم من خالف في نفي الواسطة وإليه ذهب من أصحابنا إمام الحرمين (٤) أولا ، والقاضي (٥) ، ومن المعتزلة أبو هاشم (٦) ، فقالوا : المعلوم إن لم يكن له ثبوت ، أي في الخارج لأن مبنى الكلام على نفي الوجود الذهني ، وإلا فالمعلوم موجود في الذهن قطعا فهو المعدوم. وإن كان له ثبوت (٧) فإن كان باستقلاله وباعتبار ذاته فهو الموجود ، وإن كان باعتبار التبعية

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (أن).

(٢) (أ) الأول : نفي الواسطة ونفي شيئية المعدوم.

(ب) الثاني : إثبات الواسطة مع نفي الشيئية.

(ج) الثالث : إثبات الشيئية مع نفي الواسطة.

(د) الرابع إثبات الواسطة والشيئية.

(٣) سقط من (أ) لفظ (الأربعة).

(٤) هو عبد الملك بن عبد الله الجويني وقد سبق الترجمة له.

(٥) هو أبو بكر الباقلاني ، قد ترجمنا له.

(٦) سبق أن ترجمنا له ترجمة وافية.

(٧) راجع محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص ٥٥ تحقيق الأستاذ (طه عبد الرءوف سعد) وأيضا تلخيص المحصل على هامشه فقرة رقم ٢.

٣٥٢

للغير فهو الحال ، فهو واسطة بين الموجود والمعدوم ، لأنه عبارة عن صفة للموجود لا تكون موجودة ولا معدومة ، مثل العالمية والقادرية ونحو ذلك. والمراد بالصفة ما لا يعلم ، ولا يخبر عنه بالاستقلال بل بتبعية الغير ، والذات بخلافها ، وهي لا تكون إلا موجودة أو معدومة ، بل لا معنى للموجود إلا ذات لها صفة العدم ، والصفة لا يكون لها ذات فلا تكون موجودة ولا معدومة. فلذا قيد بالصفة واحترز بقولهم : لموجود عن صفات المعدوم فإنها تكون معدومة لا حالا. وبقولهم : لا موجودة عن الصفات الوجودية مثل السواد والبياض وبقولهم : ولا معدومة عن الصفات السلبية. قال الكاتبي (١) : وهذا الحد لا يصح على مذهب المعتزلة ، لأنهم جعلوا الجوهرية من الأحوال مع أنها حاصلة للذات حالتي الوجود والعدم.

قلنا : إنما يتم هذا الاعتراض لو ثبت ذلك من أبي هاشم ، وإلا فمن المعتزلة من لا يقول بالحال ، ومنهم من يقول بها لا على هذا الوجه (٢) ، ثم قال : وأول من قال بالحال أبو هاشم وفصل القول فيه بأن الأعراض التي لا تكون مشروطة بالحياة كاللون والرائحة لا توجب لمن قامت به حالا ولا صفة ، إلا الكون فإنه يوجب لمحله الكائنية وهي من الأحوال ، وأما الأعراض المشروطة بالحياة ، فإنها توجب لمحلها أحوالا للمحل (٣) كالعلم للعالمية والقدرة للقادرية.

وزعم القاضي وإمام الحرمين : أن كل صفة فهي توجب للمحل حالا ، كالكون للكائنية والسواد للأسودية والعلم للعالمية. ومنهم من خالف في نفي كون المعدوم ثابتا وهم أكثر المعتزلة ، حيث زعموا أن المعلوم إن كان له كون في الأعيان فموجود وإلا فمعدوم فلا واسطة بينهما ـ وباعتبار آخر : المعلوم إن كان له تحقق في نفسه وتقرر فثابت ، (٤) وإلا فمنفي وكل ما له كون في

__________________

(١) سبق الترجمة له.

(٢) راجع تفصيل قول الفلاسفة والمعتزلة في المعدومات في كتاب : محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ص ٥٩ وما بعدها.

(٣) سقط من (أ) لفظ (للمخل).

(٤) في (أ) مثبت.

٣٥٣

الأعيان فله تقرر في نفسه من غير عكس ، فيكون الموجود أخص من الثابت. وكل ما لا تقرر له في نفسه لا كون له في الأعيان ، وليس كل ما لا كون له تقرر له ، فيكون المنفي أخص من المعدوم ، فيكون بعض المعدوم لا منفيا بل ثابتا ، ومنهم من خالف في الأمرين جميعا وهم بعض المعتزلة قالوا : ـ المعلوم إن كان له كون في الأعيان ، فإن كان له (١) ذلك بالاستقلال فهو الموجود ، وإن كان بتبعية الغير فهو الحال ، وإن لم يكن له كون في الأعيان فهو المعدوم ، والمعدوم إن كان متحققا في نفسه فثابت ، وإلا فمنفي. فقد جعلوا بعض المعدوم ثابتا. وأثبتوا بين الموجود والمعدوم واسطة هو الحال ، وظاهر العبارة يوهم أن الثابت قسم من المعدوم ، وليس كذلك. بل بينهما عموم من وجه لأنه يشمل الموجود والحال بخلاف المعدوم ، والمعدوم يشمل المنفي بخلاف الثابت ، وان كان المعدوم مباينا للمنفي على ما صرح به في تلخيص المحصل (٢) من أن القائلين بكون المعدوم شيئا لا يقولون للممتنع معدوم بل منفي. كان الأول في هذا التقسيم ، أن يقال : المعلوم إن لم يتحقق في نفسه فمنفي ، وإن تحقق فإن كان له كون في الأعيان ، فإما بالاستقلال فموجود ، أو بالتبيعة فحال ، وإن لم يكن له (٣) كون في الأعيان فمعدوم ، وفي التقسيم السابق أنه إن لم يتحقق فمنفي ، وان تحقق فثابت ، وحينئذ إن كان له كون في الأعيان فموجود ، وإلا فمعدوم.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (له).

(٢) تلخيص المحصل. لنصير الدين الطوسي وهو عبارة عن نقد وتوضيح لكتاب محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين لفخر الدين الرازي وقد قام بتحقيقه (الأستاذ طه عبد الرءوف سعد) ونشرته مكتبة الكليات الأزهرية على هامش المحصل.

(٣) سقط من (ب) لفظ (له).

٣٥٤

نفي ثبوت المعدوم

ونفي الواسطة بينه وبين الوجود

لنا (١) في المقامين (٢) الضرورة (٣) فإنه لا يقل من الثبوت إلا الوجود ذهنا (٤) أو خارجا من العدم إلا نفي ذلك ، ولا يتصور بينهما واسط.

أي في نفي ثبوت المعدوم وشيئيته ونفي الواسطة بين الموجود والمعدوم الضرورة. فإنها قاضية بذلك ، إذ لا يعقل من الثبوت إلا الوجود ذهنا ، أو خارجا من العدم إلا نفي ذلك ، والشيئية تساوق الوجود ، فالثابت في الذهن أو الخارج موجود فيه ، وكما لا تعقل الواسطة بين الثابت والمنفي ، فكذا بين الموجود والمعدوم ، والمنازع مكابر ، وجعل الوجود أخص من الثبوت والعدم من المنفي (٥) ، وجعل الموجود ذاتا لها الوجود ، والمعدوم ذات لها العدم ، لتكون الصفة واسطة اصطلاح (٦) لا مشاحة فيه. قال : فاستدل بوجوه.

الأول : أن ثبوت المعدوم ينافي المقدورية ، لأن الذات أزلية (٧) والوجود حال لا يتعلق به قدرة (٨).

الثاني : أن العدم صفة نفي فينتفي الموصوف به.

__________________

(١) (لنا) يقصد الأشاعرة خلافا للقاضي أبي بكر الباقلاني. وإمام الحرمين.

(٢) أي نفي الواسطة بين الموجود والمعدوم وفي نفي شيئية المعدوم.

(٣) أي لنا فيما ذكر حكم العقل بإبطال ما يناقض ذلك ضرورة والمخالف مكابر.

(٤) في (ج) وخارجا بدلا من (أو خارجا).

(٥) في (ب) النفي.

(٦) سقط من (أ) لفظ (واسطة).

(٧) أزلية : من حيث ثبوتها إذ لو لم يكن ثبوتها أزليا كان طارئا فلا يكون ثبوتها ذاتيا لسبق نفيها على ثبوتها فتكون منفية أولا كالممتنع فلا يختص المنفي بحقيقة الممتنع وهم يقولون بالاختصاص ، وأيضا الحقائق غير مجعولة في زعمهم فيلزم كونها أزلية.

(٨) سقط من (أ) قدرة.

٣٥٥

الثالث : أن ثبوت الذوات عندكم ليس من الغير فيلزم تعدد الواجب.

الرابع : أنها غير متناهية مع أن الموجود منها متناه. فالكل أكثر من الباقية على العدم بمتناه فتكون متناهية.

الخامس : أن المعدوم كان مساويا للمنفي أو أخص منه لم يكن ثابتا ، وإن كان أعم منه لم يكن نفيا صرفا ، والا لما بقي فرق بين العام والخاص. بل ثابتا. وهو صادق على المنفي فيلزم ثبوته وهو محال.

ورد الأول : بجواز أن يكون اتصاف الذات بالوجود حادثا بالقدرة (١) فإن قيل : هو منفي وإلا لزم التسلسل واتصاف المعدوم بالوجود.

أجيب : بمنع استحالة التسلسل في الثابت واتصاف الثابت بالوجود. والثاني بمنع الأول إن أريد صفة (٢) هي نفي. أو إن أريد صفة منفية. والثالث : بأن الواجب ما يستغني عن الغير في وجوده لا ثبوته (٣). والرابع : يمنع تناهي ما يزيد على الغير بمتناه. بل إذا كان الغير متناهيا. وإثبات ذلك بالتطبيق بينه وبين الكل ضعيف. والخامس : بأن عدم كونه نفيا صرفا لا يستلزم كونه اثباتا صرفا بل قد وقد فلا يصدق إلا بعض المعدوم ثابت فلا يلزم ثبوت المنفي.

فإن قيل : المراد أنه لو كان أعم لكان متميزا عن الخاص ، فيكون ثابتا إلزاما قلنا فيلغو أكثر المقدمات.

منا من جعل نفي ثبوت المعدوم غير ضروري فاستدل عليه بوجوده.

الأول : لو كان المعدوم ثابتا لامتنع تأثير القدرة في شيء من الممكنات

__________________

(١) في (أ) بالغدة وهو تحريف.

(٢) في (ج) منفي نفي.

(٣) والمعدوم الممكن على هذا التقدير وهو أن له ثبوتا في حال عدمه لذاته ليس مستغنيا عن الغير في وجوده لأنه معدوم يحتاج إلى الغير في الوجود فلا يكون واجبا فلا يلزم تعدد الواجب على تقدير ثبوته لذاته.

(راجع أشرف المقاصد في شرح المقاصد).

٣٥٦

واللازم باطل ضرورة واتفاقا. وجه اللزوم أن التأثير إما في نفس الذات وهي أزلية ، والأزلية تنافي المقدورية. وإما في الوجود وهو حال إما على المثبتين فإلزاما ، وإما على النافين فإثباتا بالحجة على ما سيأتي. والأحوال ليست بمقدورة باتفاق القائلين بها ، ولأن عدم توقف لونية السواد وعالمية من قام به العلم على تأثير القدرة ضروري ، وأما التمسك بأنه لو كان مثل عالمية العالم ، ومتحركية المتحرك بالفاعل ، لكن (١) بدون العلم والحركة ويؤدي إلى إبطال القول بالأعراض ، فلا يخفى ضعفه ، ثم نفي المقدورية لا يستلزم ثبوت الأزلية ، ليلزم أزليه الوجود ، بل أزلية اتصاف الذات بالوجود بناء على كونه نسبة بينهما ، لا يتوقف على غيرهما لأنهم يجوزون الثبوت بلا علة أو بعلة غير قادرة.

وأجيب : بمنع الحصر لجواز أن يكون تأثير القدرة في اتصاف الذات بالوجود ، لا يقال الاتصاف منتف. أما أولا : فلأنه لو ثبت لكان له اتصاف بثبوت وتسلسل.

وأما ثانيا : فلما سبق من أنه ليس بين الماهية والوجود اتصاف بحسب الخارج ، كما بين البياض والجسم. وإنما ذلك بحسب الذهن فقط ، وإلا لزم اتصاف المعدوم بالوجود ، لأن الماهية بدون الوجود لا تكون بحسب الخارج إلا معدومة ، إذ الماهية من حيث هي هي إنما هي (٢) في التصور فقط لأنا نجيب عن الأول : بأنه لو سلم زيادة اتصاف الاتصاف بالثبوت على نفس الاتصاف ، فلا نسلم (٣) نفي (٤) استحالة التسلسل في الثابتات ، وإنما قام الدليل عليه في الموجودات. وعن الثاني : بأنا لا نسلم (٥) استحالة اتصاف المعدوم الثابت بالوجود ، وصيرورته عند الاتصاف موجودا بذلك الوجود ، كالجسم الغير الأسود يتصف بالسواد ، ويصير أسود بذلك السواد ، وإنما يستحيل ذلك فيما ليس بثابت في الخارج ، وهذا ما ذكره الإمام : من أن القول بثبوت (٦) المعدوم متفرع على

__________________

(١) في (أ) لا لأمكن وهو تحريف.

(٢) سقط من (ب) لفظ (هي في).

(٣) في (ب) ثم وهو تحريف.

(٤) سقط من (ب) لفظ (نفي).

(٥) في (ب) ثم وهو تحريف.

(٦) في (أ) بإسقاط (الباء) أي (ثبوت).

٣٥٧

القول بزيادة الوجود. بمعنى أنهم زعموا أن وجود السواد زائد على ماهيته. ثم زعموا أنه يجوز خلو تلك الماهية عن صفة الوجود. وأيضا لما اعتقدوا أن الوجود صفة تطرأ على الماهية وتقوم بها ، ولم يتصور ذلك في النفي الصرف. أنتج لهم ذلك كون الماهية ثابتة قبل الوجود ، ويجوز العكس لأن الماهية إذا كانت ثابتة قبل الوجود ، لم يكن الوجود نفسها ، وإلا لكان ثبوتها ثبوته وارتفاعها ارتفاعه.

الثاني : أن المعدوم متصف بالعدم الذي هو (١) صفة نفي ، لكونه رفعا للوجود الذي هو صفة (٢) ثبوت ، والمتصف بصفة النفي منفي ، كما أن المتصف بصفة الإثبات ثابت.

وأجيب : بأنه إن أريد بصفة النفي صفة هي نفي في نفسه وسلب حتى يكون معنى المتصف به هو المنفي ، فلا نسلم أن كل معدوم متصف بصفة النفي ، وإنما يلزم لو كان العدم هو النفي وليس كذلك ، بل أعم منه لكونه نقيضا للوجود ، الذي هو أخص من الثبوت ، وإن أريد بها صفة هي نفي شيء وسلبه كاللاتحيز واللاحدوث (٣) مثلا ، فظاهر أن المتصف به لا يلزم أن يكون منفيا ، كالواجب يتصف بكثير من الصفات السلبية ، إذ ليس يمنع اتصاف الموجود بالصفات العدمية ، كما يمتنع اتصاف المعدوم بالصفات الوجودية.

الثالث : لو كانت الذوات ثابتة في العدم ، وعندكم أن ثبوتها ليس من غيرها كانت واجبة ، إذ لا معنى للواجب (٤) سوى هذا ، فيلزم وجوب الممكنات ، وتعدد الواجب. وتقريرهم أنها لو كانت ثابتة ، فثبوتها إما واجب فيتعدد الواجب ، أو ممكن فيكون محدثا مسبوقا بالنفي ، فتكون الذوات من حيث (٥) هي مسبوقة بالنفي ، وهو مع ابتنائه على كون كل ممكن الثبوت محدثا ، بمعنى المسبوق بالنفي لا ينفي كون الذوات ثابتة بدون الوجود ، بل غايته أن ثبوتها في العدم مسبوق بنفيها.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (هو).

(٢) سقط من (ب) لفظ (صفة).

(٣) في (ب) واللاوجود.

(٤) في (ب) للوجوب.

(٥) سقط من (ب) (حيث).

٣٥٨

وأجيب : بأن الواجب ما يستغني عن الغير في وجوده لا في ثبوته الذي هو أعم.

الرابع : أن الذوات الثابتة والعدم غير متناهية عندكم ، هذا محال لأن القدر الذي خرج منها إلى الوجود متناه اتفاقا ، فيكون الكل أكثر من القدر الذي بقي على العدم بقدر متناه ، وهو القدر الذي دخل في الوجود ، فيكون الكل متناهيا بكونه زائدا على الغير بقدر متناه.

وأجيب : بأنا لا نسلم (١) أن الزائد على الغير بقدر متناه يكون متناهيا ، وإنما يكون كذلك لو كان ذلك الغير متناهيا وليس كذلك ، لأن الباقية على العدم أيضا غير متناهية كالكل.

فإن قيل : هي أقل من الكل قطعا ، فينقطع عند التطبيق فيتناهى ويلزم تناهي الكل.

فالجواب : النقض بمراتب الأعداد (٢) ، ومنع الزيادة والنقصان فيما بين غير المتناهيين. ولو سلم فلا يلزم من بطلان القول بعدم تناهيها بطلان القول بثبوتها.

الخامس : أن المعدوم إما مساو للمنفي أو أخص منه أو أعم ، إذ لا تباين لظهور التصادق ، فإن كان مساويا له أو أخص ، صدق كل معدوم منفي ، ولا شيء من المنفي بثابت ، فلا شيء من المعدوم بثابت. وإن كان أعم لم يكن

__________________

(١) في (ب) ثم وهو تحريف.

(٢) العدد أحد المفاهيم العقلية الأساسية وهو بهذا الاعتبار لا يحتاج إلى تعريف إلا أن بعض العلماء يعرفونه بنسبته إلى غيره فيقولون : العدد هو الكمية المؤتلفة من الوحدات ، أو الكمية المؤلفة من نسبة الكثرة إلى الواحد ، ويسمى بالكم المنفصل لأن كل واحد من أجزائه منفصل عن الآخر بخلاف الكم المتصل وهو ما كان بين أجزائه حد مشترك ، وللعدد عند بعض الفلاسفة قيمة مطلقة من جهة دلالته على طبائع الأشياء فالفيثاغوريون يزعمون أن الأعداد المجردة مطابقة لصور الموجودات.

(راجع المعجم الفلسفي ج ٢ ص ٦٠).

٣٥٩

نفيا صرفا ، وإلا لما بقي فرق بين العام والخاص بل ثابتا. وقد صدق على المنفي فيلزم كونه ثابتا ضرورة أن ما صدق عليه الأمر الثابت ثابت ، وهو باطل ضرورة استحالة صدق أحد(١) النقيضين على الآخر ، هذا تقرير الإمام على اختلاف عباراته ، وقد اعتبر في بعضها النسب بين العدم والنفي ، ثم قال : وإذا لم يكن العدم نفيا صرفا بل ثابتا وهو صادق على النفي انتظم قياس هكذا : كل نفي عدم ، وكل عدم ثابت. فكل نفي ثابت. وهو محال. وأجيب عنه : بعبارات محصلها أنا لا نسلم (٢) أنه إذا لم يكن نفيا صرفا ، كان ثبوتيا محضا. لجواز أن يكون مفهوما بكون بعض أفراده ثابتا كالمعدومات الممكنة ، وبعضها منفيا كالممتنعات ، وهذا القدر كاف في الفرق (٣) ، وحينئذ لا يصدق أن كل معدوم ثابت ، ليلزم كون المنفي ثابتا. وزعم صاحب المواقف أن الاستدلال إلزامي. تقريره : أنه لو كان المعدوم (٤) ثابتا كان المعدوم أعم من المنفي ، وكان متميزا عنه ، فكان ثابتا ، لأن كل متميز ثابت عندكم ، وقد صدق المعدوم على المنفي فيكون ثابتا ضرورة أن ما صدق عليه الوصف الثبوتي فهو ثابت ، ولا خفاء في أن الجواب المذكور لا يتأتى على هذا التقدير ، فمن أورده لم يتفطن بمراد المستدل ، وكون كلامه إلزاميا.

فنقول : الجواب المذكور إنما أورد على تقرير الإمام ، ولا أثر فيه لحديث الإلزام ، على أنه لو قصد ذلك لكانت أكثر المقدمات لغوا. إذ يكفي أن يقال : لو لم يكن المعدوم والمنفي واحدا لكان المنفي متميزا عنه (٥) ، وكان ثابتا ، على أن الحق أنه لا تعلق لهذا الإلزام بكون المعدوم ثابتا. إذ يقال : لو كان المنفي مباينا للموجود كان متميزا عنه ، وكان ثابتا. وليت شعري كيف جعل خصوص المعدوم مستلزما لكونه منفيا ، وعمومه مستلزما لكونه ثابتا مع قيام التميز في الحالين ، فإن قيل على التقريرين (٦) : لما كان زعم الخصم ثبوت

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (أحد).

(٢) في (أ) ثم بدلا من (لا نسلم) وهو تحريف.

(٣) سقط من (أ) لفظ (في).

(٤) سقط من (أ) لفظ (كان).

(٥) سقط من (ب) لفظ (عنه).

(٦) في (ب) التقديرين.

٣٦٠