شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

وهي أن الوجود إن اقتضى العروض أو اللاعروض تساوى الواجب والممكن في ذلك ، وإن لم يقتض شيئا منهما كان وجوب الواجب من الغير. وجملة الأمر أنه لم يفرق بين التساوي في المفهوم والتساوي في الحقيقة ، فذهب إلى أنه لا بد من أحد الأمرين ، إما كون اشتراك الوجود لفظيا أو كون الوجودات متساوية في اللوازم.

منع تساوي وجودي الواجب والممكن في الماهية

(قال : فيزيد عليها ولا يستلزم زيادتها على ماهياتها).

دفع لما سبق إلى بعض الأوهام من أن الوجود إذا كان مشككا كان زائدا في الكل وهو المطلوب ، حتى قالوا : إن اختلافه في العروض (١) واللاعروض على تقدير التواطؤ محال ، وعلى تقدير التشكيك تهافت ، لاستلزامه العروض في الكل ، فنقول : كلاهما فاسد.

أما الأول : فلما سبق من أن المتواطي قد لا يكون ذاتيا لما تحته بل عارضا تختلف معروضاته بالحقيقة واللوازم.

وأما الثاني : فلأن كون الوجود مشككا إنما يستلزم زيادته على ما تحته من الوجودات ، وهو غير مطلوب ، والمطلوب ، زيادة الوجودات الخاصة بها بأن يكون كل منها عارضا لماهية قائما بها في العقل ، وهو غير لازم ، لجواز أن يكون أحد معروضات مفهوم الوجود أو المشكك وجودا قيوما ، أي قائما بنفسه مقيما لغيره ، لكونه حقيقة مخالفة لسائر المعروضات وأما تعجب الإمام : بأن العرض الذي بلغ في الضعف إلى حيث لا يستقل بالمفهومية والمحكومية ، لكونه أمرا إضافيا وهو الكون في الأعيان ، كيف صار في حق الواجب ذاتا

__________________

(١) قال صاحب المواقف : حقيقة الجواب هو منع تساوي وجودي الواجب والممكن في تمام الماهية وإن كانا متشاركين في عارض صادق عليهما هو مفهوم الوجود المطلق ، سواء كان صدقه عليهما تواطئوا أو تشكيكا.

(المواقف ج ١ ص ١٦١).

٣٢١

مستقلا بنفسه غنيا عن السبب مبدأ لاستقلال كل مستقل؟ فأولى بالتعجب حيث صدر مثل هذا الكلام عن (١) مثل ذلك الإمام.

(قال : فإن قيل فتتباين الوجودات. قلنا : بمعنى عدم التصاديق غير محال ، وبمعنى عدم المتشارك في مفهوم الكون غير لازم كأفراد الماشي) (٢).

أي في إثبات المقدمة الممنوعة لو لم يكن الوجود طبيعة نوعية هي تمام حقيقة الموجودات لزم التباين الكلي ، بين الوجودات ضرورة أنها لا تشترك في ذاتي أصلا ، لامتناع تركب وجود الواجب ، واللازم باطل ، لما ثبت من اشتراك الوجود معنى.

قلنا : إن أريد بالتباين عدم صدق بعضها على البعض فلا نسلم استحالته ، وما ثبت من اشتراك الكل في مفهوم الوجود لا يقتضي تصادقها ، وإن أريد عدم التشارك في شيء أصلا فلا نسلم لزومه ، وما ذكر من عدم الاشتراك في تمام الحقيقة أو بعض الذاتيات لا ينفي الاشتراك في عارض هو مفهوم الكون ، وذلك كأفراد إذ الماشي من أنواع الحيوانات وأشخاصها يشترك في مفهوم الماشي ، من غير تصادق بينها.

أدلة القائلين بكون الوجود نفس الماهية

(قال : وذهب الشيخ إلى أن وجود كل شيء عينه ، والاشتراك لفظي ، لأنه لو أراد فقيامه إما بالمعدوم فيتناقض ، أو بالموجودية فيدور ، أو بوجود آخر فيتسلسل وأيضا فهو إما معدوم فيتصف بنقيضه ، ويتحقق في المحل ما لا تحقق له ، أو موجود فيتسلسل.

وأجيب عن الأول : بأن قيامه بالماهية من حيث هي. فإن قيل فيقوم باللاموجود وهو أظهر في التناقض.

__________________

(١) في (ب) من بدلا من (عن).

(٢) في (أ) كأفراد الماشي وهو تحريف.

٣٢٢

قلنا : بل بما لا يعتبر فيه الوجود والعدم وإن لم ينفك عن أحدهما. فإن قيل فيتقارن أحدهما فيعود المحذور.

قلنا : القيام بها عقلي فيكفي حصولها في العقل من غير اعتباره ، وإن اعتبر فلا تسلسل في الاعتبارات ، وعن الثاني بأن وجود الوجود عينه ، وإنما النزاع ، في غيره ، وتحقيقه أن بالوجود تتحقق الأشياء ، فيكون تحققه بنفسه كحال الزمان مع التقدم والتأخر على أنه لا استحالة في كونه معدوما).

احتج القائلون بكون الوجود نفس الماهية في الواجب والممكنات جميعا بوجوه حاصلها : أنه لو لم يكن نفس الماهية وليس جزءا منها بالاتفاق لكان زائدا عليها قائما بها ، قيام الصفة بالموصوف ، وقيام الشيء بالشيء فرع ثبوتهما في نفسهما ، لأن ما لا كون له في نفسه لا يكون محلا ولا في محل ، وهذا بالنظر إلى الوجود والماهية ممتنع. أما في جانب الماهية فلأنها لو تحققت محلا للوجود فتحققها إما بذلك الوجود فيلزم تقدم الشيء على نفسه ، ضرورة تقدم وجود المعروض على العارض ، وإما بوجود آخر فيلزم تسلسل الوجودات ضرورة ، إلا أن هذا الوجود أيضا عارض يقتضي سابقية وجود المعروض وأما في جانب الوجود فلأنه لو تحقق ـ والتقدير إن تحقق الشيء ، أي وجوده زائد عليه ـ تسلسلت الوجودات فباعتبار الوجود والعدم في كل من المعروض والعارض يمكن الاحتجاج على امتناع زيادة الوجود على الماهية بأربعة أوجه.

الأول : أنه لو قام بها وهي بدون الوجود معدومة لزم قيام الوجود بالمعدوم ، فجمع بين صفتي الوجود والعدم ، وهو تناقض.

الثاني : أنه لو قام بها لزم سبقها بالوجود كما في سائر المعروضات ، فإن كان ذلك الوجود هو الوجود الأول لزم الدور ، لتوقف قيام الوجود بالماهية على الماهية الموجودة المتوقفة على قيام ذلك الوجود بها ، وإن كان غيره لزم التسلسل لأن هذا الوجود أيضا عارض يقتضي سبق الماهية عليه بوجود آخر وهلم جرا.

٣٢٣

قيل : هذا التسلسل مع امتناعه لما سيأتي من الأدلة ، ولاستلزامه انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين (١) الوجود والماهية ، يستلزم المدعي ، وهو كون الوجود نفس الماهية ، لأن قيام جميع الموجودات العارضة بالماهية يستلزم وجودا لها (٢) غير عارض ، وإلا لم يكن الجميع جميعا وفيه نظر ، لأنا لا نسلم على تقدير التسلسل تحقق جميع لا يكون وراءه (٣) وجود آخر ، بل كل جميع فرضت معروضها بواسطة وجود آخر عارض ، لأن معنى هذا التسلسل عدم انتهاء الوجودات إلى وجود ، لا يكون (٤) وراءه وجود ، بينه وبين الماهية وجود آخر.

الثالث : أن وجود الشيء لو كان زائدا عليه لما كان الوجود موجودا ضرورة امتناع تسلسل الوجودات ، بل معدوما ، وفيه اتصاف الشيء بنقيضه وكون ما لا ثبوت له في نفسه ثابتا في محله.

الرابع : أنه لو قام بالماهية لكان موجودا ضرورة امتناع اتصاف الشيء بنقيضه ، وامتناع أن يثبت في المحل ما لا ثبوت له في نفسه ، فننقل الكلام إلى وجوده ويتسلسل ، لأن التقدير أن وجود كل شيء زائد عليه ، والتحقيق يقتضي رد الوجوه الأربعة إلى وجهين بطريق الترديد بين الوجود والعدم ، في جانبي المعروض والعارض ، على ما أوردنا في المتن.

الأول : (أنه قام بالماهية. فالماهية المعروضة إما معدومة فيتناقض أو موجودة فيدور أو يتسلسل) (٥).

وتقرير الثاني : أن الوجود العارض إما معدوم فيتصف الشيء بنقيضه ويثبت في المحل ما لا ثبوت له في نفسه ، وإما موجود فيزيد وجوده عليه وتتسلسل الوجودات.

والجواب : إما إجمالا فهو أن زيادة الوجود على الماهية وقيامه بها إنما هو

__________________

(١) في (أ) حاضرين وهو تحريف.

(٢) في (أ) وجود إلها وهو تحريف.

(٣) في (أ) لا يكون وارده وهو تحريف.

(٤) في (ب) بزيادة (وراءه وجود).

(٥) ما بين القوسين سقط من (ب).

٣٢٤

بحسب العقل ، بأن يلاحظ كلا منهما من غير ملاحظة الآخر ، ويعتبر الوجود معنى له اختصاص ناعت بالماهية ، لا بحسب الخارج بأن يقوم الوجود بالماهية قيام البياض بالجسم ، وتلزم المحالات ، وإما تفصيلا.

فعن الأول : أن قيامه بالماهية من حيث هي هي لا بالماهية المعدومة ليلزم التناقض ، ولا بالماهية الموجودة ليلزم الدور أو التسلسل.

فإن قيل : إن أريد بالماهية من حيث هي هي ما لا يكون الوجود أو العدم نفسها ولا جزءا منها على ما قيل ، فغير مفيد لأن العروض كاف في لزوم المحالات ، وإن أريد ما لا يكون موجودا ولا معدوما لا بالعروض ولا بغيره ، فالتناقض فيه أظهر لأن اللاوجود نقيض الوجود ، بلا نزاع ولا اشتباه.

قلنا : المراد ما لا يعتبر فيه الوجود ولا العدم ، وإن كان لا ينفك عن أحدهما في الخارج. فإن قيل : عدم الانفكاك عن أحدهما كاف في لزوم المحال ، لأنه إن قارن العدم فيناقض ، أو الوجود فيدور أو يتسلسل.

قلنا : قيام الوجود بالماهية أمر عقلي ليس كقيام البياض بالجسم ليلزم تقدمها عليه بالوجود ، تقدما ذاتيا أو زمانيا ، فتلزم المحالات ، بل غاية الأمر أنه يلزم تقدمها عليه بالوجود العقلي ، ولا استحالة فيه لجواز أن تلاحظ وحدها من غير ملاحظة وجود خارجي أو ذهني ، ويكون لها وجود ذهني لا بملاحظة العقل ، فإن عدم الاعتبار غير اعتبار العدم ، وإن اعتبر العقل وجودها الذهني لم يلزم التسلسل ، بل ينقطع بانقطاع الاعتبار.

وأما القائلون بنفي الوجود الذهني (١) فجوابهم الاقتصار على منع لزوم تقدم

__________________

(١) يقول الإمام الرازي نمنع أنا نتصور ما لا وجود له في الخارج أصلا بل كل ما نتصوره فله وجود غائب عنا ، وذلك المتصور إما قائم بنفسه كما يقول أفلاطون ، فإنه ذهب إلى أنه لا بد في كل طبيعة نوعية من شخص مجرد باق أزلي أبدي. وما استدل به أرسطو على إبطال هذا الرأي غير صحيح.

(لزيادة الإيضاح راجع المواقف ج ١ ص ١٧٤).

٣٢٥

المعروض على العارض بالوجود على الإطلاق ، وإنما ذلك في عوارض الوجود دون عوارض الماهية.

وعن الثاني : أنا نختار أن الوجود موجود ، ولا نسلم لزوم التسلسل وإنما يلزم لو كان وجوده أيضا زائدا عليه ، وليس كذلك بل وجوده عينه وإنما النزاع في غيره ، والأدلة إنما قامت عليه ، وتحقيق ذلك أنه لما كان تحقق كل شيء بالوجود ، فبالضرورة يكون تحققه بنفسه ، من غير احتياج إلى وجود اخر يقوم به كما أنه لما كان التقدم والتأخر فيما بين الأشياء بالزمان كائنا فيما بين أجزائه بالذات من غير افتقار إلى زمان آخر.

فإن قيل : فيكون كل وجود واجبا إذ لا معنى له سوى ما يكون تحققه بنفسه.

قلنا : ممنوع فإن معنى وجود الواجب بنفسه أنه مقتضى ذاته من غير احتياج إلى فاعل ، ومعنى تحقق الوجود بنفسه أنه إذا حصل للشيء إما من ذاته كما في الواجب ، أو من غيره كما في الممكن ، لم يفتقر تحققه إلى وجود آخر يقوم به بخلاف الإنسان فإنه إنما يتحقق بعد تأثير الفاعل بوجود يقوم به عقلا ، على أن في قولنا تحقق الأشياء بالوجود تسامحا في العبارة ، إذ الوجود نفس تحقق الأشياء لا ما به تحققها ، والمعنى أن تحقق الأشياء يكون عند قيام الوجود بها عقلا ، واتحادها به هوية. أو نختار أن الوجود معدوم ولا يلزم منه اتصاف الشيء بنقيضه ، بمعنى صدقه عليه ، لأن نقيض الوجود هو العدم واللاوجود لا المعدوم ، ولا اللاموجود (١) ، فغاية الأمر أنه يلزم أن الوجود ليس بذي وجود ، كما أن السواد ليس بذي سواد ، والأمر كذلك ، ولا يلزم أيضا أن يتحقق في المحل ما لا تحقق له في نفسه ، لما عرفت من أن قيام الموجود بالماهية ليس بحسب الخارج ، كقيام البياض بالجسم ، بل بحسب العقل ، فلا يلزم إلا تحققه في العقل (٢) وقد يجاب عن الأول بأنه منقوض بالأعراض القائمة بالمحال كسواد

__________________

(١) سقط من (ب) ولا اللاموجود.

(٢) سقط من (ب) لفظ العقل.

٣٢٦

الجسم ، فإن قيامه إما بالجسم الأسود ، فدور أو تسلسل واجتماع للمثلين ، أو اللاأسود فتناقض ، وهو ضعيف لأن قيامه بجسم أسود به لا بسواد قبله ليلزم محال ، وطريانه على محل لا أسود يصير حال طريانه أسود من غير تناقض ، ولا كذلك حال الوجود مع الماهية ، لأن الخصم يدعي أن تقدم المعروض على العارض بالوجود ضروري ، فلا يصح قيام الوجود بمحل موجود بهذا الوجود فلا محيص سوى المنع ، والاستناد بأن ذلك إنما هو في العروض الخارجي ، كسواد الجسم ، وهذا ليس كذلك.

وعن الثاني : بأن الوجود ليس بموجود ولا معدوم ، وهو أيضا ضعيف لما سيأتي من نفي الواسطة.

التوفيق بين الآراء المتنازعة

(قال : فإن قلت لا خفاء مثلا أن ليس مفهوم الوجود مفهوم الإنسان ، وليس لفظ الوجود وما يرادفه من جميع اللغات موضوعا بالاشتراك لمعان لا تكاد تتناهى ، واحتجاج الفريقين يشهد بأن النزاع في الوجود بمعنى الكون. وليس نائبا عن أن الوجود كما يطلق على الكون يطلق على الذات على أن مفهوم الذات أيضا معنى مشترك فما وجه هذا الاختلاف؟

قلت : مضمون أدلة الجمهور أن ليس مفهوم الوجود مفهوم الماهية المتصفة به ، وأدلة الشيخ أن ليس لهما هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى ، كالجسم مع البياض ، فلا خلاف في أن الوجود زائد ذهنا بمعنى أن للعقل أن يلاحظ الماهية دون الوجود وبالعكس ، لا عينا بأن يكون للماهية تحقق ، ولعارضها المسمى بالوجود تحقق آخر ، حتى يجتمعا اجتماع القابل والمقبول ، كالجسم والبياض ، فعند التحرير لا يبقى نزاع ، ويظهر أن جعل الاشتراك لفظيا مكابرة ، ولا يتفرع على الوجود الذهني سوى أن للمثبت أن يقول زائد في العقل ، وعلى النافي أن يقول عقلا أو في التعقل وليس له نفي التغاير العقلي ، والاشتراك المعنوي كما في سائر المفهومات الكلية سيما

٣٢٧

المنفية ، فإن التعقل عندهم لا يقتضي الثبوت ، ولهذا جرت كلمة الجمهور بينهم على أنه مشترك معنى زائد ذهنا) (١).

يريد تحقيق مذاهب الشيخ وسائر المتكلمين والحكماء على وجه لا يخالف بديهة العقل فإن الظاهر من مذهب الشيخ أن مفهوم وجود الإنسان هو الحيوان الناطق مثلا ولفظ الوجود في العربية ولفظ (هستى) في الفارسية إلى غير ذلك من اللغات مشترك بين معان لا تكاد تتناهى من الموجودات ومن مذهب المتكلمين أن الوجود عرض قائم بالماهية قيام سائر الأعراض بمحالها. ومن مذهب الحكماء أنه كذلك في الممكنات ، وفي الواجب معنى آخر غير مدرك للعقول ، وجميع ذلك ظاهر البطلان ، وذهب صاحب الصحائف (٢) إلى أن منشأ الاختلاف هو إطلاق لفظ الوجود على مفهوم الكون ، ومفهوم الذات ، فمن ذهب إلى أنه زائد على الماهية أراد به الكون ، ومن ذهب إلى أنه نفس الماهية أراد به الذات ، فعند تحرير المبحث يرتفع الاختلاف وهذا فاسد.

أما أولا : فلأن احتجاج الفريقين صريح في أن النزاع في الوجود المقابل للعدم وهو بمعنى الكون.

وأما ثانيا : فلأن مفهوم الذات أيضا معنى واحد مشترك بين الذوات ، واشتراك الوجود بين الوجودات من غير اشتراك لفظ ، وتعدد وضع.

وأما ثالثا : فلأن القول بأن ذات الإنسان نفس ذاته وماهيته مما لا يتصور فيه فائدة فضلا عن أن يحتاج إلى الاحتجاج عليه فنقول : أدلة القائلين بأن وجود الشيء زائد عليه لا يفيد سوى أن ليس المفهوم من وجود الشيء هو المفهوم من ذلك الشيء من غير دلالة على أنه عرض قائم به قيام العرض بالمحل.

__________________

(١) وعلى هذا يكون الوجود في الذهن نفس الماهية التي توصف بالوجود الخارجي والاختلاف بينهما بالوجود دون الماهية. ولهذا قال بعض الأفاضل : الأشياء في الخارج أعيان في الذهن صور ، فقد تحرر محل النزاع بحيث لا مرية فيه.

(٢) مؤلفه : شمس الدين محمد السمرقندي.

(وراجع كلمة عنه في هذا الجزء).

٣٢٨

فإن هذا مما لا يقبله العقل وإن وقع في كلام الإمام وغيره ، وأدلة القائلين بأن وجود الشيء نفس ذاته لا يفيد سوى أن ليس للشيء هوية ، ولعارضه المسمى بالوجود هوية أخرى ، قائمة بالأولى (١) بحيث يجتمعان اجتماع البياض والجسم من غير دلالة على أن المفهوم من وجود الشيء هو المفهوم من ذلك الشيء. فإن هذا بديهي البطلان ، فإذا لا يظهر من كلام الفريقين ولا يتصور من المنصف ، خلاف في أن الوجود زائد على الماهية ذهنا ، أي عند العقل وبحسب المفهوم والتصور بمعنى أن للعقل أن يلاحظ الوجود دون الماهية ، والماهية دون الوجود لا عينا ، أي بحسب الذات والهوية بأن يكون لكل منهما هوية متميزة يقوم أحدهما بالأخرى كبياض الجسم ، فعند تحرير المبحث وبيان أن المراد الزيادة في التصور أو في الهوية يرتفع النزاع بين الفريقين ، ويظهر أن القول يكون اشتراك الوجود لفظيا ، بمعنى أن المفهوم من الوجود المضاف إلى الإنسان غير المفهوم من المضاف إلى الفرس ، ولا اشتراك بينهما في مفهوم الكون مكابرة ومخالفة لبديهة العقل ، وذهب صاحب المواقف (٢) إلى أن النزاع راجع إلى النزاع في الوجود الذهني فمن أثبته قال بالزيادة عقلا. بمعنى أن في العقل أمرا هو الوجود وآخر هو الماهية.

ومن نفاه أطلق القول بأنه نفس الماهية ، لأنه لا تغاير ولا تمايز في الخارج ، وليس وراء الخارج أمر يتحقق فيه أحدهما بدون الآخر ، فيتحقق التمايز وفيه نظر. لأنه لا نزاع للقائلين بنفي الوجود الذهني في تعقل الكليات والاعتبارات ، والمعدومات ، والممتنعات ، ومغايرة بعضها للبعض بحسب المفهوم وإنما نزاعهم

__________________

(١) في (ب) الأول بدلا من (الأولى).

(٢) هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار أبو الفضل. عضد الدين الإيجي عالم بالأصول والمعاني العربية من أهل إيج (بفارس) ولي القضاء وأنجب تلاميذ عظاما وجرت له محنة مع صاحب كرمان. فحبسه بالقلعة فمات مسجونا. من تصانيفه : المواقف ، والرسالة العضدية ، وجواهر الكلام. توفي عام ٧٥٦ ه‍.

(راجع طبقات السبكي ٦ : ١٠٨).

٣٢٩

في كون التعقل بحصول شيء في العقل وفي اقتضائه الثبوت في الجملة. فلا يتجه لهم بمجرد نفي الوجود الذهني. نفي التغاير بين الوجود والماهية ، في التصور بأن يكون المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر ، ونفي الاشتراك المعنوي ، بأن يعقل من الوجود معنى كلي مشترك بين الوجودات ، كما لا ينبغي تغاير مفهوم الفرس ومفهوم الإمكان لمفهوم الامتناع ، ولاشتراك كل من ذلك بين الأفراد ، بل غاية الأمر ألا يقولوا الوجود أمر (١) زائد في العقل ، والمعنى الكلي المشترك ثابت فيه ، بل يقولوا : زائد ومشترك عقلا ، وفي التعقل بمعنى أن العقل يفهم من أحدهما غير ما يفهم من الآخر ، ويدرك منه معنى كليا يصدق على الكل ، ولهذا اتفق الجمهور من القائلين بنفي الوجود الذهني على أن الوجود مشترك معنى ، وزائد (على الماهية. ذهنا بالمعنى الذي ذكرنا) (٢).

الوجود زائد على الماهية ذهنا في الممكن

(قال : هذا في الممكن ، وأما في الواجب فعندنا (٣) له حقيقة يزيد عليها وجودها الخاص ذهنا ، كما في الممكنات (٤) وعند الفلاسفة (٥) حقيقته الوجود الخاص القائم بالذات، المخالف بالحقيقة لسائر الموجودات ، المعبر عنه بالوجود البحث. والوجود بشرط لا إذ في الماهية مع الوجود شائبة التركيب ، والاحتياج ، ولا كذلك الوجود الخاص مع المطلق ، فإنه كون خاص متحقق بنفسه قائم بذاته ، غني في التحقق عن المطلق وغيره.

__________________

(١) في (أ) بزيادة (أمر).

(٢) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٣) يقصد (المتكلمين).

(٤) وعلى هذا ليس فيه ما يقتضي حدوث الواجب تعالى لأن المشاركة في الأمور الاعتبارية لا تقتضي التساوي في القدم والحدوث ، وكون الوجود زائدا ذهنا لا خارجا أمر اعتباري فلا يوجب التساوي في كل شيء.

(٥) ويعبر المتكلمون عنهم «بالحكماء».

٣٣٠

وإنما يقع المطلق عليه وقوع لازم خارجي غير مقوم ولا يتصور هذا في غير الوجود ، لأن احتياجه في التحقق إلى الوجود ضروري ، ومبنى هذا على أن الوجودات متخصصة متكثرة بأنفسها ، مشتركة في عارض هو مفهوم الكون ، كنور الشمس والسراج وبياض الثلج، والعاج (١) ولكن لما لم يكن لها أسام مخصوصة توهم أن تخصصها وتكثرها بمجرد الاضافة إلى المحال ، كما في بياضات الثلوج).

يعني أن ما ذكر من عدم تحقق الخلاف في زيادة الوجود على الماهية ذهنا ، بمعنى كون المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر ، وفي كونه نفسها عينا بمعنى عدم (٢) تمايزها بالهوية، إنما هو في الممكن ، وأما في الواجب فعند المتكلمين له حقيقية غير مدركة للعقول مقتضية بذاتها لوجودها الخاص المغاير لها بحسب المفهوم دون الهوية ، كما في الممكنات وعند الفلاسفة حقيقته وجود خاص قائم بذاته ذهنا وعينا ، من غير افتقار إلى فاعل يوجده، أو محل يقوم به في العقل ، وهو مخالف لوجودات الممكنات بالحقيقة ، وإن كان مشاركا لها في كونه معروضا للوجود المطلق ، ويعبرون عنه بالوجود البحث ، وبالوجود بشرط، لا بمعنى أنه لا يقوم بماهية ولو في العقل ، كما في وجود الممكنات وإنما ذهبوا إلى ذلك لاعتقادهم أنه لو كان له ماهية ووجود فإن كان الواجب هو المجموع لزم تركبه ولو بحسب العقل ، وإن كان أحدهما لزم احتياجه ، ضرورة احتياج الماهية في تحققها إلى الوجو ، واحتياج الوجود لعروضه إلى الماهية ولو في العقل ، وحين اعترض عليهم بأن الوجود الخاص أيضا محتاج إلى الوجود المطلق ، ضرورة امتناع تحقق الخاص بدون العام. أجابوا بأنه كون خاص متحقق بنفسه لا بالفاعل ، قائم بذاته لا بالماهية غني في التحقق عن الوجود المطلق وغيره من العوارض والأسباب ، مخالف لسائر الوجودات بالحقيقة وإن

__________________

(١) فإن كلا منها حصة مباينة لمقابلتها فكذا حصص الوجود هي متباينة في أنفسها وليست متحدة في أنفسها متباينة بإضافتها إلى محالها. وهذا أمر واضح لا يقول أحد بخلافه كما في سائر المشككات.

(٢) سقط من (ب) لفظ (عدم).

٣٣١

كان مشاركا لها في وقوع الوجود المطلق عليها ، وقوع لازم خارجي غير مقوم ، وهذا لا يوجب التركيب ولا الافتقار. كما أنكم إذا جعلتموه ماهية موجودة فكونه أخص من مطلق الماهية والموجود لم يوجب احتياجه (١) كيف والمطلق اعتباري محض؟ وحين اعترض بأنه لم لا يجوز أن تكون تلك الحقيقة المخالفة لسائر الحقائق المتحققة بنفسها الغنية عما سواها أمرا غير الوجود ..؟ أجابوا : بأن المتحقق بنفسه الغني عما سواه لا يجوز أن يكون غير الوجود لأن احتياج غير الموجود في التحقق إلى الوجود ضروري. وحين اعترض بأن الوجود مفهوم واحد لا يتكثر ولا يصير حصة حصة إلا بالإضافة إلى الماهيات كبياض هذا الثلج (٢) وذاك، إذ لا معنى للمقيد دون (٣) المطلق مع قيد الإضافة. أجابوا بمنع ذلك بل الوجودات حصص مختلفة وحقائق متكثرة بأنفسها ، لا بمجرد عارض الإضافة لتكون متماثلة متفقة الحقيقة ، ولا بالفصول ليكون الوجود المطلق جنسا لها ، بل هو عارض لازم لها كنوز الشمس ونور السراج ، فإنهما مختلفان بالحقيقة واللوازم مشتركان في عارض النور وكذا بياض الثلج والعاج ، بل كالكم (٤) والكيف (٥) المشتركين في العرضية ، بل الجوهر والعرض المشتركان في الإمكان والوجود ، إلا أنه لما لم يكن لكل وجود اسم خاص كما في أقسام

__________________

(١) حاصل ما ذكروا التزام أن الوجود حقائق متباينة في أنفسها لا يتوقف تباينها وتحققها على الماهيات. حتى يلزم افتقار الوجود إلى الماهية وأن ما يتوهم من الاتحاد في الحقيقة ليس كذلك ، وسببه الأسامي وسند ذلك سائر حقائق المشكل.

(٢) في (ب) بزيادة (ذاك).

(٣) في (ب) سوى بدلا من (دون).

(٤) الكم في الرياضيات : هو المقدار ، وهو ما يقبل القياس ، وعند ابن سينا : كم متصل ، وكم منفصل ، وكمية الحد في المنطق ما صدقه. والحدود تنقسم بحسب الكم إلى كلية : وهي التي لا يمنع مفهومها أن يشترك فيها كثيرون. وجزئية : وهي التي لا تشمل إلا عددا معينا من الأفراد. ومفردة : وهي التي لا تصدق إلا على فرد واحد كزيد المشار إليه. والكم : في علم ما بعد الطبيعة مقابل الكيف وهو من مقولات العقل الأساسية.

(٥) الكيفية : اسم لما يجاب به عن السؤال بكيف. كما أن الكمية : اسم لما يجاب به عن السؤال بكم. وهي إحدى مقولات أرسطو وقد عرفها القدماء بقولهم الكيف : هيئة قارة في الشيء لا يقتضي قسمة ولا نسبة لذاته.

٣٣٢

الممكن ، وأقسام العرض ، وغير ذلك. توهم أن تكثر الوجودات وكونها حصة حصة إنما هو بمجرد الإضافة إلى الماهيات المعروضة لها كبياض هذا الثلج وذاك ونور هذا السراج وذاك ، وليس كذلك ، والإنصاف أن ما ذكروا من الاختلاف بالحقيقة حق في وجود الواجب والممكن ومحتمل في مثل وجود الجوهر والعرض ، ومثل وجود القار وغير القار ، وأما في مثل وجود الإنسان والفرس ووجود زيد وعمرو فلا.

(قال : فإن قلت لو كان المطلق عارضا لها لكان في كل منها (١) حصة من مفهوم الكون (٢) كما هو شأن الأعراض العامة فتكون الحصة من مفهوم الكون (٣) زائدا على ما هو حقيقة الواجب كما في الممكنات ، ويلزم فيه وجودان معروض وعارض. وفي الممكن وجودان وماهية ، وعلى هذا في الثلج بياضان (٤) ، وهذا مما يكذبه العقل والحس. قلت لا نزاع لهم في زيادة الحصة من مفهوم الكون على الوجود الخاص ، الذي هو حقيقة الواجب ، إذ لا فرق بين مفهوم الكون والحصص منه إلا بمجرد اعتبار الإضافة ، وإنما نزاعهم في أن تكون له ماهية يزيد عليها الوجود الخاص في التعقل وثبوته وبعد القول بالتشكيك. فمغايرة الوجودات المخصص من مفهوم الكون ضروري لكن بحسب العقل دون الخارج ، لما تقرر من اتحاد الموضوع والمحمول بحسب الذات ، على أن الحصص من مفهوم العام صور عقلية لا تحقق لها في الأعيان ، فلا يلزم للممكن وجودان ، ولا في الأبيض بياضان.

لما لاح من كلام الفارابي وابن سينا ، أن حقيقة الواجب وجود خاص ، معروض للوجود العام المشترك المقابل للعدم على ما لخصه الحكيم المحقق. اعترض الإمام بأن فيه اعترافا بكون وجود الواجب زائدا على حقيقته ، وبأنه

__________________

(١) أي من تلك الوجودات الخاصة.

(٢) الكون المطلق إذ هو عارض عام فيعطي لكل من معروضاته فردا من مفهومه.

(٣) الذي هو مطلق الوجود.

(٤) حصة أعطاها له المفهوم الأعم التي بها صح صدقه على البياض الخاص ، وبياضه الخاص.

٣٣٣

يستلزم كون الواجب موجودا بوجودين (١) مع أنه لا أولوية لأحدهما بالعارضية ، وقد سبق أن النزاع في الوجودات الخاصة لا المطلق ، ولما كان معنى صدق الوجود المطلق على الوجودات الخاصة أن في كل منها حصة من مفهوم الوجود المطلق الذي هو الكون في الأعيان. صرح بعض من حاول تلخيص كلام الحكماء بأن الحصة من مفهوم الكون في الأعيان زائد على الوجود المجرد المبدئ للممكنات ، الذي هو نفس ماهية الواجب ، فتأكد الاعتراض بأن الوجود الخاص الذي هو الحصة من مفهوم الكون زائد على حقيقة الواجب ، كما في الممكنات ، ويلزم منه أن يكون في الواجب وجودان عارض ومعروض ، وفي الممكن كالإنسان مثلا ماهية هو (٢) الحيوان الناطق ، ووجود هو الحصة من مفهوم الكون ، وأمر ثالث هو ما صدق عليه الوجود ، وهو عارض للماهية معروض للحصة (٣) ، وهذا مما لم يقل به أحد ولم يقم عليه دليل ، وإذا اعتبر هذا في بياض الثلج لزم أن يكون فيه بياض عارض هو الحصة من مفهوم البياض ، وآخر معروض لهذه الحصة عارض للثلج هو بياضه الخاص.

والجواب : أن معنى الحصة من مفهوم الكون هو نفس ذلك المفهوم مع خصوصية ما ، لا ما صدق هو عليه من الوجودات المتخالفة ، وكما لا نزاع لهم في زيادة مفهوم الكون فكذا في الحصة. كيف وقد اتفقوا على أن حقيقة الواجب غير معلومة ، ومفهوم الكون معلوم بل بديهي ، وكذا قيد الوجوب مثلا ، وإنما النزاع في أن يكون لوجود الخاص ماهية مغايرة له بحسب المفهوم ، كما في الممكنات وإذا تقرر أنه لا معنى للحصة من مفهوم العام إلا نفس ذلك المفهوم مع خصوصية ما ، فكل من قال بكون الوجود مقولا على الوجودات بالتشكيك (وأن المقول بالتشكيك) (٤) لا يكون ماهية أو جزء ماهية لما تحته بل

__________________

(١) حاصل الجواب إنا نسلم التعدد لكن في الذهن دون الخارج والمحال التعدد الخارجي وسند منع التعدد الخارجي اتحاد الموضوع والمحمول مع أن الحصة اعتبارية لا وجودية.

(٢) سقط من (أ) لفظ (هو).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (في).

(٤) سقط من (ب) ما بين القوسين.

٣٣٤

عارضا ، فقد قال : ـ بأن في الممكن أمرا وراء الماهية ، والحصة من مفهوم الكون هو وجوده الخاص الذي به تحققه في الأعيان ، بل نفس تحققه ، وكل دليل على ذلك فقد دل على هذا إلا (١) أن هذا التغاير إنما هو بحسب العقل لا غير ، فليس في الخارج للإنسان مثلا أمر هو الماهية وآخر هو الوجود فضلا (٢) عن أن يكون هناك وجودان على أنا لو فرضنا كون وجوده زائدا على الماهية بحسب الخارج أيضا كما في بياض الثلج لم يلزم ذلك ، لأن مفهوم العام أو الحصة منه صورة عقلية محضة ولو سلم فاتحاد الموضوع والمحمول بحسب الخارج ضروري ، فمن أين يلزم في الإنسان وجودان وفي الثلج بياضان ..؟

حقيقة الواجب هو مطلق الوجود

(وقال : ثم إن جمعا من المتفلسفة والمتصوفة ، توهموا (٣) أن في الوجود الخاص مع المطلق أيضا شائبة التركيب والاحتياج (٤) ، فذهبوا إلى أن حقيقة الواجب هو مطلق الوجود، وأنه ليس معنى كليا يتكثر إلى الجزئيات ، بل واحد بالشخص (٥) موجود بوجود هو نفسه ، وإنما التكثر في الموجودات بواسطة الإضافات ، ومعنى قولنا الواجب موجود أنه الوجود ، والممكن موجود ، أنه ذو الوجود بمعنى أن له نسبة إلى الواجب ، وادعوا أن قول الحكماء هو الوجود البحت وبشرط لا رمز إلى ذلك ، وهذا قولهم الوجود خير محض لا يعقل له ضد ولا مثل ولا جنس ولا فصل ، وأنت خبير بأن هذا ينافي تصريحهم بأنه من المحمولات العقلية ، لامتناع استغنائه عن المحل ، وحصوله فيه خارجا عن المعقولات الثانية ، إذ ليس في الأعيان ما هو وجود بل إنسان وسواد مثلا ، وأنه

__________________

(١) في (ب) فقد دل على هذا لأن التغاير.

(٢) سقط من (ب) لفظ (فضلا عن).

(٣) توهموا أمرا لا يلزم في الوجود الخاص وتعبيره بما أخذ من التفعل يدل على التكلف.

(٤) أي توهموا أن في الوجود الخاص مع المطلق تركيبا ، كما توهم الحكماء أن في الوجود مع الماهية تركيبا.

(٥) لا يقبل التعدد بوجه أصلا.

٣٣٥

ينقسم إلى الواجب والممكن ، والقديم والحادث ، وأنه يتكثر بتكثير (١) الموضوعات الشخصية والنوعية (٢) والجنسية (٣) وأنه يقال على الوجودات بالتشكيك (٤) ووجوه فساد هذا الرأي أصولا وفروعا أظهر من أن يخفى وأكثر من أن يحصى (٥)).

قد اشتهر فيما بين جمع من المتفلسفة والمتصوفة ، أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق ، تمسكا بأنه لا يجوز أن يكون عدما أو معدوما ، وهو ظاهر ولا ماهية موجودة أو مع الوجود ، لما في ذلك من الاحتياج والتركيب ، فتعين أن يكون وجودا وليس هو الوجود الخاص ، لأنه إن أخذ مع المطلق فمركب ، أو مجرد المعروض فمحتاج ضرورة احتياج المقيد إلى المطلق ، وضرورة أنه لو ارتفع المطلق لارتفع كل وجود ، وحين أورد عليهم أن الوجود المطلق مفهوم كلي لا تحقق له في الخارج ، وله أفراد كثيرة ، لا تكاد تتناهى ، والواجب موجود واحد لا تكثر فيه ، أجابوا بأنه واحد شخصي موجود بوجود هو نفسه ، وإنما التكثر في الموجودات فبواسطة الإضافات لا بواسطة تكثر وجوداتها فإنه إذا نسب إلى الإنسان حصل موجود ، وإلى الفرس فموجود آخر ، وهكذا. وعلى هذا فمعنى قولنا : الواجب موجود أنه وجود ، ومعنى قولنا : الإنسان أو الفرس أو غيره موجود أنه ذو وجود ، بمعنى أن له نسبة إلى الواجب وهذا احتراز عن شناعة (٦) التصريح بأن الواجب ليس بموجود ، وأن كل وجود حتى وجود القاذورات واجب ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وإلا فتكثر الوجودات وكون الوجود المطلق مفهوما كليا لا تحقق له إلا في الذهن ضروري ، وما توهموا من احتياج

__________________

(١) في (ب) يتكثر بالموضوعات بحذف (يتكثر).

(٢) كوجود الإنسان والحيوان.

(٣) كوجود الحيوان والنبات.

(٤) الواحد بالشخص لا يصدق على أشياء لا بالتشكيك ولا بغيره ، فلا يصح نسبة القول به للقدماء القائلين بالصدق تشكيكا.

(٥) نحو كون الوجود المطلق مع الوجود الخاص يستدعي التعدد ذهنا.

(٦) الشناعة : الفظاعة وقد شنع الشيء من باب ظرف فهو شنيع. والاسم : الشنعة بالضم. قال الأزهري : شنع على فلان أمره تشنيعا.

٣٣٦

الخاص إلى العام باطل ، بل الأمر بالعكس ، إذ لا تحقق للعام إلا في ضمن الخاص. نعم إذا كان العام ذاتيا للخاص يفتقر هو إليه في تعقله ، وأما إذا كان عارضا فلا. وما ذكروا من أنه لو ارتفع لارتفع كل وجود حتى الواجب فيمتنع ارتفاعه ، أي عدمه فيكون واجبا. فمغالطة. وإنما يلزم الوجوب لو أثبت القائلون (١) امتناع العدم لذاته ، وهو ممنوع ، بل لأن ارتفاعه بالكلية يستلزم ارتفاع بعض أفراده الذي هو الواجب ، كسائر لوازم الواجب ، مثل الماهية والعلية والقابلية (٢) وغير ذلك. فإن قيل : بل يمتنع لذاته لامتناع اتصاف الشيء بنقيضه. قلنا : الممتنع اتصاف الشيء بنقيضه بمعنى حمله عليه بالمواطأة (٣) مثل قولنا : الوجود عدم لا بالاشتقاق مثل قولنا : الوجود معدوم ، كيف وقد اتفق الحكماء على أن الوجود المطلق من المعقولات الثانية ، والأمور الاعتبارية ، التي لا تحقق لها في الأعيان. ثم ادعى القائلون بكون الواجب هو الوجود المطلق ، وأن في مواضع من كلام الحكماء رمزا إلى هذا المعنى ، منها قولهم : الواجب هو الوجود البحت ، والوجود بشرط ، لا أي الوجود الصرف ، الذي لا تقييد فيه أصلا. ومنها قولهم : الوجود خير محض ، لأن الشر نفسه ، إنما هو عدم وجود أو عدم كمال الموجود من حيث أن ذلك العدم غير لائق به ، أو غير مؤثر عنده.

فالوجود بالقياس إلى الشيء العادم كماله قد يكون شرا ، لكن لا لذاته ، بل لكونه مؤديا إلى ذلك العدم ، فحيث لا عدم لا شر قطعا ، فالوجود البحث خير محض ، لأن الشر في نفسه (٤) لا يعقل له ضد ، ولا مثل. أما الضد فلأنه يقال عند الجمهور لموجود مساو في القوة لموجود آخر ممانع له.

__________________

(١) سقط من (أ) أثبت القائلون.

(٢) في (ب) والعالمية بدلا من (القابلية).

(٣) وطئ الأرض ونحوها يطأ (وطؤ) الموضع صار (وطيئا) وبابه ظرف و (الوطأة) كالضربة : موضع القدم. وفي الحديث (اللهم اشدد وطأتك على مضر) والوطء الغطاء وواطأه على الأمر (مواطأة) وافقه. وقوله تعالى : (أَشَدُّ وَطْئاً) بالمد أي مواطأة وهي موافاة السمع والبصر إياه.

(٤) في (ب) بزيادة : لأن الشر في نفسه.

٣٣٧

والوجود وإن فرضنا كونه موجودا بمعنى العروضية للوجود فلا يتصور أن يمانعه شيء من الموجودات ، وعند الخاص لما شارك شيئا آخر في الموضوع مع امتناع اجتماعهما فيه ، والموضوع هو المحل المستغني في قوامه عن الحال ، ولا يتصور ذلك للوجود إذ لا تقوم لشيء بدونه ، ولو سلم فلا يتصور وجودي يعاقبه (١) ولا يجامعه (٢) ومنها قولهم : الوجود ليس له جنس ولا فصل ، لأنه بسيط لا جزء له عينا ولا ذهنا ، وإلا لزم تقدمه على نفسه ضرورة تقدم وجود الجزء على وجود الكل في الخارج ، إن كان التركب خارجيا ، وفي الذهن إن كان ذهنيا ، ولأن جزءه وإن كان وجودا موجودا لزم تقدم الشيء على نفسه ، وإن كان عدما أو معدوما لزم تقدم الشيء بنقيضه ، ولأن الجنس يجب أن يكون أعم (٣) ولا أعم من الوجود إذ ما من شيء إلا وله وجود ، وفي بعض المقدمات ضعف لا يخفى ، ولو سلم فغاية الأمر اتصاف كل من الوجود الواجب بهذه المعاني ، ولا إنتاج عن الموجبتين في الشكل الثاني. وتحقيقه أن لزوم هذه الأمور للوجود لا يوجب كونه الواجب ما لم تتبين مساواتها للملزوم. ثم القول بكون الواجب هو الوجود المطلق ينافي تصريحهم بأمور منها : أن الوجود المطلق من المحمولات العقلية ، أي الأمور التي يمتنع استغناؤها عن المحل عقلا ويمتنع حصولها فيه بحسب الخارج كالإمكان والماهية بخلاف مثل الإنسان فإنه (٤) مستغن عن المحل ، ومثل البياض فإن قيامه بالمحل (٥) خارجي ومنها أنه من المعقولات الثانية أي العوارض التي تلحق المعقولات الأولى ، من حيث لا يحاذي بها أمر

__________________

(١) عقب : عاقبة كل شيء آخره. والعاقب من يخلف السيد. وفي الحديث «أنا السيد والعاقب» يعني آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والعقب بكسر القاف مؤخر القدم. وجئت في عقبه : إذا جئت وقد بقيت منه بقية.

(٢) جمع الشيء المتفرق فاجتمع وبابه : قطع ، وأجمع الأمر إذا عزم عليه ويقال اجمع أمرك ولا تجعله منتشرا. قال الله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) وجماع الشيء بالكسر : جمعه. وجامعه على أمر كذا : اجتمع معه.

(٣) العامة : ضد الخاصة. وعم الشيء يعم بالضم (عموما) أي شمل الجماعة يقال : عمهم بالعطية.

(٤) سقط من (ب) لفظ (فإنه).

(٥) في (أ) فإنه بالمحل خارجي.

٣٣٨

في الخارج ، كالكلية والجزئية والذاتية والعرضية ، لأنها أمور تلحق حقائق الأشياء عند حصولها في العقل ، وليس في الأعيان شيء هو الوجود أو الذاتية أو العرضية مثلا. وإنما في الأعيان الإنسان والسواد مثلا وهاهنا نظر من جهة أن ما انساق إليه البيان هو أن وجودات الأشياء من المحمولات العقلية والمعقولات الثانية وكان الكلام في الوجود المطلق ، ومنها أنه ينقسم إلى الواجب والممكن ، لأنه إن كان مفتقرا إلى سبب فممكن وإلا فواجب ، وإلى القديم والحادث ، لأنه إن كان مسبوقا بالغير أو بالعدم فحادث وإلا فقديم ، ومنها أنه يتكثر بتكثر الموضوعات الشخصية ، كوجود زيد وعمرو والنوعية كوجود الإنسان والفرس ، والجنسية كوجود الحيوان والنبات.

فإن قيل : الموضوع هو المحل المستغني في قوامه (١) عن الحال ولا يتصور ذلك للوجود.

قلنا : المراد هاهنا ما يقابل المحمول ، وهو الذي يحمل عليه الوجود بالاشتقاق ، ولو سلم فالقيام هاهنا عقلي ، والماهية تلاحظ دون الوجود ، وهذا معنى استغنائه عن العارض ، وإن كان لا ينفك عن وجود عقلي ، وظاهر هذا الكلام أن وجودات الممكنات إنما هي نفس الوجود المطلق ، تكثرت بالإضافة إلى المحل ، وليست أمورا متكثرة متخصصة بأنفسها معروضة له ، وكان المراد أن الوجود المطلق يتكثر ما صدق هو عليه من الموجودات الخاصة بتكثر الموضوعات ، ومنها أنه مقول على الوجودات بالتشكيك ، كما سبق. وجميع ذلك مما يستحيل في حق الواجب تعالى وتقدس. وبالجملة فالقول بكون الواجب هو الوجود المطلق مبني على أصول فاسدة ، مثل كونه واحدا بالشخصي موجودا في الخارج ، ممتنع العدم لذاته ، ومستلزم لبطلان أمور اتفق العقلاء عليها ، مثل كونه أعرف (٢) الأشياء مشتركا بين الوجودات مقولا عليها بالتشكيك

__________________

(١) في (أ) قوله وهو تحريف.

(٢) في (ب) أوضح بدلا من (أعرف).

٣٣٩

معدودا في ثواني المعقولات ، وكون الواجب مبدأ (١) لوجود الممكنات متصفا بالعلم والقدرة والإرادة والحياة ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وغير ذلك بما وردت به الشريعة (٢).

اختلاف العقلاء في الوجود هو جزئي أو كلي؟

(قال : وما أعجب حال الوجود أطبقوا على أنه بديهي لا أعرف منه ، ثم اختلفوا في أنه جزئي أو كلي ، واجب أو ممكن. عرض أو لا عرض. ولا جوهر موجود أو اعتباري لا تحقق له في الأعيان. أو واسطة ، وأفراده عين الماهيات أو زائدة ولفظه مشترك ، أو متواطئ ، أو مشكك.

يتعجب من اختلافات العقلاء في أحوال الوجود ومع اتفاقهم على أنه أعرف الأشياء مع أن الغالب من حال الشيء أن تتبع ذاته في الجلاء والخفاء ، فمنها اختلافهم في أنه جزئي أو كلي. فقيل : جزئي حقيقي لا تعدد فيه أصلا. وإنما التعدد في الموجودات بواسطة الإضافات ، حتى إن قولنا : وجود زيد أو وجود عمرو ، بمنزلة قولنا : إله زيد وإله عمرو. والحق أنه كلي. والوجودات أفراده ، ومنها اختلافهم في أنه واجب أو ممكن. فقد ذهب جمع كثير من المتأخرين إلى أنه واجب على ما ذكرنا ، وذلك هو الضلال البعيد.

ومنها اختلافهم في أنه عرض (٣) أو جوهر ، أو ليس بعرض ولا جوهر ، لكونهما من أقسام الممكن الموجود. وهذا هو الحق. وفي كلام الإمام ما يشعر أنه عرض. وبه صرح جمع كثير من المتكلمين ، وهو بعيد جدا لأن العرض ما لا يتقوم بنفسه بل بمحله المستغني عنه في تقدمه (٤) .. ولا يتصور استغناء شيء (٥)

__________________

(١) في (أ) أصل بدلا من (مبدأ).

(٢) الشريعة : مشرعة الماء وهي مورد الشاربة ، والشريعة : ما شرع الله لعباده من الدين. والشريعة : الشرعة. قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً). والشارع : الطريق الأعظم.

(٣) في (ب) بزيادة (أو ليس بعرض).

(٤) في (ب) (مقومه) بدلا من (تقدمه).

(٥) سقط من (ب) لفظ (شيء).

٣٤٠