شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

ما ليس ببيت والحل بأنا نختار أنه يحصل أمر زائد على كل جزء وهو المجموع الذي هو نفس الوجود فلا يكون التركيب إلا فيه ، ولا حاجة إلى حصول أمر زائد على المجموع ، فالوجود محض المجموع الذي ليس شيء من أجزائه بوجود (١) ، كما أن البيت محض الأجسام التي ليس شيء منها ببيت والعشرة محض الآحاد التي شيء منها بعشرة.

فإن قيل : هذا إنما يستقيم في الأجزاء الخارجية ، وكلامنا (٢) في الأجزاء العقلية التي يقع بها التحديد إلزاما لمن اعترف بزيادة الوجود على الماهية ، إذ ليس على القول بالاشتراك اللفظي وجود مطلق ، يدعي بداهته ، أو اكتسابه ، بل له معان بعضها بديهي وبعضها كسبي ، وحينئذ لا يصح الحل بأن أجزاء الوجود أمور تتصف بالعدم أو بوجود هو عين الماهية ، أو لا تتصف بالوجود ولا بالعدم.

قلنا : فالحل ما أشرنا إليه من أنها وجودات ، أي أمور يصدق عليها الوجود صدق العارض على المعروض ، وحينئذ لا يلزم شيء من المحالين ، ولا اتصاف الشيء بالوجود قبل تحقق الوجود ، لأنه لا تمايز بين الجنس ، والفصل ، والنوع ، إلا بحسب العقل دون الخارج. فمعنى قولنا يكون الوجود محض ما ليس شيء من أجزائه بوجود أنه لا يكون شيء من الأجزاء نفس الوجود ، وإن كان يصدق عليه الوجود كسائر المركبات بالنسبة إلى الأجزاء العقلية فإنها لا تكون نفس (٣) ذلك المركب لكنه يصدق عليها صدق العارض.

والجواب عن التقرير الثاني : أنا نختار أن أجزاء الوجود وجوديات ، ولا نسلم لزوم كون الوجود الواحد وجودات ، وإنما يلزم لو كان وجود الوجودي عينه ولو سلم (٤) فيكون الوجود الواحد في نفس الأمر وجودات بحسب العقل ، ولا استحالة فيه كما في سائر المركبات من الأجزاء العقلية.

__________________

(١) في (ب) موجود.

(٢) في (أ) من بدلا من (في).

(٣) في (أ) بزيادة (نفس).

(٤) في (أ) ولم بدلا من (ولو) وهو تحريف.

٣٠١

والجواب : عما ذكر في امتناع اكتسابه بالرسم ما سبق من أنه إنما يتوقف على الاختصاص لا على العلم بالاختصاص وأنه وإن لم يستلزم إفادة معرفة الحقيقة ، لكنه (١) قد يفيدها ، وقد يستدل على امتناع اكتسابه بالرسم بوجهين.

أحدهما : أنه يتوقف على العلم بوجود اللازم وثبوته للمرسوم ، وهو أخص من مطلق الوجود ، فيدور.

وثانيهما : أن الرسم إنما يكون بالأعرف ولا أعرف من الوجود بحكم الاستقراء ، أو لأنه أعم الأشياء بحسب التحقق دون الصدق ، والأعم أعرف لكون شروطه ومعانداته أقل(٢).

والجواب : منع أكثر المقدمات على أنه لو ثبت كونه أعرف الأشياء لم يحتج إلى باقي المقدمات.

الوجه الثالث : أن الوجود المطلق جزء من وجودي لأن معناه الوجود مع الإضافة ، والعلم بوجودي بديهي ، بمعنى أنه لا يتوقف على كسب أصلا فيكون الوجود المطلق بديهيا ، لأن ما يتوقف عليه البديهي يكون بديهيا.

والجواب : أنه إن أريد أن تصور وجودي بالحقيقة بديهي فممنوع ، ولو سلم فلا نسلم أن المطلق جزء منه أو تصوره جزء من تصوره ، لما سيجيء من أن الوجود المطلق يقع على الوجودات وقوع لازم خارجي غير مقوم ، وليس العارض جزءا للمعروض ولا تصوره لتصوره. وإن أريد أن التصديق أي العلم بأني موجود ضروري فغير مفيد ، لأن كونه بديهيا لجميع الأجزاء غير مسلم ، وكون حكمه بديهيا ، غير مستلزم لتصور الطرفين بالحقيقة ، فضلا عن بداهته ، وظاهر تقرير الإمام بل صريحه أن المراد هو تصديق الإنسان بأنه موجود ، ثم

__________________

(١) في (ب) لكنها بدلا من «لكنه».

(٢) يقول صاحب المواقف : وأما تعريفه بالرسم ، فلوجهين ، أحدهما : أن الرسم لا يفيد معرفة كنه الحقيقة والنزاع فيه ، الثاني : أن الرسم يجب أن يكون بالأعراف ولا أعرف من الوجود بالاستقرار.

(المواقف ج ١ ص ٩١).

٣٠٢

أورد منع بداهته ، فأجاب بأنه على تقدير كونه كسبيا لا بد من الانتهاء إلى دليل يعلم وجوده بالضرورة قطعا للتسلسل ، والعلم بالوجود جزء من ذلك العلم فيكون ضروريا. وصرح صاحب المواقف بأنه جزء وجودي وهو متصور بالبديهة ، ثم أورد جواب الإمام عن منع المذكور وزاد عليه. فقال (١) : وأيضا لا دليل عن سالبتين ، فلا بد من الانتهاء إلى موجبة يحكم فيها بوجود المحمول للموضوع ضرورة ، ثم دفعهما بأن الذي لا بد من الانتهاء إليه دليل هو ضروري لا وجوده ، فإنا نستدل بصدق المقدمتين لا بوجودهما في الخارج وبأن الموجبة ما حكم فيها بصدق المحمول على ما صدق عليه الموضوع لا بوجوده له ، وأنت خبير بأنه لا دخل للدليل وترتيب المقدمتين في الإيصال إلى التصور ، وإن كان كلامه صريحا (٢) في أنه يريد بالدليل الموصل إلى التصديق لا الموصل في الجملة وأن مراد الإمام بالدليل الذي لا بد من العلم بوجوده هو الأمر الذي يستدل به ، كالعالم للصانع لا المقدمات المرتبة وأنه لا معنى لصدق المحمول على الموضوع سوى وجوده له ، وثبوته له (٣).

نعم يتجه أن يقال : الوجود هنا رابطة ، وليس الكلام فيه.

الوجود نفس الماهية أو زائد عليها

(قال : فإن قيل : هو إما نفس الماهية فيكتسب مثلها ، أو عارض فلا يعقل إلا تبعا لها ، والقول بأن الكلام في مطلق الوجود أو المعروض مطلق الماهية لا يدفع التبعية بل يزيدها ، وأيضا لو كان بديهيا لم يشتغل العقلاء بتعريفه ، ولم يختلفوا في بداهته ، ولم يحتجوا عليها.

__________________

(١) في هذا النص الذي نقله عن المواقف تحريف ، وصواب النص : ولا دليل عن سالبتين فلا بد في الدليل من مقدمة موجبة قد حكم فيها بوجود المحمول للموضوع ولا يمكن أن يكون العلم بوجود كل محمول للموضوع مستفادا من دليل آخر ، بل لا بد من الانتهاء إلى دليل مشتمل. الخ ..

(المواقف ج ١ ص ٨٠).

(٢) في (أ) بزيادة (كان).

(٣) سقط من (ب) لفظ (له).

٣٠٣

قلنا : قد يعقل العارض دور المعروض ، ولو سلم فيكفي ماهية بديهية ، وقد يفسر البديهي لفظ الإفادة المراد باللفظ لا تصور الحقيقة ، وقد يكون التصديق ببداهة البديهي كسبيا أو خفيا فيختلف فيه (١) ويفتقر إلى الدليل أو التنبيه).

يريد أن يشير إلى تمسكات المنكرين ببداهة الوجود ، مع الجواب عنها وهي وجوه(٢) :

الأول : أن الوجود إما نفس الماهية أو زائد عليها. فإن كان نفس الماهية والماهيات ليست ببديهية كان الوجود غير بديهي ، وإن كان زائدا عليها كان عارضا لها لأن ذلك معناه فيكون تابعا للمعروضات في المعقولية إذ لا استقلال للعارض بدون المعروض وهو غير بديهية ـ فكذا الوجود العارض بل أولى لا يقال الكلام في الوجود المطلق ، لا في الوجودات الخاصة التي هي العوارض للماهيات ، ولو سلم فالوجود المطلق يكون عارضا لمطلق الماهية. والكسبيات إنما هي الماهيات المخصوصة ، فعلى تقدير كون الوجود المطلق عارضا لا يلزم كونه تابعا للماهيات المكتسبة ، لأنا نقول الوجود المطلق عارض للوجودات الخاصة على ما سيجيء فيكون تابعا لها ، وهي تابعة للماهيات المكتسبة ، فيكون المطلق (٣) تابعا لها بالواسطة وهذا معنى زيادة التبعية ، وكذا مطلق الماهية عارض للماهيات المخصوصة لكونه صادقا عليها غير مقوم لها فيكون تابعا لها فيكون الوجود المطلق العارض مطلق الماهية عارضا لها بالواسطة.

الثاني : أن الوجود لو كان بديهيا لم يشتغل العقلاء بتعريفه ، كما لم يشتغلوا بإقامة البرهان على القضايا البديهية ، لكونهم عرفوه بوجوه كما مر (٤).

__________________

(١) ما بين القوسين زيادة في (أ).

(٢) سقط من (ب) لفظ (وهى وجوه).

(٣) في (أ) بزيادة (المطلق).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (كما مر) ويقول صاحب المواقف : إن تعريفه ليس لإفادة تصوره حتى ينافي كونه بديهيا بل تعريفه لتميز ما هو المراد بلفظ الوجود من بين سائر التصورات.

(راجع المواقف ج ١ ص ١٠٦).

٣٠٤

الثالث : أنه لو كان بديهيا لم يختلف العقلاء في بداهته ، ولم يفتقر المثبتون منهم إلى الاحتجاج عليها ، لكنهم اختلفوا واحتجوا فلم يكن بديهيا.

والجواب عن الأول : أنا لا نسلم أن العارض يكون تابعا للمعروض في المعقولية بل ربما يعقل العارض دون المعروض ، وعدم استقلاله إنما هو في التحقيق في الأعيان ولو سلم فلا نزاع في بداهة بعض الماهيات فيكفي في تعقل الوجود من غير اكتساب ، لا يقال العارض تابع للمعروض في التحقق حيث ما كان عارضا ، فإن كان في الخارج ففي الخارج ، وإن كان في العقل ففي العقل ، وسيجيء أن زيادة الوجود على الماهية ، إنما هي في العقل. والمعقول بتبعية الماهية البديهية يكون وجودها الخاص ، وليس المطلق ذاتيا له حتى يلزم بداهته ، بل عارضا لأنا نقول : ليس معنى العروض في العقل أن لا يتحقق العارض (١) في العقل بدون المعروض وقائما به كما في العروض الخارجي ، بل إن العقل إذا لاحظهما ولاحظ النسبة بينهما لم يكن المعقول من أحدهما نفس المعقول من الآخر ، ولا جزء له بل صادقا عليه.

والوجود المطلق وإن لم يكن ذاتيا للخاص لكنه لازم له بلا نزاع ، وليس إلا في العقل إذ لا تمايز في الخارج فتعقل الخاص لا يكون بدون تعقله فيكون بديهيا مثله.

وعن الثاني : أن البديهي لا يعرف تعريفا حديا أو رسميا لإفادة تصوره لكن قد يعرف تعريفا اسميا لإفادة المراد من اللفظ ، وتصور المعنى من حيث أنه مدلول لفظ وإن كان متصورا في نفسه ، ومن حيث أنه مدلول لفظ آخر ، وتعريفات الوجود من هذا القبيل.

وعن الثالث : أن الذي لا يقع فيه اختلاف العقلاء هو الحكم (٢) البديهي

__________________

(١) في (أ) بزيادة (العارض).

(٢) الحكم لغة : القضاء والجمع أحكام. وقد حكم عليه حكما وحكومة والحاكم منفذ الحكم وكذلك الحكم والجمع حكام. وحاكمه إلى الحاكم دعاه وخاصمه. وحكمه في الأمر : أمره أن يحكم ، فاحتكم. وتحكم : جار في حكمه. والاسم الأحكومة والحكومة.

(بصائر ذوي التمييز ج ٢ ص ٤٨٧).

٣٠٥

الواضح ، وبداهة تصور الوجود لا تستلزم بداهة الحكم بأنه بديهي ، فيجوز أن يكون هذا الحكم كسبيا أو بديهيا خفيا لا يكون في حكم قولنا : الواحد نصف الاثنين فيقع فيه الاختلاف ، ويحتاج على الأول إلى الدليل ، وعلى الثاني إلى التنبيه ويكون ما ذكر في معرض الاستدلال تنبيهات وقد يقال الوجود لا يتصور أصلا وهو مكابرة في مقابلة القول بأنه أظهر الأشياء واخترع الإمام لذلك تمسكات ، منها : أنه لو كان متصورا لكان الواجب متصورا إلزاما للقائلين بأن حقيقة الوجود المجرد ، ومعنى التجرد معلوم قطعا ومبناه على أن الوجود طبيعة نوعية ، لا تختلف إلا بالإضافات وليس كذلك على ما سيأتي ، ومنها أنه لو تصور لارتسم في النفس صورة مساوية له مع أن للنفس وجودا فيجتمع مثلان. والجواب : منع التماثل بين وجود النفس والصورة الكلية للوجود على أن الممتنع من اجتماع المثلين هو قيامهما بمحل واحد (١) كقيام العرض وهاهنا لو سلم قيام الصورة كذلك فظاهر ، أن ليس قيام الوجود كذلك لما سيجيء من أن زيادة الوجود على الماهية إنما هي في الذهن فقط.

وأما الجواب : بأنه يكفي لتصور الوجود وجود النفس كما يكفي لتصور ذاتها نفس ذاتها فإنما يصح على رأي من يجعل الوجود حقيقة واحدة لا يختلف إلا بالإضافة ، وإلا فكيف يكفي لتصور الوجود المطلق حصول الوجود الخاص الذي هو معروض لها ، ومنها أن تصوره بالحقيقة لا يكون إلا إذا علم تميزه عما عداه ، بمعنى أنه ليس غيره ، وهذا سلب مخصوص لا يعقل إلا بعد تعقل السلب المطلق ، وهو نفي صرف لا يعقل إلا بالإضافة إلى وجود فيدور.

والجواب : ـ أن تصوره يتوقف على تميزه لا على العلم بتميزه ولو سلم ، فالسلب المخصوص إنما يتوقف تعقله على تعقل السلب المطلق لو كان ذاتيا له ، وهو ممنوع ولو سلم، فلا نسلم أن النفي الصرف لا يعقل ، ولو سلم فالسلب يضاف إلى الإيجاب وهو غير الموجود.

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (واحد).

٣٠٦

المبحث الثاني

في أن الوجود مفهوم مشترك بين الموجودات

(قال : المبحث الثاني أن الوجود مفهوم واحد مشترك بين الموجودات وهي زائدة على الماهيات (١) ينبه على الأول الجزم بالوجود مع التردد في الخصوصية ، وصحة التقسيم إلى الواجب وغيره (٢) مع قطع النظر عن الوضع واللغة ، فإن نوقض بالماهية والشخص ، قلنا مطلقهما أيضا مشترك وتمام الحصر في الموجود والمعدوم ، والقطع باتحاد مفهوم العدم ، ولو بمعنى رفع الحقيقة إذ لا تغاير إلا بالإضافة).

المنقول عن الشيخ أبي الحسن الأشعري (٣) أن وجود كل شيء غير ذاته (٤) وليس للفظ الوجود مفهوم واحد مشترك بين الوجودات بل الاشتراك لفظي ، والجمهور على أن له مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات ، إلا أنه عند المتكلمين حقيقة واحدة تختلف بالقيود والإضافات ، حتى إن وجود الواجب هو كونه في الأعيان ، على ما يعقل من كون الإنسان.

__________________

(١) زيادة في (أ) ولم يذكر في (ب).

(٢) وهو الوجود الممكن. وتقسم الشيء إلى قسمين أو أقسام يدل على اشتراك القسمين أو الأقسام في المقسم لصدقه على كل ، وإلا كان بمثابة أن يقال مثلا : الإنسان إما حجر وإما شجر.

(٣) هو : علي بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن ، من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري : مؤسس مذهب الأشاعرة. كان من الأئمة المتكلمين المجتهدين. ولد بالبصرة وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم ، ثم رجع وجاهر بخلافهم ، وتوفي ببغداد عام ٣٢٤ ه‍. من كتبه : الرد على المجسمة ، ومقالات الإسلاميين ، والإبانة ، ومقالات الملحدين ، والرد على ابن الراوندي وغير ذلك ، رحمه‌الله.

(٤) في (ب) عين ذاته وليس كذلك.

٣٠٧

وإنما الاختلاف في الماهية فالوجود معنى (١) زائد على الماهية في الواجب والممكن جميعا ، وعند الفلاسفة وجود الواجب مخالف لوجود الممكن في الحقيقة واشتراكهما في مفهوم الكون اشتراك معروضين في لازم خارجي غير مقوم ، وهو في الممكن زائد على الماهية عقلا ، وفي الواجب نفس الماهية ، بمعنى أنه لا ماهية للواجب سوى الوجود الخاص المجرد عن مقارنة الماهية ، بخلاف الإنسان فإن له ماهية هو الحيوان الناطق ، ووجودا هو الكون في الأعيان ، فوقع البحث في ثلاثة مقامات (٢). الأول : أنه مشترك معنى. الثاني : أنه زائد ذهنا (٣). الثالث : (٤) أنه في الواجب زائد أيضا.

والإنصاف أن الأولين بديهيان. والمذكر في معرض الاستدلال تنبيهات ، فعلى الأول وجود الأول : أنا إذا نظرنا في الحادث جزمنا بأن له مؤثرا مع التردد في كونه واجبا أو ممكنا ، عرضا أو جوهرا متحيزا أو غير متحيز ، ومع تبدل اعتقاد كونه ممكنا إلى اعتقاد كونه واجبا إلى غير ذلك من الخصوصيات ، فبالضرورة يكون الأمر المقطوع به الباقي مع التردد في الخصوصيات ، وتبدل الاعتقادات مشتركا بين الكل.

الثاني : أنا نقسم الموجود إلى الواجب والممكن ، ومورد القسمة مشترك بين أقسامه ، ضرورة (٥) أنه لا معنى لقسم الشيء إلى بعض ما يصدق هو عليه ، فقولنا : الحيوان إما أبيض أو غير أبيض ، تقسيم له إلى الحيوان الأبيض وغيره ، لا إلى مطلق الأبيض الشامل للحيوان وغيره ، ولو سلم فلا يضرنا لأن المقصود مجرد اشتراكه بين الواجب والممكن ، ردا على من زعم عدم الاشتراك أصلا ، أو لأنه لا قائل بالاشتراك بينهما دون سائر الممكنات أو لأنه يرشد إلى البيان في

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (معنى).

(٢) سقط من (أ) لفظ (الأول).

(٣) سقط من (أ) لفظ (الثاني).

(٤) سقط من (أ) لفظ (الثالث).

(٥) راجع في ذلك (أصول الدين للرازي) المسألة الثانية في أحكام المعلومات ص ٢٥ ـ ٢٦ وأيضا كتاب المواقف ١ ص ١١٦.

٣٠٨

الكل ، بأن يقال الموجود من الممكن إما جوهر أو عرض ، ومن الجوهر إما إنسان أو غيره.

فإن قيل : على الوجهين الأولين (١) لم لا يجوز أن يكون الأمر الباقي المقطوع به هو تحقق معنى من معاني لفظ الوجود لا مفهوم له كلي ، وأن يكون التقسيم لبيان مفهومات اللفظ المشترك كما يقال العين إما فوارة وإما باصرة لا لبيان أقسام مفهوم كلي.

قلنا : لأنا نجد الجزم وصحة التقسيم مع قطع النظر عن الوضع واللغة ، ولفظ الوجود ، فإن نوقض الوجهان بالماهية والتشخيص حيث يبقى الجزم بأن لعلة الحادث ماهية وتشخصا مع التردد في كونها واجبا ، أو ممكنا وتقسيم كل منهما إلى الواجب والممكن ، مع أن شيئا من الماهيات والتشخصات ليس بمشترك بين الكل.

أجيب بأن مطلق الماهية والتشخص أيضا مفهوم كلي مشترك بين الماهيات والتشخصات المخصوصة فلا نقض ، وإنما يرد لو ادعينا أن الوجودات متماثلة حقيقتها مفهوم الوجود ولا خفاء في أن شيئا من الوجود لا يدل على ذلك.

الثالث : أنه لو لم يكن للوجود مفهوم مشترك لم يتم الحصر (٢) في الموجود والمعدوم ، لأنا إذا قلنا : الإنسان متصف بالوجود بأحد المعاني أو معدوم كان عند العقل تجويز أن يكون متصفا بالوجود بمعنى آخر ويفتقر إلى إبطاله وهذا لا يتوقف على اتحاد مفهوم العدم ، إذ على تقدير تعدده كان عدم الحصر أظهر لجواز أن يكون متصفا بالعدم بمعنى آخر ، فلذا عدلنا عما ذكره القوم من أن

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (الأولين).

(٢) حصره : ضيق عليه وأحاط به وبابه نصر. والحصير : المحبس. قال تعالى : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) وكل من امتنع من شيء فلم يقدر عليه فقد حصر عنه ، ولهذا قيل : حصر في القراءة وحصر عن أهله. والحصر بالضم اعتقال البطن. قال ابن السكيت : (أحصره) المرض ، أي منعه من السفر أو من حاجة يريدها.

قال تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) وقال الأخفش : (حصرت) الرجل فهو محصور أي حبسته.

٣٠٩

مفهوم العدم واحد ، فلو لم يتحد مفهوم مقابله لبطل الحصر العقلي (١) وجعلنا اتحاد مفهوم العدم وجها رابعا تقريره أن مفهوم العدم واحد ، فلو لم يكن للوجود مفهوم واحد لما كانا نقيضين ضرورة ارتفاعهما عن الوجود بمعنى آخر. واللازم باطل قطعا.

فإن قيل : لا نسلم اتحاد مفهوم العدم ، بل الوجود نفس الحقيقة والعدم رفعها ، فلكل وجود رفع يقابله.

قلنا : سواء جعل رفع الوجود بمعنى الكون المشترك ، أو بمعنى نفس الحقيقة ، فهو مفهوم واحد بالضرورة ، وإنما التعدد بالإضافة.

فإن قيل : لا خفاء في أن اللاإنسان واللافرس واللاشجر وغير ذلك مفهومات مختلفة فإن لفظ العدم موضوعا بإزاء كل منها لم يتحد مفهومه.

قلنا : الكل مشترك في مفهوم لا. وهو معنى العدم ولا نعني باتحاد المفهوم سوى هذا(٢).

زيادة الوجود على الماهية

(قال : وعلى الثاني صحة سلبه عنها ، وافادة حمله عليها ، واكتساب ثبوته (٣) واتحاد مفهومه دونها وانفكاك تعقله عنها).

أي ينبه على زيادة الوجود على الماهية أمور تجامع الوجود ، وتنافي الماهية ، وذاتياتها.

الأول (٤) : صحة السلب ، فإنه يصح سلب الوجود عن الماهية ، مثل

__________________

(١) الحصر العقلي : الدائر بين النفي والإثبات.

(٢) يقول صاحب أشرف المقاصد : وإذا لزم اتحاد معنى الوجود لزم مشاركته بين المفردات ضرورة أنه لو لم تشترك فيه معنى وهي مختلفة لزم من صدقها عليها كون الاشتراك لفظيا فينتفي الاتحاد في المعنى فينتفي الحصر.

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٤) سقط من (أ) لفظ (الأول).

٣١٠

العنقاء ليس بموجود ، ولا يصح سلب الماهية وذاتياتها عن نفسها.

الثاني (١) : إفادة الحمل فإن حمل الوجود على الماهية المعلومة بالكنه يفيد فائدة غير حاصلة بخلاف حمل الماهية وذاتياتها.

الثالث (٢) : اكتساب الثبوت ، فإن التصديق بثبوت الوجود للماهية يفتقر إلى كسب ونظر كوجود الجن مثلا بخلاف ثبوت الماهية وذاتياتها لها.

الرابع (٣) : اتحاد المفهوم ، فإن وجود الإنسان والفرس والشجر مفهوم واحد وهو الكون في الأعيان ، ومفهوم الإنسان والفرس والشجر مختلف.

الخامس (٤) : الانفكاك في التعقل ، فإنا قد نتصور الماهية (٥) ولا نتصور كونها أما في الخارج فظاهر ، وأما في الذهن فلأنا لا نعلم أن التصور هو الوجود في العقل ، ولو سلم فلبديل ، ولو سلم فتصور الشيء لا يستلزم تعقل تصوره ولو سلم فيجوز أن يوجد في الخارج ما لا نعقله (٦) أصلا وأيضا قد نصدق ثبوت الماهية وذاتياتها لها بمعنى أنها هي من غير تصديق بثبوت الوجود العيني أو الذهني لها ، فأثرها لفظ التعقل ليعم التصور والتصديق ، وعبارة الكثيرين أنا نتصور ماهية المثلث ونشك في وجودها العيني والذهني ، ويرد عليها الاعتراض بأنه لا يفيد المطلوب لأن حاصله أنا ندرك الماهية تصورا ولا ندرك الوجود تصديقا ، وهذا لا ينافي اتحادهما.

واعلم أن هذه تنبيهات على بطلان القول بأن المعقول من وجود الشيء هو المعقول من ذلك الشيء وبعضها يدل على ذلك في الواجب والممكن جميعا ،

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (الثاني).

(٢) سقط من (أ) لفظ (الثالث).

(٣) سقط من (أ) لفظ (الرابع).

(٤) سقط من (أ) لفظ (الخامس).

(٥) سقط من (أ) لفظ (الماهية).

(٦) بمعنى أنا نتعقل الوجود أحيانا ولا نتعقل تلك الماهية التي نسب لها ذلك الوجود وقد نتعقل الماهية ولا نتعقل وجودها أما إذا اعتبرنا الماهية مع الوجود الخارجي فلأنا ندرك حقيقة المثلث مثلا ونذهل عن وجوده الخارجي.

٣١١

وبعضها في الممكن مطلقا ، وبعضها في صور جزئية من الممكنات.

فلا يرد الاعتراض على بعضها ، بأنه لا يفيد الزيادة في الواجب والممكن جميعا وعلى بعضها بأنه يختص بصور جزئية من الممكنات (١).

والمثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية ، وعلى الكل بأنها إنما تفيد تغاير الوجود والماهية بحسب المفهوم دون الهوية.

(قال : ومنعت الفلاسفة زيادته في الواجب إذ لو قام بماهيته لزم كونها قابلا وفاعلا ، وتقدمها بالوجود على الوجود ضرورة تقدم العلة على المعلول (وجواز) (٢) زوال الوجود عن الواجب ضرورة تقدم العلة نظرا إلى احتياجه في نفسه ، وأجيب عن الأول بمنع بطلان اللازم وعن الأخيرين بمنع الملازمة ، إذ التقدم قد لا يكون بالوجود كالثلاثة للفردية.

وماهية الممكن لوجوده ، والمحتاج قد يمتنع زواله ضرورة كونه مقتضى الماهية).

احتجت الفلاسفة على امتناع زيادة وجود الواجب على ماهيته بوجوده ، حاصلها أنه لو كان كذلك لزم محالات الأول كون الشيء قابلا وفاعلا (٣) وسيجيء بيان استحالته.

الثاني (٤) : تقدم الشيء بوجوده على وجوده وهو ضروري الاستحالة ، لا يحتاج إلى ما ذكره الإمام من أنه يفضي إلى وجود الشيء مرتين ، وإلى التسلسل في الوجودات ، لأن الوجود المتقدم إن كان نفس الماهية فذاك ، وإلا عاد الكلام فيه وتسلسل.

الثالث (٥) : إمكان. زوال وجود الواجب (٦) وهو ضروري الاستحالة وجه اللزوم.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) سقط من (أ) لفظ «وفاعلا».

(٤) سقط من (أ) لفظ «الثاني».

(٥) سقط من (أ) لفظ «الثالث».

(٦) راجع ما ذكره صاحب المواقف في هذا الموضوع حيث قال : انحصرت مذاهب القائلين في ثلاثة : أحدها للشيخ أبي الحسن الأشعري ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة : أنه نفس الحقيقة في الكل. إلخ.

(المواقف ج ١ ص ١٧٧).

٣١٢

أما الأول : فلأن الماهية تكون قابلا للوجود من حيث المفروضية ، (١) وفاعلا (٢) من حيث الاقتضاء.

وأما الثاني : فلأن الوجود يحتاج حينئذ (٣) إلى الماهية احتياج العارض إلى المعروض فيكون ممكنا ضرورة احتياجه إلى الغير فيفتقر إلى علة هي الماهية لا غير ، لامتناع افتقار وجود الواجب إلى الغير ، وكل علة فهي متقدمة على معلولها بالضرورة ، فتكون الماهية متقدمة بالوجود على الوجود.

وأما الثالث : فلأن الوجود إذا كان محتاجا إلى غيره كان ممكنا وكان جائز الزوال نظرا إلى ذاته ، وإلا لكان واجبا لذاته ، هذا خلف. وإنما قلنا نظرا إلى ذاته دفعا لما قيل : لا نسلم أن كل ممكن جائز الزوال ، وإنما يكون كذلك لو لم يكن واجبا بالغير (٤).

وأجيب. عن الأول : بأنا لا نسلم استحالة كون الشيء قابلا وفاعلا ، وسيجيء الكلام على دليلها.

وعن الثاني : بأنا لا نسلم لزوم تقدم الماهية على الوجود بالوجود ، وإنما يلزم ذلك لو لزم تقدم العلة على المعلول بالوجود وهو ممنوع ، ودعوى الضرورة غير مسموعة ، وإنما الضرورة تقدمها بما هي علة به إن كانت بالوجود ، فبالوجود أو بالماهية ، فبالماهية كما في اللوازم المستندة إلى نفس الماهية ، فإن الماهية تتقدمها بذاتها ومن حيث كونها تلك الماهية من غير اعتبار وجودها أو عدمها ، كالثلاثة للفردية (٥) ، وذلك كالقابل فإن تقدمه على المقبول ضروري ، لكنه قد

__________________

(١) في (ب) المعروضية.

(٢) في (ب) فإعلا له بدلا من (فاعلا له).

(٣) سقط من (أ) لفظ «حينئذ».

(٤) راجع كتاب (أصول الدين) المسألة الثالثة (الوجود زائد على الماهيات ص ٢٦).

(٥) من حيث إن الثلاثة إذا تعلقت نشأ عن ذلك تعقل الفردية لها ولا وجود للثلاثة قبل فرديتها فكذا فيما بين الوجود والماهية فلا استحالة على أن الموصوف لا نسلم أنه علة لوصفه بل يجوز أن تكون بينهما ملازمة فلا يثبت أحدهما بدون الآخر ، فلا تكون الذات علة وصفها فلا تقدم بالتعليل هنا أصلا ألا يرى إلى كثير من لوازم الماهية فإنها تلازمها بلا تأثير كالثلاثة للفردية وكالأربعة للزوجية.

٣١٣

يكون بالماهية من حيث هي لا باعتبار الوجود أو العدم كماهيات الممكنات لوجوداتها.

وعن الثالث : بأنا لا نسلم أن الوجود إذا كان محتاجا إلى الماهية كان جائز الزوال عنها نظرا إلى ذاته ، وإنما يلزم لو لم تكن الماهية لذاتها مقتضية له ، ولا معنى لواجب الموجود سوى ما يمتنع زوال وجوده عن ذاته ، نظرا إلى ذاته ، ولا يضره احتياج وجوده إلى ذاته ولا تسميته ممكنا بهذا الاعتبار وإن كان خلاف الاصطلاح ، فإن الممكن ما يحتاج إلى الغير في ثبوت الوجود له ، فلهذا لم يتعرض في المتن للإمكان واقتصر على الاحتجاج.

(قال : فإن قيل : تقدم المفيد للوجود بالوجود ضروري ، إذ العقل ما لم يلحظ للشيء وجود لم يمكنه تعقل كونه مفيدا لوجود بخلاف المستفيد فإنه لا بد أن يلحظ خاليا عن الوجود.

قلنا : ممنوع إذ لا معنى للإفادة هاهنا إلا اقتضاء الوجود لذاته ، وعدم تقدمه بالوجود ضروري فإن قيل : ـ فيكون وجوده مطولا فيمكن.

قلنا : لذاته فيجب ، (إذ لا معنى لوجوب الوجود) سوى كونه مقتضى الذات)(١).

العمدة في احتجاج الفلاسفة هو الوجه الثاني ، وحاصل ما ذكره الإمام في الجواب. أنه لم لا يجوز أن يكون علة الوجود هي الماهية من حيث هي هي فتقدمه لا بالوجود كما أن ذاتيات (٢) الماهية متقدمة عليها لا بالوجود ، وكما أن الماهية علة للوازمها بذاتها لا بوجودها ، وكما أن ماهية الممكن قابلة لوجوده مع أن تقدم القابل أيضا ضروري (٣) ورده الحكيم المحقق (٤) في مواضع من كتبه بأن الكلام فيما يكون علة لوجود أمر موجود في الخارج وبديهة العقل حاكمة

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) في (أ) في بدلا من (أن).

(٣) راجع ما كتبه الإمام الرازي في كتابه أصول الدين (في أحكام المعلومات) وغيرها ص ٣٥ ، ٣٦.

(٤) الحكيم المحقق هو نصير الدين الطوسي سبق الترجمة له.

٣١٤

بوجوب تقدمها عليه بالوجود فإنه ما لم يلحظ كون الشيء موجودا امتنع أن يلحظ كونه مبدأ للوجود ومقيدا له بخلاف القابل للوجود فإنه لا بد أن يلحظه العقل خاليا عن الوجود أي غير معتبر فيه الوجود لئلا يلزم حصول الحاصل ، بل عن العدم أيضا لئلا يلزم اجتماع المتنافيين. فإذن هي الماهية من حيث هي هي ، وأما الذاتيات بالنسبة إلى الماهية والماهية بالنسبة إلى لوازمها فلا يجب تقدمها إلا بالوجود العقلي ، لأن تقدمها بالذاتيات واتصافها بلوازمها إنما هو بحسب العقل ، وإذا تحققت فتقدم قابل الوجود أيضا كذلك لما سيجيء من أنه بحسب العقل فقط ، لا كالجسم مع البياض. فنقول على طريق البحث دون التحقيق : لا نسلم أن المفيد لوجود نفسه يلزم تقدمه عليه بالوجود ، فإنه لا معنى للإفادة هاهنا سوى أن تلك الماهية تقتضي لذاتها الوجود ويمتنع تقدمها عليه بالوجود ضرورة امتناع حصول الحاصل ، كما في القابل بعينه بخلاف المقيد لوجود الغير ، فإن بديهة العقل حاكمة بأنه ما لم يكن موجودا لم يكن مبدأ لوجود الغير (١) ومن هاهنا يستدل بالعالم على وجود الصانع.

فإن قيل : إذا كانت ماهية الواجب مفيدة لوجوده ومقتضية له كان وجوده معلولا للغير ، وكل معلول للغير ممكن فيكون وجود الواجب ممكنا ، هذا خلف (٢). قلنا بعد المساعدة على تسمية مقتضى الماهية معلولا لها وتسمية الذات الموجودة غير الوجود : لا نسلم أن كل معلول للغير بهذا المعنى ممكن ، وإنما يلزم ذلك لو لم يكن المعلول هو الوجود والغير ، هو الماهية ، التي قام بها ذلك الوجود ، كيف ولا معنى لوجوب الوجود سوى كونه مقتضى الذات التي قام بها الوجود من غير احتياج إلى غير تلك الذات؟ وهذا معنى قوله قلنا لذاته فيجب أن يكون وجود الواجب مقتضى لذات الواجب ، فيكون اللازم وجوبه لا إمكانه وتحقيقه. إنا إذا وصفنا الماهية بالوجوب فمعناه أنها لذاتها تقتضي الوجود ، وإذا وصفنا به الوجود فمعناه أنه مقتضى ذات الماهية من غير احتياج إلى غيرها.

__________________

(١) في (ب) مبدأ الوجود.

(٢) في (أ) بزيادة (هذا خلف).

٣١٥

فسواء قلنا : واجب الوجود لذاته أو الوجود واجب لذاته فالمراد ذات الموجود لا ذات الوجود.

أدلة المتكلمين على زيادة وجود الواجب على ماهيته

(قال : وعورضت بوجوده :

الأول : لو لم يكن وجود الواجب مقارنا لماهيته فتجرده إما لذاته فيعم الكل ، أو لغيره فيحتاج إلى الواجب.

الثاني : مبدأ الممكنات حينئذ إما الوجود وحده فيكون الشيء مبدأ لنفسه ولعلله. وإما مع التجرد شطرا فيتركب الواجب أو شرطا فيكون كل وجود مبدأ لكل شيء ويتخلف عنه الأثر لفقد شرطه لا لذاته.

الثالث : الواجب يشارك الممكنات في الوجود ويخالفها في الحقيقة فيتغايران.

الرابع : الواجب إن كان مجرد الكون تعدد ، أو مع التجرد تركب ، أو شرطه افتقر ، وإن كان غيره فإن كان بدون الكون فمحال ، وإن كان معه فزائد ضرورة امتناع كونه داخلا.

الخامس : الوجود معلوم ضرورة بخلاف الواجب.

وأجيب بأنه لا نزاع في زيادة الوجود المطلق بل الخاص وما ذكر لا يدل عليه) (١).

استدل المتكلمون على زيادة وجود الواجب على ماهيته بوجوه :

__________________

(١) يقول الإمام الرازي : لأنا ندرك التفرقة بين قولنا السواد وبين قولنا السواد موجود. ولو لا أن المفهوم من كونه موجودا زائدا على كونه سوادا وإلا لما بقي هذا الفرق ولأن العقل يمكنه أن يقول : العالم يمكن أن يكون موجودا وأن يكون معدوما. ولا يمكنه أن يقول : الموجود : إما أن يكون موجودا أو معدوما. ولو لا أن الوجود مغاير للماهية وإلا لما صح هذا الفرق.

(راجع كتاب أصول الدين للرازي ص ٢٦).

٣١٦

الأول : لو كان وجود الواجب مجردا عن مقارنة الماهية فحصول هذا الوصف له إن كان لذاته لزم أن يكون كل وجود كذلك لامتناع تخلف مقتضى الذات ، وقد مر بطلانه ، بل واجبا فيلزم تعدد الواجب ، وإن كان لغيره لزم احتياج الواجب في وجوبه إلى الغير ضرورة توقف وجوبه على التجرد المتوقف على ذلك الغير ، لا يقال : يكفي في التجرد عدم ما يقتضي المقارنة لأنا نقول : فيحتاج إلى ذلك العدم.

أجيب بأنه لذاته يقتضي هذا (١) الوجود الخاص المخالف بالحقيقة لسائر الموجودات.

الثاني : الواجب مبدأ الممكنات فلو كان وجودا مجردا فكونه مبدأ للممكنات إن كان لذاته فيلزم أن يكون كل وجود كذلك ، وهو محال لاستحالة كون وجود زيد علة لنفسه ولعلله ، وإلا (٢) فإن كان هو الوجود مع قيد التجرد لزم تركب المبدأ بل عدمه ضرورة إذ أحد جزأيه (٣) وهو التجرد عدمي ، وإن كان بشرط التجرد لزم جواز كون كل وجود مبدأ لكل وجود ، إلا أن الحكم تخلف عنه لانتفاء شرط المبدئية. ومعلوم أن كون الشيء مبدأ لنفسه ولعلله ممتنع بالذات ، لا بواسطة انتفاء شرط المبدئية.

والجواب : أن ذلك لذاته الذي هو وجود خاص مباين لسائر الوجودات فلا يلزم أن يكون كل وجود كذلك.

الثالث : الواجب يشارك الممكنات في الوجود ويخالفها في الحقيقة ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فيكون وجوده مغايرا لحقيقته.

والجواب : أن (٤) ما به المشاركة هو الوجود المطلق ، والحقيقة هو الوجود الخاص ، وهو المتنازع فيه (٥)

__________________

(١) في (أ) بزيادة (الذي هو) وسقط (يقتضي هذا).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (إلا).

(٣) في (أ) إن بدلا من (إذ).

(٤) في (ب) إذ بدلا من (أن).

(٥) سقط من (أ) لفظ (فيه).

٣١٧

الرابع : الواجب إن كان نفس الكون في الأعيان ـ أعني الوجود المطلق لزم تعدد الواجب ، ضرورة أن وجود زيد غير وجود عمرو ، وإن كان هو الكون مع القيد التجرد لزم تركب الواجب من الوجود ، والتجرد مع أنه عدمي لا يصلح جزءا للواجب ، أو بشرط التجرد لزم أن يكون الواجب واجبا لذاته ، بل بشرطه الذي هو التجرد ، وإن كان غير الكون في الأعيان فإن كان بدون الكون في الأعيان فمحال ضرورة أنه لا يعقل الوجود بدون الكون ، وإن كان مع الكون فإما أن يكون الكون داخلا فيه وهو محال ، ضرورة امتناع تركب الواجب ، أو خارجا عنه وهو المطلوب ، لأن معناه زيادة الوجود على ما هو حقيقة الواجب. (١)

والجواب : أنه نفس الكون الخاص المجرد المخالف الأكوان ، ولا نزاع في زيادة الكون المطلق عليه.

الخامس : الوجود معلوم بالضرورة ، وحقيقة الواجب غير معلومة اتفاقا وغير المعلوم (هو) غير المعلوم ضرورة والجواب : أن المعلوم هو الوجود المطلق للمغاير للخاص الذي هو نفس الحقيقة ، وإلى هذه الأجوبة أشار بقوله : لا نزاع في زيادة الوجود المطلق أي على ماهية الواجب ، وإنما النزاع في زيادة وجوده الخاص ، وما ذكر من الوجوه لا يدل عليها.

(قال : فإن قيل : الوجود طبيعة نوعية فلا تختلف لوازمها. قلت : ممنوع بل الوجودات متحالفة بالحقيقة يجب للبعض منها ما يمتنع على البعض كالأنوار ويقع المطلق عليها وقوع لازم غير ذاتي لها) (٢).

__________________

(١) يرى صاحب المواقف أن قضية النزاع في أن الوجود زائد أو ليس بزائد راجع إلى النزاع في الوجود الذهني فمن لم يثبته كالشيخ قال : إن الوجود الخارجي عين الماهية مطلقا ومن أثبته قال :

الوجود الخارجي زائد على الماهية في الذهن فمن ادعى من المتأخرين في أن الوجود زائد مع أنه كاف للوجود الذهني لم يكن على بصيرة في دعواه هذه.

(المواقف ج ١ ص ١٥٥ ـ ١٥٦).

(٢) سقط من (أ) لفظ (لها).

٣١٨

إشارة إلى دليل آخر للإمام لا يندفع بما ذكر : تقريره. أن الوجود طبيعة نوعية لما بينتم من كونه مفهوما واحدا مشتركا بين الكل ، والطبيعة النوعية لا تختلف لوازمها بل يجب لكل فرد منها ما يجب للآخر ، لامتناع تخلف المقتضى عن المقتضى ، وعلى هذا بنيتم كثيرا من القواعد كما سيأتي. فالوجود إن اقتضى العروض أو اللاعروض لم يختلف ذلك في الواجب والممكن ، وإن لم يقتض شيئا منهما ما احتاج الواجب في وجوبه (١) إلى منفصل كما سبق.

والجواب : أنما لا نسلم أنه طبيعة نوعية ، ومجرد اتحاد المفهوم لا يوجب ذلك لجواز أن يصدق مفهوم واحد على أشياء مختلفة الحقيقة واللوازم ، كالنور يصدق على نور الشمس وغيره ، مع أنه يقتضي إبصار الأعشى (٢) بخلاف سائر الأنوار ، فيجوز أن تكون الوجودات الخاصة متخالفة بالحقيقة يجب للوجود الواجب التجرد ويمتنع عليه المقارنة ، والممكن بالعكس مع اشتراك الكل في صدق مفهوم الوجود المطلق عليها صدق العرضي اللازم على معروضاته الملزومة ، كالنور على الأنوار ، لا يصدق الذاتي بمعنى تمام الحقيقة ، ليكون طبيعة نوعية ، كالإنسان لأفراده أو بمعنى جزء الماهية ، ليلزم التركب كالحيوان لأنواعه.

(قال : متواطئا أو مشككا وهو الحق لكونه في الواجب أولى وأشد وأقدم).

إشارة إلى أن الجواب يتم بما ذكرنا من المنع مستندا بأنه يجوز اشتراك الملزومات المختلفة الحقائق في لازم واحد غير ذاتي ، سواء كانت مقوليته عليها بالتواطؤ كالماهية على الماهيات ، والتشخص على التشخيصات ، أو بالتشكيك

__________________

(١) في (ب) وجوده بدلا من (وجوبه).

(٢) الأعشى هو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار والمرأة عشواء. وأعشاء الله فعشي بالكسر يعيش عشيا. والعشواء الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيدها كل شيء وركب فلان العشواء إذا خبط أمره على غير بصيرة فلان خابط خبط عشواء. وعش أعرض عنه. ومنه قوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) وفسر بعضهم الآية بضعف البصر.

(راجع مختار الصحاح مادة ع ش أ).

٣١٩

كالبياض على البياضات ، والحرارة على الحرارات ، فلا يلزم من كون الوجود مفهوما واحدا(١) مشتركا بين الوجودات ، كونه طبيعة نوعية ، والوجودات أفرادا متفقة الحقيقة واللوازم وإن فرضنا اشتراك الكل في مفهوم الوجود على السواء ، من غير أولية (٢) ولا أولوية، إلا أنه لما كان الواقع هو التشكيك وكان من دأب الحكيم المحقق سلوك طريق التحقيق ذكر في جواب استدلالات الإمام أن الوجود مقول على الوجودات بالتشكيك ، لأنه في العلة أقدم منه في المعلول ، وفي الجواهر أولى منه في العرض ، وفي العرض القار كالسواد أشد منه في غير القار كالحركة ، بل هو في الواجب أقدم وأولى (٣) وأشد منه في الممكن ، والواقع على الأشياء بالتشكيك يكون عارضا لها خارجا عنها ، لا ماهية لها أو جزء ماهية ، لامتناع اختلافهما على ما سيأتي ، فلا يكون الوجود طبيعة نوعية للوجودات ، بل لازما خارجا يقع على ما تحته بمعنى واحد ، ولا يلزم من ذلك تساوي ملزوماته التي هي وجود الواجب ووجودات الممكنات في الحقيقة ، ليمتنع اختلافها في العروض واللاعروض ، وفي المبدئية للممكنات وعدم المبدئية إلى غير ذلك. والعجب أن الإمام قد اطلع من كلام الفارابي (٤) وابن سينا (٥) على أن مرادهم أن حقيقة الواجب وجود مجرد ، هي محض الواجبية لاشتراك فيه أصلا (٦) ، والوجود المشترك (٧) العام المعلوم لازم له غير مقوم بل صرح في بعض كتبه بأن الوجود مقول على الوجودات بالتشكيك (٨) ثم استمر على شبهته التي زعم أنها من المتانة (٩) بحيث لا يمكن توجيه شك نحيل عليها ،

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (واحدا).

(٢) في (أ) أولوية وهو تحريف.

(٣) سقط من (ب) لفظ (أولى).

(٤) راجع ترجمة عن الفارابي في هذا الجزء.

(٥) راجع ترجمة عن ابن سينا في هذا الجزء.

(٦) سقط من (ب) لفظ (أصلا).

(٧) سقط من (ب) لفظ (المشترك).

(٨) في (أ) مقفول وهو تحريف.

(٩) في (ب) أنها من المتشابه.

٣٢٠