شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

فإثباته بالنقل ، وإلا فإن توقف ثبوت النقل عليه فبالعقل وإلا فبكل منها).

قد يقسم إلى العقلي والنقلي ، وقد يقسم إليهما وإلى المركب من العقلي والنقلي ، وهذا يوهم أن المراد بالنقلي ما لا يكون شيء من مقدماته عقليا وهو باطل ، إذ لو لم تنته سلسلة صدق (١) المخبرين إلى من يعلم صدقه بالعقل لزم الدور أو التسلسل ، فدفع ذلك بأن من حصره فيهما أراد بالنقلي ما يتوقف شيء من مقدماته القريبة أو البعيدة على النقل والسماع من الصادق ، وبالعقلي ما لا يكون كذلك ، ومن ثلث القسمة أراد بالنقلي ما يكون جميع مقدماته القريبة نقلية كقولنا : الحج واجب ، وكل واجب فتاركه يستحق العقاب ، وبالمركب ما يكون بعض مقدماته القريبة عقليا وبعضها نقليا كقولنا : الوضوء عمل ، وكل عمل فصحته الشرعية بالنية. وكقولنا : الحج واجب ، وكل واجب (٢) فتاركه عاص ، إذ لا معنى للعصيان إلا ترك امتثال الأوامر والنواهي وإنما قيد المقدمات بالقريبة لأن النقلي أيضا بعض مقدماته البعيدة عقلية كما مر ، فلا يقابل المركب بل يندرج فيه ، هذا (٣) إن أريد بالدليل نفس المقدمات المرتبة ، وأما إذا أريد مأخذها كالعالم للصانع ، والكتاب والسنة والإجماع للأحكام ، فلا معنى للمركب ، وطريق القسمة أن استلزامه للمطلوب إن كان بحكم العقل فعقلي ، وإلا فنقلي ثم الحكم المطلوب إن استوى فيه عند العقل جانب الثبوت والانتفاء بحيث لا يجد من نفسه سبيلا إلى تعيين أحدهما فطريق إثباته النقل لا غير ، كالحكم بوجوب الحج ، ويكون زيد في الدار ، وإلا فإن توقف عليه ثبوت النقل كالعلم (٤) بصدق المخبر ، وما يبتنى (٥) عليه ذلك ، كثبوت الصانع ـ وبعثة النبي ودلالة المعجزة ، ونحو ذلك فطريق إثباته العقل لا غير ، لئلا يلزم الدور ، وإلا فيمكن إثباته بكل من النقل والعقل كوحدة الصانع ، وحدوث العالم ، إذا صح الاستدلال على الصانع بإمكان العالم أو بحدوث الأعراض ، أو بعض الجواهر ،

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (صدق).

(٢) زيد في (أ) وكل واجب.

(٣) في (ب) إذا بدلا من (إن).

(٤) في (ب) كالتعليم بدلا من (العلم).

(٥) في (ب) وما ينبئ.

٢٨١

وإذا تعاضد العقل والنقل كان المثبت ما أفاد العلم أولا. واعلم أن توقف النقل على ثبوت الصانع ، وبعثة الأنبياء ، إنما هو في الأحكام الشرعية ، وفيما يقصد به حصول القطع ، وصحة الاحتجاج على الغير ، وأما في مجرد إفادة الظن فيكفي خبر واحد ، أو جماعة يظن المستدل صدقه كالمنقولات (١) عن بعض الأولياء والعلماء ، أو الشعراء ونحو ذلك ، حتى لو جعل العلم الحاصل بالتواتر استدلاليا لم يتوقف النقل القطعي أيضا على إثبات الصانع ، وبعثة الأنبياء.

(قال : ولا خفاء في إفادة النقل الظن. وأما إفادته اليقين فيتوقف على العام بالوضع والإرادة وذلك بعصمة رواة العربية ، وعدم مثل النقل والاشتراك والمجاز ، والإضمار والمعارض من العقلي إذ لا بد معه من تأويل النقل لأنه فرع العقل فتكذيبه تكذيبه نعم قد ينضم إليه قرائن تنفي الاحتمال ، فيفيد القطع بالمطلوب ، وينفي المعارض في العقبات مثل : قل هو الله أحد ، ولا إله إلا الله) (٢).

وإنما الكلام في إفادته العلم ، فإنها تتوقف على العلم بوضع الألفاظ الواردة في كلام المخبر الصادق للمعاني المفهومة ، وبإرادة المخبر تلك المعاني ، ليلزم ثبوت المدلول ، والعلم بالوضع يتوقف على العلم بعصمة رواة العربية ، لغة وصرفا ونحوا ، عن الغلط والكذب ، لأن مرجعه إلى روايتهم إذ لا طريق إلى معرفة الأوضاع سوى النقل ، أما الأصول أعني ما وقع التنصيص عليه فظاهر ، وأما الفروع فلأنها مبنية على الأصول بالقياس ، الذي هو في نفسه ظني ، والعلم بالإرادة يتوقف على عدم النقل إلى معنى آخر وعلى عدم اشتراكه بين هذا المعنى وبين معنى آخر (٣).

وعلى عدم كونه مستعملا بطريق التجوز في معنى غير الموضوع له ، وعلى عدم إضمار شيء يتغير به المعنى ، وعلى عدم تخصيص ما ظاهره عموم الأفراد

__________________

(١) في (ب) المقبولات وهو تحريف.

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب).

٢٨٢

أو الأوقات بالبعض من ذلك ، بأن يراد من أول الأمر ذلك البعض ، أو يراد ما يفيد بيان انتهاء وقت الحكم ، ويسمى ناسخا (١) ، وعلى عدم تقديم وتأخير بغير المعنى المطلوب (٢) عن ظاهره ، وفي بعض كتب الإمام وعلى عدم الحذف ، وفسر الحذف بأن يكون في الكلام زيادة يجب حذفها لتحصيل المعنى المقصود ، كقوله تعالى (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣) وقوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٤).

فإن كلمة «لا» في الموضعين محذوفة ، أي واجبة الحذف ، وكثير من الناس يفهمون منه أن يكون في الكلام محذوف يجب تقديره ليحصل المعنى ، ويفرقون بينه وبين الإضمار ، بأن المضمر ما يبقى له أثر في اللفظ ، كقولك خبر مقدم بإضمار قدمت.

وبالجملة فلا سبيل إلى الجزم بوجود الشرائط ، وعدم الموانع ، بل غايته الظن ، وما يبتنى على الظن لا يفيد إلا الظن ، ومن جملة ما لا بد منه ولا سبيل إلى الجزم به انتفاء المعارض العقلي ، إذ مع وجوده يجب تأويل النقل وصرفه عن ظاهره ، لأنه لا يجوز تصديقهما لامتناع اعتقاد حقية النقيضين ، ولا تكذيبهما لامتناع اعتقاد بطلان النقيضين ، ولا تصديق النقل وتكذيب العقل ، لأنه أصل النقل لاحتياجه إليه ، وانتهائه بالآخرة إليه لما سبق من أنه لا بد من معرفة صدق النقل والفرع جميعا ، وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل قطعا ، واقتصر في المتن على هذا لكونه وافيا بتمام المقصود. وذلك لأنه لما امتنع تصديق النقل لاستلزامه تكذيب العقل الذي هو الأصل ثبت أنه لا يفيد العلم ،

__________________

(١) النسخ : هو إزالة شيء يتعقبه ، كنسخ الشمس الظل ، والشيب الشباب. فتارة تفهم منه الإزالة وتارة يفهم منه الإثبات ، وتارة يفهم منه الأمران ونسخ الكتاب إزالة الحكم بحكم يتعقبه قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) سورة البقرة آية رقم ١٠٦.

راجع بصائر ذوي التمييز ج ٥ ص ٤٤.

(٢) في (أ) بزيادة (المطلوب).

(٣) سورة الأنبياء آية رقم ٩٥.

(٤) سورة القيامة آية رقم ١.

٢٨٣

إذ لا معنى لعدم تصديقه سوى هذا ، ولا حاجة إلى باقي المقدمات مع ما في الحصر من المناقشة إذ لا يلزم تصديقهما أو تكذيبهما ، أو تصديق أحدهما وتكذيب الآخر ، لجواز أن يحكم بتساقطهما ، وكونهما في حكم العدم ، من غير أن يعتقد معهما حقية شيء أو بطلانه ، ولو جعل التكذيب مساويا لعدم التصديق لم يلزم من تكذيب العقل والنقل اعتقاد ارتفاع النقيضين وبطلانهما ، لأن معنى عدم تصديق الدليل عدم اعتقاد صحته واستلزامه لحقية النتيجة ، وهذا لا يستلزم بطلانها أو اعتقاد بطلانها وارتفاعها ، فغاية الأمر التوقف في الإثبات والنفي ، على أن تكذيبهما أيضا يستلزم المطلوب ، أعني عدم إفادة النقل العلم فنفيه يكون مستدركا في البيان ، هذا والحق أن الدليل النقلي قد يفيد القطع إذ من الأوضاع ما هو معلوم بطريق التواتر كلفظ السماء والأرض ، وكأكثر (١) قواعد الصرف والنحو في وضع هيئات المفردات وهيئات التراكيب ، والعلم بالإرادة يحصل بمعونة القرائن بحيث لا تبقى شبهة كما في النصوص الواردة في إيجاب الصلاة والزكاة ونحوهما ، وفي التوحيد والبعث ، وإذا اكتفينا فيهما بمجرد (٢) السمع كقوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٣) (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٤) (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٥).

فإن قيل : احتمال المعارض قائم ، إذ لا جزم بعدمه بمجرد الدليل النقلي (٦) ، أو بمعونة القرائن.

قلنا : أما في الشرعيات فلا خفاء ، إذ لا مجال للعقل فلا معارض من قبله ، ونفي المعارض من قبل الشرع معلوم بالضرورة من الدين ، في مثل ما ذكرنا من الصلاة والزكاة.

وأما في العقليات فلأن العلم بنفي المعارض العقلي ، حاصل عند العلم بالوضع والإرادة ، وصدق المخبر على ما هو المفروض فى نصوص التوحيد ،

__________________

(١) في (أ) وكما كثر وهو تحريف.

(٢) سقط من (ب) لفظ (بمجرد).

(٣) سورة الصمد آية رقم ١.

(٤) سورة محمد آية رقم ١٩.

(٥) سورة يس آية رقم ٧٩.

(٦) في (أ) بزيادة لفظ (أو).

٢٨٤

والبعث وذلك لأن العلم بتحقق أحد المتنافيين يفيد العلم بانتفاء المنافي الآخر ، كما سبق في إفادة النظر العلم بالمطلوب ، وبانتفاء المعارض. فإن قيل : إفادتها اليقين على العلم تتوقف على العلم بنفي المعارض ، فإثباته بها يكون دورا.

قلنا : إنما يثبت بها التصديق بحصول هذا العلم بناء على حصول ملزومه ، على أن الحق إن أفاد العلم (١) إنما يتوقف على انتفاء المعارض وعدم اعتقاد ثبوته ، لا على العلم بانتفائه إذ كثيرا ما يحصل اليقين من الدليل ولا يخطر المعارض بالبال إثباتا أو نفيا ، فضلا عن العلم بذلك.

فما يقال : إن إفادة اليقين تكون مع العلم بنفي المعارض وأنه يفيد ذلك ويستلزمه (٢) فمعناه أنه يكون بحيث إذا لاحظ العقل (٣) هذا المعارض جزم بانتفائه. ويدل على ما ذكرنا قطعا ما ذكروا في بيان هذا الاشتراط ، من أنه (٤) لا جزم مع المعارض بل الحاصل معه التوقف فليتأمل والله الهادي.

__________________

(١) في (أ) اليقين بدلا من العلم.

(٢) سقط من (ب) لفظ (ويستلزمه).

(٣) في (أ) بزيادة (العقل).

(٤) في (ب) انتقاء بدلا من (أنه لا جزم).

٢٨٥
٢٨٦

المقصد الثاني

في ثلاثة فصول

الأول : الوجود والعدم

الثاني : الماهية

الثالث : لواحق الوجود والماهية

٢٨٧
٢٨٨

في الأمور العامة

(قال : المقصد الثاني : في الأمور العامة ، وهو ما يعم أكثر الموجودات ، الواجب ، والجوهر ، والعرض ، فيكون البحث عن العدم ، والامتناع بالعرض وعن الوجوب لكونه من أقسام مطلق الوجوب وبيانها في فصول) (١).

قد سبقت الإشارة إلى أن وجه تقديم هذا المقصد على الأربعة الباقية قد (٢) توقف بعض بياناتها عليه ، ووجه إفراده عنها مع كونه عائدا إليها ، هو أنه لما كان البحث عن أحوال الموجود وقد انقسم إلى الواجب ، والجوهر ، والعرض ، واختفى كل منها بأحوال تعرف في بابه ، احتيج إلى باب لمعرفة الأحوال المشتركة بين الثلاثة ، كالوجود والعدم (٣) والواحدة ، أو الاثنين فقط ، كالحدوث والكثرة ، وبهذا يظهر أن المراد بالموجودات في قولهم الأمور العامة ما يعم أكثر الموجودات هو أقسامه الثلاثة التي هي الواجب ، والجوهر ، والعرض ، لا أفراده التي لا سبيل للعقل إلى حصرها وتعيين الأكثر منها والحكم بأن مثل القلة (٤) والكثرة يعم أكثرها ، ولا خفاء في أن المقصود بالنظر ما يتعلق به عرض علمي ويترتب عليه مقصود أصلي من الفن ، ولا يكون له ذكر في أحد المقاصد بالاصالة ، وإلا فكثير من الأمور الشاملة مما لا يبحث عنه في الباب كالكمية ، والكيفية ، والإضافة ، والمعلومية ، والمقدورية ، وسائر مباحث الكليات

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٢) سقط من (أ) لفظ (قد).

(٣) سقط من (أ) لفظ (العدم).

(٤) في (أ) العلية وهو تحريف.

٢٨٩

الخمس ، والحد ، والرسم والوضع ، والحمل ، بل عامة المقولات الثانية ، ولا يضر كون البعض اعتباريا محضا ، أو غير مختص بالموجود ، لأن بعض ما يبحث عنه أيضا كذلك كالإمكان ، فإن قيل : قد يبحث عما لا يشمل الموجود أصلا كالامتناع والعدم وعما يخص الواجب قطعا كالوجوب والقدم (١).

قلنا : لما كان البحث مقصورا على أحوال الموجود ، كان بحث العدم والامتناع بالعرض ، لكونهما في مقابلة الوجود والإمكان ، وبحث الوجوب والقدم ، من جهة كونهما من أقسام مطلق الوجوب والقدم ، أعني ضرورة الوجود الوجود بالذات أو بالغير وعدم المسبوقية بالعدم وهما من الأمور الشاملة ، أما الوجوب فظاهر ، وأما القدم فعلى رأي الفلاسفة ، حيث يقولون بقدم المجردات (٢) ، والحركة (٣) ، والزمان (٤) وغيرهم من الجواهر والأعراض ، ونظر

__________________

(١) راجع الموقف الثاني في الأمور العامة في كتاب المواقف ج ١ ص ٤٨ وما بعدها.

(٢) المجرد : اسم مفعول من التجريد. ومعنى التجريد أن يعزل الذهن عنصرا من عناصر التصور ، ويلاحظه وحده دون النظر إلى العناصر المشاركة له في الوجود. قال ابن سينا : كون الصورة مجردة إما أن تكون بتجريد العقل إياها ، وإما أن تكون ، لأن تلك الصورة في نفسها مجردة عن المادة.

(الشفاء ١ ص ٣٥٨).

والمجرد عند الحكماء والمتكلمين : هو الممكن الذي لا يكون متميزا ولا حالا في المتميز ويسمى مفارقا (كشاف اصطلاحات الفنون للتهنوي) أو هو ما لا يكون محلا لجوهر ، ولا حالا في جوهر آخر ولا مركبا منهما (تعريفات الجرجاني).

(٣) الحركة ضد السكون ولها عند القدماء عدة تعريفات ، وهي : ١ ـ الحركة : هي الخروج من القوة إلى الفعل على سبيل التدريج. ٢ ـ الحركة : هي شغل الشيء بعد أن كان في حيز آخر. ٣ ـ الحركة : كمال أول لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة (ابن سينا رسالة الحدود).

وتقال الحركة : على تبدل حالة قادرة في الجسم يسيرا على سبيل اتجاه نحو شيء ، والوصول بها إليه هو بالقوة لا بالفعل (ابن سينا النجاة ص ١٦٩).

(٤) الزمان : الوقت كثيره وقليله : وهو المدة الواقعة بين حادثتين أولاهما سابقة وثانيتهما لاحقه. والزمان في أساطير اليونانيين : هو الإله الذي ينبضح الأشياء ويوصلها إلى نهايتها.

والزمان عند الفلاسفة : إما ماض أو مستقبل. وليس عندهم زمان حاضر بل الحاضر هو الآن الموهوم المشترك بين الماضي والمستقبل. وزعم أرسطو : أن الزمان مقدار حركة الفلك الأعظم وذلك لأن الزمان متفاوت زيادة ونقصانا. فهو إذن كم متصل وليس كما منفصلا لامتناع ـ

٢٩٠

الكلام فيه من جهة النفي لا الإثبات يعني أنه ليس من الأمور العامة ، كبحث الحال عند من ينفيه وقد تفسر الأمور العامة بما يعم أكثر الموجودات أو المعدومات ، ليشمل العدم والامتناع وإلى هذا كان ينبغي أن يذهب صاحب المواقف حيث زعم أن ليس موضوع الكلام هو الموجود لما أنه يبحث عن المعدوم.

__________________

ـ الجوهر الفرد ، فلا يكون مركبا من آنات متتالية ، فهو إذن كم متصل إلا أنه غير قار فهو إذن مقدار لهيئة غير قارة ، وهي الحركة.

٢٩١
٢٩٢

الفصل الأول

في الوجود والعدم وفيه ستة مباحث

١ ـ في تصوره وأنه بديهي

٢ ـ في أنه مشترك بين الموجودات زائد على الذات

٣ ـ في تقسيمه إلى عيني وذهني وخطي وما يتعلق بذلك

٤ ـ في أنه يرادف الثبوت والعدم

٥ ـ في تمايز الإعدام في العقل

٦ ـ في أن كلا من الوجود والعدم يقع محمولا ورابطه

٢٩٣
٢٩٤

الفصل الأول

في الوجود والعدم

(قال : الفصل الأول في الوجود والعدم ، وفيه أبحاث ، البحث الأول : تصور الوجود بديهي بالضرورة والتعريف ، بمثل الكون ، والثبوت ، والتحقيق ، والشيئية ، وبمثل الثابت العين ، وما يمكن أن يخبر عنه ويعلم ، أو ينقسم إلى الفاعل والمنفعل ، أو القديم أو الحادث تعريف بالأخفى مع صدقه على الموجود ، فمنهم من زعم أن الحكم كسبي)

رتب المقصد الثاني على ثلاثة فصول ، في الوجود ، والماهية ، ولواحقهما.

والفصل الأول : يتضمن البحث عن العدم ، والحق أن تصور الوجود بديهي ، وأن هذا الحكم أيضا بديهي يقطع به كل عاقل يلتفت إليه ، وإن لم يمارس طرق الاكتساب ، حتى ذهب جمهور الحكماء إلى أنه لا شيء أعرف من الوجود ، وعولوا على الاستقراء إذ هو كاف في هذا المطلوب ، لأن العقل إذا لم يجد في معقولاته ما هو أعرف منه بل هو في مرتبته ثبت أنه أوضح الأشياء عند العقل. والمعنى الواضح قد يعرف من حيث إنه مدلول لفظ دون لفظ ، فيعرف تعريفا لفظيا يفيد فهمه من ذلك اللفظ ، لا تصوره في نفسه ليكون دورا ، وتعريفا للشيء بنفسه ، وذلك كتعريفهم الوجود بالكون ، والثبوت ، والتحقيق ، والشيئية ، والحصول ، ونحو ذلك بالنسبة إلى من يعرف معنى الوجود ، من حيث أنه مدلول هذه الألفاظ دون لفظ الوجود ، حتى لو انعكس انعكست. وأما التعريف بالثابت العين أو بالذي يمكن أن يخبر عنه ويعلم ، أو بالذي ينقسم إلى الفاعل والمنفعل ، أو بالذي ينقسم إلى القديم والحادث ، فإن قصد كونه رسميا فلزوم

٢٩٥

الدور ظاهر ، إذ لا يعقل معنى الذي ثبت والذي أمكن ، ونحو ذلك إلا بعد تعقل معنى الحصول في الأعيان ، أو الأذهان ، ولو سلم فلا خفاء في أن معنى الوجود أوضح عند العقل من معاني هذه (١) العبارات ، وقد يقرر الدور بأن الموصوف المقدر لهذه الصفات أعني الذي يثبت ، والذي يمكن ، والذي ينقسم هو الوجود لا غير ، لأن غيره إما الموجود أو العدم (٢) أو المعدوم ، ولا شيء منها يصدق على الوجود وهو ضعيف ، لأن المفهومات لا تنحصر فيما ذكر فيجوز أن يقدر مثل المعنى والأمر والشيء مما يصدق على الوجود.

(وهو ضعيف لأن المفهومات لا تنحصر فيما ذكر فيجوز أن يقدر مثل المعنى والأمر والشيء مما يصدق على الوجود وغيره) (٣).

وإن قصد كونه تعريفا اسميا فلا خفاء في أنه ليس أوضح دلالة على المقصود من لفظ الوجود بل أخفى فلا يصلح تعريفا (٤) اسميا ، كما لا يصلح رسميا ، على أن كلا منها صادق على الموجود ، وبعضها على أعيان الموجودات ، وقد يتكلف لعدم صدق الثابت العين (٥) على الموجودات بأن معناه الثابت عينه أي نفسه من حيث هي لا باعتبار أمر آخر بخلاف الموجود فإنه ثابت من حيث اتصافه بالوجود ، فالثابت أعم من أن يكون ثابتا بنفسه وهو الوجود ، أو بالوجود وهو الموجودات ، وأنت خبير بأنه لا دلالة للفظ عينه على هذا المعنى ، ولا يعقل من الثابت إلا ماله الثبوت ، وهو معنى الموجود ، وكون هذه التعريفات للوجود هو ظاهر كلام التجريد والمباحث المشرقية ، وفي كلام المتقدمين أن الموجود : هو الثابت العين ، والمعدوم : هو المنفي العين ، وكأن زيادة لفظ العين لدفع توهم أن يراد الثابت لشيء والمنفي عن شيء فإن ذلك معنى المحمول لا

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (هو).

(٢) في (أ) بزيادة (العدم).

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٤) في (أ) بزيادة (تعريفا).

(٥) سقط من (ب) لفظ (العين).

٢٩٦

الموجود ، وفي كلام الفارابي (١) أن الوجود إمكان الفعل والانفعال ، والموجود ما أمكنه الفعل والانفعال.

التصديق ببداهة تصور الوجود

(قال : واستدل بوجوه ، الأول : أن التصديق البديهي بتنافي الوجود والعدم يتوقف على تصوره (٢) ، ورد بأنه أريد البداهة مطلقا (٣) بمعنى عدم التوقف على الكسب أصلا فممنوع ، بل مصادرة أو بداهة الحكم فغير مفيد إذ لا يستلزم تصور الحقيقة ولا ينافي اكتسابه لا يقال بداهة الكل وان توقفت على بداهة الأجزاء لكن العلم ببداهته لا يتوقف على العلم ببداهتها بل يستتبعه فلا مصادرة (٤) لأنا نقول توقف العلم ببداهة الكل على العلم ببداهة الجزء ضروري ، كتوقف الكل على الجزء إذ بداهة الجزء جزء بداهة الكل ، والعلم بالكل إما نفس العلم بالأجزاء أو حاصل به).

الثاني : أنه معلوم يمتنع اكتسابه إما بالحد (٥) فلبساطته إذ لو تركب فأما من الموجودات فيلزم تقدم الشيء على نفسه ، ومساواة الجزء للكل في ماهيته ، أو من غيرها فلا بد أن يحصل عند الاجتماع أمر زائد يكون هو الموجود ، لئلا

__________________

(١) الفارابي : هو محمد بن طرخان أبو نصر الفارابي ، ويعرف بالمعلم الثاني. من أكبر فلاسفة المسلمين ، تركي الأصل. ولد في فاراب على نهر جيحون وانتقل إلى بغداد فنشأ بها وألف بها أكثر كتبه ، ورحل إلى مصر والشام وتوفي بدمشق عام ٣٣٩ ه‍. وكان يحسن اليونانية وأكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره. من كتبه : الإشارات والسياسة المدنية ، وأغراض ما بعد الطبيعة ، إلى غير ذلك.

(٢) غير مفيد للمقصور الذي بداهة تصور الوجود بحقيقته.

(٣) أي إن أريد بتلك البداهة : البداهة على الإطلاق وهي الشاملة لجميع أجزاء التصديق من الحكم ، وجميع التصورات المتعلقة كما هو مذهب الإمام من أن التصديق : هو الحكم مع جميع تصوراته.

(٤) يقول صاحب كتاب أشرف المقاصد. ونحن لا نسلم توقف العلم ببداهة المجموع على العلم ببداهة كل شيء ، وإنما التوقف بين بداهة والبداهة بمعنى أن بداهة الكل متوقفة على بداهة الجزء ، لم تستدل بالبداهة على البداهة بل العلم بها في الكل على العلم بها في الجزء.

(٥) بالحد : الذي هو تعريف الشيء بالذاتيات من الجنس والفصل فلبساطته.

٢٩٧

يكون الموجود محض ما ليس بموجود والزائد على الشيء عارض ، فلا يكون التركيب فيه ، وإما بالرسم فلما سبق ورد بالنقض الإجمالي لسائر المركبات.

والحل بأن الأمر الحاصل يكون زائدا على كل لا على الكل ، بل هو نفس الكل فيكون التركيب فيه ، ويكون الوجود محض ما ليس شيء من أجزائه بوجود كسائر المركبات ، وحديث الرسم قد سبق.

الثالث : أنه جزء وجودي وهو بديهي ، ورد بأنه إن أريد التصور فممنوع أو التصديق فغيره مفيد على ما سبق ، وقيل لا يتصور أصلا.

كان الإمام (١) جعل التصديق ببداهة تصور الوجود كسبيا فاستدل عليه بوجوه.

الأول : أن التصديق بأن الوجود والعدم متنافيان ، لا يصدقان معا على أمر أصلا ، بل كل أمر فإما موجود أو معدوم ، تصديق بديهي ، وهو مسبوق بتصور الوجود والعدم ، فهو أولى بالبداهة. والجواب : أنه إن أريد أن هذا الحكم بديهي بجميع متعلقاته على ما هو رأي الإمام في التصديق فممنوع ، بل مصادرة على المطلوب (٢) ، حيث جعل المدعي وهو بداهة تصور الوجود جزءا من الدليل ، وإن أريد أن نفس الحكم بديهي بمعنى أنه لا يتوقف بعد تصور المتعلقات على كسب فمسلم ، لكنه لا يثبت المدعي وهو بداهة تصور الوجود بحقيقته لجواز الحكم أن يوجد (٣) الحكم البديهي مع عدم تصور الطرفين بالحقيقية بل بوجه ما ومع كون تصورهما كسبيا لا بديهيا ، وإنما قلنا في الأول فممنوع بل مصادرة ولم تقتصر على أحدهما تنبيها على تمام الجواب بدون بيان المصادرة ، وتحقيقا للزوم المصادرة بأن (٤) بداهة كل جزء من أجزاء هذا

__________________

(١) يقول صاحب المواقف : قال الإمام الرازي في المباحث المشرقية ، علم الانسان بوجود نفسه غير مكتسب والوجود جزء من وجوده والعلم بالجزء سابق على العلم بالكل والسابق على غير المكتسب أولى بأن لا يكون مكتسبا.

(راجع كتاب المواقف ج ١ ص ٧٨).

(٢) في (أ) بزيادة (المطلوب).

(٣) سقط من (أ) لفظ (أن يوجد).

(٤) في (ب) بل بدلا من (بان).

٢٩٨

التصديق جزء من بداهة هذا التصديق ، لأنه لا معنى لبداهة هذا التصديق سوى أن ما يتضمنه من الحكم والطرفين بديهي ، والعلم بالكل : إما نفس العلم بالأجزاء أو حاصل به على ما مرّ في تصور الماهية وأجزائها ، فبالضرورة يكون العلم بكل جزء سابقا على العلم بالكل لا تابعا له ممكن الاستفادة منه ، ونبطل ما ذكر في المواقف (١) من أنا نختار أن هذا التصديق بديهي مطلقا ، أي : بجميع أجزائه ، ولا مصادرة ، لأن بداهة هذا التصديق تتوقف على بداهة أجزائه ، لكن العلم ببداهته لا يتوقف على العلم ببداهة الأجزاء.

فالاستدلال : إنما هو على العلم ببداهة الأجزاء فيجوز أن يستفاد من العلم ببداهة هذا التصديق لأنه يستتبع العلم ببداهة أجزائه بمعنى أنه إذا علم بداهته فكل جزء يلاحظ من أجزائه يعلم أنه بديهي فإن قيل : قد يعقل المركب من غير ملاحظة الأجزاء على التفصيل.

قلنا : لو سلم ففي المركب الحقيقي إذ لا معنى لتعقل المركب الاعتباري سوى تعقل الأمور الاعتبارية (٢) المتعددة ، التي وضع الاسم بإزائها ، ولو سلم ففي التصور للقطع بأنه لا معنى للتصديق ببداهة هذا المركب بجميع أجزائه سوى التصديق بأن هذا الجزء بديهي ، وذاك وذاك ولو سلم فلا يلزم المصادرة في شيء من الصور لجواز أن يعلم الدليل مطلقا من غير توقف على العلم بجزئه الذي هو نفس المدعي.

الوجه الثاني : إن الوجود معلوم بحقيقته ، وحصول العلم إما بالضرورة أو الاكتساب ، وطريق الاكتساب إما الحد أو الرسم ، وهذا احتجاج على من يعترف بهذه المقدمات ، فلهذا لم يتعرض لمنعها والوجود يمتنع اكتسابه أما بالحد فلأنه إنما يكون للمركب ، والوجود ليس بمركب ، وإلا فأجزاؤه إما وجودات أو غيرها فإن كانت وجودات لزم تقدم الشيء على نفسه ، ومساواة الجزء للكل في تمام ماهيته وكلاهما محال.

__________________

(١) يراجع كتاب المواقف ج ١ ص ٨٥ عند قوله ، الثاني : من الوجوه الدالة على بداهة تصور الوجود أن يقال : إلخ.

(٢) في (أ) بزيادة (الاعتبارية).

٢٩٩

أما الأول : فظاهر.

وأما الثاني : فلأن الجزء داخل في ماهية الكل ، وليس بداخل في ماهية نفسه (١) ، ومبنى اللزوم على أن الوجود المطلق الذي فرض التركيب فيه ليس خارجا عن الوجودات الخاصة ، بل إما نفس ماهيتها ليلزم الثاني ، أو جزء (٢) مقوم لها ليلزم الأول ، وإلا فيجوز أن تكون الأجزاء وجودات خاصة هي نفس الماهيات أو زائدة عليها ، والمطلق خارج عنها فلا يلزم شيء من المحالين ، وإن لم تكن الأجزاء وجودات فإما أن يحصل عند اجتماعهما أمر زائد يكون هو الوجود أو لا يحصل ، فإن لم يحصل كان الوجود محصن ما ليس بوجود وهو محال ، وإن حصل لم يكن التركيب في الوجود الذي هو نفس ذلك الزائد العارض بل في معروضه هذا خلف.

وتقرير الإمام في المباحث أنه لو تركب الوجود فأجزاؤه إن كانت وجودية كان الوجود الواحد وجودات ، وإن لم تكن وجودية فإن لم يحدث لها عند اجتماعها صفة الوجود كان الوجود عبارة من مجموع الأمور العدمية ، (٣) وإن حدثت يكون ذلك المجموع مؤثرا في ذلك الوجود أو قابلا له فلا يكون التركيب في نفس الوجود بل في قابله أو فاعله ، وأما بالرسم فلما سبق من أنه يفيد بعد العلم (٤) باختصاص الخارج بالمرسوم وهذا متوقف على العلم به وهو دور وبما عداه مفصلا وهو محال ، ولو سلم فلا يفيد معرفة الحقيقة ، والجواب عن التقرير الأول لدليل امتناع تركب الوجود النقض أي لو صح بجميع مقدماته لزم أن لا يكون شيء من الماهيات مركبا لجريانه فيها بأن يقال أجزاء البيت إما بيوت وهو محال ، وإما غير بيوت ، وحينئذ إما أن يحصل عند اجتماعها أمر زائد (٥). هو البيت فلا يكون التركيب في البيت ، هذا خلف ، أو لا يحصل فيكون البيت محض

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (نفسه).

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (أو جزء).

(٣) سقط من (ب) لفظ (العدمية).

(٤) في (أ) فلما سبق أنه إنما والصواب ما ذكر في (ب).

(٥) ما بين القوسين سقط من (ب).

٣٠٠