شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

معرفة الصانع (١) بالنظر لا تفيد النجاة ما لم يتصل به تعليم ، ولم يكن مأخوذا من معلم وامتثالا لأمره على ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله»(٢).

وفي التنزيل :

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٣)

و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٤)

وكثير من المعترفين بالصانع ووحدانيته كانوا كافرين بناء على عدم أخذهم ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وعدم امتثالهم أمره ، فطريق الرد عليهم أن حاصل ما ذكرتم الاحتياج في النجاة إلى معلم ، علم صدقه بالمعجزات وذلك هو النبي عليه الصلاة والسلام ، وكفى به إماما ومرشدا إلى قيام الساعة من غير احتياج في كل عصر إلى معلم يجدد طريق الإرشاد والتعليم ، وتتوقف النجاة على متابعته والاعتراف بإمامته ، وأما احتجاج الملاحدة مع الجواب عنه فظاهر من المتن.

__________________

(١) في (ب) الثاني بدلا من الصانع وهو تحريف.

(٢) الحديث رواه البخاري في الإيمان رقم ١٧ ، ٢٨ وفي الصلاة رقم ٢٨ وفي الزكاة رقم ١ وفي الاعتصام ٢٨٠٢. ورواه أبو داود في الجهاد رقم ٩٥ والترمذي في التفسير سورة رقم ٨٨ (الغاشية) والنسائي في الزكاة رقم ٣ وابن ماجة في الفتن ١ ـ ٣ والدارمي في السير رقم ١ وأحمد ابن حنبل في مسنده ج ٤ ص ٨.

(٣) سورة محمد آية رقم ١٩.

(٤) سورة الصمد آية رقم ١.

٢٦١

المبحث الرابع

في التوصل بالنظر إلى معرفة الله تعالى

(قال : المبحث الرابع : لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب النظر في معرفة الله تعالى لكونه مقدمة مقدورة للمعرفة الواجبة مطلقا ، أما عندنا (١) فبالشرع (٢) بالنص والإجماع (٣) إذ حكم العقل معزول لما سيجيء ، وأما عند المعتزلة فعقلا لكونها دافعة لضرر خوف العقاب وغيره ، ورد بمنع الخوف في الأغلب لعدم الشعور ، ولو سلم فالخوف بحالة لاحتمال الخطأ وكون العارف أحسن حالا ليس على إطلاقه بل البلاهة أدنى إلى الخلاص ، كما في الصبي والمجنون ، وقد ينازع في إمكان إيجاب المعرفة لما فيه من تحصيل الحاصل أو تكليف الغافل ، وفي الإجماع على وجوبها ، فلقد كانوا يكتفون بالتقليد والانقياد وفي أن النظر مقدمها فقد تحصل بمثل التعليم والإلهام ، وفي إطلاق وجوبها إذ هو مقيد بالشك أو عدم المعرفة ، وفي وجوب المقدمة لجواز إيجاب الأصل مع الذهول عنها ، فيجاب بأنه لا غفلة مع فهم الخطاب ،

__________________

(١) أهل السنة : الذين يلتزمون بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) المبعوث به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن دليل النص قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فإنه يدل على نفي العقاب قبل بعثة الرسول. ونفي العقاب يستلزم نفي ملزومه وهو التكليف إذ لا عقاب إلا مع تكليف ، ونفي التكليف يستلزم نفي الوجوب فإذا هو نوع منه قبل الشرع فيكون حصوله بالشرع إذ لا قائل بثبوته بغير العقل والشرع ، فإذا انتفى بالعقل لزم ثبوته بالشرع وهو المطلوب ومن الدليل قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) لأنه أمر بالمعرفة وكل أمر فهو للوجوب حقيقة.

(٣) لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمتي لا تجتمع على ضلالة».

٢٦٢

والإجماع على وجوب المعرفة متواتر الاكتفاء (١) إنما كان بالأدلة الإجمالية على أن جواز التبرك للبعض لا ينافي الوجوب في الجملة (٢) واحتياج طرق تحصيل غير الضروري إلى نظر ما ضروري ، إذ الحكم مختص بالأغلب ومعنى إطلاق الوجوب عدم تقيده بتلك المقدمة ، كوجوب الصوم بالنسبة إلى النية والإقامة والحج بالنسبة إلى الإحرام والاستطاعة والمعرفة كيفية لا معنى لإيجابها سوى إيجاب تحصيلها وفيه إيجاب سببها قطعا ، وكحز الرقبة في إيجاب القتل ولو اكتفينا بالإجماع على وجوبه لكفينا هذه المئونات).

أي لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية لأنه أمر مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق (الذي المعرفة ، وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا إذ كان وجوب الواجب) (٣).

المطلق شرعيا كما هو دينا أو عقلا ، إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال ، أما كون النظر مقدورا فظاهر ، وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية ـ ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به ، وأما وجوب المعرفة فعندنا بالشرع للنصوص الواردة فيه والإجماع المنعقد عليه واستناد جميع الواجبات إليه ، وعند المعتزلة بالعقل لأنها دافعة لضرر الظنون وهو خوف العقاب في الآخرة حيث أخبر جمع كثير بذلك ، وخوف

__________________

(١) لنقله جمع خلفا عن سلف يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة ، بل ينبغي أن يكون هذا مما تواطأت عليه ملل الإيمان جميعا. وكيف يصح من مؤمن أن لا يقول بوجوب المعرفة التي هي الإيمان بالله تعالى ...؟ ثم لو سلم أن النص ظني والإجماع لنقله الآحاد ظني أيضا ، فالوجوب الشرعي يكفي فيه الظن المفاد لما ذكر.

(٢) ويجاب عن الثالث. وهو أن المعرفة لا تتوقف على النظر حتى يجب بوجوبها لحصولها بالتعليم أو الإلهام أو قول المعصوم أو المجاهدة والتصفية ، فأجاب بأن كل هذه الأشياء تحتاج إلى نظر ضروري ، لأن المعلم يرشد إلى المقدمات وإلى وجه الدلالة ، وإلى وجه دفع الشبه والشكوك ، فإذا حصل عند المتعلم ما أرشد إليه ، انتقل إلى النتيجة والانتقال إلى النتيجة بعد إدراك الدليل حصول عن نظر فلم يخل التعلم عن نظر ما بهذا الاعتبار. وكذا الإلهام لا يوثق به حتى يعلم أنه من الله تعالى ولا يعلم أنه منه إلا بالنظر.

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب).

٢٦٣

ما يترتب في الدنيا على اختلاف الفرق في معرفة الصانع من المحاربات وهلاك النفوس وتلف الأموال ، وكل ما يدفع الضرر المظنون بل المشكوك واجب عقلا ، كما إذا أراد سلوك طريق فأخبر بأن فيه عدو أو سبعا ورد بمنع ظن الخوف في الأعم الأغلب إذ لا يلزم الشعور بالاختلاف وبما يترتب عليه من الضرر ولا بالصانع وبما رتب في الآخرة من الثواب والعقاب والإخبار بذلك إنما يصل إلى البعض وعلى تقدير الوصول لا رجحان لجانب الصدق لأن التقدير عدم معرفة الصانع وبعثة الأنبياء ودلالة المعجزات ، ولو سلم ظن الخوف فلا نسلم أن تحصيل المعرفة يدفعه لأن احتمال الخطأ قائم ، فخوف العقاب أو الاختلاف بحاله والعناء لزيادة.

فإن قيل : لا شك أن من حصل المعرفة أحسن حالا ممن لم يحصل لاتصافه بالكمال وتحصيل الأحسن واجب في نظر العقل.

قلنا : نعم إذا حصلت المعرفة على وجهها ولا قطع بذلك بل ربما يحصل (١) ويقع في أودية الضلال فيهلك. ولهذا قيل البلاهة (٢) أدنى إلى الخلاص من فطانة (٣) بتراء ، هذا بعد تسليم وجوب الأحسن وتقرير السؤال على ما ذكرنا تتميم للدليل المذكور ، لبيان وجوب المعرفة ، وعلى ما في المواقف وهو أن الناظر أحسن حالا ابتداء دليل على وجوب النظر عقلا ، وأورد على هذا الاستدلال إشكالات بعضها غير مختص به ولا مفتقر إلى حله ، لكونه منعا على مقدمات مثبتة (٤) مقررة ، مثل إفادة النظر العلم مطلقا وفي الإلهيات وبلا معلم ، وإمكان تحقق الإجماع ونقله ، وكونه حجة وبعضها مختص به مفتقر إلى دفعه. وهي خمسة :

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (يحصل).

(٢) البلاهة في اللغة : ضعف العقل ، وعجز الرأي ، وشرود الفكر. والأبله الضعيف العقل.

وتطلق البلاهة في علم أمراض النفس على التخلف العقلي ، وهي بين العجز والعته.

(٣) الفطنة : كالفهم تقول فطن للشيء يفطن بالضم فطنة ، وفطن بالكسر فطنة أيضا. وفطانة وفطانية الفاء فيهما. ورجل فطن بكسر الطاء وضمها.

(٤) في (ب) مينية بدلا من مثبتة.

٢٦٤

الأول : أن وجوب المعرفة فرع إمكان إيجابها ، وهو ممنوع لأنه إن كان للعارف كان تكليفا بتحصيل الحاصل وهو محال ، وإن كان لغيره كان تكليفا للغافل (١) وهو باطل. والجواب أن إمكانه ضروري ، والسند مدفوع بأن الغافل من لم يبلغه الخطاب أو بلغه ولم يفهمه ، لا من لم يكن عارفا بما كلف بمعرفته ، وتحقيقه. إن المكلف بمعرفة أن للعالم صانعا قديما متصفا بالعلم والقدرة مثلا يكون عارفا بمفهومات هذه الألفاظ ، مكلفا بتحصيل هذا التصديق ، وتصور تلك المفهومات ، بقدر الطاقة البشرية.

الثاني : أنا لا نسلم قيام الدليل على وجوب المعرفة ، أما النص مثل قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (٢) ...

فلأنه ليس بقطعي الدلالة إذ الأمر قد يكون لا للوجوب ، وأما الإجماع فلأنه ليس قطعي السند (٣) إذ لم ينقل بطريق التواتر ، بل غايته الآحاد ، فللخصم أن يمنعه بل يدعي الإجماع على أنه يكفي التصديق ، علما كان أو ظنا أو تقليدا ، فإن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم كانوا يكتفون من العوام بالتقليد الانقياد ، ولا يكلفونهم التحقيق والاستدلال : والجواب : أن الظن كاف في الوجوب الشرعي ، على أن الإجماع عليه متواتر إذ بلغ ناقلوه في الكثرة حدا يمتنع تواطؤهم به على الكذب ، فيفيد القطع ، وما ذكر من الإجماع على الاكتفاء بالتقليد فليس كذلك ، وإنما هو اكتفاء بالمعرفة الحاصلة من الأدلة الإجمالية ، على ما أشير إليه بقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٤). من غير تلخيص العبارة في ترتيب المقدمات ، وتحقيق شرائط الإنتاج ، وتحرير المطالب بأدلتها ، وتقرير الشبه بأجوبتها ، على أنه لو

__________________

(١) في (ب) للعاقل بدلا من الغافل.

(٢) سورة محمد آية رقم ٩.

(٣) سند فلان سند أي معتمد ، وسند إلى الشيء من باب دخل ، واستند إليه بمعنى ، وأسند غيره.

والإسناد في الحديث رفعه إلى قائله.

(٤) سورة الزمر آية رقم ٣٨.

٢٦٥

ثبت جواز الاكتفاء بالتقليد في حق البعض فهو لا ينافي وجوب المعرفة بالنظر والاستدلال في الجملة. هذا والحق أن المعرفة بدليل إجمالي به (١) يرفع الناظر عن حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين ، وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين ، وإرشاد المسترشدين فرض كفاية ، لا بدّ من أن يقوم به البعض.

الثالث : أنا لا نسلم أن المعرفة الكاملة لا تحصل إلا بالنظر ، بل قد تحصل بالتعليم على ما يراه الملاحدة ، أو بالإلهام على ما يراه البراهمة (٢) أو بقول الإمام المعصوم على ما يراه الشيعة (٣) أو بتصفية الباطن بالرياضات والمجاهدات ، على ما يراه المتصوفة (٤).

والجواب : أنا نعلم بالضرورة أن تحصيل غير الضروري من العلوم يفتقر إلى نظر ما ظاهر أو خفي ، أما التعليم فظاهر ، لأنه ليس إلا إعانة للغفل بالإرشاد

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (به).

(٢) الديانة العظمى في الهند تسمى «الهندوسية أو الهندوكية وقد تمثلت فيها تقاليد الهند وعاداتهم وأخلاقهم وأطلق عليها «البرهمية» ابتداء من القرن الثامن قبل الميلاد نسبة إلى (براهما) وهو القوة العظيمة السحرية الكامنة التي تطلب كثيرا من العبادات كقراءة الأدعية وإنشاد الأناشيد وتقديم القرابين. ومن (براهما) اشتقت الكلمة (البراهمة) لتكون علما على رجال الدين الذي كان يعتقد أنهم يتصلون في طبائعهم بالعنصر الإلهي وهم لهذا كانوا كهنة الأمة لا تجوز الذبائح إلا في حضرتهم وعلى أيديهم ، (راجع فلسفة الهند القديمة. محمد عبد السلام. ٢٥٦).

(٣) الشيعة : الذين شايعوا عليا عليه‌السلام على قتال طلحة والزبير وعائشة ومعاوية والخوارج وكانوا في حياة علي رضي الله عنه ثلاث فرق الأولى : وهم الجمهور الأعظم يرون إمامة أبي بكر وعمر وعثمان إلى أن غير السيرة وأحدث الأحداث. والثانية : أقل من الأولى عددا يرون الإمام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا رضي الله عنه. ومن هذا نعلم أن أكثر الشيعة لا يقدمون عليا على سائر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويفضلونه على عثمان.

(٤) التصوف : قال : أبو بكر الكتاني : التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء. ويقول أبو الحسين النووى : ليس التصوف رسما ولا علما ولكنه خلق. لأنه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة ، ولو كان علما لحصل بالتعليم ولكنه تخلق بأخلاق الله.

(راجع المنقذ من الضلال تحقيق د. عبد الحليم محمود. ص ١٧٩).

٢٦٦

إلى المقدمات ودفع الشكوك والشبهات ، وقد شبهوا نظر البصيرة (١) بنظر الباصرة ، وقول المعلم بالضوء الحسي وكما لا يتم الإبصار إلا بهما لا تتم المعرفة إلا بالنظر والتعليم ، وكذا الكلام في المعصوم ، إذ لا يكفي في صدقه إخبار معصوم آخر ، ما لم ينته إلى نظر العقل ، وأما الإلهام فلأنه لا يثق به صاحبه ما لم يعلم أنه من الله تعالى ، وذلك بالنظر وإن لم يقدر على العبارة عنه ، وأما تصفية الباطن فلأنه لا عبرة بها إلا بعد طمأنينة النفس في المعرفة ، وذلك بالنظر على أنه لو ثبت حصول المعرفة بدون النظر لم يضرنا ، لأنا إنما ندعي الاحتياج إليه في حق الأغلب ، وهذا لا يمنع لظهور كونه طريق العامة.

الرابع : أنا لا نسلم أن المعرفة واجب مطلق ، فإن معناه الوجوب على كل تقدير ، ووجوب المعرفة مقيد بحال الشك ، أي تردد الذهن في النسبة ، أو بحال عدم المعرفة للقطع بأنه لا وجوب حال حصول المعرفة بالفعل ، لامتناع تحصيل الحاصل.

والجواب : أن ليس معنى الوجوب على كل تقدير عموم التقادير والأحوال ، وإلا لما كان شيء من الواجبات واجبا مطلقا ، إذ لا يجب على تقدير الإتيان به ، ولأن وجوب الصوم مثلا مطلق بالقياس إلى النية حتى يجب مقيد بالقياس إلى كون المكلف مقيما غير مسافر حتى لا تجب الإقامة ، وكذا وجوب الحج مقيد بالاستطاعة ، فلا يجب تحصيلها مطلقا بالنسبة إلى الإحرام ونحوه من الشرائط ، فيجب بل معناه الوجوب على تقدير وجود المقدمة وعدمها ، ووجوب المعرفة ليس مقيدا بالنظر بمعنى أنه لو نظر تجب المعرفة ، وإلا فلا يكون مطلقا.

وأما بالنسبة إلى الشك أو عدم المعرفة فمقيد ، إذ لا وجوب على العارف ، فلا يكون تحصيل الشك وعدم المعرفة واجبا. ويندفع إشكال آخر هو نقض

__________________

(١) البصيرة : النور الذي يقذفه الله تعالى في قلب عبده فنرى المعنويات والباصرة لا ترى إلا المحسوسات. البصيرة ترى اللطيف ، والباصرة لا ترى إلا الكثيف. البصيرة ترى القديم ، والباصرة لا ترى إلا الحادث : البصيرة ترى المكون ، والباصرة لا ترى إلا الأكوان.

(راجع كتاب مع الإلحاد وجها لوجه ص ١١).

٢٦٧

الدليل بهما ، وإنما لم يورد في المتن لما سيجيء من أن النزاع في مقدورتيهما ، وفي كون الشك غير واجب.

الخامس : أنا لا نسلم أن مقدمة الواجب المطلق يلزم أن تكون واجبة ، لجواز إيجاب الشيء مع الذهول عن مقدمته ، بل مع التصريح بعدم وجوبها. فإن قيل : إيجاب الشيء بدون مقدمته تكليف بالمحال ضرورة استحالة الشيء بدون ما يتوقف عليه ، قلنا : المستحيل وجود الشيء بدون وجود المقدمة ، ولا تكليف به ، وإنما التكليف بوجود الشيء بدون وجوب المقدمة ، ولا استحالة فيه.

فإن قيل : ـ لو لم تجب مقدمة الواجب المطلق لجاز تركها شرعا ، مع بقاء التكليف بالأصل لكونه واجبا مطلقا ، أي على تقدير وجود المقدمة وعدمها ، ولا خفاء في أنه مع عدم المقدمة محال فيكون التكليف به حينئذ تكليفا بالمحال.

قلنا : عدم جواز ترك الشيء شرعا قد يكون لكونه لازما للواجب الشرعي فيكون واجبا بمعنى أنه لا بدّ منه ، وهذا لا يقتضي كونه مأمورا به متعلقا بخطاب الشارع على ما هو المتنازع. والجواب تخصيص الدعوى ، وهو أن المأمور به إذا كان شيئا ليس في وسع العبد إلا مباشرة أسباب حصوله ، كان إيجابه إيجابا لمباشرة السبب قطعا كالأمر بالقتل ، فإنه أمر باستعمال الآلة ، وحز الرقبة مثلا ، وهاهنا العلم نفسه ليس فعلا مقدورا بل كيفية ، فلا معنى لإيجابه إلا إيجاب سببه ، الذي هو النظر ، وليس هذا مبنيا على امتناع تكليف المحال حتى يرد الاعتراض بأنه جائز عندكم ، واعلم أنه لما كان المقصود وجوب النظر شرعيا ، وقد وقع الإجماع عليه ، كما صرحوا به فلا حاجة إلى ما ذكروا من المقدمات ، ودفع الاعتراضات بل لو قصد إثبات مجرد الوجوب دون أن يكون بدليل قطعي لكفى التمسك بظواهر النصوص كقوله تعالى :

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) (١) (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ) .. (٢) إلى غير ذلك.

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٥٠ وتكملة الآية : (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها).

(٢) سورة يونس آية رقم ١٠١ وتكملة الآية : (وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

٢٦٨

(قال : قالوا لو لم يجب إلا شرعا لكان للمكلف أن يقول لا أنظر ما لم يجب ، ولا يجب ما لم أنظر ، لأنه بالشرع وثبوته بالنظر ، ولا يمكن للنبي إلزامه (١) وفيه إفحامه. وأجيب بأنه مشترك الإلزام إذ الوجوب العقلي أيضا نظري فله أن لا ينظر ولا يسمع إلى ما يوضع له في المقدمات وأن صحة الإلزام إنما تتوقف على تحقق الوجوب لا على العلم به ، والمتوقف على النظر هو العلم به لا تحققه) (٢).

احتجت المعتزلة على أن وجوب النظر في المعجزة والمعرفة وسائر ما يؤدي إلى ثبوت الشرع عقلي ، بأنه (٣) لو لم يجب إلا بالشرع لزم إفحام الأنبياء ، فلم يكن للبعثة فائدة وبطلانه ظاهر ، ووجه اللزوم أن النبي عليه‌السلام إذا قال للمكلف : انظر في معجزتي حتى يظهر لك صدق دعواي ، فله أن يقول : لا انظر ما لم يجب عليّ لأن ترك غير الواجب جائز ، ولا يجب عليّ ما لم يثبت الشرع ، لأنه لا وجوب إلا بالشرع ، ولا يثبت الشرع ما لم أنظر ، لأن ثبوته نظري لا ضروري.

فإن قيل : قوله لا أنظر ما لم يجب ليس بصحيح ، لأن النظر لا يتوقف على وجوبه. قلنا : نعم إلا أنه لا يكون للنبي حينئذ إلزامه النظر ، لأنه لا إلزام على غير الواجب ، وهو المعنى بالإفحام. وأجيب أولا : بأنه مشترك الإلزام ، وحقيقته إلجاء الخصم إلى الاعتراف بنقض دليله إجمالا ، حيث دل على نفي ما هو الحق (٤) عنده في صورة النزاع ، وتقريره أن للمكلف أن يقول لا أنظر ما لا يجب ،

__________________

(١) يقول المعتزلة : لو كان ذلك للزم إفحام الرسل وغلبهم بالحجة بحيث لا يمكنهم إلزام المكلفين الشرائع بالبرهان الذي هو سنة الله مع خلقه فتتبقى فائدة البعثة التي هي انتفاء الحجة للخلق يوم القيامة. ونقول : التالي باطل بالإجماع فالمقدم مثله.

(٢) أي الشرع في نفسه حتى يجيء الدور فقول القائل : أنا لا أنظر حتى يجب النظر ، مسلم. وقوله : ولا يجب حتى يثبت الشرع ، مسلم على ظاهره أيضا. وقوله : لا يثبت الشرع حتى أنظر ، غير مسلم. لأن الشرع يثبت في نفس الأمر نظرت أو لم تنظر أيها المكلف ، علمت بثبوته أو لم تعلم. هذا إن أراد العلم بالثبوت منع التوقف أيضا. إذ ليس الوجوب متوقفا على العلم بالثبوت وإنما يتوقف على سماع الخطاب وفهمه.

(٣) في (ب) (بيانه).

(٤) في (ب) بدلا من (عنده).

٢٦٩

ولا يجب ما لم أنظر ، لأن وجوبه نظري ، يفتقر إلى ترتيب المقدمات ، وتحقيق أن النظر يفيد العلم مطلقا ، وفي الإلهيات سيما إذا كان طريق الاستدلال ما سبق من أنه مقدمة للمعرفة الواجبة مطلقا ، فإن قيل : بل هو من النظريات الجلية التي يتنبه لها العاقل بأدنى التفات أو إصغاء إلى ما يذكره الشارع من المقدمات قلنا : لو سلم فله أن لا يلتفت ، ولا يصغي فيلزم الإفحام.

وثانيا : بالحل وهو تعيين موضع الغلط ، وذلك أن صحة إلزامه النظر إنما تتوقف على وجوب النظر ، وثبوت الشرع في نفس الأمر ، لا على علمه بذلك ، والمتوقف على النظر هو علمه بذلك ، لا تحققهما في نفس الأمر ، فهو إن أراد نفس الوجوب والثبوت لم يصح قوله لا يثبت الشرع ما لم أنظر ، وإن أراد العلم بهما لم يصح قوله لا أنظر ما لم يجب ، وإن أراد (١) من الوجوب التحقق ، وفي الثبوت العلم به لم يصح قوله لا يجب عليّ ما لم يثبت الشرع ، لأن الوجوب عليه لا يتوقف على العلم بالوجوب ، ليلزم توقفه على العلم بثبوت الشرع ، بل العلم بالوجوب يتوقف على الوجوب لئلا يكون جهلا ، وهذا ما قال في المواقف : إن قولك لا يجب عليّ ما لم يثبت الشرع.

قلنا : إن هذا القول. إنما يصح لو كان الوجوب عليه موقوفا على العلم بالوجوب.

فقوله قلنا ... الخ ، خبر إن والعائد اسم الإشارة ، وإن خص إرادة العلم بقوله لا يثبت الشرع ما لم أنظر ، وإرادة التحقق بقوله لا أنظر ما لم يجب ، صحت جميع المقدمات لكن تختل (٢) صورة القياس لعدم تكرر الوسط ، فهذا قياس صحة مادته في فساد صورته وبالعكس.

__________________

(١) في (أ) في بدلا من (من).

(٢) تحتل وهو تحريف.

٢٧٠

المبحث الخامس

في أول الواجبات

(قال : المبحث الخامس : اختلفوا في أول الواجبات فقيل : معرفة الله تعالى (١) لأنها الأصل ، وقيل : النظر فيها أو القصد إليه لتوقفها عليه ، (٢) والحق أنه إن قيد الواجب بما يكون مقصودا في نفسه فالأول. وإلا فالثاني. وأما المعرفة فليس بمقدور ، إذ الوجوب مقيد به واستدامته ليست بمقدمة.

وقيل : الشك (٣) لأن النظر بعده ، ورد بأنه ليس بمقدور لكونه من الكيف كالعلم ولا مقدمة لتأتي النظر عند الظن والوهم ، وإن أريد به ما يتناولهما وجعل مقدورا بمعنى إمكان تحصيله فوجوب النظر مقيد به ، إذ لا نظر عند الجزم والواجب على المقلد أو الجاهل جهلا مركبا هو النظر في وجه الدلالة ، ليقوده إلى العلم).

ما يجب على المكلف ، فقال الشيخ (٤) : هو معرفة الله تعالى لكونها مبنى الواجبات وقال الأستاذ : هو النظر في معرفة الله تعالى لما مر من كونه المقدمة.

__________________

(١) هذا الرأي يقول به الشيخ أبو الحسن الأشعرى رضي الله عنه ، ويوافقه على ذلك جماعة من العلماء ، وإنما كانت أول واجب عنده لأن مبنى جميع الواجبات عليه.

(٢) قال الأستاذ : أول واجب النظر ، وقال أبو بكر الباقلاني والإمام الرازي : أول واجب القصد إلى النظر.

(٣) وأما القول بأن أول واجب عدم المعرفة لتوقف النظر على عدمها فلا يصح ، لأن عدم المعرفة جهل بسيط ، يحصل قبل القدرة والإرادة المسبوقين بالعلم المسبوق بنفيه.

(٤) القائل أبو هاشم الجبائي أحد زعماء المعتزلة.

٢٧١

وقال القاضي والإمام : هو القصد إلى النظر لتوقف النظر عليه (١) ، والحق أنه إن أريد أول الواجبات المقصودة بالذات فهو المعرفة ، وإن أريد الأعم فهو القصد إلى النظر ، لكن مبناه على وجوب مقدمة الواجب المطلق ، وقد عرفت ما فيه ، فلذا قال في المتن ، وإلا فالثاني ، أي النظر أو القصد إليه. لا يقال النظر مشروط بعدم المعرفة ، بمعنى الجهل البسيط بالمطلوب، فينبغي أن يكون أول الواجبات ، لأنا نقول هو ليس بمقدور بل حاصل قبل القدرة والإرادة ، ولو سلم فوجوب النظر مقيد به ، لامتناع تحصيل الحاصل فلا يكون مقدمة للواجب المطلق واستدامته ، وإن كانت مقدورة بأن ترك مباشرة أسباب حصول المعرفة لكنها ليست بمقدمة. وقال أبو هاشم أول الواجبات هو الشك (٢) لتوقف القصد إلى النظر عليه(٣) إذ لا بدّ من فهم الطرفين والنسبة مع عدم اعتقاد المطلوب أو نقيضه على ما سبق ورد بوجهين.

أحدهما : أن الشك ليس بمقدور لكونه من الكيفيات كالعلم وإنما المقدور تحصيله أو استدامته ، بأن يحصل تصور الطرفين ويترك النظر في النسبة ولا شيء منهما بمقدمة ، واعتراض المواقف (٤) بأنه لو لم يكن مقدورا لم يكن العلم مقدورا لأنه ضده ، ونسبة القدرة إلى الضدين على السواء ساقط ، بما اعترف به من أن العلم ليس بمقدور ، وإنما المقدور تحصيله بمباشرة الأسباب.

وثانيهما : أن وجوب النظر والمعرفة مقيد بالشك ، لما سبق من أنه لا إمكان للنظر بدونه فضلا عن الوجوب ، فهو لا يكون مقدمة للواجب المطلق ، بل

__________________

(١) كالعلم والجهل والقدرة والإرادة والبياض والسواد وشبه ذلك ، وذلك أن القدرة إنما تتعلق بالأفعال الكسبيات لحركات والسكنات لا بالكيفيات.

(٢) قال أبو هاشم : الشك في الله حسن. وهذا خروج منه عن قول الأمة ، وتوصل منه إلى هدم أصله.

راجع (الشامل في أصول الدين للإمام الجويني ص ١٢١).

(٣) يرد على أبي هاشم أن العقل لا يحكم بحسن طلب الشك ولا يجمل بالعاقل أن يكون مطلوبه الشك ، وهذا أمر ضروري فكيف ينتحل كون الشيء أول واجب عقلا.

(٤) يقصد صاحب المواقف (راجع الاعتراض في كتاب المواقف ج ١ ص ١٩٢).

٢٧٢

للمقيد به ، كالنصاب للزكاة ، والاستطاعة للحج ، فلا يجب تحصيله ، ولما كان (١) إيجاب المعرفة هو إيجاب النظر. قال في المواقف : إن وجوب المعرفة مقيد بالشك ، وإلا فالقول بوجوب الشك إنما يبنى (٢) على كونه مقدمة للنظر ، لا للمعرفة وكلا الوجهين ضعيف.

أما الأول : فلأنهم لا يعنون بمقدورية مقدمة الواجب أن يكون من الأفعال الاختيارية، بل أن يتمكن المكلف من تحصيله كالطهارة للصلاة وملك النصاب للزكاة ، ومعنى وجوبها ، وجوب تحصيلها.

وأما الثاني : فلأنه يقتضي أن لا يجب النظر والمعرفة عند الوهم ، أو الظن ، أو التقليد أو الجهل المركب ، وفساده بيّن ، ويمكن دفع الوهم ، والظن ، بأن الشك يتناولهما لأن معناه التردد في النسبة ، (٣) إما على استواء وهو الشك المحض أو رجحان لأحد الجانبين وهو الظن والوهم ، ودفع التقليد ، والجهل المركب بأن الواجب معها هو النظر في الدليل ، ومعرفة وجه دلالته ليئولا إلى العلم ، وذلك لأن امتناع النظر والطلب عند الجزم بالمطلوب أو نقيضه مما لم يقع فيه نزاع ، وقد يقال في رد الشك المحض (٤) أنه وإن كان مقدمة للنظر الواجب فليس من أسبابه ليكون إيجابه إيجابا له بمعنى تعلق خطاب الشارع به وفيه نظر ، لأن مراد أبي هاشم هو الوجوب العقلي كالنظر والمعرفة. نعم لو قيل : إنه ليس من المعاني التي يطلبها العاقل ، ويحكم باستحقاق تاركه الذم لكان شيئا.

وستعرف فساد النظر بمعرفة معنى الوجوب العقلي. (٥)

__________________

(١) في (ب) وإن إيجاب المعرفة.

(٢) في (ب) يتبين بدلا من (يبني).

(٣) سقط من (ب) لفظ (إما).

(٤) سقط من (ب) لفظ (المحض).

(٥) ما بين القوسين زيادة في (أ).

٢٧٣

المبحث السادس

في انقسامه إلى التصور والتصديق

(قال : المبحث السادس : كمال النظر تحصيل طريق ، يوصل (١) بالذات إلى مطلوب ، إما تصوري وهو المعروف ، حدا (٢) ورسما تاما وناقصا ، إذ لا بد من مميز ذاتي أو عرضي مع الجنس القريب ، أو بدونه وإما تصديقي وهو الدليل ، إما قياسا استثنائيا متصلا أو منفصلا ، أو اقترانيا حمليا وشرطيا وإما استفزازا تاما وناقصا ، وإما تمثيلا قطعيا أو ظنيا ، إذ لا بدّ من اندراج المطلوب تحت الدليل أو بالعكس ، أولهما تحت ثالث).

قد سبقت إشارة إلى أن الحركة الأولى : من النظر تحصيل مادة مركب يوصل إلى المطلوب ، والثانية : صورته ، والمطلوب إما تصور أو تصديق فالموصل إلى التصور ويسمى المعرف إما حد أو رسم ، وكل منهما إما تام أو ناقص ، لأن التمييز أمر لا بدّ منه في التعريف ، لامتناع المعرفة بدون التمييز عند العقل ، فالمميز إن كان ذاتيا للماهية يسمى المعرف حدا لأنه في اللغة المنع ،

__________________

(١) أي توصل بذاتها من غير حاجة إلى ضم مقدمة أجنبية كما في قياس المساواة ، فإن تلك الحاجة تنفي كمال النظر.

(٢) ينقسم الحد إلى تام وناقص : فالتام هو ما يتركب من الجنس والفصل القريبين. كتعريف الإنسان بالحيوان الناطق.

والناقص : هو ما يكون بالفصل القريب وحده ، أو به وبالجنس البعيد كتعريف الإنسان بالجسم الناطق. ومن شرط الحد التام أن يكون جامعا مانعا أي يجمع الحدود ، ويمنع غيره من الدخول فيه ، ومن شرطه أيضا أن يكون مطردا ومنعكسا. ومعنى الاطراد : أنه متى وجد الحد عدم المحدود ، ولو لم يكن مطردا لما كان مانعا ، ولو لم يكن منعكسا لما كان جامعا.

٢٧٤

ولا بد في المعرف من منع خروج شيء من الأفراد ، ودخول شيء فيه مما سواها ، فما كان ذلك فيه باعتبار الذات ، والحقيقة كان أولى بهذا الاسم ، وإن كان عرضيا لها سمي المعرف رسما لكونه بمنزلة الأثر يستدل به على الطريق ، ثم إن (١) المميز إن كان مع كمال الجزء المشترك أعني ما يقع جواب السؤال بما هو عن الماهية وعن كل ما يشاركها وهو المسمى بالجنس القريب (٢) فالمعرف تام ، أما الحد فلاشتماله على جميع الذاتيات وأما الرسم فلاشتماله على كمال الذاتي المشترك ، وكمال العرضي المميز ، وإلا فناقص ، فالحد التام واحد ليس إلا ، وهو الجنس القريب مع الفصل القريب ويشترط تقديم الجنس حتى لو أخر لكان الحد ناقصا ، ومبنى هذا الكلام على أنه لا اعتبار بالعرض العام لأنه لا يفيد الامتياز ، ولا الاطلاع على أجزاء الماهية ، ولا بالخاصة مع الفصل القريب ، وإلا يلزم أن يكون المركب من الفصل القريب مع العرض العام أو مع الخاصة حدا ناقصا ، وليس كذلك في اصطلاح الجمهور ، حيث خصوا اسم الحد بما يكون من محض الذاتيات وقد يصطلح على تسمية كل معرف حدا حتى اللفظي منه ، أعني بيان مدلول اللفظ بلفظ آخر أوضح دلالة ، وكثير من المتقدمين على أن الرسم التام ما يفيد امتياز الماهية عن جميع ما عداها ، والناقص ما يفيد الامتياز عن البعض فقط ، إلا أنه استقر رأي المتأخرين على اشتراط كون المعرف مساويا أي مطردا ، ومنعكسا ، حتى لا يجوز التعريف بالأعم محافظة على الضبط ، والموصل إلى التصديق ويسمى الدليل لما فيه من الإرشاد إلى المطلوب ، والحجة لما في التمسك به من الغلبة على الخصم ، إما قياس ، وإما استقراء ، وإما تمثيل ، إذ لا بد من مناسبة بين الحجة والمطلوب ليمكن استفادته

__________________

(١) زيد في (أ) لفظ (إن).

(٢) الجنس في اللغة : الضرب من كل شيء ، وهو أعم من النوع قال ابن سينا : الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالأنواع أي بالصور ، والحقائق الذاتية ، وهذا يخرج النوع. والخاصة ، والفصل القريب.

والجنس إما قريب وإما بعيد. فإن كان الجواب عن الماهية وعن كل ما يشاركها في ذلك الجنس واحدا فهو قريب. كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان ، فإنه جواب عن الإنسان وعن كل ما يشاركه في الحيوانية.

٢٧٥

منها ، وتلك المناسبة إما أن تكون باشتمال أحدهما على الآخر أو لا وعلى الأول فإن اشتملت الحجة على المطلوب فهي القياس ، إذ النتيجة مندرجة في مقدمتيه ، وإن اشتمل المطلوب على الحجة فهي الاستقراء ، إذ المطلوب حكم كلي يثبت بتحقق الحكم على الجزئيات المندرجة تحته ، وعلى الثاني لا بد أن يكون هناك أمر ثالث يشتمل عليهما ، أو يندرجان فيه ، ليستفاد العلم بأحدهما من الآخر وهو التمثيل (١) ، فإن حكم الفرع وهو المطلوب يستفاد من حكم الأصل وهو الحجة ، لاندراجهما تحت الجامع الذي هو العلة ، وهذا ما قال الإمام : إنا إذا استدللنا بشيء على شيء فإن لم يدخل أحدهما تحت الآخر فهو التمثيل ، وإن دخل (٢) فإما أن يستدل بالكلي على الجزئي وهو القياس ، أو بالعكس وهو الاستقراء ، وذكر في بعض كتبه بدل الكلي والجزئي الأعم والأخص ، تصريحا بأن المراد الجزئي الإضافي لا الحقيقي ، وتنبيها على أن التفسير الجزئي الإضافي بالمندرج تحت الغير مساو لتفسيره (٣) بالأخص تحت الأعم لا أعم منه. على ما سبق إلى بعض الأوهام ، من أن معنى اندراجه تحت الغير مجرد صدق الغير عليه كليا ، وذلك لأن لفظ الاندراج منبئ عن كون الغير شاملا له ولغيره ، ولم يعرف من اصطلاح القوم أن كلا من المتساويين جزئي إضافي للآخر ، فلهذا قال صاحب الطوالع (٤) : إن استدل بالكلي على الجزئي

__________________

(١) التمثيل : هو التصوير والتشبيه ، والفرق بينهما أن كل تمثيل تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلا.

وقياس التمثيل : هو الحكم على شيء معين لوجود ذلك الحكم في شيء آخر معين ، أو أشياء أخرى معينة. على أن ذلك الحكم على المعنى المتشابه فيه.

(راجع النجاة ص ٩ لابن سينا).

والفرق بين قياس التمثيل والاستقراء أن قياس التمثيل ينقل الحكم من علاقة معلومة إلى علاقة مشابهة لها من جهة ومختلفة عنها من جهة أخرى. على حين أن الاستقراء ينقل الحكم من المثل إلى المثل.

(٢) سقط من (ب) لفظ (فإما).

(٣) في (ب) لتفسير الأخص تحت الأعم.

(٤) الكتاب يسمى (طوالع الأنوار) ومؤلفه : القاضي عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة ٦٨٥ أوله : الحمد لمن وجب وجوده الخ هو متن متين اعتنى العلماء في شأنه ، فصنف عليه أبو الثناء شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني شرحا نافعا توفي سنة ٧٤٩ ه‍ وهو مشهور متداول بين الطالبين.

(راجع كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ج ٢ ص ١١٦)

٢٧٦

أو بأحد المتساويين على الآخر فهو القياس ، ليتناول ما إذا كان الأوسط مساو للأصغر كقولنا : كل إنسان ناطق ، وكل ناطق حيوان.

والجواب : بأن الناطق معناه شيء ماله النطق ، وهو بحسب هذا المفهوم أعم من الإنسان لا يجدي نفعا ، إذ لا يتأتى في مثل قولنا : كل ناطق إنسان وكل إنسان حيوان والأحسن أن يقال مرجع القياس إلى استفادة الحكم على ذات الأصغر من ملاحظة مفهوم الأوسط ، وهذا أعم قطعا ، وإن كان مفهوم الأصغر مساويا له كما في المثالين المذكورين ، بل وإن كان أعم منه كما في قولنا : بعض الحيوان إنسان وكل إنسان ناطق ـ وقولنا : بعض الحيوان إنسان ، ولا شيء من الفرس بإنسان ، وقولنا : كل إنسان حيوان ، وكل إنسان ناطق ، وعلى هذا الحال الاقترانيات الشرطية ، حيث يستدل بعموم الأوضاع والتقادير على بعضها ، وأما في القياس الاستثنائي فلا يتضح (١) ذلك إلا أن يرجع إلى الشكل الأول ، فيقال : مضمون التالي أمر تحقق ملزومه ، وكل ما تحقق ملزومه فهو متحقق. أو مضمون المقدم أمر انتفى لازمه ، وكل ما انتفى لازمه فهو منتف ، والفقهاء يجعلون القياس اسما للتمثيل لما فيه من تسوية الجزءين في الحكم ، لتساويهما في العلة ، وأما على اصطلاح المنطق فوجهه أن فيه جعل النتيجة المجهولة مساوية للمقدمتين في المعلومية ، ثم القياس إن اشتمل على النتيجة أو نقيضها بالفعل بأن يكون ذلك مذكورا فيه بمادته وصورته ، وإن لم تبق قضية بواسطة أداة الشرط على ما صرح به بعض أئمة العربية من أن الكلام قد يخرج عن التمام وعن احتمال الصدق والكذب بسبب زيادة فيه ، مثل طرفي الشرطية ، كما يخرج عن ذلك النقصان فيه ، مثل قولنا زيد عالم بحذف الرابطة (٢). والإعراب سمي استثنائيا لما فيه من استثناء وضع أحد جزأي الشرطية أو رفعه ، وإلا سمي اقترانيا لما فيه من اقتران الحدود بعضها بالبعض ، أعني الأصغر والأكبر والأوسط ، والاستثنائي متصل إن كانت الشرطية المذكورة فيه متصلة ، ومنفصل إن كانت

__________________

(١) في (ب) فلا يصح ذلك.

(٢) في (أ) الربط بدلا من (الرابطة).

٢٧٧

منفصلة ، والاقتراني (١) حملي إن كان تألفه من الجمليات الصرفة ، وشرطي إن اشتمل على شرطية ، وأما الاستقراء ، وهو تصفح جزئيات كل واحد (٢) ليثبت حكمها في ذلك الكلي على سبيل العموم (٣) فتام ، إن علم انحصار الجزئيات وثبوت الحكم في كل منها ، وهذا نوع من القياس الاقتراني الشرطي يسمى القياس المقسم ، وإلا فناقص ، وهو المفهوم من إطلاق الاسم ، وهو لا يفيد إلا الظن ، وأما التمثيل وهو بيان مساواة جزئي لآخر في علة حكمه ، لتثبت مساواتهما في الحكم فقطعي ، إن علم استقلال المشترك بالعلية ، وهذا نوع من القياس ، وذكر المثال حشو وإلا فظني ، ومطلق الاسم منصرف إليه ، وتفاصيل هذه المباحث في صناعة المنطق (٤) ، وأورد صاحب الطوالع تفاصيل الضروب المنتجة من القياس الاستثنائي المتصل والمنفصل ، ومن الأشكال الأربعة للقياس الاقتراني الحملي بعبارة في غاية الحسن ونهاية الإيجاز ، وأوردها الإمام على وجه أجمل ، إلا أنه أهمل الشكل الرابع لبعده عن الطبع ، وعبر عن الشكل الثالث بحصول وصفين في محل أي ثبوت أمرين إيجابا كان أو سلبا لأمر ثالث ، فيشمل صور سلب الكبرى كقولنا : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الإنسان بصهال. إذ قد جعل في الإنسان ثبوت الحيوانية ونفي الصهالية ، فعلم أن بعض الحيوان ليس بصهال ،

__________________

(١) القياس الاقتراني : هو القياس الحملى. وهو الذي يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولا فيه بالفعل بوجه ما بل بالقوة كقولك كل شيء مؤلف وكل مؤلف محدث.

(راجع ابن سينا. النجاة ص ٤٨).

وفي القياس الاقتراني : مقدمتان تشتركان في حد وتفترقان في حدين فتكون الحدود ثلاثة. ومن شأن المشترك فيه أن يربط بين الحدين الآخرين ويزول عن النتيجة والحدود الثلاثة في القياس المذكور آنفا هي الجسم ، والمؤلف ، والمحدث ، فالمؤلف متكرر في المقدمتين والجسم والمحدث لم يتكررا فيهما. المتكرر يسمى بالحد الأوسط والباقيان يسميان بالطرفين.

(٢) سقط من (ب) لفظ (واحد).

(٣) في (أ) بزيادة (على سبيل العموم).

(٤) الشكل المنطقي : هو الهيئة الحاصلة في القياس من نسبته الحد الأوسط إلى الحد الأصغر ، والحد الأكبر.

فإن كان الحد الأوسط موضوعا في المقدمتين كان القياس من الشكل الثالث : كقولنا : كل حكيم سعيد ، وكل حكيم حر ، فبعض الحر سعيد.

٢٧٨

وعبر عن الاستثنائي المنفصل بالتقسيم المنحصر في قسمين ، ثم رفع أيهما كان ليلزم ثبوت الآخر أو إثبات أيهما كان ، ليلزم ارتفاع الآخر ، ولما كان ظاهره مختص بالمنفصل الحقيقي غيره صاحب المواقف إلى ما هو أوجز (١) وأشمل ، وهو أن يثبت المنافاة بين الأمرين فيلزم من ثبوت أيهما كان عدم الآخر ، يعني أنه (٢) إذا ثبت المنافاة بينهما في الصدق والكذب جميعا كما في الحقيقة يلزم من ثبوت صدق كل عدم صدق الآخر ، ومن ثبوت كذب كل عدم كذب الآخر وإذا كان في الصدق فقط يلزم من ثبوت صدق كل عدم صدق الآخر ، وفي إذا كان في الكذب فقط يلزم من ثبوت كذب كل عدم وكذب الآخر.

(قال : وقد يقال الدليل لما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم كالعلم للصانع ، وكثيرا ما يختص بالجازم وتقابله الأمارة) (٣).

في اصطلاح المنطق هو المقدمات المرتبة المنتجة للمطلوب. وقد يقال للأمر الذي يمكن أن يتأمل فيه وتستنبط (٤) منه المقدمات المرتبة كالعالم للصانع ، فيفسر بما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم قطعيا كان أو ظنيا ، وذكر الإمكان لأن الدليل لا يخرج عن كونه دليلا بعدم النظر فيه ، وقيد النظر بالصحيح لأنه لا توصل بالفاسد إليه ، وذلك بأن لا يكون النظر فيه من جهة دلالته ، وأطلق الحكم ليتناول التفسير الأمارة ، وكثيرا ما يخص الدليل بما يفيد العلم ، ويسمى ما يتوصل به إلى الظن أمارة ، والاستدلال هو التوصل المذكور ، وقد يخص بما يكون من الأثر إلى (٥) المؤثر ، كالتوصل بالنظر في العالم إلى

__________________

(١) في (ب) جزء وهو تحريف.

(٢) سقط من (أ) لفظ (أنه).

(٣) الأمارة : وهي ما يؤدي النظر فيها إلى الظن كدلالة وجود الفرس بالباب على زيد في المثال والتوصل المذكر وهو الاستدلال الذي هو طلب المدلول. وقد يخص الاستدلال بما يكون من الأثر كالعالم للصانع وعكسه ، على هذا يسمى تعليلا كوجود الشمس للإشراق ، لأن المؤثر علة للأثر ، أي سبب فيه.

(٤) سقط من (أ) لفظ (منه).

(٥) في (ب) على بدلا من (إلى).

٢٧٩

الصانع ، ويسمى عكسه تعليلا كالتوصل بالنظر في النار إلى الإشراق ، أي إلى التصديق بذلك ، وما يقال إن الدليل هو الذي يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول فمعناه العلم بتحقق النسبة إيجابا كان أو سلبا ، من غير اعتبار وصف المدلولية ، حتى كأنه قيل بتحقق شيء آخر وهو المدلول ، وحينئذ لا يخرج مثل الاستدلال بنفي الحياة على نفي العلم ، ولا يلزم الدور بناء على تضايف الدليل (١) والمدلول ، وذلك لأن الدليل عندهم اسم لما يفيد التصديق دون التصور ، والعلم قسم من التصديق يقابل الظن ، وعلى هذا فمعنى العلم بالدليل إذا حملناه على مثل العالم للصانع هو العلم بما يؤخذ (٢) من النظر في وجه دلالته من المقدمات المرتبة ، مع سائر الشرائط التي من جملتها التفطن لجهة الإنتاج وكيفية الاندراج ، إذ لا يلزم العلم بالمدلول إلا حينئذ ، ولا يقال العلم بالنتيجة لازم للعلم بالمقدمات المرتبة ، إلا أنه قد يفتقر إلى وسط لكونه غير بيّن لأنا نقول لو كان كذلك لامتنع تحقق العلم الأول بدون الثاني ، كالمثلث لا يتحقق بدون تساوي زواياه القائمتين ، والموقوف على الوسط إنما هو العلم بذلك ، والحاصل أن اللازم يمتنع انفكاكه عن الملزوم بيّنا كان أو غير بيّن ، والتفرقة إنما تظهر في العلم باللزوم وبتحقق اللازم.

(قال : والدليل إن لم يتوقف على نقل أصلا فعقلي وإلا فنقلي ، سواء توقف كل من مقدماته القريبة على النقل أو لا.

وقد يخص النقل الأول ويسمى الثاني مركبا ، أما النقلي المحض فباطل إذ لا بد من ثبوت صدق المخير بالعقل ، والمطلوب إن استوى طرفاه عند العقل

__________________

(١) الدليل هو الحجة ، والبرهان : هو ما دل به على صحة الدعوى. والدليل في الفقه المرشد. وما به الإرشاد وما يستدل به. وله عند الأصوليين معنيان ، أحدهما : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ، وهو يشمل القطعي والظني ، والثاني : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه. إلى العلم بمطلوب خبري وهذا يخص بالقطعي. والمعنى الأول أعم من الثاني مطلقا.

والدليل عند الفلاسفة : هو الذي يلزم من العلم به علم بشيء آخر وغايته أن يتوصل العقل إلى التصديق اليقيني بما كان يشك في صحته. وقد يكون الدليل قياسا أو برهانا.

(٢) في (ب) يوجد بدلا من (يؤخذ).

٢٨٠