شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

كذلك يفيد العلم ، فالموقوف المجهول هو المهملة المتصلة (١) أو الكلية التي عنوانها مفهوم النظر ، والموقوف عليه المعلوم هو الشخصية (٢) التي موضوعها ذات النظر المخصوص ، وتحقيقه أن لوازم الحكم الواحد قد تختلف باختلاف التعبير عن موضوعه ، كالحكم بحدوث العالم تعبيرا عنه بالموجود بعد العدم ، أو المقارن للحادث ، أو المتغير فإن قيل لا خفاء في أنه ضروري في الشكل الأول نظري في غيره ، فكيف يصح إطلاق القول بأحدهما ..؟ قلنا : الكلام فيما إذا أخذ عنوان الموضوع ، هو النظر والتفصيل. إنما يرجع إلى الخصوصيات ، على أن المقيد ليس مجرد ترتيب المقدمتين بل مع ملاحظة جهة الانتاج وكيفية الاندراج وحينئذ تساوي الأشكال).

تقدير السؤال : أن الحكم بأن النظر يفيد العلم إما أن يكون ضروريا أو نظريا.

(وكلاهما باطل) (٣)

أما الأول : فلأنه لو كان ضروريا لما وقع فيه اختلاف العقلاء ، كسائر الضروريات ، ولكان مثل قولنا : الواحد نصف الاثنين في الوضوح من غير تفاوت. لأن التفاوت دليل الاحتمال والاشتباه ، وهو ينافي الضرورة ، وكلا اللازمين منتفى (٤) لوقوع الاختلاف ، وظهور التفاوت.

وأما الثاني : فلأنه لو كان نظريا لكان إثباته بالنظر ، وفيه دور من جهة توقفه على الدليل ، وعلى استلزامه المدلول ، وهو معنى الإفادة وتناقض من

__________________

(١) القضية الحملية : إما مهملة وإما محصورة ، فالمهملة قضية حملية موضوعها كلي. ولكن لم يبين فيه أن الحكم في كله أو في بعضه كقولنا : الإنسان أبيض.

(٢) القضية الشخصية : في المنطق : هي القضية المخصوصة التي يكون موضوعها جزئيا كقولنا : زيد كاتب. وتكون موجبة وسالبة.

(٣) سقط من (ب) ما بين القوسين.

(٤) نفاه : طرده وبابه رمى. يقال : نفاه فانتفى قال القطامي. فأصبح جاركم قتيلا (ونافيا) أي منتفيا وتقول هذا ينافي ذلك وهما «يتنافيان» والنفاية : بالضم ما نفي من الشيء لرداءته.

٢٤١

جهة كونه معلوما لكونه وسيلة ، وليس بمعلوم لكونه مطلوبا ، وهذا معنى قولهم : إثبات النظر بالنظر تناقض. فإن قيل : معنى إثبات القضية النظرية أن العلم بها يستفاد من النظريات بعلم المقدمات مرتبة فيعلم النتيجة وهذا إنما يتوقف على كون النظر مفيدا للعلم ، لا على العلم بذلك ، فالموقوف هو التصديق ، والموقوف عليه هو الصدق ، وهذا كما أن تصور الماهية مستفاد من الخاصة اللازمة بمعنى أنها تتصور فيتصور وإن لم يعلم الاختصاص واللزوم.

قلنا : مبنى الكلام على أن اللازم في القياس هو صدق النتيجة والملزوم صدق المقدمات المرتبة. وأما التصديق بالنتيجة أعني العلم ، بحقيقتها فإنما يستلزمه التصديق بالمقدمات المرتبة ، وكونها مستلزمة للمطلوب بديهة أو اكتسابا (١) على ما تقرر من أن العلم بتحقق اللازم يستفاد من العلم باللزوم ، ويتحقق الملزوم ، وهذا بخلاف التعريف بالخاصة فإن اللزوم متحقق بين التصورين ، حتى لو كان التصديق بالمقدمات مع التصديق بالنتيجة كذلك سقط السؤال. وتقرير الجواب أنا نختار أنه ضروري ولا نسلم امتناع الاختلاف والتفاوت في الضروريات ، بل قد يختلف فيها جمع من العقلاء لخفاء في تصورات الأطراف وعسر في تجريدها (٢) عن اللواحق المانعة عن ظهور الحكم ، وقد يقع فيها التفاوت لتفاوتها في ذلك وفي كثرة التفات النفس إليها ، أو يختار أنه نظري يثبت بنظر مخصوص ضروري المقدمات ابتداء وانتهاء ، من غير لزوم دور أو تناقض. بأن يقال : في قولنا العالم متغير ، وكل متغير حادث. أن هذا الترتيب المخصوص أو العلوم المرتبة نظرا إذ لا معنى له سوى ذلك ، ثم إنه يفيد بالضرورة العلم بأن العالم حادث ينتج أن نظرا ما

__________________

(١) الكسب : وإن كان في الأصل ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ. ككسب المال. فإنه قد يستعمل فيما يظن الإنسان أنه يجلب منفعة ثم يستجلب به مضرة. فالكسب يقال فيما أخذه لنفسه ولغيره والاكتساب : لا يقال إلا فيما استفاده لنفسه. وفي الحديث : إنك لتصل الرحم : وتحمل الكل. وتكسب المعدوم : أي تعطي العائل وترفده.

(٢) راجع ما كتبه إمام الحرمين في كتابه الإرشاد ص ٤ ، ٥ وما كتبه في كتابه أصول الدين ص ١٠١ : ١٠٥.

٢٤٢

يفيد العلم على ما ادعاه الإمام ، وإن شئنا إثبات القاعدة الكلية على ما ادعاه الآمدي. قلنا : معلوم بالضرورة أن هذه الإفادة ليست لخصوصية هذه المادة ، بل لصحة النظر المخصوص مادة وصورة وكونه على شرائطه فكل نظر يكون كذلك يفيد العلم وهو المطلوب.

وهذا ما قال إمام الحرمين : إنه لا يعد في إثبات جميع أنواع النظر بنوع منها يثبت نفسه وغيره ، إلا أنه لما اعترف بإثبات الشيء بنفسه اعترض الإمام الرازي بأن فيه تناقضا وتقدما للشيء على نفسه. وجوابه أن نفس الشيء بحسب الذات قد تغايره بحسب الاعتبار ، فتخالفه في الأحكام كهذا الذي أثبتنا به كون كل نظر مفيدا للحكم ، فإنه من حيث ذاته وسيلة ومتقدم ومعلوم ، ومن حيث كونه من أفراد النظر مطلوب ومتأخر ومجهول ـ وتفصيله أن الموقوف المجهول المطلوب بالنظر هو القضية الموجبة المهملة أو الموجبة الكلية ، التي عنوان موضوعها مفهوم النظر ، أعني قولنا النظر يفيد العلم ، أو كل نظر مقرون بشرائطه يفيد العلم ، والموقوف عليه المعلوم بديهة هو القضية الشخصية ، التي موضوعها ذات النظر المخصوص ، أعني قولنا : العالم متغير ، وكل متغير حادث ، يفيد العلم بأن العالم حادث من غير اعتبار كون هذا الموضوع من أفراد النظر فلا يكون الشيء الواحد بالذات والاعتبار متقدما على نفسه ، ومعلوما حين ما ليس بمعلوم ، ليلزم الدور والتناقض.

وأصل الباب أن الحكم بالشيء على الشيء قد تختلف لوازمه من الاستغناء عن الدليل أو الافتقار إليه أو إلى التنبيه أو إلى الإحساس أو غير ذلك باختلاف التعبير عن المحكوم عليه مثلا ، إذا حاولنا الحكم على العالم بالحدوث ، فربما يقع التعبير عنه بما يجعل الحكم غير مفيد أصلا.

كقولنا : كل موجود بعد العدم حادث ، أو مفيدا بديهيا.

كقولنا : كل ما يقارن تعلق القدرة والإرادة الحادثة فهو حادث ، أو مفيدا كسبيا.

كقولنا : كل متغير فهو حادث ، وبهذا ينحل ما يورد على الشكل الأول من

٢٤٣

أن العلم بالنتيجة لما توقف على العلم بالكبرى الكلية التي من جملة أفراد موضوعها. موضوع النتيجة لزم توقف النتيجة على نفسها وكونها قبل أن تعلم وهو تناقض ، وذلك لأن معلومية الحكم كحدوث العالم من جهة كون المحكوم عليه من أفراد الأوسط كالمتغير لا يناقض مجهوليته من جهة كونه من أفراد الأصغر ، أعني العالم فإن قيل لا خفاء في أن كون النظر مفيدا للعلم ضروري في الشكل الأول ، نظري في باقي الأشكال. فكيف يصح اختيار أنه ضروري مطلقا على ما ذهب إليه الرازي (١) أو نظري مطلقا على ما ذهب إليه إمام الحرمين ..؟ قلنا : ـ الكلام فيما إذا أخذ عنوان الموضوع (٢) هو النظر ، فيقال : النظر أو كل نظر على شرائطه يفيد العلم ، وما ذكر من التفصيل قطعا إنما هو في الخصوصيات مثل قولنا : العالم متغير ، مع قولنا وكل متغير حادث ، أو ولا شيء من القديم بمتغير فإن العلم بإفادة الأول ضروري ، والثاني نظري ، على أن هذا التفصيل إنما هو بالنظر إلى مجرد ترتيب المقدمتين ووضع الحد الأوسط عن الحدين الآخرين ، وأما بعد حصول جميع الشرائط فالحكم بإفادة كل من خصوصيات النظر العلم ضروري (٣) في جميع الأشكال ، على ما يراه بعض المحققين من أن من جملة (٤) الشرائط ملاحظة جهة دلالة المقدمتين على المطلوب ، وكيفية اندراجه فيهما بالقوة ، حتى قال الإمام حجة الإسلام : إن هذا هو السبب الخاص لحصول النتيجة بالفعل ، وبدونه ربما يذهل عن النتيجة ، مع حضور المقدمتين ، كما إذا رأى بغلة منتفخة البطن فتوهم أنها حامل مع ملاحظة أنها بغلة عاقر ، وكل بغلة (٥) ولا خفاء في أن مع ملاحظة جهة الإنتاج والتفطن لكيفية الاندراج يتساوى الاشكال (٦) في الجلاء حتى ذهب بعض أهل التحقيق

__________________

(١) في (ب) الموضوع.

(٢) راجع ما كتبه الإمام الرازي في كتابه (أصول الدين) المسألة الرابعة : حيث قال : لأن من حضر في عقله أن هذا العالم متغير. وحضر أيضا أن كل متغير ممكن فمجموع هذين العلمين يفيد العلم بأن العالم ممكن ، ولا معنى لقولنا النظر يفيد العلم إلا هذا إلخ ص ٢١.

(٣) في (ب) الضروري بزيادة (ال).

(٤) سقط من (أ) (جملة).

(٥) في (ب) بزيادة وكل بغلة (عاقر).

(٦) سقط من (ب) لفظ (الأشكال).

٢٤٤

إلى أن الكل حينئذ يرجع إلى الشكل الأول (١) بحسب التعقل وإن لم يتمكن من تلخيص العبارة فيه ، وتمام تحقيقه في شرح الأصول لصاحب المواقف ، ثم كلام القوم هو أن العلم يكون التفطن للاندراج شرطا للإنتاج ضروري ، وحديث البغلة تنبيه عليه ، ومنع الإمام على ما قال ان ذلك إنما يكون عند حصول إحدى المقدمتين فقط. وأما عند اجتماعهما فلا نسلم إن كان الشك في النتيجة مكابرة ، واستدلاله على بطلان ذلك بأن الاندراج لو كان معلوما مغايرا للمقدمتين لكانت مقدمة أخرى مشروطة في الإنتاج فينقل الكلام إلى كيفية التئامها مع الأوليين ، ويفضي إلى اعتبار ما لا نهاية لها (٢) من المقدمات ضعيف ، لأن ذلك ملاحظة لكيفية نسبة المقدمتين إلى النتيجة ، لا قضية هي جزء القياس (٣) ليكون مقدمة ، على أنه لو سمى مقدمة أو جعل عبارة عن التصديق يكون الأصغر بعض جزئيات الأوسط التي حكم على جميعها بالأكبر ، فليس بلازم أن يكون له مع المقدمتين هيئة واندراج شرط العلم بها لتحصل مقدمة رابعة وهلم جرا. فإن قيل : لا نزاع في أنه لا يكفي حضور المقدمتين كيف اتفق بل لا بد من ترتيبهما على هيئة مخصوصة ، هي الجزء الصوري بحيث يكون على ضرب من الضروب المنتجة ، وأنه لا بد مع ذلك في غير الشكل الأول من بيان اللزوم بالخلف أو بالعكس أو نحوهما ، حتى لو استحضرت المقدمتان في حديث البغلة على هيئة الشكل الرابع (٤) لم يمتنع الشك ، ما لم يعكس الترتيب مثلا (٥) فما المتنازع في هذا المقام ...؟

__________________

(١) الشكل المنطقي : هو الهيئة الحاصلة في القياس من نسبة الحد الأوسط إلى الحد الأصغر والحد الأكبر. فإن كان الحد الأوسط موضوعا في الكبرى ومحمولا في الصغرى كان القياس من الشكل الأول كقولنا : كل إنسان فان ، وسقراط إنسان ، فسقراط فان.

(٢) في (ب) له بدلا من (لها).

(٣) في (أ) جزء قياس بدون (ال).

(٤) قلنا سابقا : الشكل المنطقي هو الهيئة الحاصلة في القياس من نسبة الحد الأوسط إلى الحد الأصغر ، والحد الأكبر. فإن كان الحد الأوسط محمولا في الكبرى. موضوعا في الصغرى كان القياس من الشكل الرابع كقولنا. كل عادل كريم. وليس ولا واحد من الكرماء بسفيه. فليس ولا واحد من السفهاء بعادل.

(٥) سقط من (أ) كلمة (مثلا).

٢٤٥

قلنا : ـ هو أن حصول العلم بالنتيجة بعد تمام القياس مادة وصورة بمعنى حضور المقدمتين على هيئة مخصوصة منتجة مشروطة (١) بملاحظة تلك الهيئة فيما بين المقدمتين ، ونسبة النتيجة إليهما ، وكيفية اندراجها فيهما بالقوة ، ويكون ذلك في الشكل الأول بمجرد الالتفات ، وفي البواقي بالاكتساب ويرجع الكل إلى بيان إثبات أو نفي هو الواسطة ملزوم الإثبات (٢) أو نفي هو المطلوب على ما هو حقيقة الشكل الأول ، ويكون طرق البيان لتحصيل هذا الشرط ، ومن هاهنا استدل بعض المتأخرين على هذا الاشتراط بتفاوت لأشكال في الإنتاج ، وضوحا وخفاء ، إلا إنه لم يجزم بذلك لأن كون طرق البيان لتحصيل هذا الشرط ليس بقطعي ، لجواز أن تكون هي نفسها شرائط العلم بلزوم النتائج التي هي لوازم الأشكال بعلم لزوم ، بعضها بلا واسطة (٣) وبعضها بوسط خفي أو أخفى ، وقد (٤) يقرر الاستدلال بأن المقدمتين المعينتين قد يتخذ منهما شكل بين الإنتاج كقولنا ، العالم متغير وكل متغير حادث ، وآخر غير بين ، كقولنا : كل متغير حادث والعالم متغير ، فلو لم يكن للهيئة مدخل في لزوم النتيجة لما كان كذلك لاتحاد المادة.

ويجاب بأن اللازم متعدد وهو العالم حادث ، وبعض الحادث هو العالم ، فيجوز أن يكون لزوم أحدهما أوضح مع اتحاد الملزوم ، لو أخذ اللازم واحدا وهو قولنا : العالم حادث ، فاستنتاجه من شكل آخر لا يتصور إلا بتغير إحدى المقدمتين أو كلتيهما ، كقولنا : بعض المتغير هو العالم وكل متغير حادث من الثالث ، أو كل حادث متغير من الرابع ، إذا صدق العكس كليا وحينئذ يتعدد المادة ولا يمتنع أن يكون اللزوم للبعض أوضح (٥) وأنت بعد تحرير محل النزاع خبير بحال هذا التقرير ، لا يقال الاستدلال بتفاوت الأشكال

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (مشروطة).

(٢) في (ب) ملزوم إثبات بدون (لا).

(٣) سقط من (أ) كلمة (واسطة).

(٤) في ب سقط لفظ (قد).

(٥) سقط من «أ» لفظ (أوضح).

٢٤٦

يفيد القطع بهذا الاشتراط ، لأن القياس المقرون بالشرائط ملزوم للنتيجة قطعا ، واللازم يمتنع انفكاكه عن الملزوم ، فلو لم يكن التفطن لكيفية الاندراج شرطا متفاوت الحصول بأن يحصل في البعض بمجرد الالتفات وفي البعض بوسط خفي أو أخفى ، لزوم استواء جميع الضروب المنتجة (١) في حصول النتيجة عند حصولها ضرورة امتناع انفكاك اللازم عن الملزوم المستجمع لشرائط اللزوم ، لأنا نقول : فرق بين لزوم الشيء والعلم بلزومه فالضروب والأشكال متساوية في لزوم النتائج إياها ، بمعنى حقيتها في نفس الأمر على تقدير حقيتها ، وإنما التفاوت في العلم بذلك ، وشروطه متفاوتة الحصول كالالتفات أو الاكتساب بخفي أو أخفى ، وإن لم يكن التفطن لكيفية الاندراج من جملتها.

(قال : احتج المخالف بوجوه الأول : العلم بكون ما يحصل عقيب النظر علما إن كان ضروريا لم يظهر خلافه وإن كان نظريا تسلسل ، قلنا : ظهور الخلاف بعد النظر الصحيح ممنوع ، وكذا توقف العلم بأنه علم على نظر آخر ، بل يحصل به نفسه كالعلم بأنه لا معارض. الثاني : إفادته العلم تنافي اشتراط عدم العلم قلنا : ممنوع ، فإن المراد أنه يستقعبه. الثالث : لو أفاده البتة لقبح التكلف بالعلم).

قلنا : التكليف بتحصيله وهو مقدور ـ والرابع : أقرب الأشياء إلى الإنسان هويته ، وقد كثر فيها الخلاف كثرة لا تنضبط ، فكيف فيما هو أبعد ..؟ قلنا : لا يدل على الامتناع بل على العسر ولا نزاع فيه. الخامس : شرط التصديق وهو

__________________

(١) الضروب المنتجة : الضرب المنطقي : أحد الأعمال الفكرية المطبقة في الحدود والقضايا والنسب المنطقية.

فحاصل الضرب المنطقي لحدين مثل (س) و (ع) هو مجموع الأول والمنسوبين إلى النوعين (س) و (ع) ويعبرهن هذا الضرب بالصيغة (س* ع) ، أو بالصيغة (س ـ ع).

وحاصل الضرب المنطقي لقضيتين هو القضية المساوية لهما. وحاصل الضرب المنطقي لنسبتين هو القضية المصرح فيها بأن هاتين النسبتين صادقتان معا على الحدين. والضرب : هو اختلاف القضايا في كل شكل من أشكال القياس بالكم والكيف مثل قولنا في الضرب الأول من الشكل الأول : كل جسم مؤلف ، وكل مؤلف حادث. فكل جسم حادث فهو قياس مؤلف من كليتين موجبتين تنتجان كلية موجبة والمنتج من ضروب القياس ١٩ ضربا منها أربعة ضروب من الشكل الأول ، وأربعة من الشكل الثاني. وستة ضروب من الشكل الثالث. وخمسة ضروب من الشكل الرابع.

٢٤٧

التصور منتف في الحقائق الإلهية ـ قلنا ممنوع. السادس : لو صح الاستدلال على الصانع (١) بدليل فموجبه ؛ إما ثبوت الصانع فيلزم انتفاؤه على تقدير انتفائه ، وإما العلم به فلا يكون دليلا عند عدم النظر فيه ، قلنا : لا نعني بإفادته ودلالته إلا كونه بحيث متى وجد ، وجد المدلول ، ومتى نظر فيه علم المدلول فلا يلزم من انتفائه انتفاؤه ، ولا من عدم النظر فيه انتفاء الحيثية ، وأورد على الكل أن العلم بأن النظر لا يفيد العلم إن كان نظريا استفيد منها فيناقض ، وإن كان ضروريا نبه عليه لم يقع فيه خلاف أكثر العقلاء.

فإن قيل : عارضنا الفاسد بالفاسد قلنا : إن أفادت الفساد ثبت المطلوب وإلا لغت.

وإنما لم نورد الشبهة السابقة في ضمن الوجوه لأنها لنفي أن يكون التصديق الحاصل عقيب النظر علما : مطلقا أو في الطبيعيات والإلهيات : أو في الإلهيات خاصة على ما ذكره الإمام من أنه لا نزاع في إفادة النظر الظن وإنما النزاع في إفادته اليقين الكامل ، وينبغي ألا تكون العدديات محل الخلاف ، والشبهة السابقة تنفي كون النظر مفيدا للتصديق مطلقا.

الوجه الأول : أن العلم بان الاعتقاد الحاصل عقيب النظر علم إن كان ضروريا لم يظهر ، أي لم يقع عقيب النظر خلاف ذلك ، أو لم يظهر بعد هذا خلاف ذلك ، لامتناع أن يقع أو يظهر خلاف الضروري ، واللازم باطل ، لأن كثيرا من الناس لا يحصل عقيب نظرهم إلا الجهل ، وكثيرا ما ينكشف للناظر خلاف ما حصل من نظره ويظهر خطؤه ، ولذلك تنتقل المذاهب ، وإن كان نظريا افتقر إلى نظر آخر يفيد العلم بأنه علم ويتسلسل. ورد بأنا نختار أنه ضروري ، ولا نسلم ظهور الخلاف من هذا النظر أو بعده إذ الكلام في النظر الصحيح ، ولازم الحق حق قطعا ، أو نختار أنه نظري ولا نسلم افتقاره إلى نظر آخر ، فإن النظر الصحيح

__________________

(١) أصل هذا اللفظ في اليونانية. وهو مركب من (ديميوس) الجمهور (وارغون) والعمل. غ ومعناه : العامل في سبيل الجمهور. أو الصانع الذي يمارس مهنة يدوية. وقد أطلق (أفلاطون) هذا اللفظ في كتاب (طيماوس) على صانع العالم ، أي على الله. وفرق بين الصانع الأعلى أي الإله الذي خلق نفس العالم. وبين الثواني التي خلقها بنفسه وفوض إليها خلق الموجودات الفانية.

قال أفلاطون : هناك أشياء لا ينبغي للإنسان أن يجهلها. منها أن له صانعا ، وأن صانعه يعلم أفعاله.

٢٤٨

كما أفاد العلم بالنتيجة. أفاد العلم بأن ذلك علم لا جهل أو ظن ، وكذا حال (١) العلم بعدم المعارض إذ لا يتصور المعارض للنظر الصحيح في القطعيات ، وبهذا تندفع شبهة أخرى وهي أن النظر لو أفاد العلم فلا بد أن يكون مع العلم بعدم المعارض إذ لا جزم مع المعارض. ثم إنه ليس بضروري ، إذ كثيرا ما يظهر المعارض بل نظري (٢) فيفتقر إلى نظر آخر موقوف على عدم المعارض ويتسلسل فقوله : كالعلم بأنه لا معارض معناه أنه يجوز أن يكون ضروريا ، ولا نسلم ظهور المعارض بعد النظر الصحيح ، وأن يكون نظريا ، ولا نسلم توقفه على نظر آخر. وهاهنا بحث نطلعك عليه في آخر المقصد. وفي تقرير الطوالع هاهنا قصور. حيث قال : ـ العلم الحاصل عقيب النظر إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، وكلاهما محال (٣) كأنه على حذف المضاف ، أي علمية العلم الحاصل أعني كونه علما ولهذا صح منه اختبار أنه ضروري ، وإلا فالحاصل بالنظر لا يكون ضروريا إلا بمعنى أنا نضطر إلى الجزم به للجزم بالمقدمات ، لكنه بهذا المعنى لا يقابل النظرى.

الثاني : أن النظر مشروط بعدم العلم بالمطلوب ، لئلا يلزم طلب الحاصل فلو كان مفيدا للعلم أي مستلزما له عقلا أو عادة لما كان مشروطا بعدمه ضرورة (٤) امتناع كون الملزوم مشروطا بعدم اللازم ورد بأن معنى الاستلزام هاهنا الاستعقاب عقلا أو عادة ، بمعنى أنه يلزم حصول العلم بالمطلوب عند تمام النظر ، فالملزوم للعلم انتهاؤه ، والمشروط بعدم العلم بقاؤه (٥).

الثالث : لو أفاد النظر العلم بمعنى لزومه عقيبه عقلا أو عادة لقبح التكليف بالعلم ، لكونه بمنزلة الضروري في الخروج عن القدرة والاختيار وعن استحقاق الثواب والعقاب ، وأجيب بعد تسليم قاعدة القبح العقلي بأن التكليف إنما يكون بالأفعال دون الكيفيات ، والإضافات ، والانفعالات والعلم عند المحققين من الكيفيات دون الأفعال ، فالتكليف لا يكون إلا بتحصيله ، وذلك بمباشرة الأسباب كصرف القوة والنظر واستعمال الحواس ، فكان(٦) هذا مراد الآمدي بما

__________________

(١) في (ب) وكذا أفاد العلم.

(٢) في (ب) بلا نظر.

(٣) في (ب) وكأنه بزيادة (الواو).

(٤) في (ب) بعدمه لامتناع كون الملزوم ، بحذف (ضرورة).

(٥) في (ب) والمشروط بعد العلم بقاؤه.

(٦) في (أ) بل كان هذا مراد إلخ.

٢٤٩

قال : إن التكليف لم يقع بالمنظور فيه ليصح (١) بل بالنظر وهو مقدور ، وإلا فلا خفاء في وقوع التكليف بمعرفة الصانع ووحدانيته ونحو ذلك ، وبالجملة ، فالعلم النظري مقدور التحصيل والترك ، بخلاف الضروري ولزومه بعد تمام النظر لا ينافي ذلك. ومن هاهنا أمكن في القضية النظرية اعتقاد النقيض بخلاف القضية البديهية (٢).

الرابع : إن أقرب الأشياء إلى الإنسان اتصالا ومناسبة هويته (٣) التي يشير إليها بقوله: أنا. وقد كثر فيها الخلاف ، ولم يحصل من النظر الجزم بأنها هذا الهيكل المحسوس (٤) أو أجزاء لطيفة ساريه فيه ، أو جزء لا يتجزأ في القلب ، أو جوهر مجرد متعلق به (٥) أو غير ذلك (٦) فكيف فيما هو ابعد كالسماوات والعناصر وعجائب المركبات ، وأبعد كالمجردات والإلهيات ومباحث الذات والصفات؟

وأجيب : بأن ذلك إنما يدل على صعوبة تحصيل هذه العلوم بالنظر لا على امتناعه والمتنازع هو الامتناع لا الصعوبة.

الخامس : لو أفاد النظر العلم أي التصديق في الإلهيات لكان شرطه هو التصور متحققا لكنه منتف ، إما بالضرورة فظاهر. وإما بالكسب فلأن الحد ممتنع لامتناع التركيب ، والرسم لا يفيد تصور الحقيقة. وأجيب بأن الرسم قد يفيد تصور الحقيقة وإن لم يستلزمه ، ولو سلم فيكفي التصور بوجه ما.

السادس : أن العلم بوجود الواجب هو الأساس في الإلهيات ، ولا يمكن اكتسابه بالنظر ، لأنه يستدعي دليلا يفيد أمرا ويدل عليه ، وذلك إما نفس ثبوت

__________________

(١) في ب بالمنظور فيه ليقبح.

(٢) سقط من (ب) القضية.

(٣) للهوية عند القدماء عدة معان وهي التشخص. والشخص نفسه والوجود الخارجي قالوا : ما به الشيء هو هو باعتبار تحققه يسمى حقيقة وذاتا وباعتبار تشخصه يسمى هوية وإذا أخذ أعم من هذا الاعتبار يسمى ماهية ، وقد يسمى ما به الشيء هو هو ماهية إذا كان كليا كماهية الإنسان وهوية إذا كان جزئيا كحقيقة زيد.

(٤) في (ب) هذا الهيكل المخصوص.

(٥) في (ب) مجرد يتعلق به.

(٦) سقط من (ب) ذلك.

٢٥٠

الصانع أو العلم به ، وإلا لما كان دليلا عليه ، فإن كان الأول لزم من انتفائه انتفاؤه ضرورة انتفاء المفاد بانتفاء المفيد وإن كان الثاني لزم من عدم النظر في الدليل ألا يكون دليلا لأن هذا وصف إضافي لا يفرض إلا بالإضافة إلى المدلول الذي فرضناه العلم. وهو منتفي عند عدم النظر وأجيب بأنا لا نعني بكون الدليل مفيدا لشيء وموجبا له أن يوجده ويحصله على ما هو شأن العلل ، بل إنه بحيث متى وجد وجد ذلك الشيء. ومتى نظر فيه علم ذلك الشيء.

وحاصله (١) أن وجوده مستلزم لثبوته ، والنظر فيه مستلزم للعلم به ، ومعلوم أن انتفاء الملزوم لا يوجب انتفاء اللازم ، وأن عدم النظر فيه لا ينافي كونه بحيث متى نظر فيه علم المدلول ، وأورد على جميع الوجوه بل على كل ما يحتج به لإثبات أن النظر لا يفيد العلم ، أن العلم بكون النظر غير مفيد للعلم ، إن كان نظريا مستفادا من شيء من الاحتجاجات يلزم التناقض ، إذ النظر قد أفاد العلم في الجملة وإن كان ضروريا ، والوجود المذكور تنبيهات عليه لزم خلاف أكثر العقلاء في الحكم الضروري ، وهو باطل بالضرورة ، وإنما الجائز خلاف جمع من العقلاء وهو لا يستلزم جواز خلاف الأكثر ، فإن قيل : نحن نعترف بأن الاحتجاج لا يفيد العلم ، لكن لما احتججتم على الإفادة احتججنا على نفي الإفادة ، معارضة للفاسد بالفاسد ، قلنا : ما ذكرتم من الوجوه إن أفادت فساد كلامنا كان النظر مفيدا للعلم وهو المطلوب ، وإن لم يفد كان لغوا وبقي ما ذكرنا سالما عن المعارض.

النظر الفاسد

(قال : وأما النظر الفاسد فالصحيح أنه لا يستلزم الجهل ، أما عند فساد الصورة فظاهر ، وأما عند فساد المادة فقط فلأن الكاذب قد يستلزم الصادق ، كنا إذا اعتقد أن العالم أثرا لموجب ، وكل ما هو أثر لموجب فهو حادث. نعم قد يفيده كما إذا اعتقد أنه غني وكل غني قديم).

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (أ).

٢٥١

القائلون بأن النظر الصحيح المقرون بشرائطه يستلزم العلم ، اختلفوا في أن النظر الفاسد (١) قد يستلزم الجهل ، أي الاعتقاد الغير المطابق. فقال الإمام : يستلزمه لأن من اعتقد أن العالم قديم ، وكل قديم مستغن عن المؤثر استحال أن لا يعتقد أن العالم غني عن المؤثر.

وقيل : إن كان الفساد مقصورا على المادة يستلزمه وإلا فلا.

أما الأول : فلأن لزوم النتيجة للقياس المشتمل على الشرائط ضروري ابتداء أو انتهاء ، سواء كانت المقدمات صادقة أو كاذبة ، كما في المثال المذكور.

وأما الثاني : فلأن معنى فساد الصورة أنه ليس من الضروب التي تلزمها النتيجة ، والصحيح أنه لا يستلزم الجهل على التقديرين ، أما عند فساد الصورة فظاهر كما مر (٢) وأما عند فساد المادة فقط بأن تكون الصورة من الضروب المنتجة (٣) فلأن اللازم من الكاذب قد لا يكون كاذبا كما إذا اعتقد أن العالم أثر الموجب بالذات ، وكل ما هو أثر الموجب بالذات فهو حادث ، فإنه يستلزم أن العالم حادث. وهو حق مع كذب القياس بمقدمتيه ، نعم قد يفيد الجهل كما إذا اعتقد أن العالم قديم (٤) وكل قديم مستغن عن المؤثر.

والتحقيق : أنه لا نزاع في أن الفاسد صورة لا يستلزم بالاتفاق ، والفاسد مادة فقط قد يستلزم. وقد لا يستلزم فمراد الإمام الإيجاب الجزئي كما في المثال المذكور.

__________________

(١) في (ب) هل بدلا من (قد).

(٢) سقط من (أ) لفظ (كما مر)

(٣) راجع كلمة عن الضروب المنتجة في هذا الجزء.

(٤) القديم في اللغة : ما مضى على وجوده زمان طويل ، ويطلق في الفلسفة العربية على الموجود الذي ليس لوجوده ابتداء ويرادفه الأول. قال ابن سينا : ويقال قديم الشيء إما بحسب ذاته وإما بحسب الزمان. فالقديم بحسب الذات هو الذي ليس لذاته مبدأ هي به موجوده. والقديم بحسب الزمان هو الذي لا أول لزمانه (النجاة ٣٥٥).

٢٥٢

ومرادنا نفي الإيجاب الكلي لعدم اللزوم في بعض المواد ، والقائلون بأنه لا لزوم أصلا يريدون اللزوم الذي مناطه صفة في الشبهة ، بمعنى أن شبهة المنظور فيها ليس لها (١) لذاتها صفة ولا وجه ، بكونه مناط للملازمة بينها وبين المطلوب ، وإلا لما انتفت الدلالة (٢) والعناصر ، وعجائب المركبات وأبعد كالمجردات والإلهيات من مباحث الذات والصفات ، وأجيب بأن ذلك إنما يدل على صعوبة تحصيل هذه العلوم بالنظر لا على امتناعه ، والمتنازع هو الامتناع لا الصعوبة.

الخامس : لو أفاد النظر العلم أي التصديق في الحقائق الإلهيات لكان شرطه وهو التصور متحققا لكنه منتف إما بالضرورة فظاهر ، وإما بالكسب فلأن الحد ممتنع لامتناع التركيب وللرسم لا يفيد تصور الصور الحقيقية. وأجيب بأن الرسم (٣) قد يفيد تصور الحقيقة وإن لم يستلزمه ولو سلم فيكفي التصور لوجه ما.

السادس : أن العلم بوجود الواجب هو الأساس في الإلهيات ، ولا يمكن اكتسابه بالنظر ، لأنه يستدعي دليلا يفيد أمرا ويدل عليه ، وذلك إما نفس ثبوت الصانع أو العلم به ، وإلا لما كان دليلا عليه ، فإن كان الأول لزم من انتفائه انتفاؤه ضرورة انتفاء المفاد بانتفاء المفيد ، وإن كان الثاني لزم من عدم النظر في

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (لها).

(٢) الدلالة : هي أن يلزم من العلم بالشيء علم بشيء آخر ، والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول فإن كان الدال لفظا كانت الدلالة لفظية وإن كان غير ذلك كانت الدلالة غير لفظية وكل واحدة من اللفظية وغير اللفظية تنقسم إلى عقلية وطبيعية ووضعية وتنقسم الدلالة اللفظية والوضعية إلى دلالة المطابقة ، ودلالة التضمن ودلالة الالتزام.

(راجع تعريفات الجرجاني).

(٣) الرسم عند المنطقيين مقابل للحد وهو قسمان : رسم تام ورسم ناقص. فالتام ما يتركب من الجنس القريب والخاصة ، كتعريف الإنسان بالحيوان الضاحك. والناقص ما يكون بالخاصة وحدها أو بها وبالجنس البعيد ، كتعريف الإنسان بالضاحك أو بالجسم الضاحك. أو بعرضيات تختص جملتها بحقيقة واحدة ، كقولنا في تعريف الإنسان إنه ماش على قدميه ، عريض الأظفار بادي البشرة مستقيم القامة ، ضحاك بالطبع.

(راجع تعريفات الجرجاني).

٢٥٣

الدليل أن لا يكون دليلا ، لأن هذا وصف إضافي لا يعرض إلا بالإضافة إلى المدلول الذي فرضناه العلم ، وهو منتف عند عدم النظر (١) ، وأجيب بأنا لا نعني بكون الدليل مفيدا بشيء وموجبا له أنه يوجده ويحصله على ما هو شأن العلل بل بأنه بحيث متى وجد وجد ذلك الشيء ومتى نظر فيه علم ذلك بظهور الغلط ولكان المحققون بل المعصومون عن الخطأ أولى بأن يستلزم نظرهم في الشبهة الجهل ، بناء على أنهم أحق الاطلاع على وجه الدلالة فيها ، وهذا بخلاف الدليل فإن له صفة ووجه دلالة في ذاته وهو مناط استلزامه المطلوب عند حصول الشرائط ، وأما اللزوم العائد إلى اعتقاد الناظر في بعض الصور كما إذا اعتقد حقية المقدمات في المثال المذكور فلا نزاع فيه ، واعترض الإمام بأن عدم حصول (٢) الجهل للمحق الناظر في شبهة المبطل يجوز أن يكون بناء على عدم اطلاعه على ما فيها من جهة الاستلزام أو عدم اعتقاده حقية المقدمات كما أن نظر المبطل في دليل المحق لا يستلزم العلم بذلك ، وما ذكر من كون المحق أولى بالاطلاع إنما هو فيما يفيد الحق والعلم لا الباطل. والجهل.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (عدم).

(٢) ما بين القوسين سقط من (أ).

٢٥٤

المبحث الثالث

في شرائط النظر

(قال : المبحث الثالث : يشترط لمطلق (١) النظر صحيحا كان أو فاسدا (٢) ـ بعد شرائط العلم ـ عدم الجزم بالمطلوب أو بنقيضه إذ لا طلب مع ذلك وتعد الأدلة إنما هو لزيادة الاطمئنان أو التحصيل استعداد القبول في المتعلم بالإجماع أو في كل متعلم بدليل اخر.

وقال الإمام : المطلوب بالدليل الثاني في كونه دليلا وهو غير معلوم ، ويشترط للنظر الصحيح أن يكون في الدليل دون الشبهة ومن جهة دلالته دون غيرها ، وهي الأمر الذي بواسطته ينتقل الذهن من الدليل إلى المدلول ، كإمكان (٣) العالم أو حدوثه لثبوت الصانع ، فالعالم هو الدليل وثبوت الصانع هو المدلول ، وكونه بحيث يفيد النظر فيه العلم بثبوت الصانع هو الدلالة ، وإمكانه وحدوثه هو جهة الدلالة ، وهذه الأمور متغايرة فتتغاير العلوم المتعلقة بها إلا أن

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (المطلق).

(٢) سقط من (أ) (صحيحا كان أو فاسدا).

(٣) قال ابن سينا : والإمكان إما أن يعنى به ما يلازم سلب ضرورة العدم وهو الامتناع ، وإما أن يعنى به ما يلازم سلب الضرورة في العدم والوجود جميعا.

(راجع الإشارات ٣٤).

والإمكان عبارة عن كون الماهية بحيث تتساوى نسبة الوجود والعدم إليها عبارة عن التساوي نفسه على اختلاف العبارتين. فيكون صفة الماهية حقيقة من حيث هي (كليات أبي البقاء) وهذا المعنى الأخير قريب من المعنى الذي ذهب إليه المحدثون في قولهم : الإمكان هو صفة للمكان الموضوعي أو الخارجي.

٢٥٥

جهة الدلالة شديدة الاتصال بالمدلول. فمن هاهنا توهم أن العلم بها نفس العلم بالمدلول).

للنظر صحيحا كان أو فاسدا بعد شرائط العلم من الحياة والعقل وعدم النوم والغفلة ونحو ذلك ، أمران.

أحدهما : عدم العلم بالمطلوب إذ لا طلب مع الحصول.

ثانيهما : عدم الجهل المركب به أعني عدم الجزم بنقيضه ، لأن ذلك يمنعه من الإقدام على الطلب ، إما لأن النظر يجب أن يكون مقارنا للشك على ما هو رأي أبي هاشم (١). والجهل المركب مقارن للجزم فيتناقضان (٢) وإما لأن الجهل المركب صارف عنه كالأكل مع الامتلاء على ما هو رأي الحكماء ، ومن أن النظر لا يجب أن يكون مع الشك. وإليه ذهب القاضي ، بل ذهب الأستاذ إلى (٣) أن الناظر يمتنع أن يكون شاكا ، وما ذكرنا مع وجازته أوضح مما قال في المواقف : إن شرط النظر مطلقا بعد الحياة ، أمران :

الأول : وجود العقل ، والثاني : عدم ضده أي ضد النظر فمنه أي من ضده ما هو عام أي ضد للنظر ولكل إدراك (٤) كالنوم والغفلة مثلا ومنه ما هو خاص أي ضد للنظر دون الإدراكات وهو العلم بالمطلوب والجهل المركب به. فإن قيل الجهل المركب ضد للعلم فانتفاؤه مندرج في شرائط العلم فيكون في عبارتكم استدراك.

قلنا : الجهل المركب بالمطلوب يكون ضدا للعلم به لا للعلم على

__________________

(١) أبو هاشم المعتزلي : هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي من أبناء أبان مولى عثمان. عالم بالكلام من كبار المعتزلة. له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميت (البهشمية) نسبة إلى كنيته «أبي هاشم» وله مصنفات في الاعتزال كما لأبيه من قبله. مولده ببغداد عام ٢٤٧ ه‍. ووفاته بها عام ٣٢١ ه‍.

(٢) في (ب) فيتنافيان بدلا من (يتناقضان).

(٣) إذا ذكر لفظ الأستاذ فيقصد إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الأسفراييني. له كتاب الجامع في أصول الدين ، خمس مجلدات وله مناظرات مع المعتزلة. مات في نيسابور عام ٤١٨ ه‍.

(راجع ـ وفيات الأعيان ج ١ ص ٤).

(٤) في (ب) دون الإدراكات.

٢٥٦

الإطلاق ، ليكون انتفاؤه من جملة شرائط العلم ، وبهذا يظهر أن تفسير الضد العام في عبارة المواقف (١) مما يضاد العلم وجميع الإدراكات ، كالنوم والغفلة. والخاص بما يضاد العلم خاصة كالعلم بالمطلوب والجهل المركب به من قبيل الثاني. فإن قيل : لو كان النظر مشروطا بعدم العلم بالمطلوب لما جاز النظر في دليل ثان وثالث : على مطلوب (٢) لحصول العلم به بالدليل الأول ، أجيب : بأن ذلك إنما يشترط حيث يقصد بالنظر طلب العلم أو الظن ، لكن قد تورد صورة النظر والاستدلال لا لذلك بل لغرض آخر عائد إلى الناظر ، وهو زيادة الاطمئنان بتعاضد الأدلة أو إلى المتعلم بأن يكون ممن يحصل له (٣) استعداد القبول باجتماع الأدلة دون كل واحد أو بهذا الدليل دون ذاك ، فإن الأذهان مختلفة في قبول اليقين ، فربما يحصل للبعض من دليل ولبعض آخر من دليل آخر ، وربما يحصل من الاجتماع كما في الاقناعيات.

قال الإمام : النظر في الدليل الثاني نظر في وجه دلالته أي المطلوب منه كونه دليلا على النتيجة وهو غير معلوم ، والحق أن هذا لازم لكن المطلوب. والنتيجة اسم لما يلزم المقدمات بالذات وبالتعيين وهو القضية التي موضوعها موضوع الصغرى ومحمولها محمول الكبرى ، وأما النظر الصحيح فيشترط أن يكون نظرا في الدليل دون الشبهة ، وأن يكون النظر فيه من جهة دلالته وهي الأمر الذي بواسطته ينتقل الذهن من الدليل إلى المدلول. فإذا استدللنا بالعالم ـ على الصانع بأن نظرنا فيه وحصلنا قضيتين إحداهما : أن العالم حادث والأخرى أن كل حادث له صانع ليعلم من ترتيبها أن العالم له صانع. فالعالم هو الدليل عند المتكلمين ، لا نفس المقدمتين المرتبتين على ما هو اصطلاح المنطق ، وثبوت الصانع هو المدلول ، وكون العالم بحيث (٤) يفيد النظر فيه العلم بثبوت الصانع هو الدلالة ، وإمكان العالم أو حدوثه الذي هو سبب الاحتياج إلى المؤثر هو جهة الدلالة ، وهذه الأربعة أمور متغايرة ، بمعنى أن المفهوم من كل منها غير المفهوم من الآخر ، فتكون العلوم المتعلقة بها متغايرة بحسب الإضافة.

__________________

(١) في (ب) بما يضاد.

(٢) سقط من (ب) لفظ (على مطلوب).

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (تحصل).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (بحيث).

٢٥٧

قال حجة الإسلام (١) : لما كان جهة الدلالة في القياس هو التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة ، أشكل على الضعفاء فلم يعرفوا أن وجه الدلالة عين المدلول أو غيره ، والحق أن المطلوب هو المدلول المنتج ، وأنه غير التفطن لوجوده في المقدمة بالقوة.

وبالجملة : فالمشهور من الاختلاف في هذا البحث هو الاختلاف في مغايرة جهة الدلالة للمدلول ، فيتفرع عليه الاختلاف في تغاير العلم بهما على ما قال الإمام الرازي وغيره ، أن العلم بوجه دلالة الدليل هل يغاير العلم بالمدلول ..؟ فيه خلاف (٢) والحق المغايرة. لتغاير المدلول : ووجه الدلالة. وأما ما ذكر في المواقف من أن الخلاف في أن العلم بدلالة الدليل هل يغاير العلم بالمدلول وفي أن وجه الدلالة هل يغاير الدليل ..؟ فلم يوجد في الكتب المشهورة. إلا أن الإمام ذكر في بيان مغايرة العلم بوجه الدلالة للعلم بالمدلول أن هاهنا أمورا ثلاثة : هي العلم بذات الدليل كالعلم بإمكان العالم ، والعلم بذات المدلول ، كالعلم بأنه لا بد له من مؤثر ، والعلم بكون الدليل دليلا على المدلول ولا خفاء في تغاير الأولين وكذا في مغايرة الثالث لهما ، لكونه علما بإضافة بين الدليل والمدلول مغايرة لهما ، وهذا الكلام ربما يوهم خلافا في مغايرة العلم بدلالة الدليل للعلم بالمدلول ، حيث احتيج إلى البيان وجعل العلم بإمكان العالم مع أنه وجه الدلالة مثالا للعلم بذات الدليل يوهم القول بأن وجه الدلالة نفس الدليل ، وفي نقد المحصل (٣) ما يشعر بالخلاف في وجوب مغايرته للدليل والمدلول ، لأنه قال : إن هذه المسألة إنما تجري بين المتكلمين عند استدلالهم بوجود ما سوى الله تعالى على وجوده تعالى ، فيقولون : لا يجوز أن يكون وجه دلالة وجود ما سوى الله تعالى على وجوده مغايرا لهما لأن المغاير لوجوده تعالى داخل في وجود ما سواه ، والمغاير لوجود ما سواه هو وجوده فقط.

__________________

(١) يقصد به الإمام محمد بن محمد الغزالي.

(٢) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٣) كتاب المحصل : للإمام فخر الدين الرازي ، وانتقده نصير الدين الطوسي وقال في مقدمته : وفيه من الغث والسمين ما لا يحصى.

٢٥٨

والجواب : أن العلم بوجه دلالة الدليل على المدلول الذي هو مغاير لهما هو أمر اعتباري عقلي. ليس بموجود في الخارج كما سيجيء في تحقيق التضايف. هذا كلامه (١) وأنت خبير بأن الأمر الاعتباري الإضافي هو دلالة الدليل على المدلول ، لا وجه الدلالة الذي هو صفة في الدليل كالإمكان والحدوث في العالم ، ثم ظاهر عبارته أن المحكوم عليه يكون أمرا اعتباريا هو العلم بوجه الدلالة وفساده بين.

(قوله : ولا يشترط للنظر في معرفة الله وجود المعلم) (٢).

لما ثبت من إفادة النظر الصحيح العلم على الإطلاق (٣) ولأنه أيضا يحتاج إلى معلم آخر ويتسلسل إلا أن يخص الحكم بنظر غير المعلم أو ينتهي إلى الوحي ، ولأن العلم بصدقه إما بالنظر فتهافت ، أو بقوله فدور ، أو بآخر فتسلسل.

وقد يجاب : بأنه النظر المقرون بإرشاد من العلم. واحتجت الملاحدة (٤) بكثرة اختلاف الآراء في الإلهيات وتحقق الاحتياج إلى المعلم في أسهل العلوم والصناعات.

والجواب : انها لكثرة الأنظار الفاسدة (٥) وأن الاحتياج بمعنى تعذر الكسب بدونه غير مسلم ، وبمعنى تعسره غير متنازع ، إذ لا خفاء في أن الإرشاد إلى المقدمات وحل الأشكال نعم العون على تحصيل الكمالات.

خلافا للملاحدة. لنا وجوه :

الأول : أنه قد بينا (٦) إفادة النظر الصحيح المقرون بالشرائط العلم على

__________________

(١) سقط من (ب) ما بين القوسين.

(٢) أي ليس من شرط إفادة النظر في الإلهيات وجود معلم للناظر فيها خلافا للملاحدة.

(٣) غاية الأمر أن وجود النظر يتوقف على وجود المقدمات الضرورية أو المنتهية إلى الضرورية.

(٤) على مدعاهم وهو احتياج النظر في الإلهيات إلى معلم.

(٥) والجواب أن كثرة الآراء الفاسدة لم تقع لتعذر الإدراك إلا بمعلم يكون تابعه هو المصيب وإنما وقعت لكثرة الأنظار الفاسدة ولو صادقت الأنظار الصواب لقلت بل لما تعددت أصلا.

(٦) في (ب) ثلث بدلا من بينا.

٢٥٩

الإطلاق ، سواء كان في المعارف الإلهية أو غيرها وسواء كان معه معلم أو لا وأما إمكان تحصيل المقدمات الضرورية وترتيبها على الوجه المنتج لأنه صناعة المنطق فمعلوم بالضرورة.

الثاني : أن نظر المعلم أيضا لكونه نظر إلى معرفة (١) الله تعالى يحتاج إلى معرفة معلم آخر ويتسلسل ، إلا أن يحض الاحتياج إلى المعلم بغير المعلم ، ويجعل نظر المعلم كافيا لكونه مخصوصا بتأييد إلهي ، أو تنتهي سلسلة التعليم إلى المعلم المستند علمه إلى النبي عليه الصلاة والسلام (٢) المستند إلى الوحي.

الثالث : أن إرشاد المعلم لا يفيدنا إلا بغد العلم بصدقه ، وصدقه إما أن يعلم بالنظر فيكون النظر كافيا في المعرفة ، حيث أفاد صدق المعلم المفيد للمعرفة (٣) وإما أن يعلم بقول ذلك المعلم فيدور ، لأن قوله أي إخباره عن كونه صادقا لا يفيد كونه كذلك إلا بعد العلم بأنه صادق البتة ، وإما بقول معلم آخر وهكذا إلى أن يتسلسل ، وقد يجاب بأنا لا نجعل المعلم مستقلا بإفادة المعرفة ليلزمنا العلم بكونه صادقا لا يكذب البتة بل نجعل المفيد هو النظر المقرون بإرشاد منه إلى الأدلة ودفع الشبهة ، لكون عقولنا قاصرة عن الاستدلال بذلك (٤) مفتقرة إلى إمام يعلمنا الأدلة ودفع الشبه ليحصل لنا بواسطة تعليمه وقوة عقولنا معرفة الحقائق الإلهية التي من جملتها كونه إماما يستحق الإرشاد والتعليم ثم لا يخفى أن ما ذكر من الوجوه بتقدير تمامها إنما يراد الاحتياج إلى المعلم في حصول المعرفة ، وأما لو أرادوا الاحتياج إليه في حصول النجاة بمعنى أن

__________________

(١) في (ب) لفظ (في) بدلا من (إلى).

(٢) سقط من (ب) (إلى النبي عليه الصلاة والسلام).

(٣) المعرفة : إدراك الأشياء وتصورها. ولها عند القدماء عدة معان : منها إدراك الأشياء بإحدى الحواس ، ومنها العلم مطلقا تصورا كان أو تصديقا ، ومنها إدراك البسيط سواء كان تصورا للماهية أو تصديقا بأحوالها.

وفرقوا بين المعرفة والعلم : فقالوا إن المعرفة إدراك الجزئي ، والعلم إدراك الكلي. وأن المعرفة تستعمل في التصورات والعلم في التصديقات.

(٤) في (ب) الاستقلال.

٢٦٠