شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

علم الكلام

بين القبول والرفض

٢١
٢٢

علم الكلام بين القبول والرفض

يتساءل كثير من غير المشتغلين بالدراسات والأبحاث الفلسفية والعقدية ، عن ماهية علم الكلام ، أهو علم قديم موغل في القدم ، عرفته البشرية في تاريخها الطويل ، من يوم أن كان لها علم ومعرفة ، وعلمه السابق للاحق ، حتى وصل إلينا ..؟

أم إنه علم جديد مبتكر أنشأته الأمة الإسلامية ، في فترة من فترات تاريخها ..؟

الحقيقة أن أقوال الراصدين لهذا العلم ، والمشتغلين بقواعده ومباديه يتباينون ويختلفون ، فالبعض منهم يرى أنه علم نشأ في دولة اليونان قديما ، ووفد إلى بلادنا فيما وفد إلينا من أفكار وآراء وفلسفات.

بينما يرى البعض الآخر أنه علم جديد نشأ في دولة الإسلام ، لتدافع بأسلحته الكلامية تلبيس المبطلين ، وغارات المغيرين ، وحقد الحاقدين على عقائدها الإيمانية.

واعتقد أن وقوف الباحث على أي من تعريفات هذا العلم تقرب له تاريخ نشأته ، وأسباب قيامه.

ولقد وضع العلماء الكلام لعلمهم هذا تعريفات كثيرة ، تتباين بمقدار اقتراب صاحبها من الفلسفة أو بعده عنها.

٢٣

وإذا أردنا أن نقدم بين يدي القارئ ، أحد هذه التعريفات ، فإننا نختار التعريف الذي قدمه ابن خلدون في مقدمته ، باعتباره يمثل المرحلة الأولى من نشأة هذا العلم ، قبل اختلاطه بالفلسفة ، وهو مع ذلك يكاد يعبر عن رأي الأغلبية ممن يشتغلون بهذا العلم.

يقول ابن خلدون : «وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف ، أو أهل السنة» (١).

والتعريف الذي قدمه ابن خلدون يعطينا عند فحصه وتأمله ، أن علم الكلام علم يدافع عن العقائد الإيمانية (٢).

وأسلحته الدفاعية هي العقل ومعداته.

وهو دائما يشهر في وجه المبتدعة الضالين.

وإذا كان ذلك كذلك. فبما ذا يسمى الآخر الذي يستعمله خصوم أهل السنة والجماعة ، من الجهمية ، والخوارج ، والباطنية ، وبقية الفرق الضالة الخارجة عن مذهب السلف؟.

إن صاحب كتاب (كشاف اصطلاحات الفنون) يتساءل أيضا فيقول : «هل علم الكلام يشمل الدفاع عن عقيدة أهل السنة والجماعة فقط؟ أو يشمل كل العقائد المتعلقة بأصول الدين؟ سواء منها الموافق ، أو المخالف؟ وإذا كان

__________________

(١) راجع مقدمة ابن خلدون ص ٤٤٨ ط المكتبة التجارية الكبرى ـ مصر. وقال الفارابي : «إن الكلام صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة ، وتزييف كل ما خالف من الأقاويل» إحصاء العلوم ص ٧١ ـ ٧٢.

(٢) قال الإمام الغزالي : لما نشأت صيغة الكلام وكثر الخوض فيه ، تشوق المتكلمون إلى محاولة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور ، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض ، وأحكامهما ، ولكن لما لم يكن ذلك مقصودهم ، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى.

(راجع المنقذ من الضلال فصل علم الكلام).

٢٤

الجواب بالنفي ، فبما ذا يسمى العلم الآخر ، العلم الذي يستعمله الخصوم في الرد والمقارعة ومحاولة الغلبة»؟.

وقبل الإجابة على ذلك ، نتساءل كيف نشأ علم الكلام في حياة المسلمين ..؟ أعني ما هي العوامل التي ساعدت على إيجاده ، وما زالت به حتى أصّلته ، ووضعت له المبادي والقواعد الأساسية ..؟ وإذا كان هذا العلم ، لم يعرف في البيئة العربية ، قبل ظهور الإسلام ، وقبل مبعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أيكون القرآن الكريم ، وما فيه من أدلة قاطعة ، وبراهين ساطعة ، هو أحد العوامل الأساسية في إنشاء علم الكلام؟

إن ابن عساكر في كتبه (تبيين كذب المفتري) يروي عن الإمام القشيري قوله : «والعجب ممن يقول : ليس في القرآن علم الكلام».

والآيات التي هي في الأحكام الشرعية نجدها محصورة ، والآيات المنبهة على علم الأصول نجدها توفي على ذلك ، وتربى بكثير من الزيادة (١).

ويقول صاحب البرهان : «وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية ، والسمعية إلا كتاب الله تعالى قد نطق به. لكن أورده تعالى على عادة العرب ، دون دقائق طرق أحكام المتكلمين». ثم يقول : «واعلم أنه قد يظهر منه بدقيق الفكر استنباط البراهين العقلية ، على طرق المتكلمين» (٢).

والدكتور سليمان دنيا يقرر : أن الدور الأساسي في نشأة علم الكلام كان للقرآن وينكر بقوة دعوى البعض أن القرآن يعوق النظر العقلي (٣).

__________________

(١) راجع كتاب تبيين كذب المفتري ص ٣٥٩.

(٢) راجع البرهان للزركشي ج ٢ ص ٢٤ ، ٢٥.

(٣) التفكير الفلسفي الإسلامي ص ٣٢٤.

٢٥

فهل نرى أن القرآن كان أحد العوامل الأساسية في نشأة علم الكلام؟

إن بعض العلماء يقرر ذلك ، ويضيف إليه ، أن أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت عاملا مساعدا في إيجاد علم الكلام. من ذلك أن الإمام البغوي ذكر حديثا من الصحاح بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال :

«جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النبي فسألوه. إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به.

قال : أوجدتموه؟

قالوا : نعم.

قال : ذاك صريح الإيمان ، وقال : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول : من خلق ربك فإذا بلغه ، فليستعذ بالله ولينته.

وقال : «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد مثل ذلك شيئا فليقل : آمنت بالله ورسوله» (١).

وأيضا حديث الفرق من العوامل الأساسية التي ساعدت على الاشتغال بعلم الكلام. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل ، حذو النعل بالنعل ، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية ، لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار ، إلا ملة واحدة».

قالوا : من هي يا رسول الله؟

قال : «ما أنا عليه وأصحابي» (٢).

__________________

(١) راجع مصابيح السنة ج ١ ص ٦.

(٢) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب ، لا يعرف إلا من الوجه الذي جاء به سنده.

٢٦

ثم ما ذا؟ لقد مات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمسلمون أمرهم جميع ، يعرفون دينهم ، وينفذون تعاليم ربهم ـ غير هنات صغيرة ـ وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه انشغل المسلمون بحروب الردة ، وجاء عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقدم عليه رجل يقال له (صبيغ) فجعل يسأل عن متشابه القرآن ـ فأرسل إليه عمر ـ وقد أعد له عراجين النخل ، فلما قال له عمر : من أنت؟

قال : أنا عبد الله صبيغ ، فأخذ عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه ، ثم عادله ، ثم تركه حتى برأ. فدعا به ليعود فقال : إن كنت تريد قتلي ، فاقتلني قتلا جميلا.

فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين. وأخرج نصر المقدسي ، وابن عساكر ، عن أبي عثمان النهدي. أن عمر كتب إلى أهل البصرة ألا يجالسوا صبيغا ، ولا يبايعوه ، وإن مرض فلا يعودوه ، وإن مات فلا يشهدوه (١)؟).

وأخرج نصر أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه. إذ جاءه رجل يسأله عن القرآن. أمخلوق هو أو غير مخلوق؟.

فقال علي رضي الله عنه : هذه كلمة وسيكون لها ثمرة ، ولو وليت من الأمر ما وليت ، ضربت عنقه.

أتكون هذه الوسائل والخطرات التي كانت تهجس في داخل بعض النفوس ، لها دخل في إنشاء علم الكلام ..؟ أو أن وراء إنشائه وإيجاده أسبابا أخرى ، مع التي ذكرنا ، دفعت المسلمين إلى طريق الجدل ، واصطناع علم الكلام ..؟

إننا نرى ويشاركنا في رأينا هذا كثير من العلماء ، أن تطلع بعض المسلمين

__________________

(١) راجع صون المنطق والكلام لجلال الدين السيوطي.

٢٧

إلى تراث الأمم السابقة كدولة الفرس واليونان ، وعكوفهم على ترجمة هذه الكتب عامل جوهري أيضا في تعريف المسلمين على علم الكلام ، وحذقهم لأدواته بل يبالغ البعض فيرى أن هذا العلم نبتت جذوره في دولة اليونان ، وغذيت فروعه في مدارسه المختلفة ، من أبيقورية ، ورواقية ، وسفسطائية ، ثم زحف على الأمة الإسلامية فيما زحف ، فكان والحق يقال : لفكرها مشتتا ، ولرأيها مفرقا ، ولوحدتها ممزقا وبقي إلى يومنا هذا علما يعرف به من يشتغلون في البحث عن العقائد والملل المختلفة ، وممن تستهويهم حقائق الوجود ، ومغلقات الكون وغير ذلك من الأبحاث الفلسفية. أضف إلى ذلك أيضا ، تسرب الأفكار اليهودية والمسيحية إلى بعض مفكري المسلمين ، عن طريق الحوار والاحتكاك ، ومن هذه الأفكار ما رددته الجهمية : أن الإنسان مجبور تماما على فعل أفعاله ، وهي تنسب إليه كما تنسب الأفعال إلى الجمادات.

وما رددته المعتزلة : أن الإنسان يفعل الأفعال باختياره ، ويخلقها بقدرته. وهذان المذهبان في نفي القدر وإثباته ، هما مذهب الأبيقوريين القائلين بحرية الإرادة ، ومذهب الرواقيين القائلين بأن الإنسان مسير لا مخير.

ثم مذهبان مماثلان لليهود : فمنهم الربانيون ينفون القدر ، والقراءون يقولون بالجبر.

ثم مذهبان تاليان مسيحيان ، فالمسيحيون الشرقيون يقولون : إن الإنسان مخير ، والآخرون يقولون بالجبر (١).

لقد نادى جهم بن صفوان بخلق القرآن ، ورددت مدرسة الاعتزال ما قاله جهم ، واستعانت بنفوذ السلطة الحاكمة لإجبار المسلمين على ذلك ، ولم يكن ذلك إلا ترديد للأفكار اليهودية المنحرفة.

والمؤرخون يروون في صدد فكرة خلق القرآن سلسلة يصل سندها إلى لبيد بن أعصم اليهودي القائل بخلق التوراة.

__________________

(١) راجع في ذلك كتاب أحمد بن حنبل للأستاذ عبد الحليم الجندي ص ٤٠٥ وما بعدها.

٢٨

فالفكرة يهودية الأصل ، وممن روج لها بشر المريسي ، وأبوه يهودي صباغ بالكوفة.

ولما عرف الرشيد قوله حلف أن يقتله ، فاختفى طول عهده ، ليظهر بعد ذلك في بلاط المأمون (١).

من هنا نرى أن علم الكلام غريبا عن البيئة الإسلامية ، وقد وفد إليها من خلف السدود والحدود ، وكان هذا بداية للغزو الفكري المنظم الذي شنت جيوشه غاراتها بانتظام على هذه الأمة ، فأصابت منها مقاتل ، ولكنها لم تجهز عليها.

ومصداقا لما نقول : ما يرويه المؤرخون من أن كتابا ألفه يحيى الدمشقي في القرن الأول للهجرة ، وكان هو (وتيودور) أبو قرة يناقشان المسلمين في الدين. وفي هذا الكتاب يدرب النصارى على زعزعة عقائد المسلمين بقوله : إذا قال لك العربي ما تقول في المسيح ..؟

فقل : إنه كلمة الله ، ثم ليسأل النصراني المسلم بم سمي المسيح في القرآن ..؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيب المسلم ، فإنه سيضطر إلى أن يقول : كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه ، فإن أجاب بذلك فاسأله : هل كلمة الله وروحه مخلوق ، أو غير مخلوق؟

فإذا قال : مخلوق ، فليرد عليه بأن الله إذن كان ولم يكن له كلمة ولا روح فإن قلت ذلك ، فسيفحم العربي ، لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين وبمثل هذا ظهر الخلاف المدمر ، وتعكر الصفو ، وتفرق الشمل وتعددت الفرق ، وتباينت الأقوال. (٢)

وابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) يصور لنا ما حدث في الجماعة

__________________

(١) راجع تلبيس إبليس لابن الجوزي عند فصل النهي عن الخوض في علم الكلام.

(٢) راجع الإمام أحمد بن حنبل : للأستاذ عبد الحليم الجندي ص ٤٠٦ بتصرف.

٢٩

الإسلامية نتيجة لهذه الأفكار ، والآراء الغريبة المنافية للوحي ، والرسالة المنزلة.

فيقول : «لقد أفضى هذا بالمعتزلة إلى أنهم قالوا : إن الله عزوجل يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها.

وقال جهم : علم الله وقدرته وحياته محدثة.

وروى أبو محمد النوبختي عن جهم أنه قال : إن الله عزوجل ليس بشيء.

وقال أبو علي الجبائي ، وأبو هاشم ومن تابعهما من البصريين : المعدوم شيء وذات ونفس ، وجوهر ، وبياض ، وصفرة ، وحمرة ، وأن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا ، ولا العرض عرضا ، ولا الجوهر جوهرا ، وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى الوجود.

أما لما ذا اختلف رجال الكلام ، وتباينت أقوالهم ، فإن ذلك يرجع إلى العجمة التي أصابت المسلمين بسبب عكوفهم على الفكر الأجنبي ، وإهمالهم لغة القرآن ، وأساليب العربية». (١)

يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه : «ما جهل الناس ، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب ، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس» (٢).

وأخرج الإمام البخاري في تاريخه الكبير ، عن الحسن البصري رضي الله عنهما قال : «إنما أهلكتهم العجمة».

ويرى الإمام السيوطي رحمه‌الله أن هؤلاء المارقين ، أخذوا يؤولون القرآن والحديث النبوي ، على مصطلح لسان يونان ، ومنطق أرسطاطاليس.

وما نزل القرآن إلا بلغة العرب ، وببيان العرب. قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (٣).

__________________

(١) تلبيس إبليس ص ٨٤ للإمام أبي الفرج عبد الرحمن الجوزي ط محمود مهدي.

(٢) أورد هذا النص قاضي المسلمين الحافظ عز الدين ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة في تذكرته.

(٣) سورة إبراهيم آية رقم ٤.

٣٠

فمن عدل عن لسان الشرع إلى لسان غيره ، وخرج عن الوارد من نصوص الشرع جهل وضل.

ويؤيد ما قاله الأئمة الأجلاء ما أخرجه الإمام البيهقي قال : جاء عمرو بن عبيد إلى عمرو بن العلاء يناظره في وجوب عذاب الفاسق.

فقال له : يا أبا عمرو الله يخلف وعده؟

فقال : لن يخلف الله وعده.

فقال عمرو : فقد قال : وذكر آية وعيد.

فقال أبو عبيد : من العجمة أتيت ، الوعيد غير الإيعاد ، ثم أنشد :

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي (١)

__________________

(١) صون المنطق والكلام عن فن المنطق للسيوطي ج ١ ص ٢٢.

٣١

هل كان المسلمون في حاجة إليه ..؟

ونتساءل : هل كان المسلمون بحاجة إلى علم الكلام حين قام؟

يرى بعض العلماء أن العقائد ثابتة في القرآن ، وأوضحتها السنة النبوية فلا حاجة إذن إلى علم الكلام.

هذا على اعتبار أن علم الكلام : هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير ، بإيراد الحجج ودفع الشبه .. كما يقول (التفتازاني) في شرحه للعقائد العضدية (١).

ويقولون أيضا : لو كان علم الكلام هدى ورشادا لتكلم فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخلفاؤه وأصحابه ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمت حتى تكلم في كل ما يحتاج إليه من أمور الدين ، وبيّنه بيانا شافيا ، ولم يترك بعده لأحد مقالا فيما للمسلمين إليه حاجة من أمور دينهم ، وما يقربهم إلى الله عزوجل ، ويباعدهم عن سخطه ، فلما لم يرووا عنه الكلام في شيء مما ذكرناه علمنا أن الكلام فيه بدعة ، والبحث عنه ضلالة لأنه لو كان خيرا لما فات النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولتكلموا فيه.

وقالوا أيضا : ولأنه ليس يخلو ذلك من وجهين : إما أن يكونوا علموه فسكتوا عنه ، أو لم يعلموه بل جهلوه ، فإن كانوا علموه ولم يتكلموا فيه وسعنا أيضا نحن السكوت عنه ، كما وسعهم السكوت عنه ، ووسعنا ترك الخوض فيه ، كما

__________________

(١) راجع شرح العقائد العضدية ، وكتاب المواقف لعضد الدين الإيجي.

٣٢

وسعهم ترك الخوض فيه ، ولأنه لو كان من الدين ، ما وسعهم السكوت عنه ، وإن كانوا لم يعلموه وسعنا جهله ، كما وسع أولئك جهله ، لأنه لو كان من الدين لم يجهلوه ، فعلى كلا الوجهين ، الكلام فيه بدعة ، والخوض فيه ضلالة (١).

ولسنا في حاجة إليه كما كان المسلمون الأول في غير حاجة إليه.

__________________

(١) رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام لأبي الحسن الأشعري ، نشر يوسف مكارثي ، في ذيل كتاب اللمع للأشعري.

٣٣

موقف السلف من علم الكلام

ويكاد السلف الصالح والتابعون من بعدهم يتفقون على أن علم الكلام بدعة ، وبدعة كان لها أكبر الأثر في تفريق المسلمين وتشتيت وحدتهم.

حتى العلماء الذين خدعهم بريق الجدل ، وأخذ بلبهم بهرجه الزائف عادوا في أخريات حياتهم يتوبون منه ، ويوصون غيرهم بالبعد عنه ، وعدم الاقتراب من منهله. يروى عن أحمد بن سنان قال :

كان الوليد بن أبان الكرابيسي (١) خالي ، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه : تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني ..؟

قالوا : لا.

قال : فتتهمونني.

قالوا : لا.

قال : فإني أوصيكم أتقبلون ..؟

قالوا : نعم.

__________________

(١) هو : الوليد بن أبان الكرابيسي : معتزلي من علماء الكلام ، من أهل البصرة له مقالات في تقوية مذهب الاعتزال. نسبته إلى بيع الكرابيس ، وهو قد توفي عام ٢١٤ ه‍.

(راجع النجوم الزاهرة ٢ : ١٠ وتاريخ بغداد ١٣ : ٤٤١).

٣٤

قال : عليكم بما عليه أصحاب الحديث ، فإني رأيت الحق معهم.

وكان أبو المعالي الجويني يقول : لقد جلت أهل الإسلام جولة ، وعلومهم وركبت البحر الأعظم ، وغصت في الذي نهوا عنه ، كل ذلك في طلب الحق ، وهربا من التقليد ، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق.

عليكم بدين العجائز ، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره ، فأموت على دين العجائز ، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص ، فالويل لابن الجويني.

وكان يقول لأصحابه : «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به» (١).

قال هذا رجل عاش حياته في مجادلة الخصوم ، ومناقشة العلماء ووضع كتابين على نمط منهج علماء الكلام هما : الإرشاد (٢) ، والشامل في أصول الدين (٣).

ويطيب لي أن نستعرض آراء الأئمة الأربعة في علم الكلام.

فالإمام مالك رضي الله عنه صاحب كتاب الموطأ يوصي أصحابه بقوله : «إياكم والبدع قيل : يا أبا عبد الله ، وما البدع ..؟

قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته ، وكلامه وعلمه ، وقدرته ، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان» (٤).

ويروي ابن عبد البر ، المتوفى سنة ٤٦٣ ـ ١٠٧٠ م في كتاب (مختصر جامع بيان العلم وفضله) أن الإمام مالكا كان يقول :

__________________

(١) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص ـ ٨٤ ـ ٨٥ وطبقات الشافعية للسبكي ج ٤ ص ٦٠.

(٢) حقق هذا الكتاب المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى ، والدكتور علي عبد المنعم.

(٣) حققه الدكتور علي سامي النشار ، وفيصل بدير عون ، وسهير محمد مختار.

(٤) تمهيد لتاريخ الفلسفة للشيخ مصطفى عبد الرازق ط. ثالثة ١٩٦٦ م ، ص ١٥٥.

٣٥

«الكلام في الدين أكرهه ، ولم يزل أهل بلدنا ـ يقصد المدينة المنورة ـ يكرهونه ، وينهون عنه ، نحو الكلام في رأي جهم والقدر ، وما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل» (١).

أما صاحب مدرسة الرأي الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه فإنه يقول : «لعن الله عمرو بن عبيد» ، فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام» (٢).

ويذكر الهروي (٣) عن أبي المظفر السمعاني ؛ قال : «قلت لأبي حنيفة : ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام ..؟

فقال : مقالات الفلاسفة ..

قلت : نعم.

قال : عليك بالأثر وطريقة السلف ، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة» (٤)

فإذا تركنا أقوال الإمام أبي حنيفة ، واتجهنا إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي يقول عنه الإمام أحمد بن حنبل : «ما رأيت أحدا أفقه من هذا الفتى».

ويسأله ابنه عبد الله : أي رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر الدعاء له ، فقال له : يا بني ، كان الشافعي كالشمس للنهار ، وكالعافية للناس ، فانظر هل لهذين من خلف؟ .. وعنهما من عوض؟ (٥).

الإمام الشافعي هذا يقول عن علم الكلام وعن أصحابه :

«حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويحملوا على الإبل ويطاف

__________________

(١) مختصر جامع بيان العلم وفضله ، وما ينبغي في روايته وحمله.

(٢) المصدر السابق.

(٣) هو : عبد الله بن عروة الهروي : من حفاظ الحديث. له كتاب الأقضية توفي عام ٣١١ ه‍.

(راجع تذكرة الحفاظ ٣ : ٨).

(٤) صون المنطق والكلام لطاش كبريزاده ج ٢ ص ٩٠.

(٥) مفتاح السعادة لطاش كبريزاده. ج ٢ ص ٩٠.

٣٦

بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام».

وفي رواية ليونس بن عبد الأعلى قال : سمعت الشافعي يقول :

«إذا سمعت الرجل يقول الاسم غير المسمى ، والشيء غير المشيء ، فاشهد عليه بالزندقة» (١).

فإذا انتقلنا إلى الإمام أحمد رضي الله عنه ، نجد إنسانا جديدا من مدرسة القرآن ، أنفق عمره في جمع حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتدوينه ، تحمل الكثير من قساوة السجن والتعذيب ، ليبطل ما يقوله المبطلون من علماء الكلام وغيرهم عن القرآن ، وصفات الله سبحانه وتعالى.

يقول الإمام أحمد لأحد طلابه عند ما سأله رأيه في هؤلاء أصحاب الكلام : «لا تجالسهم ولا تكلم أحدا منهم.

وقال له : إني ربما رددت عليهم.

قال : اتق الله ، ولا ينبغي أن تنصب نفسك ، وتشتهر بالكلام. لو كان في هذا خير لتقدمنا فيه الصحابة ، هذه كلها بدعة».

قال الطالب : «إني لست أطلبهم ، ولا أدق أبوابهم ، ولكني سمعتهم يتكلمون بالكلام ، ولا أحد يرد عليهم ، ولا أصبر حتى يرد عليهم».

قال أحمد : «إن جاءك مسترشد فأرشده» وكررها مرارا (٢). رحمك الله يا إمام السنة ، وما أحوج الأمة الإسلامية الآن أن تسير كما سرت ، وأن تنهج كما نهجت باتباع الكتاب والسنة.

فإذا أردنا أن نتعرف على رأي أبي حامد الغزالي رحمه‌الله. والذي هو عند

__________________

(١) تلبيس إبليس لابن الجوزي ، وصون المنطق والكلام للسيوطي.

(٢) أحمد بن حنبل إمام أهل السنة : للأستاذ عبد الحليم الجندي ص ٤٤٤ ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ القاهرة.

٣٧

«الطرطوشي» رجل مظلم الجهالة ، ومن أهل الضلالة ، وكاد ينسلخ من الدين ، بينما هو عند البعض الآخر ، حجة الإسلام ، وكاد الإجماع ينعقد على غزارة علمه وفضله.

الذي يهمنا في رأي الغزالي (١). أنه صاحب قلم جال في كل ميدان ، وهاجم في كل موقع ، ونازل الفلاسفة وكشف زيفهم ، وهاجم الباطنية وفند باطلهم ، واقترب من علماء الكلام ، ولكنه رفض منهجهم. يقول الغزالي رحمه‌الله في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) :

«... من أشد الناس غلوا وإسرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين ، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتهم ، ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتهم التي حرروها فهو كافر.

فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولا ، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين ، ثم جهلوا ما تواتر من السنة.

ثانيا : إذ ظهر لهم في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصر الصحابة رضي الله عنهم ، حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بعلم الدليل ، ولو اشتغلوا به لم يفهموه.

ومن ظن أن مدرك الإيمان «الكلام» والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد ضيق حد الإيمان.

بل الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عبيده» (٢).

__________________

(١) هو محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو حامد ، حجة الإسلام فيلسوف متصوف له نحو مائتي كتاب ولد في الطابران قصبة طوس بخراسان عام ٤٤٠ ه‍. رحل إلى نيسابور وبغداد والحجاز والشام ومصر ، ينسب إلى الغزل عند من يقوله بتشديد الزاي أو إلى غزاله من قرى طوس لمن قال بالتخفيف. من كتبه : إحياء علوم الدين وتهافت الفلاسفة والاقتصاد في الاعتقاد. توفي عام ٥٠٥ ه‍.

راجع وفيات الأعيان ج ١ ص ٤٦٣. وطبقات الشافعية ج ٤ ص ١٠١).

(٢) راجع فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة لأبي حامد الغزالي : تحقيق الدكتور سليمان دنيا ص ٨٩.

٣٨

ولم يكتف أبو حامد بهذا الكلام ، بل يقدم الدليل على صدق ما يقول ، ويتجه إلى صدر الإسلام حيث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومجالس الصحابة ، فيقول : جاء أعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاحدا به منكرا ، فما وقع بصره على وجهه الكريم إلا ورآه يتلألأ بأنوار النبوة. قال : ـ

«والله ما هذا بوجه كاذب».

وسأله أن يعرض عليه الإسلام فأسلم.

وجاء آخر إليه عليه الصلاة والسلام وقال : أنشدك الله ، الله بعثك نبيا؟ .. فقال عليه الصلاة والسلام : أي والله ، الله بعثني نبيا ، فصدقه بيمينه وأسلم.

وهذه وأمثالها أكثر من أن تحصى ، ولم يشتغل واحد منهم بالكلام ، وتعلم الأدلة. بل كان يبدو نور الإيمان بمثل هذه الأشياء في قلوبهم لمعة بيضاء ، ثم لا تزال تزداد إشراقا بمشاهدة تلك الأجوبة السديدة ، وتلاوة القرآن ، وتصفية القلوب. يقول الإمام الغزالي :

«فليت شعري متى نقل عن رسول الله أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أن قالوا لمن جاءهم مسلما.

الدليل على أن العالم حادث.

أنه لا يخلو عن الأعراض.

وما لا يخلوا عن الحوادث حادث» (١) ..؟

إن ذلك لم يحدث قط ، ولم يتواتر عن أحد منهم ، إن علم الكلام لم يأمر به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تناوله الصحابة من بعده حتى قال الإمام الشافعي رضي الله عنه ناهيا عن ذلك :

«لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ، ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام» (٢).

__________________

(١) راجع فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص ٨٩.

(٢) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص ٨٩.

٣٩

وعلماء الكلام لم يتركوا لإشاعة أقوالهم ، وبث أفكارهم في المجتمع الإسلامي ، بل وقف لهم علماء السنة بالمرصاد ، يفندون حججهم ، ويبطلون أدلتهم ، ويؤلفون الكتب ، ويدبجون المقالات في الرد عليهم.

ومن هؤلاء الإمام ابن عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ ـ ١٠٧١ م في كتابه (جامع بيان العلم وفضله ، وما ينبغي في روايته وحمله).

ومنهم الإمام عبد الله الأنصاري الهروي المتوفى سنة ٤٨١ ـ ١٠٨٨ م في كتابه (ذم الكلام).

ومنهم الإمام عبد الرحمن بن الجوزي القرشي البغدادي المتوفى سنة ٥٩٦ ه‍ في كتابه (نقد العلم والعلماء أو تلبيس إبليس) (١).

ومنهم الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي المتوفى بدمشق سنة ٦٢٠ ه‍ ١٢٢٣ في كتابه (تحريم النظر في كتب أهل الكلام).

ورد في هذا الكتاب على ابن عقيل الذي أباح علم الكلام.

ومنهم الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة ١٥٠٥ م في كتابه : (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام) (٢).

وقد قام جلال الدين السيوطي بتلخيص كتاب الإمام الهروي (جامع بيان العلم وفضله ، وما ينبغي في روايته وحمله) في كتابه سالف الذكر (صون المنطق والكلام).

إن علم الكلام الذي وفد على الأمة الإسلامية من خارج حدودها ، فرق وحدتها ، وشغلها عن الكثير من أداء رسالتها تجاه البشرية كلها.

__________________

(١) طبع كتاب ابن الجوزي «تلبيس إبليس» طبعات متعددة آخرها عام ١٣٩٦ ه‍ حيث عني بنشره وتخريج أحاديثه : الأستاذ محمود مهدي استانبولي.

(٢) قام بتحقيق الكتاب المذكور الدكتور : علي سامي النشار ، وأخرجه مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في طبعة صحيحة منقحة.

٤٠