شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

نفسه عن النظر ضروريا وإن كان طرفاه بالكسب على ما تقرر عند الجمهور من أن التصديق الضروري ما لا يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر وكسب (١) وعبارة المواقف وهو أن البعض ضروري بالوجدان والبعض نظري بالضرورة ربما يوهم أن الثاني ليس بالوجدان ، لكن المراد ما ذكرنا ـ وفسر القاضي أبو بكر (٢) العلم الضروري بما يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد إلى الانفكاك عنه سبيلا ، وقيد بالمخلوق لأن الضروري والنظري من أقسام العلم الحادث ، واعترض عليه بأن النفس قد تنفك عن العلم الضروري ، بأن يزول بعد الحصول لطريان شيء من أضداد العلم كالنوم والغفلة ، وبأن لا يحصل أصلا لانتفاء شرط من شرائطه مثل التوجه وتصور الطرفين ، واستعداد النفس ، والإحساس والتجربة ونحو ذلك مما يتوقف عليه بعض الضروريات.

وأجيب بأن المراد أنه لا يقتدر على الانفكاك ، والانفكاك فيما ذكرتم من الصور (٣) ليس بقدرة المخلوق وهذا ما قال في المواقف أن عبارته مشعرة بالقدرة يعني يفهم من قولنا يجد فلان سبيلا إلى كذا أو لا يجد أنه يقتدر عليه أو لا يقتدر والحاصل أن إطلاق الضروري على العلم مأخوذ من الضرورة. بمعنى عدم القدرة على الفعل والترك كحركة المرتعش. ولذا قد يفسر بما لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق إلا أن قيد الحصول مراد هاهنا بقرينة جعل الضروري من أقسام العلم الحادث ، ومصرح في عبارة القاضي (٤) ليخرج العلم بمثل تفاصيل الاعداد والاشكال مما لا قدرة للعبد على تحصيله ، ولا على الانفكاك عنه.

__________________

(١) سقط من (ب) وكسب.

(٢) القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر قاضي من كبار علماء الكلام انتهت إليه الرئاسة في مذهب الأشاعرة. ولد في البصرة عام ٣٣٨ ه‍ وسكن بغداد فتوفي بها عام ٤٠٣ ه‍. وجهه عضد الدولة سفيرا عنه إلى ملك الروم فجرت له في القسطنطينية مع علماء النصرانية بين يدي ملكها. من كتبه : إعجاز القرآن ، والإنصاف ، وكشف أسرار الباطنية ، وغير ذلك. رحمه‌الله.

(راجع وفيات الأعيان ١ : ٤٨١).

(٣) سقط من (ب) كلمة (من الصور).

(٤) القاضي : هو أبو بكر الباقلاني.

٢٠١

فإن قيل : يرد على طرد العبارتين العلم الحاصل بالنظر ، إذ لا قدرة حينئذ على تحصيله ولا على الانفكاك عنه.

أجيب (١) بأن المعتبر في الضروري نفي القدرة دائما ، وفي النظري إنما تنتفي القدرة بعد الحصول إذ قبله يقتدر على التحصيل بأن يكتسب وعلى الانفكاك بأن لا يكتسب فإن قيل : ـ سلمنا أن مراد القاضي (نفي الاقتدار على الانفكاك. إلا أن السؤال باق بعد ـ لأن الانفكاك سواء كان مقدورا أو غير مقدور ينافي اللزوم. قلنا : ـ أراد باللزوم) (٢) الثبوت أو امتناع الانفكاك بالقدرة على أن يكون آخر الكلام تفسيرا لأوله ، وفسر النظري بما يتضمنه النظر الصحيح ، بمعنى أنه لا ينفك عنه بطريق جري العادة عند حصول الشرائط ، ولم يقل ما يوجبه لما سيجيء من أن حصول النتيجة عقيب النظر ليس بطريق الوجوب ، ولم يقل ما يحصل عقيب النظر الصحيح لأن من الضروريات ما هو كذلك كالعلم بما يحدث حينئذ من اللذة أو الألم (٣) ولو قال ما يفيده النظر الصحيح وأراد الاستعقاب العادي لكان أظهر ، والكسبي يقابل الضروري ويرادف النظري فيمن يجعل طريق الاكتساب هو النظر لا غير.

وأما فيمن جوز الكسب بمثل التصفية والإلهام (٤) من خوارق العادات وقد يقال الكسبي لما يحصل بمباشرة الأسباب اختيارا كصرف العقل أو الحس. والضروري لما يقابله ويخص الكسبي النظري باسم النظري باسم الاستدلالي.

(قال : واختار الإمام أن ما يحصل من التصورات ضروري ، لامتناع الاكتساب أما من جهة المطلوب فلأنه إما معلوم مطلقا فلا يطلب ، أو مجهول مطلقا فلا يمكن التوجه إليه ، أو معلوم من وجه دون وجه فلا يمكن طلب شيء من وجهيه بخلاف التصديق ، فإنه يطلب بحصول تصوراته ، ورد بعض جهات المجهول كاف في التوجه إليه ، وأما من جهة الكاسب فلأنه إما جميع الأجزاء

__________________

(١) في (أ) بزيادة (عنه).

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) في (ب) (والألم).

(٤) ما بين القوسين سقط من (أ).

٢٠٢

وهو نفسه أو بعضها ، وفيه تعريف بالخارج أو خارج وهو يتوقف على العلم ، بالاختصاص المتوقف على تصوره وتصور ما عداه تفصيلا ، ورد بأنه مجموع تصورات الأجزاء والكسب تصور مجموعها ، وأثر الكسب في استحضارها مجموعة مرتبة فهي من حيث تعلق تصور واحد بها محدود ، ولشدة اتصال الاعتبارين قد يتوهم اتحادهما ، وإنما المتحد مجموع الأجزاء والماهية لا تصوراتها وتصور الماهية ، وأيضا تعريف الجزء للماهية إنما يستلزم تعريف شيء من أجزائها لو لم يكن مجرد تمييزها عما عداها تعريفا لها وكان العلم بها نفس العلم بالأجزاء (١) كما أنها نفسها ، وأيضا التعريف بالخارج إنما يتوقف على الاختصاص لا العلم به ولو سلم فيكفي تصوره بوجه وتصور ما عداه إجمالا).

أقول : اختار (٢) الإمام الرازي أن كل ما يحصل من التصورات فهو ضروري لأن الاكتساب يمتنع من جهة المكتسب أعني المطلوب. والكاسب أعني طريق اكتسابه.

أما الأول : فلأن المطلوب إما أن يكون معلوما فلا يمكن طلبه واكتسابه لامتناع تحصيل الحاصل ، أو يكون مجهولا فلا يمكن التوجه إليه ، ثم اعترض بوجهين. أحدهما : أنه لم لا يجوز أن يكون معلوما من وجه فيتوجه إليه مجهولا من وجه فيطلب.

وثانيهما : النقض (٣) باكتساب التصديق مع جريان الدليل فيه ـ فأجاب عن الأول : بأنه إما أن يطلب من وجهه المعلوم وهو محال لامتناع تحصيله ، أو من (٤) وجهه المجهول وهو محال لامتناع التوجه إليه. وعن الثاني : بأن ما يتعلق به التصديق كالقضية أو النسبة معلوم بحسب التصور ، فلا يمنع التوجه إليه ، ومجهول بحسب التصديق يمتنع فعلا طلب حصوله. وهذا بخلاف التصور ، فإن ما يكون مجهولا بحسب التصور يكون مجهولا مطلقا ، إذ لا علم قبل التصور ،

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٢) في (أ) يقرر بدلا من (اختيار).

(٣) في ب (النقص).

(٤) سقط من (ب) كلمة (أو من).

٢٠٣

وحاصله أن متعلق التصديق يجوز أن يتعلق به قبل التصديق علم هو التصور بخلاف متعلق التصور.

وأجيب بأن تختار أنه معلوم من وجه ، ولا نسلم امتناع التوجه حينئذ إلى وجهه المجهول ، وإنما يمتنع لو لم يكن الوجه المعلوم من وجوهه واعتباراته بحيث يخرجه عن كونه مجهولا مطلقا ، وذلك كما إذا علمنا أن لنا شيئا به الحياة والإدراكات ، فتطلبه بحقيقته أو بعوارضه المميزة له عن (١) جميع ما عداه ، على ما هو المستفاد من الحد أو الرسم. فالمجهول المطلوب لا ينحصر في الحقيقة ولا في العارض ، وما ذكر في المواقف من أن المجهول هو الذات والمعلوم بعض الاعتبارات تحقيق لما هو الأهم ، أعني إمكان اكتساب التصور بحسب الحقيقة وتنبيه على أن مجهولية الذات لازمة فيما يطلب تصوره حتى لو على الشيء بحقيقته ، وقصد اكتساب بعض العوارض له كان ذلك (٢) بالدليل لا التعريف ، ولو قصد اكتساب العارض نفسه كان هو مجهولا بحقيقته ، وما ذكر في تلخيص المحصل (٣) من أن كلا من الوجه المجهول والمعلوم حاصل لأمر ثالث هو المطلوب ؛ إلزام للإمام بما اعترف به من أن المعلوم إجمالا :

(معلوم من وجه. مجهول من وجه) (٤) :

والوجهان متغايران أحدهما ، معلوم لا إجمال فيه ، والآخر ليس بمعلوم البتة ، لكن لما اجتمعا في شيء ظن أن هناك علما إجماليا. وإلا فقد ذكر هو (٥) في نقد تنزيل الأفكار (٦) : أن المطلوب المجهول هو حقيقة الماهية

__________________

(١) سقط من (أ) كلمة (كله).

(٢) في (ب) بدلا من (كان).

(٣) هذا الكتاب لنصير الدين الطوسي ، وسماه تلخيص المحصل. أوله الحمد لله الذي يدل افتقار كل موجود في الوجود إليه .. إلخ.

(٤) سقط من (ب) كلمة (مجهول من وجه).

(٥) سقط من (ب) كلمة (هو).

(٦) هذا الكتاب يسمى «تنزيل الأفكار في تعديل الأسرار» للفاضل العلامة أثير الدين المفضل بن عمر الأبهري المتوفى (لا يعرف تاريخ وفاته) قصد فيه تحرير ما أدى أفكاره إليه واستقر عليه رأيه من القوانين المنطقية والحكمية ذاكرا فيه فساد بعض الأصول المشهورة ، وعليه شرح لبعض الأفاضل أثبت فيه ما سنح له من الرد والقبول وأورد على بعض مآخذه في تلك الأصول سيما المنطقية وسماه (تعديل المعيار في تنزيل الأفكار) فرغ منه في أوائل المحرم سنة ٦٦٤ ه‍.

(راجع كشف الظنون ج ١ ص ٤٨٤).

٢٠٤

المعلومة من جهة بعض عوارضها ، وأما الثاني : فلأن الكاسب ـ أعني المعرف ـ (١) للماهية يمتنع أن يكون نفسها لامتناع كون الشيء أجلى وأسرع معرفة من نفسه بل يكون إما جميع أجزائها وهو نفسها ، فيعود المحذور وإما بعضها ، أو خارجا عنها. ويندرج فيه المركب من الداخل والخارج ومن أفرده بالذكر أراد بالداخل والخارج المحض من ذلك ، ثم البعض إنما يعرف الماهية إذا عرف شيئا من أجزائها ، إذ لو كانت الأجزاء بأسرها معلومة أو بقيت مجهولة لم يكن المعرف معرفا أي سببا لمعرفة الماهية وموصلا إلى تصورها ، فالجزء المعرف إن كان نفسه عاد المحذور. وإن كان غيره لزم التعريف بالخارج ، ضرورة كون كل جزء خارجا عن الآخر ، ولو فرض تداخلها بنقل الكلام إلى تعريفه للجزء منه ومن غيره ، فيعود المحذور أو التعريف بالخارج وهو أيضا باطل ، لأن الخارج إنما يفيد معرفة الماهية إذا علم اختصاصه بها بمعنى ثبوته لها ففيه عن جميع ما عداها ، وهذا تصديق يتوقف على تصور الماهية وهو دور ، وتصور ما عداها من أمور الغير المتناهية على التفصيل وهو محال ، وفي عبارة المواقف هنا تسامح حيث قال ـ والبعض إن عرف الماهية عرف نفسه وقد أبطل الخارج وسنبطله لأن الذي سيبطل هو التعريف بالخارج لا الخارج ، وكأنه على حذف الباء أي عرف بالخارج أو على معنى (٢) أو عرف الأمر الذي شأنه أن يكون خارجا عن سائر الأجزاء فيكون البعض المعرف خارجا عنه ويلزم التعريف بالخارج لا الخارج ، وإنما ادعى لزوم المحالين على ما هو تقرير المحصل ، بناء على أن معرف الماهية معرف لكل جزء منها ، ولظهور المنع عليه ، اقتصرنا على أحدهما كما هو تقرير المطالب التالية ، لا يخفى أن القدح في بعض مقدمات هذا الاستدلال كاف في دفعه ، إلا أنهم لما جوزوا التعريف بجميع الأجزاء بالبعض وبالخارج احتجنا إلى التقصي (٣) عن الإشكالات الثلاثة ، أما عن الأول فبأن جميع الأجزاء وإن كانت نفس الماهية بالذات ، لكن إنما يمتنع

__________________

(١) سقط من (أ) كلمة (أعني).

(٢) سقط من (أ) كلمة (أو على معنى).

(٣) في (أ) التقص وهو تحريف.

٢٠٥

التعريف بها لو لم (١) يغايرها بالاعتبار وتحقيقه أن الأجزاء قد تتعلق بها تصورات متعددة بأن تلاحظ واحدا على التفصيل والترتيب ، فيكون كاسبا أي حدا وقد يتعلق بها تصور واحد بأن يلاحظ المجموع من حيث المجموع فيكون مكتسبا أي محدودا ، وهذا معنى قولهم في المحدود إجمال وفي الحد تفصيل ، ولا امتناع في أن يكون تصور المجموع مترتبا على مجموع التصورات ، ومسببا عنها.

فإن قيل : إذا كان مجموع التصورات مفضيا إلى تصورات (٢) المجموع ، فإن كانت حاصلة كان هو أيضا حاصلا من غير أثر للنظر والاكتساب ، وإن لم تكن حاصلة لم يصلح معرفا بل تكون مطلوبة وينقل الكلام إلى ما يحصلها ، وكذا الكلام في التعريف ببعض الأجزاء أو بالخارج ، بل في اكتساب التصديقات.

قلنا : يجوز أن تكون الأجزاء معلومة منتشرة في سائر المعلومات فيفتقر إلى النظر لاستحضار مجموعة مترتبة بحيث تفضي إلى تصور الماهية وهذا معنى الاكتساب ، وحاصله عائد إلى تحصيل الجزء الصدري (٣) بالحد ، وعلى هذا فقس ، وقال في المواقف : قدحا في قولهم لمجموع ، التصورات يحصل تصور المجموع ، والحق أن الأجزاء إذا استحضرت مترتبة حتى حصلت فهى الماهية لا أن ثمة حصول مجموع يوجب حصول تصور شيء آخر هو الماهية ، وهذا كالأجزاء الخارجية ، إذا حصلت كانت نفس المركب الخارجي لا أمرا يترتب عليه المركب ، وظاهره غير قادح لأنهم لا يدعون أن مجموع الأجزاء أمر يوجب حصوله (٤) حصول أمر آخر هو تصور المجموع ، أعني تصور الماهية ، فإن أراد نفي ذلك فباطل لا يشهد له ضرورة ولا برهان ، بل يكذبه الوجدان ولا عبرة بالقياس على الوجود الخارجي ، لأنه لا حجر في تصرفات العقل فله أن يلاحظ

__________________

(١) في (ب) بزيادة (تكن).

(٢) في (ب) تصور.

(٣) سقط من (أ) لفظ (الحد).

(٤) سقط من (أ) كلمة (حصوله).

٢٠٦

الموجود الواحد ، تارة جملة ، وتارة شيئا فشيئا ، ولم يرد في حل الإشكال على أن قال : الحد مجموع الأمور التي كل واحد منها مقدم (١) ، ولا يجدي نفعا لأن المحدود أيضا كذلك ، فلا بد في بيان المغايرة والسببية (٢) من أن يقال تلك الأمور من حيث الملاحظة تفصيلا حدا وإجمالا محدودا وهو معنى كلامهم.

وأما عن الثاني : فبأنا لا نسلم أن معرف الماهية يجب أن يعرف شيئا من أجزائها ، لجواز أن تكون الأجزاء معلومة ، ونفتقر إلى حضورها مجموعة مترتبة ممتازة عما عداها ، ويكون ذلك بالمعرف وحاصله أن الماهية وإن كانت نفس الأجزاء بحسب الذات لكن لا يلزم أن يكون العلم بها هو العلم بالأجزاء ، بمعنى التصورات المتعلقة بها ، بل لا بدّ من ملاحظتها مجتمعة متميزة عن الأغيار ، ويجوز (٣) أن تبقى الأجزاء مجهولة ويفيد المعرف (٤) ، بالذات ، ويعود التغاير إلى الإجمال والتفصيل ، كما في تعريف الماهية بأجزائها أو غيره ، ويصح التعريف بالخارج على ما سيجيء وبما ذكرنا يندفع ما يقال إن جميع أجزاء الماهية نفسها ، فكيف لا يكون العلم بها علما بها؟ وأن معرف الشيء سبب لمعرفته ، أي حصوله في الذهن ، فكيف لا يحصل شيئا من أجزائه ..؟ وأن علة حصول الشيء لو لم تكن علة لشيء من أجزائه لجاز حصول كل جزء بدونه ، فجاز حصول الكل بدونه ، فلم يكن علة ، ولنعتبر بالهيئة الاجتماعية فإنها علة لحصول المركب وليست علة لحصول شيء من أجزائه.

وأما عن الثالث : فبأنا (٥) لا نسلم أن التعريف بالخارج يتوقف عن العلم

__________________

(١) في (ب) معدم بدلا من مقدم.

(٢) في (ب) والسبب ، والسبب : هي العلاقة بين السبب والمسبب ومبدأ السببية أحد مبادي العقل ، ويعبرون عنه بقولهم ، لكل ظاهرة سبب أو علة. فما من شيء إلا كان لوجوده سبب ، أي مبدأ يفسر وجوده حتى لقد زعم «كانت» أن السببية إحدى المماثلات الضرورية لتفسير التجربة.

(٣) في (ب) لجواز.

(٤) زيد في (ب) تصور الماهية بوجه تمتاز عما عداها من غير إحاطة بحقيقة شيء من الأجزاء ولو سلم فيجوز أن يكون الجزء المعروف نفس المعرف.

(٥) في (ب) فلا نسلم.

٢٠٧

باختصاصه بل على الاختصاص نفسه ، فإن الذهن ينتقل من تصور الملزوم إلى تصور لازمه الذهني ، وإن لم يتقدم العلم باللزوم ، ولو سلم فيكفي في ذلك تصور الشيء بوجه ، وتصور ما عداه إجمالا ، كما في اختصاص الجسم بهذا الحيز ، وإن كان مبنيا على امتناع كونه في حيزين ، واشتغال حيز بمتحيزين ، وإلى هذا التسليم نظر من قال : الوصف الصالح لتعريف الشيء يجب أن يكون لازما بين الثبوت لافراده ، وبين الانتفاء عن جميع ما عداه ، وينبغي أن يعلم أنه وإن كان لازما بحسب الصدق لكن لا بدّ (١) أن يكون ملزوما بحسب التصور ، وأجاب بعض المحققين عن الأول بمنع كون جميع أجزاء الماهية نفسها ، بل جزم بأنه (٢) باطل تمسكا بأن الأشياء التي كل واحد منها متقدم على الشيء يمتنع أن يكون نفس المتأخر.

ثم قال : ويجوز أن يصير عند الاجتماع ماهيته هي المتأخرة ، فتحصل معرفتها بها ، كما أن العلم بالجنس (٣) والفصل (٤) وبالتركيب التقيدي متقدم على العلم بالجنس المقيد بالفصل ، وهي أجزاؤه ، وبها يحصل العلم به ، ورد المنع تارة بدعوى الضرورة ، وتارة بالاستدلال ، بأن جميع أجزاء الشيء إن لم تكن نفسه فإما تكون خارجة عنه وهو ظاهر البطلان أو داخلة فيه فتركب الشيء منها ومن غيرها ، فلا تكون هي جميع الأجزاء بل بعضها ، وأيضا لو كان الشيء

__________________

(١) سقط من (ب) حرف (لكن).

(٢) في (ب) بزيادة (غيرها).

(٣) الجنس في اللغة : الضرب من كل شيء وهو أعم من النوع : يقال : الحيوان جنس والإنسان نوع. قال ابن سينا : الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالأنواع أي بالصور ، والحقائق الذاتية ، وهذا يخرج النوع والخاصة والفصل والقريب.

(٤) الفصل : للفصل عند المنطقيين معنيان ، أحدهما : ما يتميز به شيء عن شيء ذاتيا كان أو عرضيا لازما أو مفارقا ، شخصيا أو كليا ، وثانيهما : ما يتميز به الشيء في ذاته ، وهو الجزء الداخل في الماهية كالناطق مثلا فهو داخل في ماهية الإنسان ، ومقوم لها ويسمى بالفصل المقوم. وهذا المعنى الثاني هو الذي أشار إليه ابن سينا في قوله : «وأما الفصل فهو الكلي الذاتي الذي يقال على نوع تحت جنس في جواب أي شيء هو منه ، كالناطق للإنسان فإنه يجاب حين يسأل أي حيوان هو ..؟».

٢٠٨

غير جميع الأجزاء فتمام حقيقته إما ذلك الغير وحده فلا يكون المفروض أجزاء ، أو مع الأجزاء فلا يكون جميعا ، وأما التمسك فضعيف ، لأن تقدم كل جزء على الشيء لا يستلزم تقدم الكل عليه ، ليمتنع كونه نفس المتأخر ، ولو كان هذا لازما لكان الكل متقدما على نفسه ، ضرورة تقدم كل جزء عليه ، والذي يلوح من كلامه أنه يريد بجميع أجزاء الشيء جميع الأمور الداخلة فيه ، من غير اعتبار التأليف والاجتماع ، وبالمركب تلك الأمور مع الاجتماع على ما قاله الكشي (١) : ان مجرد جميع أجزاء الشيء ليس نفسه ، وإنما نفسه تلك الأجزاء مع هيئة مخصوصة اجتماعية وجدانية بها هي هي ، لكن لا يخفى أن هذا راجع إلى ما ذكره البعض من أن الحد التام (٢) تعريف بجميع الأجزاء المادية ، إذ بحصولها في الذهن يحصل صورة مطابقة لما في الأعيان ، وقد رده هذا المحقق بأنه كما يعتبر في الحد التام الأجزاء المادية أعني الجنس والفصل يعتبر بالجزء الصوري ، أعني الترتيب ، لأن التعريف بالجنس والفصل لا على الترتيب لا يكون حدا تاما ، ثم أصر على أن جميع الأجزاء المادية والصورية ليست نفس المركب ، لأنها علل وهو معلول لها ، ومن المعلوم بالبديهة أن محصل الاثنين بتحصيل واحد وبتحصيل واحد آخر ، وبضم أحدهما إلى الآخر لا يكون محصلا للاثنين بنفسه ، بل يكون محصلا له بجميع أجزائه المادية والصورية.

__________________

(١) الكشي : هو محمد بن عمر بن عبد العزيز أبو عمر والكشي فقيه إمامي «نسبته» إلى كشيء من بلاد ما وراء النهر اشتهر بكتابه (معرفة أخبار الرجال). اقتصر فيه على بعض ما قيل فيهم أو روي عنهم. وكان معاصرا للعياش أخذ عنه وتخرج عليه في داره بسمرقند. توفي حوالي ٣٤٠ ه‍.

(٢) الحد في اللغة : المنع ، والفصل بين الشيئين ، ومنتهى كل شيء حده ، والحد أيضا تأديب المذنب ، وجمعه حدود. وحدود الله تعالى الأشياء التي بين تحريمها وتحليلها ، والحد في اصطلاح الفلاسفة : هو القول الدال على ماهية الشيء. وهو تعريف كامل أو تحليل تام لمفهوم اللفظ المراد تعريفه. وسنتكلم عن الحد التام والناقص بعد ذلك إن شاء الله.

٢٠٩

المبحث الثالث

في التصورات الضرورية

(المبحث الثالث : العلوم الضرورية تنحصر في ست بديهيات ، يحكم العقل بها بمجرد تصور الطرفين وتسمى الأوليات (١) ومشاهدات يحكم بها بواسطة حسن ظاهر وتسمى الحسيات ، أو باطن وتسمى الوجدانيات ، وفطريات ويحكم بها بواسطة لا تغرب عن الذهن وتسمى قضايا قياساتها ومجربات يحكم بها بواسطة تكرر المشاهدة ، ومتواترات يحكم بها بمجرد خبر جماعة يمتنع تواطؤها على الكذب ، وحدسيات يحكم بها بواسطة حدس من (٢) النفس وستعرفه).

أقول : لما كانت العلوم النظرية تنتهي إلى الضروريات جعلوا إثباتها (٣) والرد على منكريها من مبادي الكلام ، ليعلم أن ما يجعل منتهى مقدمات القياس ويدعي كونه ضروريا هل هو منها ، ولم يشتغلوا بضبط التصورات الضرورية وكأنها ترجع إلى البديهات والمشاهدات وحصروا التصديقات

__________________

(١) الأوليات : هي المقدمات اليقينية الضرورية ، وتسمى بالمبادئ الأولى والبديهيات ، ومبادي المنطق ، ومبادي العقل ، وهي ما لا يحتاج العقل في معرفته إلى وسط. قال ابن سينا : الأوليات هي قضايا ومقدمات تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب يوجب التصديق بها إلا ذواتها. ومثال ذلك : أن الكل أعظم من الجزء وهذا غير مستفاد من حس ولا استقراء ولا شيء آخر ، وأما التصديق بهذه القضية فهو من جملة الإنسان.

(راجع النجاة ص ١٠).

(٢) سقط من (أ) حرف (من).

(٣) في (ب) بيانها بدلا من إثباتها.

٢١٠

الضرورية في ست : البديهيات ، (١) والمشاهدات ، والفطريات ، والمجربات ، والمتواترات ، والحدسيات ، لأن القضايا إما أن يكون تصور أطرافها بعد شرائط الإدراك من الالتفات ، وسلامة الآلات ، كافيا في حكم العقل أو لا؟ فإن كان كافيا فهي البديهيات ، وإن لم يكن كافيا فلا محالة يحتاج إلى أمر ينضم إلى العقل ويعينه على الحكم ، أو إلى القضية أو إليهما جميعا.

فالأول : المشاهدات لاحتياجها إلى الإحساس.

والثاني : لا يخلو من أن يكون ذلك الأمر لازما وهي الفطريات أو غير لازم ، وحينئذ إن كان حصوله بسهولة فهي الحدسيات ، وإلا فليست من الضروريات بل من النظريات (٢).

والثالث : إن كان حصوله بالأخبار فالمتواترات وإلا فالمجربات ، أما البديهيات وتسمى أوليات فهي قضايا يحكم العقل بها بمجرد تصور طرفيها كالحكم بأن الواحد نصف الاثنين ، والجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين ، وقد يتوقف فيه العقل لعدم تصور الطرفين ، كما في قولنا : الأشياء المتساوية (٣) لشيء واحد متساوية ، أو لنقصان الغريزة كما في الصبيان والبله ، أو لتدنيس الفطرة بالعقائد المضادة كما في بعض الجهال ، أو لأن الله تعالى (٤) لا يخلقه على ما هو المذهب.

وأما المشاهدات : فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحواس الظاهرة

__________________

(١) البديهيات : قضايا أولية صادقة بذاتها يجزم بها العقل من دون برهان ومفردها (بديهية) مثال ذلك : الكل أعظم من الجزء والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وقد سميت بالبديهيات لأن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها من دون توسط شيء آخر وهي أساس العلم ، لأن العلم إما : بديهي ، وهو الذي لا يتوقف حصوله على نظر وكسب ، كتصور الحرارة والبرودة ، وكالتصديق بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يفترقان ، وإما النظري : وهو الذي يتوقف حصوله على نظر وكسب ، كتصور المعاني العلمية والتصديق بقوانين الطبيعة.

(٢) سقط من (ب) حرف (من).

(٣) في (ب) المساوية.

(٤) سقط من (ب) كلمة (تعالى).

٢١١

وتسمى حسيات (١) كالحكم بأن الشمس نيرة ، والنار حارة ، أو الباطنة وتسمى وجدانيات ، كالحكم بأن لنا خوفا وغضبا ، ومنها ما نجده بنفوسنا لا بالآلات البدنية كشعورنا بذواتنا وأحوالها ، وجميع أحكام الحس جزئية لأنه لا يفيد إلا أن هذه النار حارة.

وأما الحكم بأن كل نار حارة فحكم عقلي ، حصل بمعونة الإحساس بجزئيات ذلك الحكم والوقوف على علله.

وأما الفطريات : فقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عنه عند تصور الطرفين وهو المعنى بأمر لازم منضم إلى القضية ، ولهذا تسمى قضايا قياساتها معها ، كالحكم بأن الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين.

وأما المجربات : (٢) : فهي قضايا يحكم بها العقل بانضمام تكرر المشاهدة إليه ، والقياس الخفي المنتج لليقين (٣) إليها أن الوقوع المتكرر على نهج واحد (٤) لا بد له من سبب وإن لم يعرف ماهيته ، فكلما علم وجود السبب علم وجود المسبب قطعا ، وذلك كالحكم بأن السقمونيا مسهل للصفراء.

وأما المتواترات : فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة كثرة شهادة المخبرين

__________________

(١) الحسيات : جمع الحس ، وتسمى المحسوسات أيضا ، وتطلق في القضايا على معنيين الأول : هو القضايا التي يجزم بها العقل بمجرد تصور طرفيها بواسطة الحس الظاهر أو الباطن. وهي كلها أحكام جزئية حاصلة من المشاهدات. فإذا كانت الحس الظاهر سميت محسوسات. مثل حكمنا بوجود الشمس وإفادتها ووجود النار وحرارتها ووجود الثلج وبياضه. وإذا كانت بواسطة الحس الباطن سميت وجدانيات مثل شعورنا بأن لنا فكرة وإرادة وخوفا وغضبا.

(٢) المجربات : أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة القياس ، وذلك أنه إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء مثل الاسهال للسقمونيا والحركات المرصودة للسماويات تكرر ذلك منا في الذكر. وإذا تكرر منا ذلك في الذكر ، حدثت لنا منه تجربة ، بسبب اقتران بالذكر ، وهو أنه لو كان هذا الأمر كالاسهال مثلا عن «السقمونيا» اتفاقيا عرضيا لا عن مقتضى طبيعته لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف ، حتى انه إذا لم يوجد ذلك ، استندت النفس الواقعة فطلبت سببا لما عرض من أنه لم يوجد فالمجربات : قضايا وأحكام تتبع مشاهدات منا تتكرر.

(ابن سينا الإشارات ص ٥٦ ، والنجاة ٩٤ : ٩٥).

(٣) في (ب) للتعيين

(٤) في (ب) المكر وهو تحريف.

٢١٢

بأمر ممكن مستند إلى المشاهدة ، كثرة يمتنع تواطؤهم على الكذب ، فينضم إلى العقل سماع الأخبار وإلى القضية قياس خفي ، هو أنه لو لم يكن هذا الحكم حقا لما أخبر به هذا الجمع.

وأما الحدسيات : فهي قضايا يحكم بها العقل بحدس قوي من النفس يزول معه الشك، ويحصل اليقين بمشاهدة القرائن ، كالحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس ، لما نرى من اختلاف تشكلات نوره بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس ، وذلك أنه يضيء دائما جانبه الذي يلي الشمس وينتقل ضوؤه إلى مقابلة الشمس ، فيحدس العقل بأنه لو لم يكن نوره من الشمس لما كان كذلك ، فهي كالمجربات في تكرر المشاهدة ومقارنة القياس الخفي إلا أن السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية. وفي الحدسيات معلوم بالوجهين ، إلا أن الوقوف عليه يكون بالحدس دون الفكر ، وإلا لكان من العلوم الكسبية ، وستعرف معنى الحدس في بحث النفس.

قال : (وقد تنحصر في البديهيات والمشاهدات لشمولها الكل ، أو لأن ضرورية ما سواهما ، بل يقينية المجربات والحدثيات لا تخلو عن نظر ، إلا أن المحققين منهم لم يجعلوه من النظريات بل بواسطة (١) والنزاع لفظي ، فإن قيل كيف ينازع في المتواتر (٢) وهو نوع من الحسي ..؟ قلنا : الكلام في مضمون الأخبار المسموعة ، كوجود مكة مثلا. فقول الرواة : إنه عليه الصلاة والسلام قال : «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (٣) مسموع ، والعلم

__________________

(١) في (ب) بل واسطة.

(٢) التواتر : يفيد العلم ، وذلك لا خلاف فيه إلا في قول ضعيف ، وله أربعة شروط : الأول : أن يخبر عن علم لا عن ظن. الثاني : أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس. الثالث :

أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه المصنفات ، وفي كمال العدد. الرابع : العدد. وعدد المخبرين ينقسم إلى ناقص : فلا يفيد العلم. وإلى كامل : فيفيد العلم ، وإلى زائد يحصل به العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلة.

(راجع مقدمة جامع الأصول في أحاديث الرسول ج ١ ص ١٢٠).

(٣) الحديث رواه البخاري في الرهن ٦ والترمذي في الأحكام ١١ وابن ماجة في الأحكام ٧.

٢١٣

بأن هذا حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصل بالتواتر ضرورة أو غير ضرورة ، وبأن البينة إنما تكون على المدعي حاصل بخبر الصادق استدلالا).

ذكر (١) في المحصل (٢) أن الضروريات هي الوجدانيات ، وأنها قليلة النفع في العلوم ، لكونها غير مشتركة والحسيات والبديهيات ، وتبعه صاحب المواقف (٣) إلا أنه ذكر في موضع آخر أن الضروريات هي الست المذكورة ، والوهميات في المحسوسات كالحكم بأن كل جسم في جهة واعتذر لما في المحصل بوجهين :

أحدهما : أن البديهيات تشمل الفطريات نظرا إلى أن الوسط لما كان لازما لتصور الطرفين فكان العقل لم يفتقر إلا إلى تصورهما ، والحدسيات تشمل المجربات والمتواترات ، نظرا إلى استناد حكم العقل فيهما إلى الحس ، لكن مع التكرر وكذا الحدسيات.

وثانيهما : أن كون المجربات والمتواترات والحدسيات من قبيل الضروريات موضع بحث على ما فصله الإمام في الملخص ، لاشتمال كل منها على ملاحظة قياس خفي ، وكذا القضايا التي قياساتها معها ، ونازع بعضهم في كون المجربات والحدسيات من قبيل اليقينيات ، فضلا عن كونها ضرورية بل جعل كثير من العلماء الحدسيات من قبيل الظنيات ، ثم المحققون من القائلين هذه الأربعة ليست من الضروريات ، على أنها ليست من النظريات أيضا بل

__________________

(١) في (ب) بزيادة (أقول).

(٢) المحصل : يسمى : محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي أوله : الحمد لله المتعالي بجلال أحديته عن مشابهة الأعراض والجواهر إلخ ورتبه على أربعة أركان : الأول : في المقدمات. الثاني : في تقسيم المعلومات. الثالث : في الإلهيات. الرابع : في السمعيات. اختصره علاء الدين على بن عثمان المارديني ، وشرحه العلامة المحقق علي بن عمر الكاتبي القزويني.

(٣) هو : عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي القاضي المتوفى سنة ٧٥٦ ه‍ ، والكتاب ألفه لغياث وزير خدابنده ، وهو كتاب جليل القدر رفيع الشأن. شرحه السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني ت سنة ٨١٦ ه‍. وشرحه الكرمانى ت سنة ٧٧٦.

٢١٤

واسطة لعدم افتقارها إلى الاكتساب الفكري ، وبهذا يشعر كلام الإمام حجة الإسلام (١) حيث قال : العلم الحاصل بالتواتر ضروري بمعنى أنه لا يحتاج إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن ، وليس ضروريا بمعنى الحاصل من غير واسطة كما في قولنا : الموجود ليس بمعدوم فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين (٢).

إحداهما : أن هؤلاء مع كثرتهم ، واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع.

الثانية : أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة لكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين ولا إلى الشعور بتوسطهما ، ولا بإفضائهما (٣) إليه.

وبهذا يظهر أن النزاع لفظي مبني على تفسير الضروري ، أنه الذي لا يفتقر إلى واسطة أصلا ، أو الذي نجد أنفسنا مضطرين إليه.

فإن قيل : المتواترات من قبيل المحسوسات بحس السمع فيجب أن يكون ضروريا بلا نزاع ، كالعلم بأن النار حارة.

قلنا : الكلام في العلم بمضمون الخبر المسموع (٤) تواتر كوجود مكة مثلا ، وهو معقول. آلته بتكرر السماع (٥) حتى إذا كان المسموع المتواتر خبرا عن نسبته خبر إلى صدق كان العلم بمضمون ذلك الخبر اكتسابيا وفاقا ، مثلا إذا تواترات الأخبار بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» (٦).

فالعلم بأن هذا صوت المخبرين مأخوذ من الحس ، والعلم بأن الخبر

__________________

(١) حجة الإسلام : هو أبو حامد بن محمد الغزالي المتوفى سنة ٥٠٥ ه‍ من كتبه مقاصد الفلاسفة : وتهافت الفلاسفة ، وإحياء علوم الدين ، والمنقذ من الضلال.

(٢) في (أ) مفدمين وهو خطأ.

(٣) سقط من (أ) حرف (ولا).

(٤) في (ب) المشروع ـ وهو تحريف.

(٥) في (ب) السمع.

(٦) سبق تخريج هذا الحديث.

٢١٥

المنقول كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المستفاد من القضية ، التي من قبيل المتواترات ، المتنازع في أنه ضروري (١) أو غير ضروري والعلم بأن البينة تجب على المدعي كسبي مستفاد من ترتيب المقدمتين ، أعني أن هذا خبر النبي عليه‌السلام. وكل ما هو خبر عن النبي عليه‌السلام فمضمونه حق ، لما ثبت من صدقه بدلالة المعجزات ، وما يقال من (٢) أن هذا الحديث متواتر فمعناه أن الخبر بكونه كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متواتر ، سواء كان هو في نفسه خبرا أو إنشاء.

قال (وأما المنكرون فمنهم من قدح في الحسيات بأن الحس قد يغلط كثيرا ، والجواب أنه لا ينافي الجزم المطابق فيما لا غلط فيه).

أقول (٣) قد ثبت اتفاق أهل الحق على أن الحسيات والبديهيات مبادي أول لما يقوم حجة على الغير ، وأنكر ذلك (٤) جماعة فمنهم من قدح (٥) في الحسيات وحصر المبادي الأول في البديهيات ، ومنهم من عكس ، ومنهم من قدح فيهما جميعا ، ولكل من الفرق شبه ، وقد أطنب الإمام (٦) فيها بتكثير الأمثلة ، ونسب القول بعدم كون الحسيات من اليقينيات إلى أكابر الفلاسفة ، ورد بأن علومهم اليقينية مبنية عليها ، والمبادي (٧) الضرورية مستندة إليها ، على ما صرحوا بأن مبادي المجربات والمتواترات والحدسيات هي الإحساس بالجزئيات ، وأن الأوليات يكتسبها الصبيان باستعداد يحصل لعقولهم من الإحساس بالجزئيات ، فكيف ينسب إليهم القول بأنها ليست يقينية ..؟ واعتذر بأن المراد أن جزم العقل بالأحكام المأخوذة من الحس قد تتوقف على شرائط ، ربما لا يعلم ما هي. ومتى حصلت ..؟ وكيف حصلت ..؟ فلذلك جعلوا لبيان مواضع الغلط في

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (غير).

(٢) سقط من (أ) لفظ (من).

(٣) سقط من (أ) لفظ (أقول).

(٤) سقط من (ب) لفظ (ذلك).

(٥) سقط من (ب) لفظ (قدح).

(٦) الإمام : هو فخر الدين محمد بن عمر الرازي سنة ٦٠٦ ه‍ وقد سبق الترجمة له.

(٧) في (ب) بزيادة لفظ (أول).

٢١٦

المحسوسات ، وأن أي أحكامها تكون يقينية ، وأيها تكون غير يقينية ، صناعة المناظر كما جعلوا لبيان ذلك في المعقولات صناعة سوفسطيا (١) ، وما ذكر في تلخيص المحصل من أنه لا حكم للحس لأنه ليس من شأنه (٢) التأليف الحكمي ، بل الإدراك فقط ، وإنما الحكم للعقل ، ليس ردا لكلام الإمام بالمناقشة في أن الحاكم هو الحس أو العقل بواسطته ، بل لما رتب عليه من المقصود حيث قال : فالمحسوس من حيث إنه محسوس لا يوصف بكونه يقينيا أو غير يقيني ، وإنما يوصف به من حيث مقارنته لحكم العقل ، وحينئذ يصير المعنى أن أحكام العقل في المحسوسات ليست بيقينية لما قد يقع فيها من الغلط ، وهذا لا يختص ، بالمحسوسات ، لأن المعقولات الصرفة أيضا قد يقع فيها الغلط ، ولا تصح نسبته إلى الحكماء (٣) لتصريحهم بخلاف ذلك. نعم لما ذكر الإمام أنه ثبت بما ذكر من الشبه أن حكم الحس قد يكون غلطا فلا بد من حاكم آخر فوقه يميز صوابه عن خطئه ، فلا يكون الحس هو الحاكم الأول ، رده بأن الحس ليس بحاكم أصلا ، بل الحاكم في الكل هو العقل ؛ وأما اشتغاله ببيان أسباب الغلط فيما أورده الإمام من الصور فقد اعترف بأنه تنبيه لمن يثق أو يعترف بالوقوف (٤) على الأوليات والمحسوسات ببيان التقصي (٥) عن مضايق (٦) مواضع الغلط ، ثم إحالة تصويب

__________________

(١) سفسطة ، عند الفلاسفة : هي الحكمة المموهة ، وعند المنطقيين : هي القياس المركب من الوهميين والغرض منه تغليط الخصم وإسكاته كقولنا : الجوهر موجود في الذهن وكل موجود في الذهن عرض ، ينتج أن الجوهر عرض. تطلق السفسطة أيضا على القياس الذي تكون مقدماته صحيحه ونتائجه كاذبة لا ينخدع بها أحد.

(٢) سقط من (أ) لفظ (ليس).

(٣) الحكيم : صاحب الحكمة. ويطلق على الفيلسوف ، والعالم ، والطبيب وعلى صاحب الحجة القطعية المسماة بالبرهان. والحكيم من أسماء الله تعالى ، وقد سمي القرآن الكريم بالذكر الحكيم ، لأنه الحاكم للناس وعليهم ، ولأنه محكم لا اختلاف فيه ولا اضطراب.

والحكماء السبعة عند قدماء اليونانيين هم : ١ ـ طالس ، ٢ ـ بيتاكوس ٣ ـ بياس ٤ ـ صولون ، ٥ ـ كليوبول ، ٦ ـ ميزون ، ٧ ـ شيون.

(راجع كتاب بروتاغوراس لأفلاطون ٣٤٣).

(٤) في (ب) بالوثوب وهو تحريف.

(٥) في (ب) التفصي بالفاء وليس بالقاف.

(٦) في (ب) تضايق.

٢١٧

الصواب وتخطئة الخطأ إلى صريح العقل ، من غير افتقار إلى دليل في الوثوق بالمحسوسات ، ولا جواب عن شيء من الشكوك ، ولا تأمل في الأسباب وحصرها ، وانتقائها ونحو ذلك ، وحاصل الشكوك أنه لا وثوق على حكم الحس ، أما في الكليات (١) فلأنه لا يحيط بها كيف ، وهي لا تقتصر على الأفراد المحققة. وأما في الجزئيات فلأنه (٢) كثير ما يكون حكمه فيها غلطا ، بأن يقع الحكم في المحسوسات على خلاف ما هو عليه ، فإنا نرى الصغير كبيرا أو بالعكس (٣) والواحد كثيرا أو بالعكس ، والساكن متحركا إلى غير ذلك ، كما نرى العنبة في الماء كالإجاصة ، والجرة من بعيد كالكوز ، والقمر في الماء قمرين ، والألوان المختلفة في الخطوط المخرجة من مركز الرحى إلى محيطها عند إدارتها لونا واحدا ممتزجا من الكل ، ويرى(٤) من في السفينة ساكنة وهي متحركة ، والشط متحركا وهو ساكن ، إلى غير ذلك.

والجواب : أن غلطه في بعض الصور لا ينافي الجزم المطابق في كثير من الصور ، كما في الحكم بأن الشمس مضيئة والنار حارة ، إذ العقل قاطع بأنه لا غلط هناك من غير افتقار إلى نظر ، وإن كان ذلك بمعونة أمور لا تعلم على التفصيل وهذا ما قاله في المواقف : إن مقتضى ما ذكر من الشبه أن لا يجزم (٥) العقل بأحكام المحسوسات لمجرد الحس (٦) لا أن لا يوثق بجزمه بما جزم به وكونه محتملا ، أي ولا أن يكون كل ما جزم به العقل من أحكام المحسوسات محتملا أي بصدد الاحتمال بناء على عدم الوثوق بما وقع فيه من الجزم.

__________________

(١) الكلي : عند المنطقيين ، هو الشامل لجميع الأفراد الداخلين في صنف معين ، أو هو المفهوم الذي لا يمنع تصوره من أن يشتمل فيه كثيرون. قال ابن سينا : اللفظ المفرد الكلي هو الذي يدل على كثيرين في الوجود كالإنسان أو كثيرين في جواز التوهم : كالشمس ، وبالجملة الكلي : هو اللفظ الذي لا يمنع مفهومه أن يشترك في معناه كثيرون فإن منع من ذلك شيء فهو غير نفس مفهومه.

(راجع النجاة ص ٨) والكليات الخمس : هي الجنس ، والنوع ، والفصل. والخاصة ، والعرض العام.

(٢) في (ب) فلأن.

(٣) في (ب) وبالعكس بدون الهمزة.

(٤) في (ب) ونرى.

(٥) في (ب) أنه.

(٦) في (أ) ألا بزيادة همزة.

٢١٨

فقوله ، وكونه محتملا مرفوع معطوف على أن لا وثوق (١) لا مجرور معطوف على جزمه ، إذ ليس فيه كثير معنى.

قال : (ومنهم من قدح في البديهيات : بأن أجلاها وأعلاها الشيء إما أن يكون ، وإما أن لا يكون (٢) ، وهو يتوقف على تصور الوجود (٣) والعدم (٤) وتحقيق معنى الوضع والحمل ، ودفع شبهاتهما ، وفيها أفكار دقيقة ، والجواب أنها لا تورث شكا فإن شئنا أعرضنا وإن شئنا نبهنا)

أقول (٥) : إنها فرع الحسيات لأن الإنسان إنما يتنبه للبديهيات بعد الإحساس بالجزئيات ، والتنبه لما بينهما من المشاركات والمباينات.

ولا يلزم من القدح في الفرع القدح في الأصل ، وإنما يلزم لو كان الفرع لازما له نظرا إلى ذاته ، ووجه القدح أن أجلى التصديقات ليس (٦) البديهية وأعلاها قولنا : النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ، يعني أن الشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون ، وهذا غير موثوق به ، أما كونه أجلى فجلى ، وأما كونه أعلى أي أسبق فلتوقف الكل عليه ، واستنادها إليه ، مثلا يلاحظ في قولنا الكل

__________________

(١) في (أ) لا يوثق.

(٢) سقط من (ب) لفظ (يكون).

(٣) الوجود عند الفلاسفة : مقابل للماهية. لأن الماهية هي الطبيعة المعقولة للشيء. والوجود هو التحقق الفعلي له ، وكون له ، وكون الشيء حاصلا في التجربة غير كونه ذا طبيعة معقولة.

ومن الفلاسفة من يقول : إن وجود الشيء زائد على ماهيته كابن سينا ، ومنهم من يقول : إن وجود الشيء عين ماهيته ، كوجود الإنسان. والوجود ينقسم إلى وجود خارجي ، ووجود ذهني. فالخارجي عبارة عن كون الشيء في الأعيان ، وهو الوجود المادي ، والوجود الذهني. عبارة عن كون الشيء في الأذهان ، وهو الوجود العقلي أو المنطقي.

(٤) العدم : ضد الوجود. وهو مطلق أو إضافي. فالعدم المطلق هو الذي لا يضاف إلى شيء. والعدم الإضافي ، أو المقيد ، هو المضاف إلى شيء. كقولنا عدم الأمن ، عدم الاستقرار ، وعدم التأثر. قال ابن سينا : البالغ في النقص غايته ، فهو المنتهى إلى مطلق العدم فبالأحرى أن يطلق عليه معنى العدم المطلق.

(الإشارات ٦٩ ـ ٧٠).

(٥) سقط من (أ) لفظ (أقول).

(٦) سقط من (أ) لفظ (ليس).

٢١٩

أعظم من الجزء ، أنه لو لم يكن كذلك لكان الجزء الآخر كائنا وليس بكائن ، وفي قولنا : الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين ، أنه لو وجد فيهما لكان الواحد اثنين ، فيكون أحد المثلين كائنا وليس بكائن ، وعلى هذا القياس ، وأما عدم الوثوق ، فلأن العلم بحقيقة هذه القضية وقطعيتها يتوقف على تصور الوجود ، والعدم أعني الكون واللاكون وعلى تحقيق معنى كون الشيء موضوعا وكونه محمولا ، وعلى دفع الشبهات التي تورد على الأمرين ، وهذه الأمور الثلاثة إنما تتبين بأنظار دقيقة فإن تمت الأنظار وحصلت المطالب ويتوقف لا محالة على أحقية (١) هذه القضية لكونها أول الأوائل ، لزم الدور (٢) وكون الشيء نظريا على تقدير (٣) كونه ضروريا وهو محال ، وإن بقي شيء منها (٤) في حيز الإبهام لم يحصل الجزم بالقضية ، وهو المرام ، والجواب أن بديهة العقل جازمة بها وبحقيقتها (٥) من غير نظر واستدلال في تحقيق النسبة ولا في دفع الشبهة ، وما يورد من الشكوك لا يورث قدحا(٦) في ذلك الجزم ، ولا يمكن دفعه بالنسبة إلى من لا يعترف بالبديهيات ، فإن شئنا أعرضنا عنه وإن شئنا نبهناه عسى أن يعترف أو يحصل له استعداد النظر واستحقاق المباحثة ، فمن الشبه أن هذا التصديق يتوقف على تصور الوجود والعدم وتميزهما (٧) ، وهذا يقتضي الثبوت ولو في الذهن ، وثبوت العدم المطلق تناقض (٨) ثم لا بد من إمكان سلب العدم المطلق ليتحقق (٩) الوجود في الجملة فيكون هذا السلب قسما من العدم

__________________

(١) في (ب) حقيقة.

(٢) الدور : في اللغة : عود الشيء إلى ما كان عليه. والدور في المنطق علاقة بين حدين يمكن تعريف كل منهما بالآخر ، أو علاقة بين قضيتين يمكن استنتاج كل منهما من الأخرى ، أو علاقة بين شرطين يتوقف ثبوت أحدهما على ثبوت الآخر. فالدور إذن هو توقف كل واحد من الشيئين على الآخر وينقسم إلى دور علمي. ودور إضافي ، أو معنى. ودور مساو.

(٣) في (ب) تقدم.

(٤) (ب) منه.

(٥) في (ب) يحقيقتها بدون الواو.

(٦) في (ب) (قد جاء) وهو تحريف.

(٧) في (أ) وغيرهما.

(٨) في (أ) مناقض.

(٩) في (ب) لتحقق.

٢٢٠