شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

قولنا الواجب ليس بجوهر (١) ولا عرض (٢) هو ذات الله تعالى من حيث عدم الجوهرية والعرضية.

فإن قيل : لو كان الموضوع ذات الله تعالى وحده أو مع ذات الممكنات من حيث الاستناد إليه لما وقع البحث في المسائل إلا عن أحوالها ، واللازم باطل ، لأن كثيرا من مباحث الأمور العامة والجواهر والأعراض بحث عن أحوال الممكنات ، لا من حيث استنادها إلى الواجب.

قلنا : يجوز أن يكون ذلك على سبيل الاستطراد ، قصدا إلى تكميل الصناعة ، بأن يذكر مع المطلوب ماله نوع تعلق من اللواحق والفروع والمقابلات ، وما أشبه ذلك ، كمباحث المعدوم والحال وأقسام الماهية والحركات والأجسام ، أو على سبيل الحكاية لكلام المخالف ، قصدا إلى تزييفه كبحث علة اليقين (٣) والآثار العلوية والجواهر المجردة ، أو على سبيل المبدئية بأن يتوقف عليه بعض المسائل ، فيذكر لتحقيق المقصود ، بأن لا يتوقف بيانه على ما ليس يبين (٤) كاشتراك الوجود واستحالة التسلسل ، وجواز كون الشيء قابلا وفاعلا ، وإمكان الخلاء وتناهي الأبعاد ، وأما ما سوى ذلك فيكون من فضول الكلام ،

__________________

(١) قال ابن سينا : الجوهر هو كل ما وجود ذاته ليس في موضوع ؛ أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه لا بتقويمه (النجاة ص ١٢٦) وقال أيضا : ويقال جوهر لكل ذات وجوده ليس في موضوع ، وعليه اصطلح الفلاسفة القدماء منذ عهد أرسطو.

والخلاصة : أن الجوهر هو الموجود لا في موضوع ويقابله العرض ، بمعنى الموجود في موضوع ، فإن كان الجوهر حالا في جوهر آخر كان صورة ، إما جسمية وإما نوعية ، وإن كان محلا لجوهر آخر كان هيولى ، وإن كان مركبا منهما كان جسما.

(٢) العرض : ضد الجوهر لأن الجوهر هو ما يقوم بذاته ، ولا يفتقر إلى غيره ليقوم به ، على حين أن العرض هو الذي يفتقر إلى غيره ليقوم به ، فالجسم جوهر يقوم بذاته ، أما اللون فهو عرض لأنه لا قيام له إلا بالجسم ، وكل ما يعرض في الجوهر من لون وطعم وذوق ولمس وغيره فهو عرض.

وقال ابن سينا : كل ذات لم يكن في موضوع فهو جوهر ، وكل ذات قوامها في موضوع فهي عرض (النجاة ص ٣٢٤).

وقال الخوارزمي : العرض هو ما يتميز به الشيء عن الشيء لا في ذاته كالبياض من السواد ، والحرارة من البرودة ، وغير ذلك (مفاتيح العلوم ص ٨٦).

(٣) في (ب) التعيين بدلا من (اليقين).

(٤) في (ب) بين وهو تحريف.

١٨١

يقصد به تكثير المباحث ، كما اشتهر فيما بين المتأخرين من خلط كثير من مسائل الطبيعي والرياضي بالكلام.

فإن قيل : لا يجوز أن يكون للكلام مبادي تفتقر إلى البيان وتثبت بالبرهان ، لأن مبادي العلم إنما تتبين في علم منه. وليس في العلوم الشرعية ما هو أعلى من الكلام ، بل الكل جزئي بالنسبة إليه ، ومتوقف بالآخرة عليه ، فمبادؤه لا تكون إلا بينة بنفسها.

قلنا : ما يبين فيه مبادي العلم الشرعي لا يجب أن يكون علما أعلى ، ولا أن يكون علما شرعيا ، للإطباق على أن علم الأصول يستمد من العربية ويبين فيها بعض مباديه ، وتفصيل ذلك على ما هو المذكور في الشفاء وغيره ، أن مبادي العلم قد تكون بينة بنفسها فلا تبين في علم أصلا ، وقد تكون غير بينة فتبين في علم أعلى ، بجلالة (١) محله عن أن يبين في ذلك العلم ، كقولنا : الجسم مؤلف من الهيولي (٢) ، الصورة (٣) فإنه من مبادي الطبيعي ، ومن مسائل الفلسفة الأولى ، أو في علم أدنى لدنو شأنه عن أن يبين في ذلك العلم ، كامتناع الجزء الذي لا يتجزأ فإنه من مسائل الطبيعي ، ومن مبادي الإلهي لإثبات الهيولي والصورة فيجب أن يبين بمقدمات لا تتوقف صحتها عليها (٤) لئلا يلزم الدور.

__________________

(١) في (ب) لجلاله.

(٢) الهيولي : لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة. وفي الاصطلاح : هي جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال ، محل للصورتين الجسمية والنوعية ، (تعريفات الجرجاني) قال ابن سينا : الهيولي المطلقة. فهي جوهر ، ووجوده بالفعل إنما يحصل لقبول الصورة الجسمية لقوة فيه قابلة للصور ، وليس له في ذاته صورة تخصه إلا معنى القوة. ومعنى قولي لها : هي جوهر.

(٣) الفلاسفة يفرقون بين الصورة الجسمية ، والصورة النوعية بقولهم : إن الصورة الجسمية جوهر بسيط متصل ؛ لا وجود لمحله دونه قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم في بادئ النظر أو هي الجوهر الممتد في الأبعاد كلها. المدرك في بادئ النظر بالحس على حين أن الصورة النوعية جوهر بسيط ، لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه (تعريفات الجرجاني).

(٤) في (ب) عليه بدلا من (عليها).

١٨٢

(وقد يبين في ذلك العلم نفسه بشرط أن لا يكون مبدأ لجميع مسائله ، وأن لا يبين بمسألة تتوقف عليه لئلا يدور) (١).

فهذا يكون مبدأ باعتبار ، ومسألة باعتبار ، كأكثر مسائل الهندسة وككون الأمر للوجوب فإنه مسألة من الأصول ، ومبدأ لمسألة وجوب القياس تمسكا بقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا) (٢) ولا يخفى أنه يجب في هذا القسم أن يكون بحثا عن أحوال موضوع الصناعة ، ليصح كونه من مسائلها ، فما نحن فيه أعني البحث عن أحوال الممكنات لا على وجه الاستناد لا يكون من هذا القبيل فتعين البيان في علم أدنى أو أعلى ، فيثبت هذا المبدأ بدليل قطعي من غير مخالفة للقواعد الشرعية ، وإن لم يعد ذلك العلم من العلوم الإسلامية ، كالإلهي الباحث عن أحوال الموجود على الإطلاق. وهنا شيء آخر وهو أن (٣) المفهوم من شرح الصحائف (٤) أن ليس معنى البحث عن أحوال الممكنات على وجه الاستناد أن يكون ذلك ملاحظا في جميع المسائل ، بل أن يكون البحث عن أحوال تعرض للممكنات من جهة استنادها إلى الله تعالى : فإن (٥) أحوال الممكنات التي يبحث عنها في الكلام أحوال مخصوصة معلومة بحكم (٦) فيضانها عن تأثير (٧) قدرة الله تعالى ، ذلك إنما يكون لحاجتها إلى الله تعالى ، فيكون عروضها للممكنات ناشئا عن جهة حاجتها إليه.

(قال : واعترض بأن إثبات الصانع من أعلى مطالب الكلام ،

__________________

(١) سقط من (ب) ما بين القوسين.

(٢) سورة الحشر آية رقم ٢ وتكملة الآية (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ).

(٣) سقط من (ب) حرف (أن).

(٤) كتاب الصحائف في الكلام أوله : الحمد لله الذي استحق الوجود والوحدة إلخ وهو على مقدمة وست صحائف وخاتمة ، ومن شروحه المعارف في شرح الصحائف للسمرقندي شمس الدين محمد وشرحه البهشتي أيضا بشرحين (راجع كشف الظنون ج ٢ ص ١٠٧٥).

(٥) زيد في (ب) قال : إن أحوال .. إلخ.

(٦) في (ب) يحكم بفيضانها.

(٧) في (ب) تأثير.

١٨٣

وموضوع (١) العلم لا يبين فيه ، بل فيما فوقه حتى ينتهي إلى ما موضوعه بين الوجود كالموجود ، من حيث هو).

أقول : لما كان من المباحث الحكمية ما لا يقدح في العقائد الدينية ، ولم يناسب غير الكلام من العلوم الإسلامية ، خلطها المتأخرون بمسائل الكلام إفاضة للحقائق ، وإفادة لما عسى (٢) أن يستعان به في التقصي (٣) عن المضايق ، وإلا فلا نزاع في أن أصل الكلام لا يتجاوز مباحث الذات والصفات ، والنبوة والإمامة والمعاد ، وما يتعلق بذلك من أحوال الممكنات ، فلذا اقتصر القوم في إبطال كون موضوع الكلام ذات الله (٤) وحده أو مع ذات الممكنات من جهة الاستناد على أنه لو كان كذلك لما كان إثباته من مطالب الكلام ، لأن موضوع العلم لا يبين فيه ، بل في علم أعلى إلى أن ينتهي إلى ما (٥) موضوعه بين الثبوت كالموجود ، وذلك لأن حقيقية العلم إثبات الأعراض الذاتية للشيء على ما هو معنى الهلية المركبة ، ولا خفاء في أنها بعد الهلية البسيطة لأن ما لا يعلم ثبوته لا يطلب ثبوت شيء له. لكن لا نزاع في أن إثبات الواجب بمعنى إقامة البرهان على وجوده من أعلى مطالب الكلام ، ثم كونه مبدأ الممكنات (٦) بالاختيار أو الإيجاب بلا وسط (٧) في الكل أو بوسط (٨) في البعض بحث آخر ـ والقول بأن إثباته إنما هو من مسائل (٩) الإلهي دون الكلام ظاهر الفساد ، وإلا لكان هو أحد العلوم الإسلامية بل رئيسها ، ورأسها ومبنى القواعد الشرعية وأساسها ، وأجاب بعضهم بأنه جاز هاهنا إثبات (١٠) الموضوع في العلم لوجهتين :

الأول : أن الوجود من أعراضه الذاتية لكونه واجب الوجود بخلاف سائر العلوم ، فإن الوجود إنما يلحق موضوعاتها لأمر مباين ، وكان هذا مراد من قال :

__________________

(١) سقط من (ب) كلمة (العلم).

(٢) سقط من (ب) أن.

(٣) في (ب) التقضي وهو تحريف.

(٤) زيد في (ب) وكلمة (تعالى).

(٥) زيد في (ب) كلمة (يكون).

(٦) في (ب) للممكنات.

(٧) (في (ب) بلا واسطة.

(٨) في (ب) بواسطة (من).

(٩) سقط من (أ) كلمة (من).

(١٠) في (أ) ثبات.

١٨٤

موضوع العلم إنما لا يبين فيه إذ كان البحث فيه عن الأحوال التي هي غير الوجود ، وإلا فهذه التفرقة (١) مما لا يشهد بها عقل ولا نقل ، بل ليس لها كثير معنى.

فإن قيل : هذا لا يصح على رأي من يجعل الوجود نفس الماهية وهو ظاهر ، ولا على رأي من يجعله زائدا مشتركا ، لأن العرض الذاتي يكون مختصا.

قلنا سواء كان (٢) ذاته نفس الوجود أو غيره ، فإما أن يكون هناك قضية كسبية محمولها الموجود في الخارج بطريق الوجوب ، فيتم الجواب أو لا فيسقط أصل الاعتراض.

الثاني : أنه (٣) لا علم شرعي فوقه يبين فيه موضوعه ، فلا بد من بيان فيه ، وفيه نظر.

أما أولا : فلأنه ليس من شرط العرض الذاتي أن لا يكون معلوما (٤) للغير ، بل أن لا يكون لحوقه للشيء (٥) بتوسط لحوقه لأمر خارج غير مساو للاتفاق ، على كون الصحة والمرض عرضا ذاتيا للإنسان والحركة والسكون للجسم ، والاستقامة والانحناء للخط إلى غير ذلك.

وأما ثانيا : فلأنه يلزم أن لا يكون ببيان وجود شيء من الممكنات مسألة في شيء(٦) من العلوم (٧) فلا يصح أن موضوع العلم إنما يبين وجوده في علم أعلى.

وأما ثالثا : فلأن قولهم موضوع العلم لا يبين فيه بعد تقدير أنه لا يثبت في العلم غير الأعراض الذاتية للموضوع يكون لغوا من الكلام ، لأن وجوده عرض ذاتي بين فيه ، وما لا يبين ليس بعرض ذاتي.

__________________

(١) في (ب) بما بدلا من ما.

(٢) سقط من (ب) كلمة (كان).

(٣) سقط من (أ) كلمة (أنه).

(٤) في (ب) معلولا.

(٥) في (أ) يتوسط.

(٦) في (ب) من بدلا من (في).

(٧) في (ب) المعلوم.

١٨٥

وأما رابعا : فلأنه لا يبقى قولهم لكل علم موضوع ومبادي ومسائل على عمومه ، لأن معناه التصديق بآنية الموضوع وهلية البسيطة ، وقد صار في علم الكلام من جملة المسائل.

وأما خامسا : فلأن تصاعد العلوم ، إنما (١) هو بتصاعد الموضوعات فلا معنى لكون علم أعلى من آخر ، سوى أن موضوعه أعم ، فينبغي أن يؤخذ موضوع (٢) علم الكلام الموجود أو المعلوم ، وإلا فالإلهي أعلى منه رتبة ، وإن كان هو أشرف من جهة ، وقد عرفت أن ما يبين فيه موضوع علم شرعي أو مباديه لا يلزم أن يكون علما شرعيا ، بل (٣) يكفي كونه تعينيا (٤) وعلى وفق الشرع. فإن قيل : ـ فقد آل الكلام إلى أن الوجود (٥) المخصص لموضوع الصناعة ، وإن كان من أغراضه الذاتية لا يبين فيها لكون نظرها مقصورا على بيان هليته المركبة (٦) ، بل ولأنه مسلما في نظرها لكونه بينا أو مبينا في صناعة أعلى ، وحينئذ يتوجه الإشكال بأن بيانه هناك لا يكون من الهلية المركبة ، وموضوع هذا العرض الذاتي لا يكون مما هو مسلم الوجود.

قلنا : موضوع الصناعة الأعلى أعم ، ووجوده لا يستلزم وجود الأخص فيبين فيها وجود الأخص بأن يبين انقسام الأعم إليه وإلى غيره ، وأنه يوجد له هذا القسم ، ويكون ذلك عائدا إلى الهلية المركبة للأعم ، مثلا يبين في الإلهي أن بعض الموجود جسم ، فيبين وجود الجسم ، وفي الطبيعي أن بعض الجسم كرة ، فيبين وجود الكرة.

وعلى هذا القياس ربما يتنبه الفطن من هذا الكلام لنكتة قادحة في بعض ما سبق.

__________________

(١) سقط من (ب) إنما هو.

(٢) سقط من (ب) كلمة (علم).

(٣) سقط من (أ) كلمة (بل).

(٤) في (ب) يقينيا بدلا من كلمة (تعينيا).

(٥) في (ب) الموجود المخصص بدلا من الوجود.

(٦) الهلية المركبة : وهي ثبوت شيء مخصوص لغيره ؛ إذ المعنى أن مطلق الموجود قد ثبتت له الجسمية ؛ ثم الجسم المطلق الذي يبحث عن أحواله الطبيعي ؛ وقد ثبتت علته البسيطة فيما فوقه.

١٨٦

الفصل الثاني

في العلم وفيه مباحث

١ ـ مبحث تعريف العلم

٢ ـ مبحث تقسيمه مطلقا

٣ ـ مبحث التصورات الضرورية

١٨٧
١٨٨

المبحث الأول

تعريف العلم

(قال المبحث الأول : قيل تصوره ضروري لأنه حاصل (١) ، وغيره إنما يعلم به ، فلو علم هو بغيره لزم الدور : ولأن علم كل أحد بوجوده بديهي (٢) وهو مسبوق بمطلق العلم فهو أولى بالبداهة. ورد بالفرق بين تصور العلم وحصوله. فتصور العلم ، بتصور غيره ، وتصور الغير بحصوله فلا دور. والبديهي حصول العلم بوجوده وهذا لا يستدعي تصور العلم فضلا عن بداهته ، فإن قيل الحصول في النفس هو العلم).

قلنا : لا مطلقا بل بوجود غير متأصل ، ومصداقه الاتصاف وعدمه كالكافر يتصف بالكفر ولا يتصوره. ويتصور الإيمان ولا يتصف به.

فإن قيل : حصول العلم بتغير (٣) يستلزم إمكان العلم بأنه عالم ويقضي إلى العلم بالمقيد قبل العلم بالمطلق ، وأيضا العلم بأنه عالم بوجوده بديهي لا يفتقر إلى نظر أصلا (٤) وجب المطلوب.

قلنا : لو سلم فاللازم التصور بوجه ما (٥)

__________________

(١) يقول صاحب أشرف المقاصد : لا يحتاج فيه إلى معرف بل يحصل بالالتفات إليه أو بسماع لفظه كتصور الإنسان وجود نفسه ؛ وتصوره شخص اليد والرجل عند سماع لفظهما.

(٢) حتى البله والصبيان ومن لا يتأتى منه النظر حتى لو تشكك أحد في وجود نفسه. خرج عن طور مطلق التمييز.

(٣) في (ب) بالمعنى.

(٤) سقط من (ب) كلمة أصلا.

(٥) زيد في (ب) (كلمة) (لتعريفات العلم).

١٨٩

ذهب الإمام الرازي (١) إلى أن تصور العلم بديهي لوجهين :

الأول أنه معلوم ، يمتنع اكتسابه أما المعلومية فبحكم الوجدان وأما امتناع الاكتساب فلأنه إنما يكون بغيره معلوما ضرورة امتناع اكتساب الشيء بنفسه أو بغيره مجهولا ، والغير إنما يعلم بالعلم ، فلو علم العلم بالغير لزم الدور ، فتعين طريق الضرورة وهو المطلوب.

الثاني : أن علم كل أحد بوجوده بديهي أي حاصل من غير نظر وكسب وهذا علم خاص مسبوق لمطلق العلم لتركبه منه ومن الخصوصية ، والسابق على البديهي بديهي ، بل أولى بالبداهة ، فمطلق العلم بديهي وهو المطلوب.

وأجيب عن الوجهين : بأن مبناهما على عدم التفرقة بين تصور العلم وحصوله.

أما الأول : فلأن تصور العلم على تقدير اكتسابه يتوقف على تصور غيره ، وتصور الغير لا يتوقف على تصوره ليلزم الدور (٢) ، بل على حصوله بناء على امتناع حصول المقيد بدون المطلق ، حتى لو لم يقل بوجود الكلي فى ضمن الجزئيات لم يتوقف على حصوله أيضا ، وعبارة المواقف : إن الّذي نحاول أن نعلمه بغير العلم تصور حقيقة العلم ، وقد تسامح حيث حاول العلم بتصور الحقيقة ، والأحسن ما في شرح المختصر : أن الذي يراد حصوله بالغير إنما هو (٣) تصور حقيقة العلم ، إلا أنه تسامح فيه أيضا حيث قال :

__________________

(١) هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين فخر الدين الرازي الإمام المفسر أوحد زمانه في المعقول والمنقول ، وعلوم الأوائل مولده في الري وإليها نسبته رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان. وتوفي في هراة سنة ٦٠٦ ه‍. من تصانيفه : مفاتيح الغيب ، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ، ومعالم أصول الدين وغير ذلك.

(راجع طبقات الأطباء ٢ : ٢٣).

(٢) الدور في اللغة : عودة الشيء إلى ما كان عليه ، والدور في المنطق علاقة بين حدين يمكن تعريف كل منهما بالآخر ، أو علاقة بين قضيتين يمكن استنتاج كل منهما من الأخرى ، أو علاقة بين شرطين يتوقف ثبوت أحدهما على ثبوت الآخر. فالدور إذن هو توقف كل واحد من الشيئين على الآخر ، والدور الفاسد عند المناطقة هو الخطأ الناشئ عن تعريف الشيء أو البرهنة عليه بشيء آخر لا يمكن تعريفه.

(٣) سقط من (أ) كلمة (إنما هو).

١٩٠

إن توقف تصور غير العلم إنما هو على حصول العلم به ، أعني علما جزئيا متعلقا بذلك الغير ، إذ لا معنى لتوقف الشيء على حصوله.

وأما الثاني : فلأن البديهي لكل أحد ليس هو تصور العلم بأنه موجود بل حصول العلم بذلك ، وهو لا يستدعي تصور العلم به فضلا عن بداهته ، كما أن كل أحد يعلم أن له نفسا ولا يعلم حقيقتها.

فإن قيل : لا معنى للعلم إلا وصول النفس إلى المعنى وحصوله فيها ، والعلم من المعاني النفسية ، فحصوله في النفس علم به وتصور له ، فإذا كان حصول العلم لوجوده بديهيا. كان تصور العلم به بديهيا ، ويلزم منه أن يكون تصور مطلق العلم بديهيا وهو المطلوب ، وكذا إذا كان تصور الغير الذي يكتسب به تصور العلم متوقفا على حصول مطلق العلم كان متوقفا على تصوره هو الدور.

قلنا : قد سبق أن حصول المعاني النفسية في النفس ، قد تكون بأعيانها وهو المراد بالوجود (١) المتأصل ، وذلك اتصاف بها لا تصور لها ، وقد يكون تصورها وهو المراد بالوجود الغير المتأصل بمنزلة الظل للشجر ، وذلك تصور لها لا اتصاف بها ، ألا ترى أن الكافر يتصف بالكفر بحصول الإنكار في نفسه ، وإن لم يتصوره ، وهو يتصور (٢) الإيمان بحصول مفهومه في نفسه من غير اتصاف به ، فحصول عين العلم بالشيء في النفس لا يكون تصورا لذلك العلم ، كما أن حصول مفهوم العلم بالشيء في النفس لا يكون اتصافا بالعلم به بل ربما يستلزمه ، نعم يكون ذلك اتصافا بالعلم بمفهوم العلم بناء على أن المفهوم حاصل بعينه.

فإن قيل : في تقرير الإمام ما يدفع الجواب المذكور لأنه قرر :

الأول : بأن اكتساب العلم يتوقف على حصول العلم بالغير ، وهو يستلزم

__________________

(١) في (أ) والمتأصل بزيادة (الواو).

(٢) سقط من (ب) هو.

١٩١

إمكان العلم بأنه عالم بذلك الغير ، وعلى تقدير وقوع ذلك الممكن يلزم حصول العلم بالعلم الخاص قبل حصول العلم بمطلق العلم وهو محال. واكتساب (١) العلم يكون ملزوما لتصور الغير الملزوم ، لإمكان المحال فيكون محالا.

والثاني : بأن علم كل أحد بأنه عالم بوجوده بديهي ، وعلمه بوجود علم خاص ، ومتى كان العلم الخاص بديهيا ، كان العلم بمطلق العلم بديهيا ، ولما كان مظنة أن يقال العلم بأنه عالم تصديق ، وبداهته ، لا تستدعي بداهة تصوراته ، لأنه مفسر بما لا يتوقف بعد تصور طرفيه على نظر أشار إلى دفعه بأن هذا التصديق بديهي ، بمعنى أنه لا يتوقف على كسب ونظر أصلا ، لا في الحكم ولا في طرفيه ، سواء جعل تصور الطرفين شطرا له أو شرطا ، وذلك لحصوله لمن لا يتأتى منه النظر والاكتساب كالبله والصبيان.

[قلنا : العلم بأنه عالم بالشيء تصديق] (٢). عالم به قبل اكتساب حقيقة العلم فغير مسلم ، أو في الجملة فغير مفيد ، لجواز أن يكون وقوع الممكن بعد الاكتساب.

(قال : ثم أكثر تعريفات العلم مدخولة ، قيل لخفائه ، والمحققون لوضوحه).

ولا نزاع في اشتراك لفظه (٣) كقولهم (٤) : ـ معرفة المعلوم على ما هو

__________________

(١) في (ب) فالاكتساب للعلم.

(٢) ما بين القوسين سقط من (أ).

(٣) سقط من (أ) ولا نزاع في اشتراك لفظه. وقوله : أكثر تعريفات العلم مدخولة أي فيها دخل وهو الفساد والخلل وهذا أمر متفق عليه في أكثر تعريفات العلم وذلك كقولهم : هو معرفة المعلوم على ما هو به. وقولهم : هو إثبات المعلوم على ما هو به. وقولهم : هو اعتقاد الشيء على ما هو به قوله : لخفائه : قاله حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه في كتابه (المستصفى) حيث ذكر فيه أنه يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل قال : فإن ذلك متعسر في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية : فكيف في الإدراكات ..؟ وهذا الكلام من حجة الإسلام يفهم أن العسير هو تفهيمه بالحد الحقيقي كما أشار إلى ذلك بقوله يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة للجنس والفصل. وليس العسير مطلق تعريفه المفيد لامتيازه وتفهم حقيقته في الجملة فإن ذلك متيسر كما يفيده التقسيم والمثال.

والذي يقوله الغزالي عليه إمام الحرمين الجويني. وقوله : والمحققون لوضوحه ، وشدة الوضوح

(٤) في (ب) زيد كلمة (أقول).

١٩٢

أو (١) إدراك المعلوم على ما هو به أو (٢) إثبات المعلوم على ما هو به أو اعتقاد الشيء على ما هو به.

(ما يعلم به) (٣) الشيء أو ما يوجب (٤) كون من قام به عالما ، إلى غير ذلك ووجوه الخلل ظاهرة ، إلا أن ذلك عند الإمام حجة الإسلام لخفاء معنى العلم وعسر تحديد قال في المستصفى (٥) :

ربما يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة (٦) جامعة للجنس والفصل ، فإن ذلك متعسر في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية فكيف في الادراكات ..؟ وإنما يبين(٧) معناه بتقسيم (٨) ومثال ، أما التقسيم فهو أن تميزه عما يلتبس به وهي الاعتقادات ولا خفاء في غيره (٩) عن الشك والظن ، بالجزم وعن الجهل بالمطابقة ، فلم يبق إلا اعتقاد المقلد ، ويتميز عنه بأن الاعتقاد قد يبقى مع تغير متعلقه كما إذا اعتقد كون زيد في الدار ثم خرج زيد ، واعتقاد بحاله بخلاف العلم ، فإنه يتغير الملوم ولا يتبقى عند اعتقاد (١٠) انتفاء المتعلق لأنه كشف وانحلال في العقيدة والاعتقاد عقد على القلب ، ولهذا يزول بتشكيك

__________________

تقتضي أن لا يوجد ما هو أوضح منه ليعرف به ولذلك يوجد الخلل في تعريفه وعلى هذا الإمام الرازي وهو الأقرب لأن العلم أمر وجداني لازم الشعور به لكل ذي عقل فلا يخفى على العقلاء وإنما تخفى الوجدانيات الغير اللازمة الشعور الخاصة ببعض الأذكياء.

(١) نقص من (أ) كلمة أو.

(٢) نقص من (أ) كلمة أو.

(٤) نقص من (أ) كلمة أو.

(٣) سقط من (ب) ما بين القوسين.

(٥) (المستصفى في أصول الفقه) للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة ٥٠٥ ه‍ قال فيه : قد صنفت في فروع الفقه وأصوله كتبا كثيرة ثم أقبلت بعده على علم طريق الآخرة فصنفت فيه كتبا بسيطة كالإحياء ثم ساقني الله سبحانه وتعالى إلى معاودة التدريس فاقترح عليّ طائفة من محصلي علم الفقه تصنيفا في الأصول أطلق العنان فيه فكان الكتاب ورتبته على مقدمة وأربعة أقطاب. اختصره السهروردي الحكيم.

(راجع كشف الظنون ج ٢ ص ١٦٧٢).

(٦) في (ب) عبارة (محددة).

(٧) في (ب) بتبين.

(٨) في (ب) أو دليل بدلا من (مثال).

(٩) في (ب) في غيره عن الشك وهو تحريف.

(١٠) سقط من (ب) لفظ (افتقاد).

١٩٣

المشك بخلاف العلم. وأما المثال : فهو أن إدراك البصيرة شبه بإدراك الباصرة ، فكما أنه لا معنى للابصار إلا انطباع صور المبصر ، أي مثاله المطابق في القوة الباصرة كانطباع الصورة في المرآة كذلك العقل بمنزلة مرآة تنطبع فيها صور المعقولات أي حقائقها وماهياتها على ما هي عليها ، العلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات في نفسه وانطباعها حصولها فيه ، فالتقسيم المذكور يقطع العلم عن مظان الاشتباه ، هذا المثال يفهمك حقيقة العلم ، هذا كلامه. فظهر أنه يريد عسر تحديده بالحد الحقيقي لا ما يفيد امتيازه وتفهيم حقيقته ، وأن ذلك ليس ببعيد ، وأنه لا يريد بالمثال جزئيا من جزئياته كاعتقادنا أن الواحد نصف الاثنين ، على ما فهمه البعض.

وقال الإمام الرازي تعريفات العلم لا تخلوا عن خلل لأن ماهيته قد بلغت في الظهور إلى حيث لا يمكن تعريفه بشيء أجلى منه ، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين ، حتى قال بعضهم : وإن ما وقع فيه من الاختلاف إنما هو لشدة وضوحه لا لخفائه.

(ولا نزاع في اشتراك لفظه فقد يقال (١) المطلق إدراك العقل ، فيفسر بحصول الصورة في العقل (٢) أو وصول النفس إلى المعنى. ولأحد أقسام التصديق فيفسر بالحكم الجازم المطابق الموجب (٣) ، ولما يشمل التصور والتصديق اليقيني ، فيفسر بصفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به إذ لا تجلي (٤) في غير اليقيني ، أو بصفة توجب تمييزا بين المعاني لا يحتمل النقيض ، والعاديات إنما تحتمل النقيض بمعنى أنه لو فرض وقوعه (٥) لم يلزم منه محال لذاته (٦) لا بمعنى تجويز العالم إياه حقيقة كما في الظن ، أو حكما كما في اعتقاد المقلد).

لفظ العلم يقال في الاصطلاح على معان منها : إدراك العقل ، فيفسر بحصول صورة الشيء في العقل ، وسيجيء في بحث الكيفيات تحقيقه ودفع ما

__________________

(١) في (ب) وقد.

(٢) سقط من (أ) كلمة (في العقل).

(٣) في (ب) والموجب.

(٤) في (ب) وضوح.

(٥) سقط من (أ) كلمة (وقوعه).

(٦) سقط من (ب) كلمة (محال).

١٩٤

أورد عليه ، وبعضهم نظر إلى (١) أن العلم صفة العالم ، والحصول صفة الصورة ، فعدل إلى وصول النفس إلى المعنى أخذا بما ذكره الرازي وغيره ، أن أول مراتب وصول النفس إلى المعنى شعور ، فإذا حصل وقف النفس على تمام ذلك المعنى فتصور ، فإذا بقي. بحيث لو أراد استرجاعه بعد ذهابه أمكنه يقال له : حفظ ، ولذلك الطلب تذكر ، ولذلك الوجدان ذكر، وأنت خبير بأن حصول الصورة في الفعل أيضا صفة العالم (٢) ومنها أحد أقسام التصديق وهو ما يقارن الجزم والمطابقة والثبات فيخرج الطن والجهل المركب والتقليد ، وسيجيء بيان ذلك. ومنها ما يشمل (٣) تصور المطابق والتصديق اليقيني على ما هو الموافق للعرف واللغة ، ولهم فيه (٤) عبارتان الأولى : (٥) صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت أي صفة (٦) ينكشف بها ما يذكر (٧). ويلتفت إليه انكشافا تاما لمن قامت به تلك الصفة إنسانا كان أو غيره ، وعدل عن الشيء إلى المذكور ليعم الموجود المعدوم ، وقد يتوهم أن المراد به العلوم لأن في ذكر العلم ذكر المعلوم وعدل إليه تفاديا عن الدور ، وبالجملة فقد خرج الظن والجهل إذ تجلى فيهما ، وكذا اعتقادا المقلد لأنه عقدة على القلب والتجلي وانشراح وانحلال للعقدة الثانية (٨) صفة توجب تمييزا للمعاني لا يحتمل النقيض أي صفة تستعقب لخلق الله تعالى لمن قامت به ، تمييزا في الأمور العقلية كلية كانت أو جزئية ، فيخرج مثل القدرة والإرادة ، وهو ظاهر إدراك الحواس لأن تمييز في الأعيان ومن

__________________

(١) في (ب) صفة للعالم المشاهد.

(٢) التجلي هو الانكشاف التام ولم يوجد في الظن والوهم والشك فأحرى الاعتقاد الفاسد ، وكذا الاعتقاد لأنه عقدة على القلب كما يشهد به الإحساس ، والتجلي الذي هو الانكشاف التام هو حل لكل عقدة على القلب بظهور الحقيقة.

(٣) في (ب) ومنها ما يشمل التصور.

(٤) في (ب) ولهم في ذلك.

(٥) سقط من (أ) كلمة الأولى.

(٦) سقط من (أ) كلمة (صفة).

(٧) في (ب) ما ذكر.

(٨) سقط من (أ) الثانية.

١٩٥

جعله علما بالمحسوسات لم يذكر هذا القيد وخرج سائر الإدراكات ، لأن احتمال النقيض في الظن والشك والوهم ظاهر ، وفي الجهل المركب (١) أظهر ، وكذا اعتقاد المقلد لأنه يزول بتشكيك المشكك بل ربما يتعلق بالنقيض جزما ، وقد يقال إن الجهل المركب ليس بتمييز ، وكذا التصور الغير المطابق كما إذا ارتسم في النفس من الفرس صورة حيوان ناطق ، وأما المطابق فداخل لأنه لا نقيض له بناء على أن في أخذ النقيض شائبة في الحكم والتركيب ، ولا يخفى ما فيه ومنهم من قيد المعاني بالكلية ميلا إلى تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات (فلا يرد ما ذكر في المواقف أن هذه الزيادة مع الغنى عنها محل نظر) (٢) بطرد التعريف ، أي جريانه في جميع أفراد المعرف على ما ذكر ابن الحاجب (٣) أن اسم الفاعل يورد على طرد تعريف الاسم ، والفعل المضارع على عكسه قالوا : هذا مصطلح النحاة. ثم الظاهر من قولنا تمييزا لا يحتمل النقيض أن يراد نقيض التمييز ولما لم يكن له كثير معنى ، ذهب بعضهم إلى أن المراد أنه صفة. توجب التمييز إيجابا لا يتحمل النقيض ، وليس بشيء والحق اعتبار ذلك في متعلق التمييز على ما قالوا إن اعتقاد (٤) الشيء مع أنه لا يكون إلا كذا ، علم ، واحتمال ألا يكون كذا احتمالا مرجوحا ظن ، فالمعنى أنه صفة توجب للنفس

__________________

(١) الجهل : يطلق الجهل عند المتكلمين على معنيين : الأول : هو الجهل البسيط ، وهو عدا العلم عما من شأنه أن يكون عالما. فلا يكون ضدا للعلم ، بل مقابلا له تقابل العدم والملكة. ويقرب منه السهو والغفلة والذهول ، الجهل البسيط ، بعد العلم يسمى ، نسيانا.

الثاني : هو الجهل المركب ، وهو اعتقاد جازم غير مطابق للواقع وإنما سمي مركبا لأنه يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه. فهذا جهل أول يعتقد أنه يعتقده على ما هو عليه وهذا جهل آخر قد تركبا معا ، وهو ضد العلم.

(راجع كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي الجزء الأول ص ٢٧٨ : ٢٧٩).

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٣) ابن الحاجب : عثمان بن عمر بن أبي بكر فقيه مالكي من كبار العلماء بالعربية كردي الأصل ولد في إسنا من (صعيد مصر) ونشأ في القاهرة ، وسكن دمشق ، ومات بالإسكندرية. وكان أبوه حاجبا فعرف به. من تصانيفه : الكافية في النحو والشافية في الصرف ، وجامع الأمهات في فقه المالكية. توفي سنة ٦٤٦ ه‍ رحمه‌الله.

(راجع وفيات الأعيان ١ : ٣١٤).

(٤) سقط من (أ) حرف (ان).

١٩٦

تمييز المعنى عندها بحيث لا يحتمل النقيض في متعلقه ، ويدل على ذلك تقرير اعتراضهم بالعلوم العادية مثل العلم بكون الجبل حجرا فإنه يحتمل النقيض (١) بأن لا يكون حجرا بل قد ينقلب ذهبا بأن يخلق الله تعالى مكان الحجر الذهب على ما هو رأي المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء الحجر الوصف الذي به صارت حجرا ، ويخلق فيه الوصف الذي به يصير ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر في جميع الأجسام. والجواب :

أن المراد بعدم احتمال النقيض في العلم هو عدم تجويز العالم إياه لا حقيقة وحكما ، أما في التصور فلعدم النقيض أو لأنه لا معنى لاحتمال النقيض بدون شائبة الحكم ، وأما في التصديق فلاستناد جزمه بالحكم إلى موجب بحيث لا يحتمل الزوال أصلا. والعاديات كذلك لأن الجزم بها مستند إلى موجب هو العادة.

وإنما يحتمل النقيض بمعنى أنه لو فرض وقوعه لم يلزم منه محال لذاته لكونه في نفسه من الممكنات التي يجوز وقوعها (٢) أو لا وقوعها ، وذلك كما يحكم ببياض الجسم الشاهد قطعا مع أنه في نفسه ممكن أن يكون وأن لا يكون. والحاصل أن معنى احتمال النقيض تجويز الحاكم إياه حقيقة وحالا كما في الظن ، لعدم الجزم بمتعلقه أو حكما ، ومآلا ، كما في اعتقاد المقلد لعدم استناد الجزم به إلى موجب من حس أو عقل أو عادة فيجوز أن يزول بل يحصل اعتقاد النقيض جزما. وبهذا يظهر الجواب عن نقض تفسير العلم باعتقاد المقلد سيما فإنه لا يحتمل النقيض في الواقع (٣) ولا عند الحاكم. وهو ظاهر ولا عبرة بالإمكان العقلي كما في العاديات.

__________________

(١) النقيض في اللغة : هو الكسر. وفي الاصطلاح ، هو بيان تخلف الحكم المدعي ثبوته أو نفيه عن دليل المعلل ، الدال عليه في بعض من الصور ، فإن وقع يمنع شيء من مقدمات الدليل على الإجمال ، سمي نقضا إجماليا ، لأن حاصله يرجع إلى منع شيء من مقدمات الدليل على الإجمال ، وإن وقع بالمنع المجرد أو مع السند ، سمي نقضا تفصيليا لأنه مع مقدمة معينة. وجملة القول : إن النقض هو البرهان على بطلان الدعوى ، وهو أقوى من الاعتراض لأن الاعتراض هو إقامة الدليل على خلاف ما أقامه عليه الخصم ، أو إظهار ما في مقدمات دليل الخصم من خلل ، يمنع من قبول دعواه على حين أن النقض. دحض نهائي للدعوى.

(٢) في (ب) وقوعها ولا وقوعها.

(٣) سقط من (ب) كلة (النقص).

١٩٧

المبحث الثاني

تقسيم العلم إلى تصديق وتصور

(المبحث الثاني : العلم إن كان حكما أي إذعانا (١) وقبولا للنسبة فتصديق وإلا فتصور (٢) واختلافهما بالحقيقة لا بمجرد الإضافة).

أقول : قد اشتهر تقسيم العلم إلى التصور (٣) والتصديق (٤). واستبعده بعضهم لما بينهما من اللزوم إذ لا تصديق بدون التصور ، بل ذكروا أنه لا تصور بحسب الحقيقة بدون التصديق بالتحقيق وإنما الكلام في التصور بحسب الاسم فعدلوا إلى التقسيم إلى التصور الساذج ، أي المشروط بعدم الحكم وإلى التصديق.

__________________

(١) إذعانا : بمعنى أن النفس أدركت أن النسبة واقعة في نفس الأمر أو ليست بواقعة ، وتقرر ذلك عندها بأن لم تنفه جهلا وهو معنى الإذعان والقبول.

(٢) وإذا لم يتعلق العلم بالنسبة الإيقاعية والانتزاعية بل تعلق بأحد طرفي النسبة أو بها لا على أنها واقعة أو ليست بواقعة في نفس الأمر بل على وجه اداركها مع احتمال الوقوع وعدمه فتصور.

(٣) التصور : تصور الشيء تخيله ، وتصور له الشيء ، صارت له عنده صورة ، وعند علماء النفس ، هو حصول صورة الشيء في العقل. وعند المناطقة ، هو إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات. والفلاسفة يفرقون بين التصور القبلي والتصور البعدي فيقولون : إن التصور القبلي أو التصور المحض هو التصور المتقدم على التجربة كتصور الوحدة والكثرة وغيرهما ، أما التصورات البعدية ، فهي المعاني المستمدة من التجربة ، كتصور معنى الإنسان أو معنى الحيوان.

(٤) التصديق إما مركب أو بسيط. فإن قلت : إن التصديق هو علم إدراك الماهية مع الحكم عليها بالنفي أو الإثبات ، كان التصديق مركبا مثال ذلك : أن تصديقك بأن العالم حادث مؤلف من تصور العالم ، وتصور الحدوث ، ومن إدراك وقوع النسبة بينهما.

وإذا قلت : إن التصديق هو مجرد إدراك النسبة كان التصديق بسيطا. وهو على كل حال فعل عقلي يستلزم نسبة الصدق إلى القائل ، وضده الإنكار والتكذيب.

١٩٨

وأجاب آخرون بأن اللزوم بحسب الوجود لا ينافي التقابل بحسب الصدق كما بين الزوج والفرد ، والحصر في التصور المقيد بعدم الحكم ، وفي التصديق ليس بتام لخروج تصور الطرفين ، وبالجملة فكلام القوم صريح في أن التصور المعتبر في التصديق هو التصور المقابل له ، وهو التصور لا بشرط الحكم أعني الذي لم يعتبر فيه الحكم لا الذي اعتبر فيه عدم الحكم ، وصرح الإمام (١) والكاتبي (٢) بأن هذا هو المراد بالتصور الساذج والتصور فقط ، وحاصل التقسيم أن العلم إما أن يعتبر فيه الحكم وهو التصديق ، أو لا وهو التصور. ومعناه: ـ

أن التصديق هو الحكم مع ما يتعلق به من التصورات ، على ما هو صريح كلام الإمام ، لا الإدراك المقيد بالحكم على ما سبق إلى الفهم من عبارته ، حيث يقول : إنه الإدراك المقارن للحكم ، أو الإدراك الذي يلحقه الحكم كيف وأنه يذكر ذلك في معرض الاستدلال على كون التصور جزءا منه ، ثم إنه كثيرا ما يصرح بأنه عبارة عن نفس الحكم ، ويجعل الحكم تارة من قبيل الأفعال ، وتارة ماهية (٣) مسماة بالكلام النفسي ليست من جنس الاعتقاد ولا الإرادة.

والجمهور على أنه نفس الحكم ، وأنه نوع من العلم متميز عن التصور بحقيقته لا يتعلق إلا بالنسبة ، بخلاف التصور حيث يتعلق بها وبغيرها. ألا ترى أنك إذا شككت في حدوث العالم فقد تصورت العالم والحادث والنسبة بينهما من غير حكم وتصديق ، ثم إذا أقيم البرهان فقد علمت النسبة نوعا آخر من

__________________

(١) الإمام هو فخر الدين الرازي.

(راجع ترجمة له فيما تقدم).

(٢) الكاتبي : علي بن عمر بن علي الكاتبي القزويني نجم الدين ، ويقال له وبران ، حكيم منطقي ، من تلاميذه نصير الدين الطوسي له تصانيف منها الشمسية رسالة في قواعد المنطق ، وحكمة العين في المنطق والطبيعي والرياضي ، والمفصل شرح المحصل لفخر الدين الرازي في الكلام ، جامع الدقائق في كشف الحقائق. منطق. توفي سنة ٦٧٥ ه‍.

(راجع فوات الوفيات : ٦٦٢).

(٣) سقط من (ب) لفظ (ماهية).

١٩٩

العلم وهو المسمى بالحكم والتصديق ، وحقيقته إذعان النفس وقبولها لوقوع النسبة أو لا وقوعها. ويعبر عنه بالفارسية (بگرويدن) على ما صرح به ابن سينا (١) وهذا ما قال في الشفاء : التصور في قولك : البياض عرض ، هو أن يحدث في الذهن صورة هذا التأليف وما يؤلف منه كالبياض والعرض. والصديق ، هو أن يحصل في الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لهما. والتكذيب يخالف ذلك ، وفي هذا الكلام إشارة (٢) إلى أن مدلول الخبر والقضية هو الصدق وإنما الكذب احتمال عقلي. وليس فيه انحصار التصديق في المطابق كما توهم ، إذ لا يلزم من حصول الشيء كالمطابقة مثلا في النفس تحققه في الواقع.

(قوله : والضرورة قاضية بانقسام كل منهما إلى النظري المفتقر إلى النظر والضروري المستغنى عنه ، وقد يفسر الضروري بما يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد إلى الانفكاك عنه سبيلا ، أي لا يقدر على الانفكاك عنه أصلا فلا يرد زوال الضرورى بطريان ضده أو عدم حصوله لفقد شرط ولا لزوم النظري بعد الحصول من غير اقتدار على الانفكاك حينئذ لوجود الاقتدار قبل ذلك) (٣).

يعني أن كلا من التصور والتصديق ينقسم إلى النظري والضروري لأنا نجد (٤) في أنفسنا احتياج بعض التصورات والتصديقات إلى النظر كتصور الملك والجن ، والتصديق بحدوث العالم ، واستغناء بعضها عنه كتصور الوجود والعدم ، والتصديق بامتناع اجتماع النقيضين.

والمراد الاحتياج والاستغناء بالذات ، حتى يكون الحكم المستغني في

__________________

(١) ابن سينا : الحسين بن عبد الله أبو علي شرف الملك ، الفيلسوف الرئيس ، صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات أصله من بلخ ، ومولده في إحدى قرى بخاري. نشأ وتعلم بها وطاف البلاد وناظر العلماء. وتقلد الوزارة في همدان من كتبه : الإرشادات رسالة في الحكمة ، وأرجوزة في المنطق ، ولحمودة غرابة (ابن سينا بين الدين والفلسفة) توفي سنة ٤٢٨ ه‍.

(٢) في (ب) إرشاد بدلا من (إشارة) وهو تحريف.

(٣) زيد في (أ) ما بين القوسين.

(٤) في (أ) (من) بدلا من (في).

٢٠٠