شرح المقاصد - ج ١

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ١

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٣

المقصد الأول في المبادي

وفيه ثلاثة فصول

١ ـ الفصل الأول : في المقدمات

٢ ـ الفصل الثاني : في مباحث العلم

٣ ـ الفصل الثالث : في مباحث النظر

١٦١
١٦٢

المقصد الأول

(المقصد الأول : في المبادي. وفيه فصول ثلاثة (١). الأول في

المقدمات (٢)).

الفصل الأول

في المقدمات

أقول : رتبته (٣) على ثلاثة فصول لأن المبادي منها ما رأوا تصدير كل (٤) علم بها كمعرفة حده وموضوعه وغايته (٥) ونحو ذلك فسماها ، بالمقدمات ، وجعلها في فصل ، ومنها ما صدروا بها علم الكلام خاصة كمباحث العلم والنظر ، لأن تحصيل العقائد بطريق النظر والاستدلال والرد على منكري حصول العلم أصلا ، واستفادته من النظر مطلقا ، أو في الإلهيات خاصة يتوقف على ذلك ، وليس في العلوم الإسلامية ما هو أليق ببيانه فجعلها في فصلين.

تعريف علم الكلام

قال : (الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية)

أقول : حصول الكيفيات النفسانية في النفس قد تكون بأعيانها وهو اتصاف بها ، وقد تكون بصورها وهو تصور لها كالكريم يتصف بالكرم وإن لم يتصوره ، وغير الكريم يتصوره وإن لم يتصف به ، ولا خفاء في أن حقيقة كل علم من الكلام وغيره تصورات وتصديقات كثيرة يطلب حصولها بأعيانها بطريق النظر والاستدلال ، فاحتيج إلى ما يفيد

__________________

(١) أحدها في المقدمات وثانيها مباحث العلم وثالثها مباحث النظر.

(٢) المقدمات : التي هي تعريف علم الكلام وبيان موضوعه ومسائله إجمالا وغايته ومنفعته وشرفه.

(٣) في (ب) رتبته.

(٤) سقط من (ب) بها.

(٥) زيدت في (ب) به.

١٦٣

تصورها بصورة إجمالية تساويها صونا للطلب والنظر عن إخلال بما هو منها ، واشتغال (١) بما ليس منها ، وذلك هو المعنى بتعريف العلم ، فكان من مقدماته وإنما كثر تركه سيما في العلوم الشرعية والأدبية لما شاع من تدوين العلوم بمسائلها ودلائلها (٢) ، وتفسير ما يتعلق بها من التصورات ثم تحصيلها كذلك بطريق التعلم من العلم ، أو التفهم من الكتاب وإذا تقرر هذا فنقول : الأحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية وعملية ومنها ما يتعلق بالاعتقاد ، وتسمى أصلية واعتقادية ، وكانت الأوائل من العلماء ببركة صحبة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرب العهد بزمانه وسماع الأخبار منه ، ومشاهدة الآثار مع قلة الوقائع والاختلافات ، وسهولة المراجعة إلى الثقات مستغنين عن تدوين الأحكام (٣) ، وترتيبها أبوابا وفصولا ، وتكثير المسائل فروعا وأصولا إلى أن ظهر اختلاف الآراء ، والميل إلى البدع والأهواء ؛ وكثرت الفتاوى والواقعات ، وأمست الحاجة فيها إلى زيادة نظر والتفات ، فأخذ أرباب النظر والاستدلال في استنباط الأحكام وبذلوا جهدهم في تحقيق عقائد الإسلام ، وأقبلوا على تمهيد أصولها وقوانينها ، وتلخيص حججها وبراهينها ، وتدوين المسائل بأدلتها ، والشبه بأجوبتها ، وسموا العلم باسم الفقه ، وخصوا الاعتقاديات (٤) باسم الفقه الأكبر ، والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه ، والاعتقاديات (٥) بعلم التوحيد. والصفات تسمية بأشهر أجزائه وأشرفها وبعلم الكلام ، لأن مباحثه كانت مصدرة بقولهم : الكلام في كذا وكذا (٦) ولأن أشهر الاختلافات فيه كانت مسألة كلام الله تعالى أنه قديم أو حادث ، ولأنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات كالمنطق في الفلسفيات ، ولأنه كثر فيه من الكلام مع المخالفين والرد عليهم ، (٧) ما لم يكثر في غيره. ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام

__________________

(١) في (ب) أو اشتغال.

(٢) سمي الكلام كلاما لأنهم كانوا يصدرون مباحثه بقولهم : الكلام في كذا أو لأن صفة الكلام فيه أشهر ما وقع الاختلاف فيه أو لأنه يورث القدرة على الكلام في سائر الشرعيات وكان يسمى أولا : الفقه الأكبر حين دونوه.

(٣) في (ب) تدوين المسائل.

(٤) في (ب) الاعتقادات.

(٥) في (ب) الاعتقادات.

(٦) في (ب) في كذا وكذا بسقوط (لأن).

(٧) في (ب) بما لم يكتر.

١٦٤

دون ما عداه كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام ، واعتبروا في أدلتها اليقين لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات (١) بل في العمليات فظهر : أنه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية (٢) وهذا هو (٣) معنى العقائد الدينية أي المنسوبة إلى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سواء توقف على الشرع أم لا ، وسواء كان من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أم لا ، ككلام المخالفين (٤) ، وصار قولنا هو : العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية مناسبا لقولهم في الفقه إنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ، وموافقا لما نقل عن بعض عظماء الملة : إن الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها ، وأن ما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر وخرج العلم بغير الشرعيات وبالشرعيات الفرعية ، وعلم الله تعالى ، وعلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاعتقاديات ، وكذا اعتقاد المقلد فيمن يسميه علما ، ودخل علم علماء الصحابة بذلك ، فإنه كلام وإن لم يكن ، وسمي (٥) في ذلك الزمان بهذا الاسم ، كما أن عملهم بالعمليات فقه ، وإن لم يكن ثمة هذا التدوين والترتيب ، وذلك إذا كان متعلقا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشرية ، مكتسبا من النظر في الأدلة اليقينية ، أو كان ملكة يتعلق بها (٦) ، بأن يكون عندهم من المآخذ والشرائط ما يكفيهم في استحضار العقائد على ما هو المراد بقولنا العلم بالعقائد عن الأدلة ، وإلى المعنى الأخير يشير قول (صاحب) (٧) المواقف أنه علم يقتدر معه

__________________

(١) في (ب) الاعتقادات.

(٢) يرى ابن خلدون : «أنه علم يتضمن الحجاج على العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية. والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة». (مقدمة ابن خلدون ص ٤٥٨). وقال الفارابي : «إن الكلام صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الأفعال والآراء المحددة التي صرح بها واضع الملة وتزييف كل ما خالف من الأقاويل» (إحصاء العلوم ص ٧١ ـ ٧٢).

(٣) سقط من (ب) كلمة (هو).

(٤) في (ب) كلام المخالف.

(٥) في (ب) ويسمى بدل وسمى.

(٦) سقط من (ب) كلمة (بها).

(٧) هو : عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار أبو الفضل ، عضد الدين الإيجي ، عالم بالأصول والمعاني والعربية من أهل إيج (بفارس) ولي القضاء ، وأنجب تلاميذ عظاما وجرت له محنة مع صاحب كرمان ، فحبسه بالقلعة فمات مسجونا. من تصانيفه : المواقف في علم الكلام ، والعقائد العضدية وجواهر الكلام ، مختصر المواقف ، وشرح مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه. توفي سنة ٧٥٢ ه‍.

(طبقات السبكي ٦ : ١٠٨).

١٦٥

على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه (١) ، ومعنى إثبات العقائد تحصيلها واكتسابها بحيث يحصل الترقي من التقليد إلى التحقيق ، أو إثباتها على الغير بحيث يتمكن من إلزام المعاندين ، أو إتقانها وإحكامها ، بحيث لا تزلزلها شبه المبطلين ، وعدل عن يقتدر به إلى يقتدر معه مبالغة في نفي الأسباب ، واستناد الكل إلى خلق الله تعالى ابتداء على ما هو المذهب ، وأورد على طرد تعريفه جميع العلوم الحاصلة عند الاقتدار من النحو والمنطق (٢) وغيرهما وعلى عكسه علم الكلام بعد إثبات العقائد لانتفاء الاقتدار حينئذ والجواب أن المراد هو (٣) علم يحصل معه الاقتدار البتة بطريق جري العادة ، أي يلزمه حصول الاقتدار لزوما عاديا ، وإن لم يبق ذلك (٤) الاقتدار دائما ، ولا خفاء في أن الكلام كذلك بخلاف سائر العلوم ، وأما مجموع العلوم التي من جملتها الكلام فهو وإن كان كذلك فليس (٥) بعلم واحد بل بعلوم جمة ، وقد يجاب بأن المراد ماله مدخل في الاقتدار أو ما يلزم معه الاقتدار ولو على بعض التقادير والكلام بعد الإثبات بهذه الحيثية بخلاف سائر العلوم ، ويعترض بأن للمنطق مدخلا في الاقتدار وإن لم يستقل به ، والاقتدار لازم (٦) مع كل علم على تقدير مقارنته للكلام. نعم لو أريد ما يلزم معه الاقتدار في الجملة بحيث يكون له مدخل في ذلك خرج غير المنطق ، وفيما ذكرنا غنية عن هذا ، مع أن في إثبات المدخل إشعارا بالسببية ولو قال يقتدر به وأراد الاستعقاب العادي ، كما في إثبات العقائد بإيراد الحجج على ما هو المذهب في حصول النتيجة عقيب النظر لم يحتج إلى شيء من ذلك.

__________________

(١) راجع كتاب المواقف ج ١ ص ٣٣ : ٣٤.

(٢) المنطق عند أرسطو : آلة للعلم وموضوعه هو العلم نفسه ، أو هو صورة العلم ، وعند ابن سينا ، المنطق : هو الصناعة النظرية التي تعرفنا من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدا ، والقياس الصحيح الذي يسمى برهانا. أما عند الغزالي : فهو القانون الذي يميز صحيح الحد والقياس عن غيره ، فيتميز العلم اليقيني عما ليس يقينيا ، وكأنه الميزان أو المعيار للعلوم كلها. ويعرفه الساوي صاحب البصائر النصيرية : بأنه قانون صناعي عاصم للذهن من الزلل ، مميز لصواب الرأي عن الخطأ في العقائد بحيث تتوافق العقول السليمة على صحته.

(٣) سقط من (ب) كلمة (هو).

(٤) من (أ) كلمة (ذلل).

(٥) سقط من (أ) كلمة (فليس).

(٦) سقط من (أ) كلمة (مع).

١٦٦

موضوعه ..

(قال : ـ وموضوعه العلوم من حيث يتعلق به إثباتها) (١).

أقول : اتفقت كلمة القوم على أن التمييز (٢) العلوم في أنفسها إنما هو بحسب تمايز الموضوعات ، فناسب تصدير العلم ببيان الموضوع لإفادة لما به يتميز بحسب الذات بعد ما أفاد التعريف التمييز (٣) بحسب المفهوم ، وأيضا في معرفة جهة الوحدة للكثرة المطلوبة إحاطة بها إجمالا بحيث إذا قصد تحصيل تفاصيلها (٤) لم ينصرف الطلب عما هو منها إلى ما ليس منها ، ولا شك أن جهة وحدة مسائل العلم أولا وبالذات هو الموضوع إذ فيه اشتراكها وبه اتحادها على ما سنفصله ، وتحقيق المقام أنهم لما حاولوا معرفة أحوال الأشياء بقدر الطاقة البشرية على ما هو المراد بالحكمة وصنعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وغيرها ، كالإنسان والحيوان والموجود ، وبحثوا عن أحوالها المختصة وأثبتوها لها بالأدلة فحصلت لهم قضايا كسبية محمولاتها أعراض ذاتية لتلك الحقائق ، سموها بالمسائل ، وجعلوا كل طائفة منها يرجع إلى واحد من تلك الأشياء بأن تكون موضوعاتها نفسه أو جزءا (٥) له أو نوعا منه أو عرضا ذاتيا له علما خاصا يفرد

__________________

(١) يرى صاحب المواقف : أن موضوع علم الكلام : المعلوم من حيث يتعلق به اثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا ص ٤٠ ج ١. وينقل رأي القاضي الأرموي بأن موضوع علم الكلام : ذات الله تعالى إذ يبحث فيه عن أعراضه الذاتية أعني صفاته وعن أفعاله ، أما في الدنيا كحدوث العالم وأما في الآخرة كالحشر للأجساد وعن أحكامه فيهما كبعث الرسول ونصب الإمام والثواب والعقاب ج ١ ص ٤٢ ، ٤٣ أو أن موضوعه : الموجود بما هو موجود أي من حيث هو غير مقيد بشيء والقائل به طائفه منهم حجة الإسلام ج ١ ص ٤٧.

(٢) في (ب) تمايز.

(٣) في (ب) تمايز.

(٤) في (ب) تمايز.

(٥) في (ب) أجزاء له.

١٦٧

بالتدوين والتسمية والتعليم نظرا إلى ما لتلك الطائفة على كثرتها ، واختلاف محمولاتها من الاتحاد من جهة الموضوع أي الاشتراك فيه على الوجه المذكور ثم ، قد يتحد من جهات أخرى (١) كالمنفعة والغاية ونحوهما ، ويؤخذ لها من بعض تلك الجهات ما يفيد تصورها إجمالا ، ومن حيث إن لها وحدة فيكون حدا للعلم إن دل على حقيقة مسماه (٢) أعني ذلك المركب الاعتباري.

كما يقال : هو علم يبحث فيه عن كذا أو علم بقواعد كذا ، وإلا فرسما (٣)

كما يقال هو علم يقتدر به على كذا ، أو يحترز عن كذا ، أو يكون آلة لكذا ، فظهر أن الموضوع هو جهة وحدة مسائل العلم الواحد نظرا إلى ذاتها وإن عرضت لها جهاتأخر كالتعريف والغاية ، فإنه (٤) لا معنى لكون هذا علما وذاك علما آخر سوى أنه يبحث (٥) هذا عن أحوال شيء وذلك عن أحوال شيء آخر مغاير له بالذات أو بالاعتبار ، فلا يكون تمايز العلوم في أنفسها ، وبالنظر إلى ذواتها إلا بحسب الموضوع ، وإن كانت تتمايز عند الطالب بما لها من التعريفات والغايات ونحوهما ، ولهذا جعلوا تباين العلوم وتناسبها وتداخلها أيضا بحسب الموضوع ، بمعنى أن موضوع أحد العلمين إن كان مباينا لموضوع الآخر من كل وجه فالعلمان متباينان على الإطلاق ، وإن كان أعم منه ، فالعلمان متداخلان ، وإن كان موضوعهما شيئا واحدا بالذات متغايرا بالاعتبار أو شيئين متشاركين في جنس أو غيره ، فالعلمان متناسبان على تفاصيل ذكرت في موضعها (٦) وبالجملة فقد أطبقوا على امتناع أن يكون شيء واحد موضوعا لعلمين من غير اعتبار تغاير ، بأن يؤخذ في أحدهما مطلقا ، وفي الآخر مقيدا أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر ، وامتناع أن يكون هو (٧) موضوع علم واحد شيئين من غير اعتبار اتحادهما في جنس أو غاية أو غيرهما ، إذ لا معنى لاتحاد العلم واختلافه بدون

__________________

(١) في (ب) أخر.

(٢) في (ب) سماه.

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٤) في (ب) وأنه.

(٥) سقط من (ب) كلمة (هذا).

(٦) في (ب) مواضعها.

(٧) سقط من (أ) كلمة (هو).

١٦٨

ذلك ، لا يقال العلم مختلف (١) باختلاف المعلوم أعني المسائل ، وهي كما تختلف باختلاف الموضوع ، فكذا تختلف (٢) باختلاف المحمول ، فلم لم يجعل هذا وجه التمايز بأن يكون البحث عن بعض من الأعراض الذاتية علما ، وعن بعض آخر علما آخر مع اتحاد الموضوع ، على أن هذا أقرب بناء على كون الموضوع بمنزلة المادة وهي مأخذ للجنس ، والأعراض الذاتية بمنزلة الصورة ، وهي مأخذ للفصل الذي به كمال التميز : لأنا نقول حينئذ : لا ينضبط أمر الاتحاد والاختلاف ويكون كل علم علوما جمة ضرورة اشتماله على أنواع جمة (٣) من الأعراض الذاتية مثلا يكون الحساب علوما متعددة بتعدد محمولات المسائل من الزوج والفرد وزوج الزوج ، وزوج الفرد إلى غير ذلك ، وكذا سائر العلوم ، والغلط إنما نشأ من عدم التفرقة بين العلم بمعنى الصناعة أعني جميع المباحث المتعلقة بموضوع ما. وبين العلم بمعنى حصول الصورة ولو أريد هذا لكان كل مسألة علما على حدة ، وأيضا مبنى الاتحاد ، والاختلاف ، وما يتبعه من التباين والتناسب ، والتداخل يجب أن يكون أمرا معينا بينا أو مبينا وذلك هو الموضوع (٤) إذ لا ضبط للأعراض الذاتية ولا حصر ، بل لكان أحد أن يثبت ما استطاع ، وإنما يتبين بتحققها في العلم نفسه ، ولهذا كانت حدودها في صدر العلم حدودا اسمية ، وربما (٥) تصير بعد إثباتها حدودا حقيقية بخلاف حدود الموضوع وأجزائه ، فإنها حقيقية ، وأما حديث المادة والصورة فكاذب ، لأن كلا من الموضوع (٦) ، والمحمول (٧) جزء مادي من القضية ، وإنما الصوري هو

__________________

(١) في (ب) يختلف.

(٢) سقط من (ب) كلمة (تختلف).

(٣) في (ب) جهة وهو تحريف.

(٤) في (أ) الموضوع.

(٥) في (أ) (ربما) بحذف الواو.

(٦) الموضوع في المنطق : هو الذي يحكم عليه بأن شيئا آخر موجود له ، أو ليس بموجود له.

والموضوع مقابل للمحمول. قال الخوارزمي : الموضوع هو الذي يسميه النحويون المبتدأ ، وهو الذي يقتضي خبرا ، وهو الموصوف. والمحمول : هو الذي يسمونه خبر المبتدأ وهو الصفة : (م فاتيح العلوم ص ٨٦).

(٧) المحمول : عند المنطقيين هو المحكوم به في القضية الحملية دون الشرطية أما في الشرطية ـ

١٦٩

الحكم على أن الكلام ليس في المسألة ، بل في المركب الاعتباري الذي هو العلم ، ولا خفاء في أن المسائل مادة له (١) ومرجّع الصورة إلى جهة الاتحاد إذ بها تصير المسائل تلك الصناعة المخصوصة فإن قلت : اشتراط تشارك موضوعات العلم الواحد في جنس أو في غيره (٢) لا يدفع اختلال أمر اتحاد العلم واختلافه إذ قلما يخلو موضوعا العلمين عن تشارك (٣) في ذاتي أو عرضي أقله الوجود بل مثل الحساب ، والهندسة الباحثين عن العدد والمقدار ، الداخلين تحت جنس هو الكم لا يجعل علما واحدا بل علمين متساويين في الرتبة ، بخلاف علم النحو (٤) الباحث عن أنواع الكلمة ، قلت :

إذا كان البحث عن الأشياء من جهة اشتراكها في ذلك الأمر ومصداقه أن يقع البحث عن كل ما يشاركها في ذلك. فالعلم واحد وإلا فمتعدد ، ألا ترى أن الحساب والهندسة لا ينظران في الزمان الذي هو من أنواع الكم ، وإلى هذا يشير كلام الشفاء (٥) أن كلا من الحساب ، والهندسة إنما يجعل علما على حدة

__________________

ـ فيسمى تاليا. والموضوع والمحمول عند المنطقيين بمنزلة المسند والمسند إليه عند النحاة قال ابن سينا : والمحمول هو المحكوم به أنه موجود أو ليس بموجود لشيء آخر. وأرسطو يسمي المقولات محمولات ، لأنها تحمل على الجوهر. وهو لا يحمل على شيء والمحمولات الجدلية عند «فرفوريوس» وغيره من القدماء هي الألفاظ الخمسة. وهي : الجنس ، والنوع والفصل والخاصة. والعرض العام (راجع كتاب النجاة ص ١٩).

(١) سقط من (ب) كلمة (له).

(٢) سقط من (أ) كلمة (في).

(٣) في (أ) عن تشارك.

(٤) سقط من (ب) كلمة (علم) وسبب تسميته بعلم «النحو» ما قاله أبو الأسود الدؤلي : أنه دخل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فوجد في يده رقعة فقلت : ما هذا يا أمير المؤمنين ..؟ فقال : إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الأعاجم فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ، ويعتمدون عليه ثم ألقى إليّ الرقعة وفيها مكتوب : الكلام كله اسم وفعل وحرف وقال لي : أنح هذا النحو وأضف إليه ما وقع إليك. فكنت كلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلى أن وصلت إلى ما فيه الكفاية. قال : ما أحسن هذا النحو الذي نحوت ...؟؟؟ فلذلك سمي النحو ، ذكره ابن النديم في الفهرست والقفطي في إنباء الرواة.

(٥) كتاب الشفاء : لابن سينا.

١٧٠

لكونه ناظرا فيما يعرض لموضوعه من حيث هو (١) وهو العدد للحساب والمقدار للهندسة ، ولو كانا ينظران فيهما من جهة ما هو كم لكان موضوع كل منهما الكم أو كان (٢) العلمان علما واحدا ولو نظر كل منهما في موضوعه من حيث هو موجود لما تميز عن الفلسفة الأولى ، فإن قلت كما صرحوا (٣) بذلك الموضوع من المقدمات ، فقد صرحوا بكونه جزءا من العلم على حدة وبكونه من مباديه التصورية ، فما وجه ذلك؟ قلت :

أرادوا أن التصديق بهلية ذات الموضوع كالعدد في الحساب جزء منه (٤) بدليل تعليلهم ذلك بأن ما لا يعلم ثبوته كيف يطلب ثبوت شيء له؟ وتصوره من المبادي التصورية والتصديق بموضوعيته من المقدمات ، وأما تصور مفهوم الموضوع أعني ما يبحث فيه (٥) عن أعراضه الذاتية ففي صناعة البرهان من المنطق. فهذه أمور أربعة ربما يقع فيه (٦) الاشتباه ، وإنما لم يجعلوا التصديق بهلية الموضوع من المبادي التصديقية ، كما جعلوا تصوره من المبادي التصورية ، لأنهم أرادوا بها المقدمات التي منها تتألف قياسات العلم ، وإنما لم يجعل التصديق بالموضوعية من الأجزاء المادية (٧) لأنه إنما يتحقق بعد كمال العلم فهو بثمراته أشبه منه بأجزائه ، مثلا إذا قلنا العدد موضوع الحساب لأنه إنما ينظر في أعراضه الذاتية لم يتحقق ذلك إلا بعد الإحاطة بعلم الحساب ، فكان التصديق بالموضوعية إجمالا من سوابق العلم ، وتحقيقا من لواحقه ، وينبغي أن يعلم أن لزوم هذه الأمور إنما هو في الصناعات النظرية البرهانية ، وأما في غيرها فقد يظهر كما في الفقه والأصول. وقد لا يظهر إلا بتكلف كما في بعض الأدبيات ، إذ ربما تكون الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات ، وتنبيهات

__________________

(١) سقط من (ب) كلمة (هو).

(٢) في (ب) وكان بدلا من (أو كان).

(٣) في (ب) كون الموضوع.

(٤) سقط من (ب) منه.

(٥) في (ب) ما يبحث في العلم.

(٦) في (ب) فيها.

(٧) سقط من (ب) المادية.

١٧١

متعلقة بأمر واحد من غير أن يكون هناك إثبات أعراض ذاتية لموضوع بأدلة مبنية على مقدمات ، وإنما أطنبنا بإيراد هذه المباحث مع أنها في نظر صناعة البرهان من قبيل الواضحات لما تطرقت إليها بعد انعدام (١) قواعد الصناعات الخمس من الشبيهات ، إذا تقرر هذا.

فتقول :

__________________

(١) في (ب) انهزام وهو تحريف. لأ.

١٧٢

موضوع (١) علم الكلام

موضوع علم الكلام هو المعلوم (٢) من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية لما أنه يبحث عن أحوال الصانع من القدم ، والوحدة والقدرة ، والإرادة وغيرها ، وأحوال الجسم والعرض من الحدوث ، والافتقار والتركب من الأجزاء ، وقبول الفناء ونحو ذلك مما هو عقيدة إسلامية ، أو وسيلة إليها ، وكل هذا بحث عن أحوال :

المعلوم وهو كالموجود بين الهلية والشمول لموضوعات سائر (٣) العلوم الإسلامية ، فيكون الكلام فوق الكل ، [إلا أنه أوثر على الموجود ليصح على رأي من يقول بالموجود] (٤) الذهني ، ولا يفسر العلم بحصول الصورة في العقل ، ويرى مباحث المعدوم والحال من مسائل الكلام فإن قيل : إن أريد بالمعلوم أو الموجود مفهومه ، فكثير من محمولات المسائل بل أكثرها أخص منه وهو ظاهر ، وإن أريد معروضه فأعم كرؤية الصانع وقدم كلامه ، وحدوث الجسم ونحو ذلك ، ولا خلاف في أن الأخص لا يكون عرضا ذاتيا ، والأعم لا يستعمل على عمومه

__________________

(١) موضوع الفن هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أو ما يرجع إليها فيبحث فيه عن الموجود من حيث إنه قديم أو حادث مثلا وعن المعدوم من حيث إنه ممكن ، وعن الحال من حيث حدوثه أو قدمه ، ومن حيث تحقيق الدليل على كونه رتبة بين الوجود والعدم.

(٢) المعلوم : أي ما يدرك ويتصور في الجملة لأنه هو الذي يعم الموجود والمعدوم. والحال.

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب).

(٤) في (ب) الوجود.

١٧٣

كالمساواة العارضة للعدد بواسطة الكم لا يستعمل في الحساب إلا بعد التخصيص بالمساواة العددية ، وإنما الخلاف في أنه قبل التخصيص ، هل يسمى عرضا ذاتيا أم لا ..؟

قلنا لزوم الاختصاص ليس بالنظر إلى موضوع المسألة ، بل موضوع العلم أعم من أن يكون على الإطلاق أو التقابل كالعدد لا يخلو عن الزوجية ، والفردية (١) ألا يرى أن الزوج يحمل على مضروب الفرد في الزوج مع كونه أعم منه. قال في الشفاء : العرض الذاتي قد يكون مساويا للموضوع ، كمساواة الزوايا (٢) الثلاث للقائمتين للمثلث ، وقد يكون أخص منه مطلقا كالزوج للعدد أو من وجه كالمساواة للعدد فإنها عرض ذاتي له لكون جنسه وهو الكم مأخوذا في حدها ثم إنهما قد يوجدان معا ، وقد يوجد العدد بدونها وهو ظاهر ، وبالعكس كما في المقادير وقد يكون أعم منه مطلقا كالزوج لمضروب الفرد في الزوج.

مسائل علم الكلام

(قال : مسائلة القضايا (٣) النظرية الشرعية الاعتقادية)

أقول : قد يجعل من مقدمات العلم تصور مسائله إجمالا لإفادته زيادة التميز وقيد القضايا بالنظرية ، لأنه لم يقع خلاف في أن البديهي لا يكون من المسائل ، والمطالب العملية ، بل لا معنى (٤) للمسألة إلا ما يسأل عنه ، ويطلب بالدليل ، نعم قد يورد في المسائل الحكم البديهي ليتبين لميته وهو من هذه الحيثية كسبي لا بديهي (٥) وقد تجعل الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات وأحكام بينة تفتقر إلى تنبيه (٦) هي مسائلها ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما وقع في تجريد المنطق من أن المسائل ما يبرهن عليها في العلم ، إن لم تكن بينة.

__________________

(١) في (أ) ألا يرى.

(٢) سقط من (ب) الثلاث.

(٣) القضايا : جمع قضية هي ما اشتمل من المعاني الكلامية على إثبات أو سلب تامين بحيث السكوت يحصل على اللفظ الدال عليها.

(٤) في (ب) العلمية وهو تحريف.

(٥) في (ب) ليتبين لميته وهو من هذه الحيثية كسبي لا بديهى.

(٦) في (ب) تنبه.

١٧٤

غاية علم الكلام

(قال : وغايته تحلية الإيمان بالإيمان ومنفعته الفوز بنظام المعاش ونجاة المعاد)

أقول : (١) ما يتأدى إليه الشيء ويترتب عليه يسمى من هذه الحيثية غاية ، ومن حيث يطلب للفعل (٢) غرضا ، ثم إن كان مما يتشوقه الكل طبعا يسمى منفعة ، فيصدر العلم يذكر غايته ليعلم أنه هل يوافق غرضه أم لا ...؟ ولئلا يكون نظره عبثا أو ضلالا ومنفعته ليزداد طالبه جدا ونشاطا. وغاية الكلام أن يصير الإيمان ، والتصديق بالأحكام الشرعية متيقنا (٣) محكما لا تزلزله شبه المبطلين ومنفعته في الدنيا انتظام (٤) أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج إليها في بقاء النوع على وجه لا يؤدي إلى الفساد وفي الآخرة النجاة من العذاب المرتب على الكفر وسوء الاعتقاد.

علم الكلام أشرف العلوم

(قال : فهو أشرف العلوم).

أقول : لما تبين أن موضوعه أعلى الموضوعات ، ومعلومه أجل المعلومات ، وغايته أشرف الغايات ، مع الإشارة إلى شدة الاحتياج إليه ، وابتناء سائر العلوم الدينية عليه ، والإشعار بوثاقة براهينه لكونها يقينيات يتطابق (٥) عليها العقل والشرع تبين (٦) أنه أشرف العلوم لأن هذه ، جهات شرف العلم ، وما نقل عن السلف من

__________________

(١) زيد في (ب) كلمة (أقول) وسقطت من (أ).

(٢) في (ب) بالفعل.

(٣) في (ب) متقنا.

(٤) زيد في (أ) كلمة أمر.

(٥) في (ب) تطابق.

(٦) في (ب) تبيين بدلا من (تبين).

١٧٥

الطعن فيه (١) ، فمحمول على ما إذا قصد التعصب في الدين ، وإفساد عقائد المبتدءين ، والتوريط في أودية الضلال بتزيين ما للفلسفة من المقال.

(قال : والمتقدمون على أن موضوعه الموجود من حيث هو ، ويتميز عن الإلهي بكون البحث فيه على قانون الإسلام أي ما علم قطعا من الدين كصدور الكثرة عن الواحد ونزول الملك من السماء وكون العالم محفوفا بالعدم والفناء إلى غير ذلك مما تجزم به الملة دون الفلسفة لا ما هو الحق ولو ادعاء لمشاركة (٢) الفلسفة ككلام المخالف).

أقول : أخر هذه المباحث مع تعلقها بالموضوع محافظة على انتظام الكلام في بيان الموضوع والمسائل والغاية ، فالمتقدمون من علماء الكلام جعلوا موضوعه الموجود بما هو موجود ، لرجوع مباحثه إليه ، على ما قال (٣) الإمام حجة الإسلام (٤) أن المتكلم ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود فيقسمه إلى قديم ومحدث ، والمحدث إلى جوهر وعرض ، والعرض إلى ما يشترط فيه الحياة كالعلم والقدرة وإلى ما لا يشترط كاللون والطعم ، ويقسم الجوهر إلى الحيوان والنبات والجماد ، ويبين أن اختلافها (٥) بالأنواع أو بالأعراض ، وينظر في القديم فيتبين (٦) أنه لا يتكثر ولا يتركب وأنه يتميز عن المحدث بصفات تجب له ، وأمور تمتنع عليه ، وأحكام تجوز في حقه من غير وجوب أو امتناع ، ويبين أن أصل

__________________

(١) قال الإمام مالك صاحب الموطأ يوصي أصحابه : إياكم والبدع. قيل : يا أبا عبد الله وما البدع ..؟ قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته. ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. ويروى أن ابن عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ ه‍ في كتاب مختصر جامع بيان العلم وفضله : أن الإمام مالكا كان يقول : الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم والقدر وما أشبه ذلك إلخ.

(راجع كتاب صون المنطق والكلام للسيوطي ص ٣٢ ج ١).

(٢) في (ب) ولو ادعى لثبت وكذا الفلسفة لكلام المخالف.

(٣) في (ب) ما قاله.

(٤) الإمام الغزالي هو محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي الطوسي الشافعي ، ولد سنة ٤٤٠ ه‍ وتوفي سنة ٤٠٤ ه‍. من مصنفاته : الأجوبة الممكنة عن الأسئلة المبهمة ، وإحياء علوم الدين. ومقاصد الفلاسفة ، وتهافت الفلاسفة وغير ذلك كثير من المؤلفات.

(٥) سقط من (ب) لفظ (إلى).

(٦) في (أ) بزيادة (أن).

١٧٦

الفعل جائز عليه ، وأن العالم فعله الجائز فيفتقر بجوازه إلى محدث ، وأنه قادر على بعث الرسل وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات وأن هذا واقع وحينئذ ينتهي تصرف العقل ويأخذ في التلقي من النبي عليه الصلاة والسلام الثابت عنده صدقه ومقبول (١) ما يقوله في الله تعالى ، وفي أمر المبدأ والمعاد ولما كان موضوع العلم الإلهي من الفلسفة هو الموجود بما هو موجود وكان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات قيد الموجود هاهنا بحيثية كونه متعلقا للمباحث الجارية (٢) على قانون الإسلام ، فتميز الكلام عن الإلهي بأن البحث فيه إنما يكون على قانون الإسلام ، أي الطريقة المعهودة المسماة بالدين والملة ، والقواعد المعلومة قطعا من الكتاب والسنة والإجماع ، مثل كون الواحد موجد للكثير ، وكون الملك نازلا من السماء ، وكون العالم مسبوقا بالعدم ، وفانيا بعد الوجود ، إلى غير ذلك من القواعد التي يقطع بها في الإسلام دون الفلسفة ، وإلى هذا أشار من قال : الأصل في هذا العلم التمسك بالكتاب والسنة ، أي التعلق بهما وكون مباحثه منتسبة إليهما جارية على قواعدهما على ما هو معنى انتساب (٣) العقائد إلى الدين (٤) وقيل المراد بقانون الإسلام أصوله من الكتاب والسنة ، والإجماع والمعقول الذي لا يخالفها ، وبالجملة فحاصله أن يحافظ في جميع المباحث على القواعد الشرعية ولا يخالف القطعيات (٥) منها جريا (٦) على مقتضى نظر العقول القاصرة على ما هو قانون الفلسفة ، لا أن يكون جميع المباحث حقة في نفس الأمر ، منتسبة إلى الإسلام بالتحقيق ، وإلا لما صدق التعريف على كلام المجسمة والمعتزلة (٧) والخوارج (٨) ومن يجري

__________________

(١) في (ب) بقبول.

(٢) في (ب) الجائزة.

(٣) زيد في (ب) كلمة (معنى).

(٤) سقط من (ب) كلمة (إلى الدين).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (منها).

(٦) في (ب) إجراء بدلا من (جريا).

(٧) المعتزلة : يقولون بنفي صفات الله سبحانه وتعالى. وأن الله تعالى ليس خالقا لأفعال العبد ، وأن القرآن محدث ومخلوق. وكان التوحيد في رأيهم أن الله تعالى عالم بذاته وقادر بذاته. وسموا معتزلة لأن واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد اللذين كانا من تلاميذ الحسن البصري ادعيا «أن الفاسق ليس بمؤمن وليس بكافر» وجلسا في ناحية خاصة من المسجد فقيل عنهما أنهما اعتزلا حلقة الحسن البصري فسموا معتزلة.

(٨) الخوارج : يقال لهذه الطائفة الخوارج والحرورية والنواصب والشراة ، أما الخوارج فجمع خارج ـ

١٧٧

مجراهم ، وعلى هذا لا يرد الاعتراض بأن قانون الإسلام ما هو الحق من مسائل الكلام فإن أريد الحقية والانتساب إلى الإسلام بحسب الواقع لم يصلح هذا القيد لتميز الكلام عن غيره، لأنه ليس لازما بينا ، إذ كل من المتكلم وغيره يدعي حقية مقاله ، ولم يصدق التعريف على كلام المخالف لبطلان كثير من قواعده مع أنه كلام وفاقا ، وإن أريد بحسب اعتقاد الباحث حقا كان أو باطلا ، لم يتميز الكلام بهذا القيد عن الإلهي لاشتراكهما في ذلك.

اختلاف الباحثين في حقيقة علم الكلام

(قال : فإن قيل : قد يبحث مع نفي الوجود الذهني عن أحوال ما لا يعتبر وجوده كالنظر والدليل وما لا وجود كالمعدوم والحال قلنا : ولواحق ولو سلم فنفي الذهني رأي البعض).

أقول : اعترض في المواقف على كون موضوع الكلام هو الموجود من حيث هو بأنه قد يبحث عن أحوال ما لا يعتبر وجوده ، وإن كان موجودا كالنظر والدليل وعن أحوال ما لا وجود له أصلا كالمعدوم والحال ولا يجوز أن يؤخذ الموجود أعم من الذهني والخارجي ليعم الكل ، لأن المتكلمين لا يقولون بالوجود الذهني ، والجواب :

إنا لا نسلم كون هذه المباحث من مسائل الكلام ، بل مباحث النظر والدليل من مباديه على ما قررنا (١) وبحث المعدوم والحال من لواحق مسألة الوجود

__________________

ـ وهو الذي خلع طاعة الإمام علي وأعلن عصيانه. وعلماء الفقه الإسلامي يسمون من فعل ذلك الباغي ، وجمعه بغاة.

وأما الحرورية فنسبة إلى حرورى القرية التي نزل بها الخوارج الذين خالفوا الإمام عليا وبها كان تحكيمه واجتماعه. وأما الشراة يزعمون أنهم باعوا أنفسهم لله. يشيرون إلى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ). وخصومهم يقولون إن الشاري اسم الفاعل من شر الشرر إذا زاد وتفاقم.

(انظر مقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٦٧).

(١) في (ب) على ما تقرر.

١٧٨

توضيحا للمقصود وتتميما له بالتعرض لما يقابله لا يقال بحث إعادة المعدوم ، واستحالة التسلسل ، ونفي الهيولي (١) وأمثال ذلك من المسائل قطعا ، لأنا نقول هي راجعة إلى أحوال الموجود بأنه هل يعاد بعد العدم؟ وهل يتسلسل إلى غير النهاية؟ وهل يتركب الجسم من الهيولي والصورة؟ ولو سلم أنها من المسائل فإنما يريد (٢) ما ذكرتم لو أريد بالموجود من حيث هو الموجود (٣) في الخارج بشرط اعتبار وجوده وليس كذلك. بل الموجود على الإطلاق ذهنيا كان أو خارجيا واجبا أو ممكنا جوهرا أو عرضا إلى غير ذلك.

فمباحث النظر والدليل من أحوال الوجود العيني وإن لم يعتبره. والبواقي من أحوال الوجود الذهني ، وكثير من المتكلمين يقولون به على ما يصرح بذلك كلامهم ، ومن لم يقل فعليه العدول إلى المعلوم.

(قال : وقيل موضوعه ذات الله تعالى (٤) وحده أو مع ذات الممكنات من حيث استنادها إليه لما أنه يبحث عن ذلك ولهذا يعرف : بالعلم الباحث عن أحوال الصانع من صفاته (٥) الثبوتية ، والسلبية ، وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا والآخرة أو عن أحوال الواجب ، وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام.

فإن قيل : قد يبحث في الأمور العامة والجواهر والأعراض عن أحوال الممكنات لا على وجه الاستناد قلنا على سبيل الاستطراد (٦) للتكميل أو الحكاية للتزييف أو المبدئية (٧) من التحقيق (٨) ، وإلا فهو من فضول الكلام.

فإن قيل : مباديه يجب أن تكون بينة بنفسها إذ ليس فوقه علم شرعي.

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (الصورة).

(٢) في (ب) يرد بدلا من (يريد).

(٣) في (ب) بوجود.

(٤) سقط من (ب) كلمة (تعالى).

(٥) سقط من (أ) كلمة الثبوتية.

(٦) في (ب) الاطراد.

(٧) في (أ) الميدانية.

(٨) سقط من (ب) لفظ (من).

١٧٩

قلنا : قد تبين مبادي العلم فيه أو في علم أدنى ، لا على وجه الدور ومبادي الشرعي في غير الشرعي ، كالأصول في العربية).

أقول : ذهب القاضي الأرموي (١) من المتأخرين ، إلى أن موضوع الكلام ذات الله تعالى ، لأنه يبحث عن صفاته الثبوتية والسلبية ، وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا ، ككيفية صدور العالم عنه بالاختيار ، وحدوث العالم ، وخلق الأعمال ، وكيفية نظام العالم ، كالبحث عن النبوات وما يتبعها أو بأمر الآخرة ، كبحث المعاد وسائر السمعيات ، فيكون الكلام هو العلم الباحث عن أحوال الصانع ، من صفاته الثبوتية والسلبية ، وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا والآخرة ، وتبعه صاحب الصحائف (٢) إلا أنه زاد فجعل الموضوع ذات الله تعالى من حيث هي ، وذات الممكنات من حيث استنادها إلى الله (٣) تعالى ، لما أنه يبحث عن أوصاف ذاتية لذات الله تعالى من حيث هي ، وأوصاف ذاتية لذات الممكنات من حيث إنها محتاجة إلى الله تعالى ، وجهة الوحدة هي الموجود ، وكان هو العلم الباحث عن أحوال الصانع ، وأحوال الممكنات من حيث احتياجها إليه على قانون الإسلام ، وينبغي أن يكون هذا معنى ما قال : هو العلم الباحث عن ذات الله تعالى وصفاته ، وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام ، وإلا فلا معنى للبحث عن نفس الموضوع ، لكنه أجاب : بأن المراد بذات الله تعالى في التعريف الذات من حيث الصفات ، كالذات من حيث عدم التركيب والجوهرية والعرضية ، والبحث عنها من قبيل المسائل ، كالبحث عن نفس الصفات هو الذات من حيث هي ولا بحث عنها في العلم ، وهذا يشعر (٤) بأن المحمول في

__________________

(١) هو محمد بن الحسين القاضي تاج الدين الأرموي الشافعي المتوفى سنة ٦٥٦ ه‍. من مؤلفاته : الحاصل من المحصول أعني المحصول للفخر الرازي.

(٢) صاحب كتاب الصحائف في الكلام هو : شمس الدين محمد السمرقندي.

(٣) في (ب) إليه بإسقاط لفظ الجلالة.

(٤) في (ب) مشعر.

١٨٠