الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وجهات الاختصاص والاجتماع ، ولا بد في الاجتماع على موارد الحاجات من تبدل الاختصاص ووقوع المعاملات ، فيشتري واحد ويبيع آخر وهكذا ، فلا بد في جميع ذلك من قانون وهو الشرع وعالم يرجعون إليه ويرشدهم إلى تلك القوانين ، ينتظم الأمور بالرجوع إليه ، وهذا هو الإمام الرئيس المخصوص بذلك العلم ، وليس العقل كافيا في معرفة هذه القوانين الكلية الموجبة للانتظام.

فإنّ العقل لا يستقلّ غالبا بجميع ما يحتاجون إليه ، وقد لا يدرك إلّا بعد حصول التجارب ، كما في خواص الأدوية والتجربة ربما توجب الهلاك إلى أن يحصل التجربة وهكذا والتصرف في المباحات تصرف في مال الله تعالى بغير إذنه ، فلا بد من رئيس منصوب من الله تعالى نبيّا كان أو إماما (١).

وهذا الذي ذكره الفلاسفة في بيان الحاجة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : إن الإنسان مدني بالطبع ، أي : يحتاج في معيشته إلى التمدّن ، وهو اجتماعه مع بني نوعه ، للتعاون والتشارك في تحصيل ما يحتاجون إليه ، من الغذاء الموافق واللباس الواقي من الحرّ والبرد وهكذا ، وكل ذلك مما يحصل بالصناعات ، ولا يمكن للإنسان الواحد القيام بجميعها ، بل لا بدّ أن يجبى هذا لذاك ، وذلك يخيط لآخر وآخر يلبس أو يبيع ، إلى غير ذلك من المصالح التي لا بقاء للنوع بدونها. ثم ذلك التعاون والتشارك لا يتم إلّا بمعاملات فيما بينهم ومعاوضات ، ولا ينتظم إلّا بقانون متفق عليه مبني على العدل والإنصاف لما لا حصر له من الجزئيات لئلا يقع الجور ويختلّ النظام ، لما جبل عليه كل أحد من أنه يشتهي ما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه وذلك القانون هو الشرع.

ولا بدّ له من شارع يقرّره على ما ينبغي ، متميّز عن الآخرين بخصوصية فيه من قبل الخالق ، واستحقاق طاعة وانقياد ، وإلّا لما قبلوه ولم ينقادوا له ، وأن يكون إنسانا يخاطبهم ويلزمهم المعاملة على وفق ذلك القانون ، ويراجعون في مواقع الاحتياج ومظانّ الاشتباه.

والحاصل أنّ الغاية الإلهية لمخلوقاته ، أعني : إحاطة علمه السابق بنظام الموجودات على الوجه الأليق في الأوقات المترتبة التي يقع كل موجود منها في واحد من تلك الأوقات يقتضي إفاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب ، والتفضيل

__________________

(١) الإمامة للشفتي ص ٨٨.

٨١

الذي من جملته وجود الشرع والشارع ، ووجود ما به يكون النظام على وجه الصواب.

وهذا ما قاله في الشفاء : أن العناية الإلهية تقتضي المصالح التي لها منفعة ما ، كإنبات الشعر على الأشفار والحاجبين وتقصير الأخمص من القدمين ، فكيف لا يقتضي المنفعة التي هي في محل الضرورة للبقاء ولتمهيد نظام الجزء وأساس للمنافع كلها (١).

قال بعضهم : وهذا الكلام وإن كان في حقّ النبي ، لكنّ المراد في المقام المبين لتلك القوانين والرئيس المطلق الذي هو الأعمّ من النبي والذي بيده هذه القوانين الذي يحتاج إليه ، مهما كانت الحاجة باقية ، وبيان القانون في الجملة في عصر مع تشتت الصور والفروع الجزئية للأصول الكلية وتشابه الصور وتماثل الكيفيات لا يكتفي به ، وإلّا لاكتفى الباري بنبي واحد مع أن من الشاهد والعيان اختلاف الآراء وغلبة الهوى والمقاصد الفاسدة في الخلق ، فلا بد في كل عصر من الرئيس الذي هو معنى الإمام في كل عصر وأوان ، ما كانت الخلق على هذه الطبيعة الداعية لتأسيس هذا القانون ولهذا ترى الرسل تترى ، والأنبياء تترادف ، وكذلك الأوصياء في كل عصر وأوان (٢).

جهة التكليف :

وبيانها : أن خلقة الإنسان ليست للتعيّش في الدنيا والجهتان السابقتان ، أي : التمدّن والسياسة وإقامة الشرع لانتظام الأمر في الخليقة إنما تكونان لأمر آخر هو المقصود الأصلي في الخلقة ، وهو معرفة الباري ، والإتيان بما يحبّه ويرضيه ، كي يصل ذلك إلى درجات عالية في الدنيا والآخرة ، وتحصيل مرضاته وطريق عرفانه لا يمكن إلّا بتلقين من الله تعالى ، وتلقّيه الأحكام من طرق العلم والعمل ، ولا يتيسّر ذلك إلا لمن له ربط تام بالمبدإ ، وله ارتباط بالخلق يتلقى الأحكام والأوامر والنواهي من الخالق ، أو مرتبط بالمتلقي والمبلّغ إلى الخلق وهذا هو النبي والإمام ، ولا يكتفي في ذلك بالنبي في عصر ، بل لا بد في كل الأعصار من مبلّغ وحافظ بلا شبهة ، لجهل الناس في هذه المرحلة جهلا تاما لا يكاد يمكن الإحاطة بها.

__________________

(١) الشفاء باب الإلهيات : ص ٤٤١.

(٢) الإمامة : ص ٨٩.

٨٢

حيث إن مرضيات الخالق المخفي عن الأنظار المتعالي مرتبته عن الأفهام ومبغوضاته مع دقّة نظره وكماله وعلوّ درجته خفيّة ، وطرق طاعاته ومعاصيه وشروط كلّ من ذلك ، وكثرة الصور وتجدد الوقائع وتواتر الشبهة ، لكثرتها وتشتتها وتفرقها ممّا لا يمكن الاقتناع فيها ببيان النبي في مدة قليلة من عمره وإلى هذه الرواية أشار الإمام الصادق عليه‌السلام في رواية هشام بن الحكم أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبتّ الأنبياء والرسل؟ قال : إنّا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا ، لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجوه ثبت أن له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم.

فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم في خلقه ، والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان ممّا أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين لكيلا تخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته.

جهة رفع الشبهة :

بواضح البيان ، فإنّ المذاهب مختلفة ، والأفهام متفاوتة ، والشبه متطرقة ويزداد مع ذلك حبّ الطريقة السالفة للآباء ، وفرحة كل حزب بما لديهم من الآراء والكلام الباقي من النبي مثلا في عصر لا يرتفع منه جميع ذلك بل قد يزداد.

وقد أشارت إلى هذه الجهة رواية صحيحة مروية في الكافي في كتاب الاضطرار إلى الحجة عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله ، قال : صدقت ، قلت : إن من عرف أن له ربّا ، فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الربّ رضا وسخطا ، وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو برسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل ، فإذا لقيهم عرف أنهم الحجّة ، وأنّ لهم الطاعة المفترضة ، وقلت للناس : أليس تزعمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو الحجة من الله على خلقه؟

٨٣

قالوا : بلى ، قلت : فحين مضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كان الحجة على خلقه؟ فقالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به ، حتى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلّا بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقا ، فقلت لهم من قيّم القرآن؟ فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم وحذيفة يعلم ، قلت كلّه؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحدا يقال : أنه يعرف ذلك كلّه إلّا عليّا عليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم ، فقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري وقال هذا : أنا أدري فأشهد أن عليّا عليه‌السلام كان قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن ما قال في القرآن فهو حق ، قال : رحمك الله(١).

هذه أهم الوجوه العقلية على وجوب وجود إمام في كل عصر مضافا إلى دليل اللطف العام الدالّ على وجوب نصب الإمام ، باعتبار أنّ نظم المعاش الذي هو مقدمة للمعاد ، ونظم التكاليف النافعة يوم التناد لا يتمّ إلّا بالإمام ، فهو لطف من الله تعالى ، فإنّ اللطف سواء جعلناه بمعنى المقوّم للتكاليف أم المحصّل لها يتوقف على ذلك.

بيان ذلك من وجهين :

أحدهما : أنّ منع اللطف نقض للغرض الإلهي الذي هو الإتيان بالمأمور به ونقض الغرض قبيح يجب تركه.

ثانيهما : أنه مريد للطاعة ، فلو جاز منع اللطف لكان غير مريد لها وهو تناقض.

وأما الوجوه النقلية الدالة على وجوب وجود إمام في كل عصر فكثيرة أيضا منها :

١ ـ دفع تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالين :

وهو مرويّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفريقين.

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون من هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين (٢) وتأويل الجاهلين.

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ١٦٩.

(٢) السنن الكبرى : ج ١٠ ص ٢٠٩.

٨٤

وورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

وعن بصائر الدرجات في باب النوادر عن أبي البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، وذلك أن الأنبياء لم يورّثوا درهما ولا دينارا ، وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ شيئا منها ، فقد أخذ حظا وافرا ، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه فإنّ فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين (١).

وروى مثله الكليني في الكافي (٢).

توضيح : المراد من «كل خلف» إما القرن من الناس ، فإنه اسم لكل من يجيء بعد من مضى وهو المناسب لرواية العامة ، أو بمعنى الولد الصالح وهو المحتمل في رواياتنا ، ووافقنا عليه صاحب القاموس (٣).

قد يقال : إن هذا الخبر وأمثاله يقتضي أن يكون في كل عصر جماعة من العدول من أهل البيت هكذا شأنهم ، فلا يكون المراد منه الأئمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والجواب :

هذا الاحتمال منفي للتخصيص بأهل البيت بقوله عليه‌السلام : «فينا أهل البيت» والجمع : إما من جهة الدلالة على كون الاختصاص بفرد من الأفراد ليس بوجه فيه سوى كونه كذلك ، وإما باعتبار الاختلاف أو من الجمع المنحصر في فرد للمبالغة أو باعتبار تابعيه وناصريه ، مع أنّ في بعض الأخبار إنما هي بلفظ الأفراد.

روى الصدوق في كمال الدين عن أبي الحسن الليثي قال : حدثني جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

إنّ في كل خلف من أمتي عدلا من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، وإن أئمتكم قادتكم إلى الله تعالى ،

__________________

(١) بصائر الدرجات : ص ١٠.

(٢) أصول الكافي : ج ١ ص ٣٢.

(٣) القاموس : ج ٣ ص ١٣٦.

٨٥

فانظروا بمن تقتدون في دينكم وصلاتكم (١).

وورد أيضا عن الصفّار بإسناده عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها حجة ، كلّما زاد المؤمنون شيئا ردهم ، وإن نقّصوا شيئا أتمّه لهم(٢).

ورواه الكليني في أصوله في باب أنّ الأرض لا تخلو من حجة (٣).

٢ ـ ومنها ما ورد أنّ بالإمام يحصل الدين والإيمان ، وبعدمه يضل الناس ويخرجون عن الإسلام ويكونون في حدّ أهل الجاهلية :

وفيه روايات كثيرة نذكر ما ورد في طرق العامة ، فقد روى البخاري في صحيحه في كتاب الحكام في باب السمع والطاعة للإمام قال :

حدّثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حمّاد عن الجعد ، عن أبي رجاء عن ابن عبّاس قال :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر ، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلّا مات ميتة جاهلية (٤).

ومثله ما رواه مسلم في الصحيح (٥).

ورووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

من خلع يدا من طاعة الله لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (٦).

وورد مثله في مروياتنا بطرق مستفيضة بل متواترة معنى من أنه من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية.

__________________

(١) كمال الدين : ص ٢٢١ ح ٧.

(٢) بصائر الدرجات : ص ٣٣١.

(٣) أصول الكافي : ج ١ ص ١٧٨.

(٤) صحيح البخاري : ج ٨ ص ١٠٥ وصحيح مسلم ج ١٢ / ٢٠٠ ح ٥٦ ط دار الكتب العلمية.

(٥) صحيح مسلم : ج ١٢ / ٢٠٠ ح ٥٦ ط دار الكتب.

(٦) صحيح مسلم : ج ١٢ / ٢٠١ ح ١٨٥١ ط دار الكتب.

٨٦

٣ ـ ومنها ما ورد من أن بالإمام بقاء الأرض ومن عليها :

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روى الصفّار والكليني في كتابيهما الكثير منها ، فعن أبي عبد الله عليه‌السلام سئل: أتبقى الأرض بغير إمام؟

قال عليه‌السلام : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت (١).

وعن أبي هراسة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها ، كما يموج البحر بأهله (٢).

وفي نصّ آخر : لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها (٣).

٤ ـ منها أن الأئمة أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء :

فعن جابر بن يزيد الجعفي قال :

قلت لأبي جعفر عليه‌السلام لأي شيء يحتاج إلى النبي والإمام؟

فقال : لبقاء العالم على صلاحه ، وذلك أنّ الله عزوجل يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبي أو إمام قال الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون ، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون (٤) ...

وروى العامة مثله (٥).

وروى في الكافي عن كرّام قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام ، وقال : إنّ آخر من يموت الإمام ، لئلا يحتجّ أحد على الله عزوجل أنه تركه بغير حجّة لله عليه (٦).

__________________

(١) بصائر الدرجات : ص ٤٨٨.

(٢) أصول الكافي : ج ١ ص ١٧٩ ح ١٢.

(٣) بصائر الدرجات : ٤٨٩.

(٤) علل الشرائع : ص ١٢٣ وكمال الدين : ص ٢٠٥.

(٥) مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٧٤ والصواعق المحرقة : ٢٣٣ ط. مصر ومستدرك الحاكم : ج ٣ ص ١٤٩.

(٦) أصول الكافي : ج ١ ص ١٨٠.

٨٧

٥ ـ ومنها أنه لو لا الإمام لما خلق الله الخلق : وأنه باعث الوجود وسبب خلق الدنيا وما فيها من الإنسان والحيوان والنبات والجماد «لولاكم لما خلقت الأفلاك» وما نصّ عليه حديث الكساء أكبر شاهد على صدق المدّعى.

ومن الآيات الدالّة على وجود إمام في كل عصر هي :

قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (الإسراء / ٧٢).

فقد جاءت النصوص إلى أن المراد بالإمام هو من كان يؤتمّ به في الدنيا (١).

فعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لمّا نزلت هذه الآية : (يَوْمَ نَدْعُوا ...) قال المسلمون ؛ يا رسول الله ألست إمام الناس كلّهم أجمعين؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس فيكذبون وتظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم ، فمن والاهم واتّبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني ألا ومن ظلمهم وكذّبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء (٢).

وعن عبد الله بن سنان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : (يَوْمَ نَدْعُوا ...) قال : إمامهم الذي بين أظهرهم وهو قائم أهل زمانه (٣).

والروايات كثيرة لاحظ مجمع البيان ج ٥ ص ٤٣٠ وتفسير الأمثل ج ٩ ص ٦٣ والميزان للطباطبائي : ج ١٣ ص ١٦٥.

ومنها قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (الرعد / ٨).

فعن بكر بن الفضيل قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فقال : كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم (٤).

وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

كل إمام هادي كل قوم في زمانه (٥).

__________________

(١) التبيان للطوسي : ج ٦ ص ٥٠٤.

(٢) نور الثقلين : ج ٣ ص ١٩١.

(٣) نفس المصدر : ص ١٩٢.

(٤) تفسير نور الثقلين : ج ٢ ص ٤٨٣ نقلا عن الكافي.

(٥) تفسير نور الثقلين : ج ٢ ص ٤٨٣ عن كمال الدين وتمام النعمة للصدوق.

٨٨

وعن بريد العجلي عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنذر ولكل زمان منّا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم الهداة من بعده عليّ ثم الأوصياء واحدا بعد واحد (١).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

المنذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والهادي أمير المؤمنين وبعده الأئمة عليهم‌السلام وهو قوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) في كل زمان هاد مبين ، وهو رد على من ينكر أن في كل أوان وزمان إماما ، وأنه لا تخلو الأرض من حجة كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله إما ظاهر مشهور وإما خائف مغمور لئلا تبطل حجج الله وبيناته (٢).

ومنها قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء / ٦٠).

فعن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ ...) قال : الأئمة من ولد علي وفاطمة عليه‌السلام إلى أن تقوم الساعة (٣).

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما أنزل الله عزوجل على نبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي ، أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم سميي وكنيّي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان ، قال جابر : فقلت له : يا رسول الله فهل ينتفع الشيعة به في

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) نفس المصدر : ص ٤٨٤.

(٣) نفس المصدر : ج ١ ص ٤٩٩.

٨٩

غيبته؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي والذي بعثني بالنبوة إنهم ينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّاها السحاب ، يا جابر هذا من مكنون سرّ الله ومخزون علمه فاكتمه إلّا عن أهله (١).

وعن أبان أنه دخل على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فسأله عن قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، فقال : ذلك علي بن أبي طالب ، ثم سكت ، قال فلما طال سكوته قلت ثم من؟ قال ثم الحسن ثم سكت ، فلما طال سكوته ، قلت ثم من؟ قال : الحسين ، قلت : ثم من؟ قال : علي بن الحسين ، وسكت فلم يزل يسكت عند كل واحد حتى أعيد المسألة فيقول ، حتى سمّاهم إلى آخرهم صلّى الله عليهم (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٤٩٩ نقلا عن كمال الدين وتمام النّعمة.

(٢) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٥٠٠ نقلا عن تفسير العياشي.

٩٠

الباب الحادي والعشرون

عقيدتنا في عصمة الإمام

قال المصنف (رحمة الله عليه) :

ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، من سن الطفولة إلى الموت ، عمدا وسهوا. كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان لأنّ الأئمة حفظة الشرع والقوّامون عليه حالهم في ذلك حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة ، بلا فرق.

* * *

تعتقد الإمامية أنّ الإمام عليه‌السلام كالنبي يجب أن يكون معصوما عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت ، عمدا وسهوا لأنّ الإمامة والولاية من المناصب الإلهية التي من الله سبحانه بها على عباده ، وجعلها فوق مقام النبوة (١) ، وقد قامت الأدلة العقلية والشواهد النقلية على اعتبار شروط فيها من العصمة والطهارة والأفضلية ، وذلك لأنّ الإمام حافظ للشرع والقوّام به حاله في ذلك كحال النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأن الحاجة إلى الإمام إنما هي للانتصاف للمظلوم من الظالم ، ورفع الفساد وحسم مادة الفتن ، وأن الإمام لطف يمنع القاهر من التعدي ، ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرّمات ويقيم الحدود والفرائض ويؤاخذ الفساق الخ ... فلو جازت عليه المعصية وصدرت عنه ،

__________________

(١) والدليل عليه أن الله سبحانه شرّف إبراهيم بالإمامة بعد أن كان نبيّا.

٩١

انتفت هذه الفوائد وافتقر إلى إمام آخر وتسلسل.

وأما الأدلة السمعية على عصمة الإمام عليه‌السلام فكثيرة هي من القرآن الكريم :

١ ـ قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء / ٦٠).

فقد أوجب سبحانه فيها طاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر ، وهذا يدل على عصمة أولي الأمر ، فإنّ غير المعصوم ربما يأمر بما يخالف الشرع ، وليس المراد من وجوب طاعة أولي الأمر طاعتهم فيما أمر الله به بل مطلقا فإنه يستغني عن إيجاب طاعتهم بإيجاب طاعة الله ، وبالجملة كيف يلائم الأمر المطلق بطاعة أولي الأمر الواقعين في معرض مخالفة الشرع وتفويض أمر الدين إليهم مع غرض حفظ ناموس الشرع ، وهل يكون خطر أعظم عليه من ذلك.

قال فخر الدين الرازي في تفسيره :

إنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدّ وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد وأنه محال ، فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ فثبت قطعا أنّ أولي الأمر المذكور في الآية لا بدّ وأن يكون معصوما. انتهى.

٢ ـ ومن الآيات قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة / ١٢٥).

وفي الآية دلالة على عصمة الإمام عليه‌السلام من جميع الفواحش بشتّى أقسامها ، منذ الصغر إلى الممات.

وبها يستدلّ على عصمتهم حال الصغر بوجهين :

الأول : إنّ العرف يحكم بعدم لياقة المذنب لمنصب النبوة أو الإمامة لو صدر منه ذنب حال طفولته.

الثاني : إنّ قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) عام يشمل حال الطفولة ،

٩٢

لأنه لو لم يشملها لكان قال «لا ينال عهدي المذنبين» والمذنب هو المكلّف البالغ.

٣ ـ قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

حيث أشارت النصوص من الفريقين إلى عصمة أهل الكساء فلاحظ ما رواه ابن كثير في تفسيره وغيره من مفسّري القوم في عصمة من أنزلت فيهم آية التطهير.

أمّا أخبار السنّة المطهّرة الدالّة على عصمة الإمام فكثيرة أيضا منها :

الأخبار الدالة على أنّ الحق يدور مع الإمام علي عليه‌السلام حيثما دار.

فيقبح من النبي أن يأمر باتباع علي عليه‌السلام لو كان غير معصوم ، فالأمر باتباعه مطلقا فيه دلالة على عصمته المطلقة.

ومنها : حديث المنزلة :

وقد ورد بعدة طرق في مصادر القوم ، فرواه البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق في باب مناقب علي بن أبي طالب عن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام :

أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى.

ورواه مسلم أيضا في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة ، وابن ماجة في صحيحه : ص ١٢ ، وأحمد بن حنبل في مسنده ج ١ ص ١٧٤ ، وأبو داود الطيالسي في مسنده : ج ١ ص ٢٨ وأبو نعيم في حليته : ج ٧ ص ١٩٤ والنسائي في خصائصه بطريقين : ص ١٥ ـ ١٦.

وفي حديث المنزلة دلالة على أن للإمام علي عليه‌السلام ما لرسول الله من العصمة التامة في كل المجالات دون استثناء.

ومنها : حديث الأمان ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت ذهبوا ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض.

أخرجه القندوزي الحنفي في ينابيع المودة : ص ٢١ عن أحمد بن حنبل

٩٣

وعن الحمويني والحاكم والصواعق المحرقة.

الحديث شاهد صدق على إمامة الأئمة عليهم‌السلام وعصمتهم ، إذ لا يكون المكلّف أمانا لأهل الأرض إلّا لكرامته على الله تعالى وامتيازه في الطاعة والمزايا الفاضلة مع كونه معصوما ، فإنّ العاصي لا يأمن على نفسه فضلا عن أن يكون أمانا لغيره ، فإذا كانوا أفضل الناس باعتبار كونهم أمانا لأهل الأرض فإن ذلك دليل على بقائهم ما دامت الأرض ، وهذه حجة على المخالفين الذين أنكروا ولادة الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف وعليه‌السلام فقالوا إنه سوف يولد ؛ والسر في كونهم عليهم‌السلام أمانا لأهل الأرض باعتبار نزاهتهم وقداستهم عنده عزوجل وإحاطتهم لصفاته تعالى وعبادتهم المخلصة لله سبحانه ، وهذه المكرمة التي اختصهم بها المولى تماما كمكرمة نبيّه الأعظم الذي به دفع العذاب عن العباد ما دام بين ظهرانيهم (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ...) (الأنفال / ٣٤).

ومنها : حديث السفينة : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق. رواه الحاكم في المستدرك وكنز العمال ج ٦ ص ٢١٦ وينابيع المودة.

قال الحاكم : هذا صحيح على شرط مسلم. وذكره الهيثمي في مجمعه ج ٩ ص ١٦٨ وذكره أبو نعيم في حلية الأولياء ج ٤ ص ٣٠٦ وتاريخ بغداد ج ١٢ ص ١٩ والسيوطي في الدر المنثور.

والحديث نص صريح في عصمتهم إذ لو كانوا غير معصومين فلا يأمن من ركب سفن علومهم ، لأنّ المذنب لا يكون أمانا لغيره ، إضافة إلى أن النبي لا يأمر باتباع المذنب.

ومنها حديث الثقلين : عن أبي سعيد الخدري قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا وأحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

رواه في ينابيع المودّة صفحة ٢٩٢ بلفظ آخر قال : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى

٩٤

يردا عليّ الحوض». ورواه جماعة : لاحظ مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم كتاب الفضائل. وقال ابن حجر في الصواعق صفحة ١٣٦ : «اعلم أن لحديث الثقلين طرقا كثيرة وردت من نيّف وعشرين صحابيا». والحديث نصّ في عصمة الأئمة عليهم‌السلام لعطف العترة على القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ودلالة الحديث على إمامة أئمتنا عليهم‌السلام واضحة من وجوه :

الأول : كون العترة والكتاب لا يفترقان أبدا إلى يوم القيامة لوجود التلازم بينهما ، وقد أكد هذا التلازم بقوله : «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

الثاني : إن المتمسك بهما لن يضلّ أبدا ، ولا يكفي التمسّك بالكتاب دون العترة لأنّ في الكتاب محكمات ومتشابهات لا يمكن الأخذ بواحد منها من دون الرجوع إلى من عنده علم الكتاب في توضيح مراد الكتاب.

الثالث : إن اقتران العترة بالكتاب دليل على علمهم بما في الكتاب وأنهم لا يخالفونه أبدا ، وعلمهم به دليل فضلهم على غيرهم ، وأما عدم مخالفتهم للكتاب فدليل على عصمتهم.

* * *

٩٥

الباب الحادي والعشرون

عقيدتنا في صفات الإمام وعلمه

قال المصنف «قدّس سره» :

ونعتقد أن الإمام كالنبي يجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفّة وصدق وعدل ، ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق ، والدليل في النبي هو نفسه الدليل في الإمام ...

أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله ، وإذا استجدّ شيء لا بدّ أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسيّة التى أودعها الله تعالى فيه ، فإن توجه إلى شيء وشاء أن يعلمه علمه على وجهه الحقيقيّ ، لا يخطأ فيه ولا يشتبه ولا يحتاج في كل ذلك إلى البراهين العقليّة ولا إلى تلقينات المعلمين. وإن كان علمه قابلا للزيادة والاشتداد ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعائه : «ربّ زدني علما».

أقول : لقد ثبت في الأبحاث النفسيّة أنّ كل إنسان له ساعة أو ساعات في حياته قد يعلم فيها ببعض الأشياء من طريق الحدس الذي هو فرع من الإلهام ، بسبب ما أودع الله تعالى فيه من قوة على ذلك. وهذه القوة تختلف شدّة وضعفا وزيادة ونقيصة في البشر باختلاف أفرادهم. فيظفر ذهن الإنسان في تلك الساعة إلى المعرفة من دون أن يحتاج إلى التفكير وترتيب المقدمات والبراهين أو تلقين المعلمين. ويجد كل إنسان من نفسه ذلك في فرص كثيرة في حياته ، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يبلغ الإنسان من قوّته الإلهاميّة أعلى الدرجات وأكملها وهذا أمر قرره الفلاسفة المتقدمون.

٩٦

فلذلك نقول ـ وهو ممكن في حدّ ذاته ـ أن قوة الإلهام عند الإمام التي تسمى بالقوة القدسيّة تبلغ الكمال في أعلى درجاته فيكون في صفاء نفسه القدسيّة على استعداد لتلقي المعلومات في كل وقت وفي كل حالة ، فمتى توجّه إلى شيء من الأشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك القوة القدسية الإلهامية بلا توقف ولا ترتيب مقدمات ولا تلقين معلم. وتنجلي في نفسه المعلومات كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية ، لا غطش فيها ولا إبهام.

ويبدو واضحا هذا الأمر في تاريخ الأئمة عليهم‌السلام كالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنهم لم يتربوا على أحد ، ولم يتعلموا على يد معلّم ، من مبدأ طفولتهم إلى سنّ الرشد. حتى القراءة والكتابة ولم يثبت عن أحدهم أنه دخل الكتاتيب أو تتلمذ على يد أستاذ في شيء من الأشياء ، مع ما لهم من منزلة علمية لا تجارى. وما سئلوا عن شيء إلّا أجابوا عليه في وقته ، ولم تمرّ على ألسنتهم كلمة «لا أدري» ولا تأجّل الجواب إلى المراجعة أو التأمل أو نحو ذلك. في حين أنك لا تجد شخصا مترجما له من فقهاء الإسلام ورواته وعلمائه إلّا ذكرت في ترجمته : تربيته وتلمذته على غيره وأخذه الرواية أو العلم على المعروفين وتوقفه في بعض المسائل أو شكّه في كثير من المعلومات ، كعادة البشر في كل عصر ومصر.

* * *

بحث المصنّف (قدس‌سره) هنا في عدّة نقاط :

الأولى : أنّ الإمام عليه‌السلام كالنبي في الصفات.

الثانية : كيفية تلقّي الإمام للعلوم.

الثالثة : مسألة الإلهام وقوّة الحدس.

أما النقطة الأولى :

فمما لا ريب فيه عند الإمامية أنّ الإمام ـ كالنبي ـ قائم مقامه في جميع شئونه إلّا تلقي الوحي التشريعي ، فهو شبيهه في كل الصفات الجمالية والكمالية ، إذ بدون اتصافه بصفات النبي لا يتم الاستخلاف والنيابة ، ومعه لا يتم اللطف وهو نقض للغرض ، ومخالف لمقتضى عنايته الأولى ورحيميته ، ونقض الغرض والمخالف لمقتضى عنايته تعالى لا يقع ولا يصدر منه أصلا.

توضيح ذلك : إن من أغراض البعثة هو استكمال النفوس ، فاللازم هو أن

٩٧

يكون النبي في الصفات أكمل وأفضل من المبعوثين إليهم حتى يتمكن له أن يهديهم ويستكملهم وينقاد الناس له للتعلّم والاستكمال فإن كان النبي مبعوثا إلى قوم معينين فاللازم أن يكون أفضل منهم في ذلك الزمان ، وإن كان مبعوثا إلى جميع الناس إلى يوم القيامة فاللازم أيضا أن يكون أفضل من جميعهم ، إذ لو لا ذلك لما تيسر الهداية والاستكمال بالنسبة إلى جميعهم مع أنهم مستعدون لذلك ، وهو لا يساعد عنايته الأولى وإطلاق رحيميته ونقض لغرضه وهو لا يصدر منه تعالى.

فإذا ثبت ذلك في النبي لزم أن يكون الإمام أيضا أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل وغير ذلك لأنه قائم مقامه ونائب عنه في جميع الأمور والشئون إلّا في تلقي الوحي ، وهذه النيابة لا تتم إلّا بالاتصاف المذكور ، وإليه أشار المحقق اللاهيجي حيث قال :

«لا بد أن يكون الإمام في غاية التفرّد في استجماع أنواع الكمالات والفضائل حتى يطيع وينقاد له جميع الطبقات من الشرفاء والعلماء بحيث ليس لأحد منهم عار في الاتباع له والانقياد إليه» (١).

إذن لا بدّ أن يكون الإمام أفضل الرعية وإلّا قبح تقديمه على غيره مع وجود من هو أفضل منه.

قال العلّامة في كشف المراد :

إن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته لأنه إما أن يكون مساويا لهم أو أنقص منهم أو أفضل ، والثالث هو المطلوب والأول محال لأنه مع التساوي يستحيل ترجيحه على غيره بالإمامة والثاني أيضا محال لأن المفضول يقبح عقلا تقديمه على الفاضل.

ويدلّ عليه قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس / ٣٦) ، وقد خالفنا في ذلك الأشاعرة وبعض المعتزلة كابن أبي الحديد حيث أجازوا تقديم المفضول على الفاضل مخالفين صريح العقل ودليل النقل كما أوضحنا ، ويشهد لهذا ما روي عن مولانا الإمام

__________________

(١) بداية المعارف : ج ٢ ص ٥١ نقلا عن سرمايه ايمان : ١١٥ فارسي.

٩٨

الرضا عليه‌السلام في ضمن حديث عن صفات الإمام قال عليه‌السلام : «إنّ الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب ...» (١).

وفيه دلالة على العصمة الذاتية بحيث ان الله تعالى عصم جماعة من البشر وهم في بطون أمهاتهم تشريفا لهم لعلمه عزوجل بأنهم لن يعصوه عند نزولهم إلى دار التكليف ، فما ادّعاه بعض من نفيه للعصمة الذاتية ما هو إلّا تخرص وافتراء على الله تعالى وتضعيف لقدرته تعالى وسعة علمه.

والروايات متعددة في فضل الإمام وعظمته وعلوّ قدره : لاحظ كتاب الحجة من الكافي الشريف.

أما النقطة الثانية :

لا شك أن علم الأئمة عليهم‌السلام ليس بمكتسب بل علم إلهي ، إذ لم يعهد من واحد منهم أنه تتلمذ على يد أحد من البشر على الإطلاق بل إنّ علومهم عليهم‌السلام هي لدنية حضورية ، وهبهم إيّاها الباري عزوجل نتيجة علمه تعالى بهم وبما يؤول إليه أمرهم ، وليس بضنين على القدرة الإلهية أن ينعم عليهم بعد توفر القابلية فيهم وعموم الفيض الإلهي على مستحقه.

فهم عليهم‌السلام عالمون بالأحكام كليها وجزئيها ، وكذا عالمون بالموضوعات التي يترتب عليها حكم كلي ، والموضوعات الصرفة إذ به يتفاضلون على غيرهم من الأنبياء والمرسلين(٢).

وما ذكره المصنف من أن علمهم بالمستجدات الطارئة إرادي غير سديد وذلك لأنّ جهل الإمام بها قبل أن يشاء العلم يعدّ نقصا في رتبته وحطا في منزلته وكرامته ، مضافا إلى علم غيره بالمسألة التي أراد العلم بها ، فيكون تقديمه على غيره قبل العلم بها يعدّ تقديما للمفضول على الفاضل وهو قبيح بالضرورة.

فعلوم الأئمة على أنحاء :

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ٢٠١.

(٢) وقد أوضحنا ذلك في تعليقتنا على رسالة المعارف السلمانية فراجع.

٩٩

منها : ما ينتقل إليهم عن طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتعليمه أمير المؤمنين عليه‌السلام كل ما علمه النبي بواسطة الوحي ، وهذه العلوم الموروثة إليهم عليهم‌السلام هي الأحكام والتكاليف الشرعية التي أنزلها جبرائيل على قلب النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدوره أوصلها إلى الأئمة عليهم‌السلام إذ لا نبي مشرّع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن هذا القبيل ما ورد عن أمير المؤمنين أنه قال : «علّمني رسول الله ألف باب وكل باب منها يفتح ألف باب ، فذلك ألف ألف باب ...»(١).

فيراد منه الأحكام الكلية التي تنطبق على مصاديقها وصغرياتها.

ومنها : ما كتبه الإمام علي عليه‌السلام بإملاء رسول الله وسمّي بالجامعة قال الإمام الصادقعليه‌السلام :

فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش (٢).

ومنها : ما كتبه أمير المؤمنين عليه‌السلام وسمّي بالجفر وهو وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين وفيه زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم.

ومنها : ما سمعته مولاتنا الصدّيقة المطهّرة فاطمة روحي فداها وكتبه أمير المؤمنين عليه‌السلام وسمّي بالمصحف (٣).

ومنها : الإلهامات كقذف في القلوب ووقر في الأسماع كما في روايات متعددة أن الأئمة عليهم‌السلام محدّثون من قبل الملائكة (٤).

هذا فيما يتعلق بماهية علومهم ، أما مقدارها ، فحدّث ولا حرج إذ كيف لنا أن نحيط بكنههم وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام يا علي ما عرف الله إلّا أنا وأنت ، وما عرفني إلّا الله وأنت ما عرفك إلّا الله وأنا.

__________________

(١) رواه القندوزي الحنفي في ينابيع المودة ص ٧٧ ط إسلامبول ولاحظ إحقاق الحق ج ٦ / ٤١.

(٢) أصول الكافي : ج ١ ص ٢٣٩.

(٣) بصائر الدرجات : ص ١٥٤ وأصول الكافي ، ولاحظ تعليقتنا على المراجعات : ص ٤١٥ ط. الأعلمي ١٩٩٦ م.

(٤) أصول الكافي : ج ١ ص ٢٧٠.

١٠٠