الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

عقولنا وتفكيرنا ، فإنّ الإسلام جاء رحمة لينقذ العالم الإسلامي من الهمجية والجاهلية ساكتا عن أعظم أمر مني به الإسلام والمسلمون مع أنه كان على علم به؟ فما علينا إلّا أن نتّهم التاريخ والحديث بالكتمان وتشويه الحقيقة بقصد أو بغير قصد ، ولئن لم يكن محمّد نبيّا مرسلا يعلم عن وحي ويحكم بوحي ، فليكن ـ على الأقل ـ أعظم سياسيّ في العالم كله لا أعظم منه ، فكيف يخفى عليه مثل هذا الأمر العظيم لصلاح الأمة بل العالم بأسره مدى الدهر ، أو يعلم به ولا يضع له حدّا فاصلا؟

وهل يرضى لنفسه عاقل يتولى شئون بلده فضلا عن أمّة أن يتركها تحت رحمة الأهواء واختلاف الآراء ولو لأمد محدود وهو قادر على إصلاحها ، أو التنويه عن إصلاحها إلّا أن يكون مسلوبا من كلّ رحمة وإنسانية؟ حاشا نبيّنا الأكرم من جاء رحمة للعالمين ومتمما لمكارم الأخلاق وخاتما للنبيين! وقد قال تعالى على لسانه بعد حجة الوداع (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) وقد وجدناه نفسه لا يترك حتى المدينة المنورة ، إذا خرج لحرب أو غزاة من غير أمير يخلفه عليها ، فكيف نصدّق عنه أنه أهمل أمر هذه الأمة العظيمة بعده إلى آخر الدهر من دون وضع قاعدة يرجعون إليها أو تعيين خلف بعده» (١).

رابعا : كيف يعقل أن ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه فوّض أمر تعيين الخليفة إلى الأمة المتمثلة بأهل الحل والعقد ، وقد حدّثنا التاريخ أنّ أهل الحل والعقد أو ما يعبّر عنهم بكبار الأمة هم بؤرة الخلاف والنزاع ، وهكذا على مرّ العصور حيث ترى الطبقة الخاصة مع اختلاف نفوسهم ، وتباين نزعاتهم كسائر الناس لا ينفكون عن تحيزات فيهم أعظم منها في غيرهم ، ويندر أن يتجرّدوا عن أهواء نفسيّة وأغراض شخصية ، تجعل كل فرد يشرئب إلى هذا المنصب أو ذاك ، فهل أمر كهذا مع أهميته وخطورته يوكل إلى من وصفنا ، وهل يعقل أن أبا بكر تفطّن إلى سوء عواقب هذا التشريع دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فأسرع إلى تعيين الخليفة من بعده ، وكذا حذا حذوه خليفته عمر فاخترع طريقة الشورى من ستة أشخاص مع عدم اتفاقهم على رأي فصغى رجل لضغنه ، ومال الآخر لصهره على حدّ تعبير مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام فتنسب الفطانة إلى الشيخين دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا يفعل

__________________

(١) السقيفة للمظفر ص ٣٠.

٦١

إلّا عن وحي ، ولا يحكم إلّا بوحي ، هيهات هيهات أن يكون من النبي الحكيم مثل هذا التشريع ، وكيف يخفى عليه ضرره ، ولا يخفى على عائشة يوم قالت لعمر بن الخطاب : «لا تدع أمّة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا فإني أخشى عليهم الفتنة».

خامسا : أيصدر أي تصريح من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفيد الرجوع إلى أهل الحل والعقد في تعيين الإمام من بعده مع علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لو لم يوكل الأمر إلى أهل الحل والعقد لأدّى إلى نزاع وخلاف بين المسلمين ، فمن هنا يعلم أن الرجوع الى أهل المشورة ليس من الدّين ، ولم يشرّعه الله على لسان نبيه ، فعلى هذا فما قيمة الإجماع المدّعى في مقابل عدم تصريح النبي بذلك؟

تساؤل :

قد يقال : إنّ المراد بأهل الحل والعقد ، إجماع أهل الصدر الأول وإنه وإن لم يتحقق على خلافة أبي بكر يوم السقيفة لكنه بعد ذلك إلى ستة أشهر قد تحقق اتفاق الكل على خلافته ، ورضوا بإمامته فتمّ الإجماع حينئذ (١).

والجواب :

١ ـ إنّ الإجماع غير متحقق بعدم بيعة مولى الثقلين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأصحابه حتى بعد ستة أشهر ، ولو سلّم أنه صفق على يده كما يفعله أهل البيعة ، فلا ريب في أنّ سعد بن عبّادة وأولاده لم يتفقوا على ذلك ولم يبايعوا ، بل إنّ سعدا قتله ابن الخطاب لأنه لم يبايع (٢) ، فيكون خروج هؤلاء خرقا للإجماع المدّعى.

٢ ـ إنّ الشيعة لا يعتبرون الإجماع حجة شرعية إلّا إذا كشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، فهو حجة حينئذ لهذا المناط ، وحيث إنّ بيعة أبي بكر لم تقترن بموافقة الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام لم يتمّ عندهم الإجماع الحجة ؛

__________________

(١) هذا الاعتراض سجّله بعض متكلمي السنّة لاحظ إحقاق الحق : ج ٢ ص ٣٤١.

(٢) روى البلاذري أن ابن الخطاب أشار إلى خالد بن الوليد ومحمد بن سلمة الأنصاري بقتل سعد فرماه كل واحد بسهم فقتل ثم أوقعوا على أوهام الناس أنّ الجن قتلوه كما أن أناسا حاولوا أن يطئوا بأقدامهم سعدا فقال بعضهم اتقوا سعدا فأجابهم عمر بالقول : اقتلوا سعدا قتله الله. لاحظ تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٤٥٩ ولاحظ إحقاق الحق : ج ٢ ص ٣٤٦.

٦٢

ولو سلّمنا بوجود إجماع ، فحيث إن الذي يدور معه الحق حيثما دار (باتفاق النصوص) غير راض عن اجتماعهم يوم ذاك ، فيعتبر وقوفه عليه‌السلام بوجه المجمعين ضربة قوية للإجماع ، وهدما لأسسه ، لأنه لو كان مع الحق لوقف الإمام عليه‌السلام بجانبه ، فحيث إنه عليه‌السلام كان ضده ، يكشف هذا عن كون الإجماع أمرا باطلا فلا حجّية فيه.

٣ ـ إذا كان الإجماع منعقدا على أبي بكر ، فلم لم ينعقد على ابن الخطاب الذي عيّن من قبل أبي بكر ، فالسابق كان يعيّن اللاحق ، وحيث إنّ التعيين باختيار الأمة لم يتكرر ، فكيف يكون الإجماع حجّة على بيعة الأول دون الثاني؟!

الطريق الثالث : «الميراث» :

ذهب بعض الفرق كالعباسية والراوندية إلى ثبوت الإمامة بالوراثة باعتبار أنّ العبّاس بن عبد المطلب استحق الإمامة لقربه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون بني أعمامه (١).

وقد اعترض عليه :

١ ـ إنه يشترط في الإمام العصمة ، وهي غير متوفرة في غير الإمام علي عليه‌السلام وأولاده المنصوص عليهم واحدا واحدا.

٢ ـ لو ثبت التوارث في الإمامة لثبتت للنساء والصبيان مع أن ذلك باطل بإجماع الأمة.

٣ ـ يشترط في الإمامة النص منه تعالى ، ولا شيء منه في العباس وغيره.

قال أبو الصلاح الحلبي (٣٧٤ ـ ٤٤٧ ه‍) أحد أعلام الإمامية :

«... فبطل بذلك مذهب القائلين بالاختيار والدعوة والميراث ... وأما الميراث فعري من حجة على كونه طريقا إلى الإمامة عقلية ولا سمعية ولأنه يقتضي اشتراك النساء والرجال والعقلاء والأطفال والعدول والفسّاق في الإمامة كاشتراكهم في الإرث ، والإجماع بخلاف ذلك ... ولأنّ القول بأنّ الدعوة أو الميراث طريق إلى الإمامة حادث بعد انقراض زمن الصحابة والتابعين وأزمان بعدها خالية منه ، وكل من قطع بوجوب ما بيّناه من الصفات للإمام قطع بفساد

__________________

(١) أصول الدين : / ٢٨٤ لعبد القاهر البغدادي ، وكشف المراد / ٣٩٢.

٦٣

الاختيار والدعوة والميراث» (١).

هذه أهم الطرق لتعيين الخليفة بعد النبي ، وهناك طريقان آخران ذكرهما أهل السنّة هما :

طريق العهد :

أي الإمام السابق ينصّ على اللاحق ، مع كون السابق غير منصوص عليه من قبله تعالى أو قبل رسوله أو الإمام المتعيّن من قبلهما ، ويستدلون عليه باستخلاف أبي بكر لعمر ، وعمر لواحد من ستة قد استبد في تعيينهم من دون مشورة غيره من الصحابة (٢).

طريق الاستيلاء :

بمعنى أنّ الخلافة ثبتت من غير بيعة أحد ، فهي ثابتة لكل من استولى على الخلافة بالقهر والقوة ورضي به الناس إماما (٣).

ينقض على الأول :

إنّ تفرد السابق بتعيين اللاحق لم يقرّه أيّ نصّ شرعي ، مضافا إلى أنه ما الضمانة التي نطمئن إليها في عدم خطأ الخليفة وانحرافه وتحيّزه ما دام هناك إجماع على عدم عصمة هؤلاء.

وينقض على الثاني :

إنّ الاستيلاء على الخلافة بالقهر والقوة خلاف مبادي الدين الحنيف ، وفطرة الإنسان السليم ، ولا تنسجم مع تعاليم الإسلام الداعية إلى الحرص على كرامة الأمة ورعاية مصالحها ، وحفظ حقوقها الفردية والاجتماعية.

عود على بدء :

إذا ثبت عدم عصمة أي طريق من هذه الطرق عدا الأول ، علينا إثبات دليله ، وهل أنّ النبي عيّن شخص الإمام بعده؟ ومن هو هذا الإمام؟ هل هو علي بن أبي طالب أو أبو بكر بن أبي قحافة؟

__________________

(١) الكافي في الفقه / ٩٠.

(٢) الأحكام السلطانية / ٧ وشرح المقاصد : ج ٥ / ٢٣٣.

(٣) لاحظ ما قاله الأسفرايني الشافعي في إحقاق الحق ج ٢ / ٣١٦.

٦٤

استدلال العامة على إمامة أبي بكر :

استدلوا على إمامته (١) بدليلين :

الدليل الأول :

أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه أمر أبا بكر بأن يصلّي بالمسلمين إماما ، وإذا جعله إماما في أمر الدين ، ورضي به ، فيكون أرضى لإمامته في أمر الدنيا وهو الخلافة ، فقد قاسوا أمر الخلافة على إمامة الصلاة ، وقد عبّروا عن ذلك بعبارات متقاربة (٢).

وقد أوضح صاحب المواقف مرادهم فقال :

«... إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه واقتدى به وما عزله فيبقى إماما فيها وكذا في غيرها إذ لا قائل بالفصل» ، لاحظ هامش إحقاق الحق :

ج ٢ ص ٣٦٠.

يرد على الدليل المتقدم :

١ ـ إنّ رضي النبي ـ لو سلّمنا بصحة ذلك ـ بإمامة أبي بكر في الصلاة يستلزم بحسب زعم الأشاعرة تحقق النص الخفي أو الجلي على إمامته ، وقد اتفق القوم على فقدانه في شأنه الكل ، لذا صرّح القوشجي :

«بأنّ عمر بن الخطاب لما قيل له أوص قال : ما أوصى رسول الله حتى أوصي ، ولكن إن أراد الله بالناس خيرا جمعهم على الهدى ...» (٣).

٢ ـ إنّ قياس أمر الخلافة على إمامة الصلاة مبني على إثبات حجية القياس الذي قال بصحته العامة دون الخاصة وجمهور الظاهرية والمعتزلة ، وأقاموا على عدم حجيته أدلة كثيرة ليس هنا موضع إثباته ، والأدلة المدعاة على إثباته دونها خرط القتاد ، لأنّ القياس يكون حجة إذا كان هناك علة في الأصل ، ويكون الفرع مساويا له في تلك العلة ، وهاهنا العلة مفقودة ، بل الفرق ظاهر لأنّ الصلاة خلف

__________________

(١) نقصد بالإمامة هنا الخلافة أو الوصاية لا الإمامة المطلقة ، والأدلة على إمامة أبي بكر عندهم كثيرة لا يعوّل عليها أهمها ما ذكرناه آنفا.

(٢) لاحظ شرح التجريد للقوشجي / ٣٧٢ وإحقاق الحق : ج ٢ / ٣٥٩ نقلا عن المواقف والطوالع والكفاية للعابدي.

(٣) شرح كشف المراد للقوشجي : ص ٣٧٩.

٦٥

كل بر وفاجر جائز عندهم بخلاف أمر الخلافة ، إذ يشترط فيها العدالة والشجاعة والقرشية على رأي المشهور عند السنّة ، وأما أمر إمامة الصلاة فلا يعتبر في الإمام شيء من الشجاعة أو العلم الكثير وغيرهما من الشروط التي لا بدّ من توفرها في إمامة المسلمين ، لأنّ الخلافة الإسلامية لمّا كانت نوع سلطنة وحكومة في جميع أمور الدين والدنيا لا بدّ في المتحلي بها أن يكون ملما بعلوم كثيرة لم يكن شيء منها موجودا في أبي بكر (١).

٣ ـ إنّ الشيعة ينكرون كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدّم أبا بكر للصلاة ويقولون : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الناس في مرضه بالصلاة ، فقالت عائشة بنت أبي بكر لبلال : انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن يؤم أبو بكر الناس ، فلمّا اطّلع النبي على هذا الحال المورّث للفساد ، رفع يده المباركة على منكب الإمام علي عليه‌السلام وأخرى على منكب الفضل بن عباس ، وخرج إلى المسجد ونحّى أبا بكر عن المحراب ، فصلّى بالناس حتى لا تصير إمامة أبي بكر موجبة للخلل في الدين ، ويعضد ذلك ما رواه البخاري بإسناده إلى عروة قال : فوجد رسول الله من نفسه خفة فخرج إلى المحراب ، فكان أبو بكر يصلّي بصلاة رسول الله ، والناس يصلّون بصلاة أبي بكر بتكبيره (٢).

قال الشيخ المفيد «قدّس سره» :

الذي صح في ذلك ـ أي صلاة أبي بكر بالناس ـ وثبت أنّ عائشة قالت : مروا أبا بكر أن يصلّي بالناس ، فكان الأمر بذلك من جهتها في ظاهر الحال ، وادّعى المخالفون أنها إنّما أمرت بذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تثبت لهم هذه الدعوى بحجة يجب قبولها ، والدليل على أنّ الأمر كان مختصا بعائشة دون النبي قول النبي لها عند إفاقته من غشيته (٣) وقد سمع صوت أبي بكر في المحراب «إنكنّ لصويحبات يوسف» ومبادرته معجلا معتمدا على أمير المؤمنين عليه‌السلام والفضل بن العباس ورجلاه يخطان الأرض من الضعف حتى نحّى أبا بكر عن

__________________

(١) إحقاق الحق : ج ٢ / ٣٦٢ بتصرّف.

(٢) إحقاق الحق : ج ٢ ص ٣٦٤.

(٣) المراد من «الغشية» هنا هو التجلّي الروحي التام المستتبع لفقدان الحركة الجسمانية عند المعصوم عليه‌السلام ، ولا يراد منها فقدان العقل ، إذ إنّ هذا مما يتنزّه عنه المعصوم عليه‌السلام الذي تنام عينه ولا ينام قلبه كما في نصوص كثيرة.

٦٦

المحراب ، فلو كان عليه‌السلام هو الذي أمره بالصلاة لما رجع باللوم على أزواجه في ذلك ولا بادر على الحال التي وصفناها حتى صرفه عن الصلاة ، ولكان قد أقرّه حتى يقضي فرضه ويتمّ الصلاة وفي صرفه له وقوله لعائشة ما ذكرناه دليل على صحة ما وصفناه (١).

إذن لو كانت صلاة أبي بكر بالناس كما زعموا صحيحة بأمر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكان خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الحال مع ضعفه وتنحية أبي بكر عن المحراب وتولّيه الصلاة بنفسه بعد صدور الأمر به أولا يعدّ مناقضة صريحة لا يليق بمن لا ينطق عن الهوى ، ولو سلّمنا ذلك كله لكان خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعزله للمذكور مبطلا لهذه الإمارة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون قد نسخها بعزله عنها ، فكيف يكون ما نسخه بنفسه حجة على ثبوته.

مضافا إلى أن عزل النبي له بعد تقدمته إنّما كان لإظهار نقصه عند الأمة ، وعدم صلاحيته للتقديم في شيء تماما كما حصل في بعث النبي له بسورة براءة ثم ردها منه ، فإنّ من لا يصلح أن يكون إماما للصلاة مع أنه أقل المراتب لصحة تقديم الفاسق فيها عندهم ، فكيف يصلح أن يكون إماما عاما ورئيسا مطاعا عند جميع الخلق ، وإنما قصده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيقاع هذا الأمر منه هو إظهار نقص أبي بكر وعدم صلاحيته للتقديم في ذلك للناس كما حصل له في سورة براءة ، فيكون ذلك حجة عليهم لا لهم.

وأيضا فإنّ الأمر الذي خرج إلى بلال لم يكن مشافهة من النبي بل كان بينهما واسطة ، فإذا كان كذلك فيحتمل في الواسطة الكذب لكونها غير معصومة ، وإذا احتمل كذبه لم يبق في هذا الأمر حجة ، لاحتمال أن يكون بغير أمر النبي كما عرفت من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج وعزل أبا بكر.

٤ ـ لو كان خبر تقديم أبي بكر في الصلاة صحيحا كما زعموا وكان مع صحته دالّا لى إمامته لكان ذلك نصّا من النبي بالإمامة ومتى حصل النص لا يحتاج معه غيره ، فكيف لم يجعل أبو بكر وأصحاب السقيفة ذلك دليلا على إمامة أبي بكر؟! وكيف لم يحتجّوا به على الأنصار؟!!

وكيف بنوا الخلافة على المبايعة التي حصل فيها الاختلاف والاحتياج إلى

__________________

(١) العيون والمحاسن للمفيد : ص ١٢٥.

٦٧

إشهار السيوف وعدلوا عن الاحتجاج بالنص المذكور؟ مع وضوح أن العاقل لا يختار الأعثر الأصعب مع وجود الأسهل إلّا لعجزه عنه ، فعلم أن ذلك ليس فيه حجة أصلا.

٥ ـ إن إمامة أبي بكر في الصلاة وجعل ذلك حجة على إمامة الدين معارض بأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلف عليّا عليه‌السلام في غزوة تبوك في المدينة ولم يعزله ، وإذا كان خليفة على المدينة كان خليفة في سائر وظائف الأمة لأنه لا قائل بالفصل والترجيح معنا ؛ لأنّ استخلافه على المدينة أقرب إلى الإمامة الكبرى لأنه متضمّن لأمور الدين والدنيا بخلاف الاستخلاف في الصلاة.

٦ ـ إن ائتمام المسلمين بعضهم ببعض مما اعتاده المسلمون يوم ذاك وشاع بينهم بترغيب النبي فيه لا سيما على مذاهب الجمهور حيث يجوّزون الصلاة وراء البرّ والفاجر ، فالإمامة في الصلاة إذن ليست بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلّا لمن له الإمامة.

٧ ـ الأحاديث في إمامة أبي بكر مضطربة جدا فتارة أن النبي أمر عمر ، وأخرى أمر أبا بكر وثالثة أمر بلالا أن يأمر أبا بكر مما يذهب بالاطمئنان بتصديق الحادثة ، مضافا إلى وقوع الاضطراب في أصل الصلاة التي صلاها أبو بكر هل هي الظهر أو العصر أو الصبح إلى ما هنالك من اضطرابات في أصل الحادثة وخصوصياتها مما يسقطها عن الحجية والاعتبار.

الدليل الثاني :

قام الإجماع على انعقاد إمامة أبي بكر سواء فسّر الإجماع باتفاق الكل كما حكي عن المنخول ، أو اتفاق أهل الحل والعقد أو اتفاق أهل المدينة كما في أصول الخفري ، أو اتفاق العلماء.

والجواب :

١ ـ إنّ اجماع الأمة كلها على إمامة أبي بكر لم يتحقق في وقت واحد بعد رحيل النبي مباشرة ، وهذا واضح مع قطع النظر عن عدم حضور أهل البيت عليهم‌السلام وبعض الصحابة كسعد بن عبادة سيد الأنصار وأولاده وأصحابه ، وكذا سلمان وأبي ذر والمقداد وبني جعفر وغيرهم من بني هاشم وسادات الحرمين وعظماء المسلمين.

٦٨

وأما تحققه بعد رحيل النبي بزمن طويل فهو خلاف حقيقة الإجماع المعتبر فيه اتحاد الوقت ، وعلى فرض تحقّقه بعد زمن طويل فإنه لا يكون حجة إلّا إذا دخل الباقون فيه طوعا ، أما إذا استظهر الأكثر وخاف الأقل ودخل فيما دخل فيه الأكثر خوفا وكرها فلا ، ولا شك أن الحال كان كذلك فإن بني هاشم لم يبايعوا أولا ، ثم قهروا فبايعوا بعد مدة ، وأما أمير المؤمنين عليه‌السلام فقد أخرجوه من داره ليبايع وهو مقاد كما يقاد الجمل المخشوش (١) على حدّ تعبير معاوية بن أبي سفيان عند ما بعث للأمير عليه‌السلام برسالة يعيّره فيها ويؤنبه بالقول :

«إنّك كنت تقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى تبايع» (٢).

ولكننا نشك بأنه عليه‌السلام بايع كرها ، فالأصل حينئذ يقتضي عدمه ، وإنما كل ما في الأمر أنّ أبا بكر صفق على يد أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا لا يدل على البيعة كرها ، وأما ما ورد من أنه قال : «لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين» فليس فيه إشارة إلى بيعة ولو كرها ، وإنما كل ما في الأمر أنه سكت (٣) ولم يحاربهم بسيف لقلّة الأنصار والأعوان. لذا اعتقد الشيخ المفيد ووافقه السيد المرتضى في كتاب الفصول المختارة أن الإمام عليا عليه‌السلام لم يبايع ساعة قط ، قال : «ومما يدل على أنه لم يبايع البتّة أنه ليس يخلو تأخره من أن يكون هدى وتركه ضلالا ، أو يكون ضلالا وتركه هدى وصوابا أو يكون صوابا وتركه صوابا ، أو يكون خطأ وتركه خطأ ، فلو كان التأخر ضلالا وباطلا ، لكان أمير المؤمنين عليه‌السلام قد ضلّ بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بترك الهدى الذي كان يجب المصير إليه وقد أجمعت الأمة على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يقع منه ضلال بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا في طول زمان أبي

__________________

(١) المخشوش : ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب.

(٢) إحقاق الحق : ج ٢ ص ٣٦٧.

(٣) هناك أسباب أخرى أوجبت سكوت أمير المؤمنين عليه‌السلام هي :

أولا : أشفق عليه‌السلام من ارتداد القوم وإظهار خروجهم على الإسلام لفرط الحمية والعصبية ، وضعف النفوس.

ثانيا : إنه عليه‌السلام كان يعلم يقينا أنّ الأمّة ستغدر به ، فكان الصبر أولى لما في ذلك من المصالح الدينية والدنيوية التي لا تخفى على المتأمل.

ثالثا : إنه خاف على أهله وشيعته ، وظهرت له أمارات الخوف التي يجب معها الكف عن المجاهدة لهم.

٦٩

بكر وأيام عمر وعثمان وصدرا من أيامه حتى خالفت الخوارج عند التحكيم وفارقت الأمة ، وبطل أن يكون تأخره عن بيعة أبي بكر ضلالا.

وإن كان تأخره هدى وصوابا وتركه خطأ وضلالا فليس يجوز أن يعدل عن الصواب إلى الخطأ ولا عن الهدى إلى الضلال لا سيما والإجماع واقع على أنه لم يظهر منه ضلال في أيام الثلاثة الذين تقدّموا عليه ، ومحال أن يكون التأخر خطأ وتركه خطأ للإجماع على بطلان ذلك أيضا ، ولما يوجبه القياس من فساد هذا المقال.

وليس يصحّ أن يكون صوابا وتركه صوابا لأنّ الحق لا يكون في جهتين مختلفتين ولا على وصفين متضادّين ، ولأن القوم المخالفين لنا في هذه المسألة مجمعون على أنه لم يكن إشكال في جواز الاختيار وصحة إمامة أبي بكر.

وإنما الناس بين قائلين قائل من الشيعة يقول : إنّ إمامة أبي بكر كانت فاسدة لا يصحّ القول بها أبدا. وقائل من الناصبة يقول : إنها كانت صحيحة ولم يكن على أحد ريب في صوابها إذ جهة استحقاق الإمامة هو ظاهر العدالة والنسب والعلم والقدرة على القيام بالأمور ولم تكن هذه الأمور تلتبس على أحد في أبي بكر عندهم. وعلى ما يذهبون إليه فلا يصحّ مع ذلك أن يكون المتأخر عن بيعته مصيبا أبدا لأنه لا يكون متأخرا لفقد الدليل بل لا يكون متأخرا لشبهة وإنّما يتأخر إذا ثبت أنه تأخر للعناد.

فثبت بما بيّناه أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يبايع أبا بكر على شيء من الوجوه كما ذكرناه وقدمناه وقد كانت الناصبة غافلة عن هذا الاستخراج في موافقتها على أن أمير المؤمنين عليه‌السلام تأخر عن البيعة وقتا ما ، ولو فطنت له لسبقت بالخلاف فيه عن الإجماع وما أبعد أنهم سير تكبون بعد ذلك إذا وقفوا على هذا الكلام غير أن الإجماع السابق لمرتكب ذلك يحجّه ويسقط قوله فيهون قصته ولا يحتاج معه إلى الإكثار (١).

وبما تقدم يبطل ما ادعاه الشيخ حسين شحادة في مقالة له ملحقة بكتاب نظام الحكم والإرادة في الإسلام ، وكذا الشيخ أبو السعود القطيفي في كتاب جاء الحق ص ٣٣ ، حيث قالا : أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بايع أبا بكر

__________________

(١) الفصول المختارة من (العيون والمحاسن للشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ) : ص ٥٦ ط. دار المفيد.

٧٠

بعد شهادة مولاتنا فاطمة عليها‌السلام ، بل ادعى الأخير ـ أي أبو السعود ـ نقلا عن البعض ولم يستنكر كلامه وهذا دليل تبنيه له فقال : إن عليا عليه‌السلام إنما تخلّف عن البيعة إكراما لفاطمةعليها‌السلام لا ادعاء منه أنه هو الأحق بالإمامة.

أقول : أراد أبو السعود أن يكحّل فعمّى العينين ، لأن ما استدل به على مدعاه لا تؤيده المصادر الموثوقة عند الشيعة الإمامية ، لأن رواية البيعة هي من مصادر العامة والرشد في خلافهم ، هذا مضافا إلى أن عدم مبايعة أمير المؤمنين عليه‌السلام لأبي بكر ليس لوجود سيدتنا الصدّيقة عليها‌السلام فحسب وإنما لأن البيعة دليل رضا المبايع للمبايع له ، واغراء المكلفين بالقبيح وهو مستحيل صدوره من الحكيم.

٢ ـ إن تخصيص الإجماع بأشخاص معدودين دون من ذكرنا من الهاشميين وعلى رأسهم أمير المؤمنين عليه‌السلام وكذا الأنصار وعلى رأسهم سعد بن عبادة والأصحاب الأجلاء يعدّ تخصيصا من دون دليل ، أو ليس هؤلاء من المسلمين ، وأ وليسوا من أهل الحل والعقد؟! فما معنى هذه الغميضة في حقهم وعدم الالتفات إليهم؟

وهل هذا إلّا جفاء وشقاء بالنسبة إلى هؤلاء النبلاء؟

وبهذا يتبين عدم صحة خلافة أبي بكر ، والأدلة على ذلك كثيرة أعرضنا عنها خوف الإطالة والملل.

فإذا بطلت خلافته ، تعينت خلافة الإمام علي عليه‌السلام بحكم الأدلة العقلية والنقلية.

الأدلة العقلية :

الأول : اللطف :

قد تقدم معنا في بحوث سابقة معنى اللطف وحقيقته ، ونعيد هنا ما ذكرناه سابقا بشيء من الإجمال ، فنقول : إنّ الله تعالى بمقتضى رأفته بالعباد وبلطفه بهم يجب عقلا ـ بعد أن فرض عليهم أحكاما وتكاليف ـ أن يوجد لهم لطفا منه يتحقق به بعدهم عن المعصية وقربهم من الطاعة ، فيجب بضرورة العقل أن يوجده لأنه محصّل لغرضه وهو طاعتهم وانقيادهم له ، ولو لم يوجده لناقض غرضه ، إذ كيف يأمرهم بطاعته ثم لا يحقق لهم الفرص التي تمكّنهم منها.

ووجوب اللطف لا يختص بالأنبياء والمرسلين بل يشمل الأوصياء والأولياء المنصوصين من قبل الله تعالى لأنّ مهام هؤلاء كمهام أولئك بمناط واحد لا

٧١

يختلفون عن بعضهم البعض إلّا في تلقي الوحي التشريعي ، وبحسب قاعدة اللطف وجب كون الإمام معصوما ، وغير الإمام علي (روحي فداه) من الثلاثة المتقدمين عليه لم يكن أحد منهم معصوما بالإجماع بين الفريقين فيتعيّن كونه عليه‌السلام هو الخليفة الحق.

قال العارف السيد محمد حسين الطهراني «قدّس سره» :

لمّا اقتضى اللطف الإلهي أن يصطفي الله الأنبياء لتقريب العباد إلى طاعة الله وإبعادهم عن معصيته ، والوصول إلى مقام الرب وحرم الله الآمن ، ليؤدّبوا العباد بآداب العبودية ، ويعلّموهم ما خفي عليهم وجهلوه ويعلّموهم أن الله لم يخلقهم كالأنعام ليأكلوا ويشربوا ويعيشوا غافلين ، بل خلقهم للمعرفة حتى يلتمسوا طريق رضاه بتوجيه الأنبياء وإرشادهم وبذلك يسّر عليهم طريق السلوك ، وأتمّ عليهم الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وتتابع الوحي الإلهي في كل عصر وهداهم إلى طريق السعادة بواسطة الأنبياء. لمّا اقتضى اللطف الإلهي كلّ تلك الأشياء ، فكذلك اقتضى أن يكون للدين أئمة بعد الأنبياء وهم أفضل الخلق وأعرفهم وأعلمهم بحقائق الدين ، لكي يوصلوا النفوس التي لم تكتمل بعد إلى الكمال ويبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تبلّغ للناس لأسباب ما ، ويربّوا الأشخاص الذين لم يتشرفوا برؤية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستفادة منه فيقودوهم نحو طريق الهداية ، وليس من المعقول أن يهمل الله الأمّة ويتركها بدون من يدير شئونها ، في حين أنّ جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى من يربّيهم ويعلّمهم ، وجميعهم متكافئون من حيث شمولهم بقاعدة اللطف الإلهي.

إذن ، من اللازم على الله تبارك وتعالى أن يبعث من يوجّه النفوس نحو الكمال ، وهو الذي يكمل الشريعة ببيانه ، ويدفع شبهات الملحدين وينير عالم الجهل بنور العرفان ، ويوضّح معارف الدّين وأسراره للنفوس المستعدّة. ويصدّ أعداء الدّين بقوة السلاح ، ويقوّم الاعوجاج بيده ولسانه ، ويرفع النقائص ويملأ الفراغ. ولمّا كانت هناك فاصلة زمانيّة بين نبيّين ، ولا وجود لشريعة وقانون بعد خاتم النبيين ، فسوف يكون وجود الإمام بين الشرائع ، وبعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لازما وضروريا بوصفه العلّة المبقيّة لأساس الغرض. ولمّا أخذ الله على نفسه أن يمنّ على عباده بلطفه الخفيّ ، ويرعاهم رعاية دقيقة ، ويهديهم ويحسن بهم ، ولا يريد إلّا خيرهم وسعادتهم ، لذلك عليه أن لا يترك دين نبيّه ناقصا بارتحاله وإنّما

٧٢

يواصل رعايته للدين من خلال تعيين الإمام الذي يستطيع هو وحده أن يحمل هذه المهمّة الثقيلة ، وهو الأنموذج الأكمل والمثل الأعلى لوجود النبي في كل الخصوصيات ، وهو الذي يقود الناس نحو الكمال. من هذا المنطلق كان تعيين الوصي فرضا على النبي ، لذلك نصب الله عليّا بن أبي طالب عليه‌السلام وصيا على الأمة كافة ، بواسطة النبي (١).

الثاني : العصمة :

لا بدّ للإمام أو الخليفة أن يكون معصوما مسدّدا لأنّ الإمامة استمرار للنبوة على طول خط الزمن فكما أنّ زمنا ما لم يخل من نبي منذ آدم إلى سيدنا خاتم الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لن يخلو زمن بعد نبيّنا من وجود إمام يزيل الشبهات ويفسّر الكتاب ويبيّن ويوضّح المتشابهات ، لا سيما وأنّ شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناسخة لكل الشرائع ، فلا بد لها أن تعطي لكل حادثة متجددة حلّا لها ، وهذا لا يمكن حصره في فترة زمنية قصيرة فيتعين إيجاد أشخاص وأفراد كاملين بمنزلة النبي يبينون ما خفي على الناس من معرفة دينهم ، يشرحون لهم ما عجزوا عن حلّه ، وهذا ما يتكفله المعصوم الّذي ينوب عن النبي ، فإذا لم يبعث الله تعالى للناس من يبيّن لهم ما خفي عليهم مع حاجتهم إلى ذلك ، لأدّى ذلك إلى إغرائهم بالقبيح وهو مستحيل عليه تعالى.

والإمام إن لم يكن معصوما لاستلزم احتياجه إلى غيره وهو باطل لاستلزامه التسلسل ، لأنّ فائدة وجوده هي تقويم الاعوجاج ، فإذا احتاج إلى من يقوّمه تسلسل وهو واضح البطلان.

قال العلّامة محمد حسين الطباطبائي (قدس‌سره) :

«الإمام هو الرابط بين الناس وبين ربّهم في إعطاء الفيوضات الباطنية وأخذها كما أنّ النبي رابط بين الناس وبين ربّهم في أخذ الفيوضات الظاهرية وهي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي وتنتشر منه وبتوسطه إلى الناس وفيهم ، والإمام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما أن النبي دليل يهدي إلى الاعتقادات الحقة والأعمال الصالحة» (٢).

ولا يخفى أنّ ما ذكره العلّامة الطباطبائي في تعريفه لوظائف الإمام وأنها

__________________

(١) معرفة الإمام : ج ٢ ص ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٢) تفسير الميزان : ج ١٤ ص ٣٠٤.

٧٣

باطنية لا يناقض وظائفه الظاهرية التي هي من مختصات النبي إذ لا فرق بين النبي والإمام إلّا في تلقي الوحي التشريعي.

إذن لا بد للإمام أن يكون معصوما لا تصدر منه أية معصية ، وغير الأئمةعليهم‌السلام ليسوا بمعصومين إجماعا لما هو معروف من كون الذين تقدّموا على أمير المؤمنين كانوا يعبدون الأصنام فلا يكونون أئمة ، لأنّ العصمة شرط في الإمام.

وأما ما قد أثاره بعض العامة من أنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه فيستحق الإمامة ، فسوف يأتي إن شاء الله تعالى الإجابة عنه في الأدلة النقلية.

الثالث : كون الإمام أفضل الرعية :

أي يجب أن يكون الخليفة أفضل الرعية وأعلمهم ، وغير أمير المؤمنين عليه‌السلام ممن تقدم عليه لم يكونوا كذلك ، فتعيّن كونه هو الإمام بعد النبي ، وخالف الأشاعرة ذلك فأجازوا تقديم المفضول على الفاضل تأسيسا لخلافة أئمتهم الذين سنّوا لهم هذا الاختيار مع الاعتقاد ضمنا أنّ الإمام عليا عليه‌السلام أفضل الجميع ، وقد خالفوا في ذلك مقتضى العقل ونصّ الكتاب ، فإنّ العقل يقبّح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل ورفع مرتبة المفضول وخفض مرتبة الفاضل ، والقرآن نص على إنكار ذلك فقال تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس / ٣٦).

وقال تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (الزمر / ١٠) (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (النساء / ٩٦) ، (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (المائدة / ١٠١) ، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (الأنعام / ٥١) ، (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل / ٧٧) ، (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (٢٠) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (٢١)) (فاطر / ٢٠ ـ ٢١) ، (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) (الحديد / ١١) ، (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) (الحشر / ٢١) ، وكيف ينقاد الأعلم الأزهد الأشرف حسبا ونسبا للأدون في ذلك كله؟!

٧٤

الرابع : الوصية عند العقلاء :

اتّفق العقلاء من كل دين حتى عند عبدة الأوثان أن يوصوا بحفظ أمور دينهم ودنياهم بعد مماتهم ، وهذه الوصية مما اقتضتها أحكام الفطرة والعقل والشرع.

أما كونها من أحكام الفطرة فلأن البشر مجبولون بالفطرة على أن يشرفوا على أعمالهم بأنفسهم ، ووفقا لما ترتئيه عقولهم وأهواؤهم ، فلا يحب الإنسان أن يشاركه غيره في قراره وما تهواه نفسه ، فهو لا يريد أن يفلت زمام أموره من يده فتكون بيد شخص آخر غريب عنه ، وهذه الرغبة لا تنتهي عند ساعة الاحتضار بل تمتد إلى ما شاء الله من عمر الزمن ما دام الإنسان يشاهد آثاره شاخصة بعد الموت ، لذا تراه يوصي إلى غيره لينجز له أعماله التي عجز عن تحقيقها في حياته أو حالت الظروف في عدم تحققها أو لديمومة استمرارها لأهميتها ، وهذه الغريزة الفطرية ملحوظة حتى عند الحيوانات ، إذ إن أكثرها عند ما يشعر بقرب موته ، ويرى علامات الموت ، فإنه يشيد لأفراخه بيتا محكما ، وعشا رصينا بعيدا عن كل خطر ، فهذا حال الحيوان فكيف بالإنسان الحريص على تحقيق أمانيه ومراميه ، فهل يعقل أن يذهب النبي من عالم الناسوت ويترك أمته تتلاعب بها الأهواء وتتقاذفها الشهوات وسطوات الجبارين والظالمين المستبدين يغيّرون دينه ويبدّلون أحكامه وينهبون تراثه؟!

هذا بحسب الفطرة ، وأما بحسب العقل ، فلا شك أنّ العقل يفرض سيطرته على الإنسان من خلال ما يفكّر به الإنسان نفسه من ضرورة الاهتمام بأموره وتنظيمها وعدم إهمالها ، ويدرك أن عليه تعيين وصي له بعده لحفظها وحراستها لتنظيم آثاره والإفادة منها ويوصي بالمحافظة عليها لكي يتسنى له الإفادة منها بعد موته بنفس المقدار الذي كان يطمع أن يفيد منها في حياته ، والعقلاء في العالم ينظرون إلى الشخص الذي يموت بلا وصية تاركا وراءه زوجة وذرية ومحلا تجاريا أو مزرعة أو أمرا متعلقا بالحكومة أو بالمسائل العلمية ، أو أمثال ذلك بدون تدبير ، ينظرون إلى مثل هذا الشخص نظرة امتهان وازدراء ، ويرونه إنسانا ناقصا ويذمونه على ترك الوصيّة ، على عكس ما لو أوصى وعيّن له وصيّا كفوءا خبيرا بصيرا مدبّرا يدير شئونه ويتولّى أمر ذريّته من أولاده الصغار وغيرهم ، فإنّهم يثنون عليه ويمجّدونه وينظرون إلى عمله بوصفه عملا إنسانيا.

وأما حكم الشرع الذي شرّع على أساس حكم الفطرة وحكم العقل ، والوصية في ضوئه حكم ممدوح ومستحسن في جميع الشرائع والأديان. وقد

٧٥

جاءت الوصية في الشريعة الإسلامية المقدسة التي هي أكمل الشرائع وأتمها بحدود ومواصفات معيّنة واضحة لا غبار عليها قال تعالى :

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة / ١٨١ ـ ١٨٢).

الخامس :

الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه وغير علي عليه‌السلام من الثلاثة لم يكن كذلك فتعين أن يكون هو الإمام عليه‌السلام.

السادس :

الإمامة رئاسة عامة ، وإنما تستحق بأوصاف الزهد والعلم والعبادة والشجاعة والإيمان ، ومن الواضح اتفاق الأمة على أن الإمام عليّا عليه‌السلام هو الوحيد من بين الصحابة المستجمع على الوجه الأكمل لهذه الصفات ، فتعين كونه الإمام والخليفة بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

السابع :

ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفارق المدينة قطّ إلّا وخلف فيها من يخلفه ، ولا أرسل جيشا إلّا وأمرّ عليهم كما تقتضيه الرئاسة والسياسة ، فكيف يمكن أن يتركهم في غيبته الدائمة معرضا للفتن وغرضا لسهام الخلاف على قرب عهدهم بالكفر ، وتوقع الانقلاب منهم ووجود من مردوا على النفاق ، وتربص الكفرة بهم الدوائر كما نطقت به آيات الكتاب العزيز ، وكيف يمكن أن لا يطالبه المسلمون على كثرتهم بنصب إمام لهم مع طول مرضه وإعلامه مرارا لهم بموته ، فلمّا لم يقع الطلب منهم مع ضرورة حاجتهم إلى إمام علم أنه قد أغناهم بالبيان الذي علمه الشاهد والغائب وليس هو إلّا نص الغدير ونحوه فيكون أمير المؤمنين هو الإمام ، ولا يمكن أن يكون تشريع جواز ترك الاستخلاف سببا لترك النبي للنص كما زعموا ، لأنّ فائدة التشريع اتباع الناس له في فعله ، وبالضرورة أنه لم يتفق ترك ملك أو خليفة للنص على من بعده عملا بالسنة.

الثامن :

لا ريب أنّ من يعرف طرفا من التاريخ يرى أنّ بين أمير المؤمنين عليه‌السلام

٧٦

والمشايخ الثلاثة مباينة بعيدة ومناوأة شديدة حتى لم يشهد التاريخ بحرب له في نصرتهم مع أنه أبو الحرب وابن بجدتها ، وما قام الإسلام إلّا بسيفه وما تخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موقف سوى تبوك وقام بأعباء الحروب الثقيلة في أيام توليه الخلافة ، وقد امتلأت كتب التاريخ بما وقع بينه وبينهم لا سيما الثالث وذلك لا يجتمع مع البناء على أنّهم جميعا أركان الدين وأقطاب الحقّ وإخوة الصدق وهمهم نصر الإسلام لا الزعامة الدنيوية فلا بدّ من وقوع خلل هناك إما لكونهم جميعا على باطل ولا يقوله مسلم أو لكون أحد الطرفين على الحق والآخر على الباطل وهو المتعين ، ولا قائل من أهل الإسلام بأنّ عليّا عليه‌السلام إذ ذاك مبطل حتى الخوارج فيتعيّن أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام هو المحقّ وغيره المبطل فلا بدّ أن يكون هو الإمام (١).

هذه بعض الأدلة العقلية على أحقية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بالخلافة دون غيره.

الأدلة النقلية :

وهي من ناحيتين : القرآن والسنّة المتواترة.

أما القرآن الكريم : ففيه آيات كثيرة جدا ناهزت مائتي آية تدلّ على أحقية أمير المؤمنين وعلوّ قدره ، نذكر بعضا منها.

الآية الأولى :

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٦) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (المائدة / ٥٦ ـ ٥٧).

اتّفق (٢) الفريقان على نزول الآية بأمير المؤمنين عليه‌السلام عند ما تصدّق بخاتمه على فقير وهو في الصلاة ، وقد دلّت على ذلك الروايات المتواترة لفظا ومعنى على نزولها في حق الإمام علي عليه‌السلام. وقد أبدى بعض النواصب عدّة

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٤٣.

(٢) شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي : ص ١٦١ ـ ١٩٢ وتفسير ابن كثير : ج ٢ ص ٦٤ وإحقاق الحق : ج ٢ ص ٣٩٩ والمراجعات : ص ٢٥٢ بتحقيقنا ط مؤسسة الأعلمي ، وتفسير الكشّاف : ج ١ ص ٦٣٥.

٧٧

اعتراضات حول نزول هذه الآية في حق مولانا الإمام علي عليه‌السلام يلاحظها من راجع المجامع التفسيرية عند المخالفين ، وقد عرضنا بعضا منها في الباب الخامس والعشرين «الأمر الخامس» فلاحظ.

الآية الثانية :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (المائدة / ٦٨).

نقل الجمهور (١) أنّها نزلت في بيان فضل الإمام علي عليه‌السلام يوم الغدير ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد عليّ عليه‌السلام وقال : يا أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه كيفما دار.

والمولى يراد به الأولى بالتصرّف لتقدّم ألست أولى ولعدم صلاحية غيره هاهنا.

الآية الثالثة :

قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة / ٤).

روى الجمهور عن أبي سعيد الخدري قال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا الناس إلى الإمام عليّ عليه‌السلام في غدير خمّ وأمر بما تحت الشجرة من الشوك ، فقمّ ، فدعا عليّا عليه‌السلام فأخذ بضبعيه فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ عليه‌السلام ثم لم يتفرّقوا حتى نزلت هذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الربّ برسالتي ، والولاية لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام بعدي ، ثم قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله (٢).

الآية الرابعة :

قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ

__________________

(١) إحقاق الحق : ج ٢ ص ٤١٥ ودلائل الصدق : ج ٢ ص ٥٠.

(٢) إحقاق الحق : ج ٣ ص ٣٢٠.

٧٨

تَطْهِيراً) (الأحزاب / ٣٤).

أجمع المفسّرون وروى الجمهور كأحمد بن حنبل وغيره أنّها نزلت في الإمام عليّ عليه‌السلام والصدّيقة فاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وروى أبو عبد الله بن محمد بن عمران المرزباني عن أبي الحمراء قال : خدمت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحوا من تسعة أشهر أو عشرة وكان عند كلّ فجر لا يخرج من بيته حتى يأخذ بعضادتي باب علي عليه‌السلام ثم يقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيقول علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام وعليك السلام يا نبيّ الله ورحمة الله وبركاته ، ثم يقول الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا ثم ينصرف إلى مصلاه. والكذب من الرجس ولا خلاف في أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ادّعى الخلافة لنفسه فيجب أن يكون صادقا (١).

وأما السنّة المطهّرة : فأخبارها كثيرة جدا أهمها :

«حديث الغدير» المتواتر بين العامة والخاصة ومفاده أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصب الإمام عليّا عليه‌السلام يوم غدير خمّ في رجوعه من حجة الوداع ، للأمة جمعاء ، ثم واجههم بالخطاب فقال : من كنت مولاه ، فعليّ مولاه.

فأوجب له ما لنفسه من الطاعة ، وشريف المقام ، ولا خلاف بين أهل اللسان أنّ «المولى» عبارة عن السيد المطاع (٢).

وحديث الدار ، وحديث المنزلة والمباهلة والطائر المشوي وغيرها من الأحاديث الواضحة والصريحة في ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام لاحظ المطوّلات كدلائل الصدق والمراجعات وإحقاق الحق والغدير ، والإفصاح في الإمامة للمفيد.

النقطة الرابعة : عدم خلوّ الزمان من إمام :

الوجوه العقلية الداعية لوجوب وجود إمام في كل عصر كثيرة منها :

جهة السياسة :

بيانها : أن كل فرد من أفراد الإنسان لا بدّ له في عيشه من تمدّن واجتماع كي يتمّ له البقاء في الدنيا بمقدار ما قدّر له من العمر ، لأنّ كل شخص لا بدّ له من

__________________

(١) إحقاق الحق : ج ٢ ص ٥٠١ ودلائل الصدق : ج ٢ ص ٦٤.

(٢) النكت الاعتقادية للمفيد : ص ٤٥.

٧٩

المأكل والمشرب والملبس والمسكن ، وما يدفع به المضار عن نفسه من ضرر السباع والأنفس، إلى غير ذلك من موارد حاجاته باختلاف أنواعها ، فإنّ المريض يحتاج إلى غذاء مخصوص وإلى أدوية مخصوصة وكذلك الطفل في بعض حالاته ، والإنسان في الصيف والشتاء يحتاج إلى ألبسة مخصوصة وسراويل تقيه الحرّ والبرد ، ومن هذا القبيل حاجته إلى مسكن يأوي إليه.

ثم إنّ هذه حاجاته القريبة ، وله حاجات بعيدة مقدمة لحاجاته القريبة كالتجارة والزراعة لتحصيل المعاش ، وكل ذلك يحتاج إلى ممد ومعاون واجتماع أنفس وأسباب تحتاج تلك الأنفس إلى مقدمات أخر.

ثمّ إن بقاء النوع في العالم يتوقف على نكاح وازدواج وقد خلق في طبيعته الشهوات الكثيرة لإبقاء نفسه وإبقاء نوعه فخلقت فيه شهوة الطعام والشراب والنكاح والزواج وخلقت فيه القوة الغضبية لدفع المضارّ ، وجعل لكل ذلك آلات وأدوات لجلب المنافع ودفع المضارّ والمؤذيات ، وجميع ذلك محتاج إلى اجتماع أنفس كثيرة مع اختلاف الشهوات وكون القوى المذكورة في الجميع على حدّ الشخص الواحد ، وكل في شهواته يريد تحصيل مقصوده منها ، وإن لم يتحصل مقصوده الآخر ، فيقع الاختلاف وبه يظهر الفساد فلا بد من شخص سالم عن المقاصد الفاسدة ، رابح للمقاصد العامة والمصالح الشاملة للجميع ، يحفظ كل واحد عن التعدي على حدّه والظلم لغيره ، ويحفظ النوع عن الفساد والاختلاف ، ويمنع التعدي على غيره عن المجاوزة عن حدّه وأخذ حقّ غيره ، حتى يكون به النظام وفي يده هذا الزمام ، ويكون حكمه العدل والإنصاف ، مانعا من وقوع الاختلاف ، وسببا للايتلاف ، ذا ملكة قدسيّة لا يميل إلى هوى ولا إلى طرف دون طرف ، ولا يجتلب إلى نفسه ولا إلى غيره من الأفراد ما يمنع عن غيره ، وهو الإمام العادل في الرعية القاسم بالسوية.

جهة الشرع :

بيانها : ان التمدن للإنسان في أكثر الحالات وحاجته في تعيّشه إلى اجتماع الأنفس والأدوات ، وكون موارد الحاجات لا بدّ لها من الاختصاص والاشتراك. وإن اختلفت الحيثيات ، وهذا الاختصاص قد يقع بين الأشخاص ، كالمواريث والممتلكات وجملة المشتركات وهكذا ، وقد يقع الالتباس لأهل الاختصاص ، ثم قد لا يدرون كيفية الانتفاع من موارد الحاجات والمشتهيات من المناكح والمذابح

٨٠