الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقامه للناس وأخذه بيده ، فلما مضى علي لم يكن يستطيع عليّ ولم يكن ليفعل أن يدخل محمد بن علي ولا العباس بن علي ولا واحدا من ولده إذا لقال الحسن والحسين : إن الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك فأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلغ فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بلغ فيك وأذهب عنّا الرجس كما أذهبه عنك ، فلما مضى علي عليه‌السلام كان الحسن عليه‌السلام أولى بها لكبره ، فلما توفي لم يستطع أن يدخل ولده ولم يكن ليفعل ذلك والله عزوجل يقول :(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) فيجعلها في ولده إذا لقال الحسين أمر الله بطاعتي كما أمر بطاعتك وطاعة أبيك وبلّغ في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما بلّغ فيك وفي أبيك وأذهب الله عني الرجس كما أذهب عنك وعن أبيك ، فلما صارت إلى الحسين عليه‌السلام لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدّعي عليه كما كان هو يدّعي على أخيه وعلى أبيه ، لو أرادا أن يصرفا الأمر عنه ولم يكونا ليفعلا ثم صارت حين أفضت إلى الحسين عليه‌السلام فجرى تأويل هذه الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ثم صارت من بعد الحسين إلى علي بن الحسين عليه‌السلام وقال : الرجس هو الشك ، والله لا نشكّ في ربّنا أبدا (١).

ومفاد الآية : أنه سبحانه أمر بوجوب طاعته وطاعة رسوله وطاعة أولى الأمر من عترة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله تعالى لا يأمر بالطاعة المطلقة لمخلوق إلّا لنكتة العصمة والطهارة فيه ، وإلّا الأمر باتباع الخطأ وهو قبيح وتغرير لا يجوز صدوره عن الحكيم العرفي ، فكيف بسيد الحكماء المولى الجليل.

ولو كانت طاعة الرسول كافية دون إطاعة أولي الأمر لما كان ذكرها تعالى أو عطفها على طاعة رسوله.

فالآية المباركة نصّت على وجوب إطاعتين ، واحدة لله تعالى وأخرى للرسول وأولي الأمر.

ولا يعني ذلك أن ما يأمر به النبي وأولو الأمر غير ما أمر به الله تعالى ، بل هو عين ما يأمر به تعالى ، وإنما المراد من الإطاعتين وجود منصبين للنبي.

١ ـ إطاعة النبي فيما يبيّنه بالوحي.

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ٢٨٦ ح ١.

٤١

٢ ـ إطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يراه من الرأي.

وتكرار الأمر بالإطاعة إشارة إلى ذلك.

فإطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه فيما أمر به نبيّه من الوحي والتشريع أما أولو الأمر فهم وإن كان لا نصيب لهم من الوحي التشريعي وإنّما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه ، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيه وقوله ولذلك ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة ولم يذكرهم بل خصّ الله نفسه ورسوله.

ولا ينبغي الريب في أنّ هذه الإطاعة المأمور بها في الآية إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط ولا مقيدة بقيد ، وهذا دليل على أن الرسول لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء يخالف حكم الله وإلّا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى ولا يتم ذلك إلّا بعصمة فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا الكلام بعينه جار في أولي الأمر.

فطاعة أولي الأمر عليهم‌السلام واجبة مطلقا بحكم الالتحام بين طاعتهم وطاعة الرسول التي تعني طاعة الله تعالى ، وبهذا تكون الآية دالّة على عصمة أولي الأمر لاقتران طاعتهم بطاعة الله تعالى ويؤيد هذا المعنى نقطتان :

النقطة الأولى :

إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر من جهة ونهى عن اتباع خطوات الشيطان من جهة أخرى ، فإذا افترضنا أن وليّ الأمر لم يكن معصوما لزم أن يكون اتباعه في مورد خطأه اتباعا للشيطان ، ولا يمكن الأمر بشيء قد نهى عنه ، لأنه يلزم منه التناقض كما أنه يتنافى مع الإطلاق في قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ).

النقطة الثانية :

إنّ الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر على الإطلاق كطاعته تعالى وطاعة الرسول ، وهذا الإطلاق لا ينسجم إلّا مع عصمة أولي الأمر ، لأنّ غير المعصوم قد يأمر بمعصية فيحرّم طاعته في ذلك ، وعندئذ لو قلنا إنّ الإطاعة ما زالت واجبة اجتمع الضدّان (الوجوب والحرمة) وهو أمر باطل.

٧ ـ قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٢٠) (هود / ١١٩ ـ ١٢٠).

روى الكليني في باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية بإسناده الصحيح عن أبي عبيدة الحذّاء قال :

٤٢

سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الاستطاعة وقول الناس فقال : وتلا هذه الآية (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٩) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٢٠) يا أبا عبيدة الناس مختلفون في إصابة القول وكلهم هالك ، قال : قلت قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) قال : هم شيعتنا ولرحمته خلقهم وهو قوله تعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) يقول : لطاعة الإمام الرحمة التي يقول : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) يقول : علم الإمام ووسع علمه الذي هو من علمه كل شيء هم شيعتنا (١).

٨ ـ قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (الإسراء / ٧٢).

روى علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده الصحيح عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا ...) الآية قال : يجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قومه وعلي عليه‌السلام في قومه ، والحسن عليه‌السلام في قومه ، وكل من مات في ظهراني قوم جاء وأصحابه (٢).

وروى العياشي في تفسيره بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ بإمامه الذي مات في عصره ، فإن أثبته أعطي كتابه بيمينه لقوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ...) واليمين إثبات الإمام ، لأنه كتاب يقرأه ، لأنّ الله يقول : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (الحاقة / ٢٠) والكتاب الإمام فمن نبذه وراء ظهره كان كما قال : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ومن أنكره كان من أصحاب الشمال الذين قال الله عزوجل : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤٢) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) (٣) (الواقعة / ٤٢ ـ ٤٣).

وفي الآية دلالة واضحة على عظمة الإمام وبيان فضله وأنه أعظم الأصول.

٩ ـ قوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (يس / ١٣).

وروى القمي بسند صحيح عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ٤٢٩ ، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ص ٢٣.

(٣) تفسير العياشي : ج ٢ ص ٣٢٤ ح ١١٥.

٤٣

قال : أنا والله الإمام المبين ، أبيّن الحق من الباطل وورثته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو محكم(١).

وفي المعاني عن مولانا الإمام الباقر عليه‌السلام عن أبيه عن جده عليهم‌السلام قال : لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما وقالا : يا رسول الله هو التوراة؟

قال : لا ، قالا : فهو الإنجيل؟ قال : لا ، قالا فهو القرآن؟ قال : لا.

قال : فأقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو هذا إنه الإمام الذي أحصى الله فيه علم كلّ شيء (٢).

وفي الاحتجاج عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث قال :

معاشر الناس ، ما من علم إلّا علّمنيه ربي ، وأنا علّمته عليّا وقد أحصاه الله فيّ ، وكل علم علمت فقد أحصيته في إمام المتقين وما من علم إلّا علمته عليّا (٣).

وهذا واضح الدلالة على كون الإمامة من الأصول الكبرى في الإسلام ويكفي للتأكيد على ذلك ما ورد في الزيارة الجامعة المروية بسند صحيح عن مولانا الإمام الهاديعليه‌السلام قال :

بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزّل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه ... ، آتاكم الله ما لم يؤت أحدا من العالمين ، طأطأ كل شريف لشرفكم ... من جحدكم كافر ومن حاربكم مشرك ، ومن ردّ عليكم في أسفل درك من الجحيم ... ، من أراد الله بدأ بكم ومن وحّده قبل عنكم ومن قصده توجّه بكم ، مواليّ لا أحصي ثناءكم ولا أبلغ من المدح كنهكم ومن الوصف قدركم وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار وحجج الجبّار ..»(٤).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ص ٢١٣.

(٢) تفسير الصافي : ج ٤ ص ٢٤٧ نقلا عن المعاني للصدوق (قدس‌سره).

(٣) نفس المصدر.

(٤) من لا يحضره الفقيه والعيون للشيخ الصدوق عليه الرحمة.

٤٤

الأمر الثالث : دليل السّنّة المطهّرة :

من الأدلة على كون الإمامة أصلا من أصول الدين ما ورد في النصوص الكثيرة جدا التي تفوق التواتر ، مضافا إلى ما نسبه المخالفون للشيعة الإمامية من الترّهات ليس إلا من أجل أنهم يعتقدون بأصولية الامامة وأنها ركن عظيم من أركان الدين ، ونحن نذكر هنا بعض الأخبار وهي على طوائف منها :

الطائفة الأولى : الخبر المجمع عليه عند الفريقين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

من مات بلا إمام له ، فميتته ميتة جاهلية.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل ، فقتلته جاهليّة (١).

ورواه الحاكم بلفظ آخر عن النبي قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. وقد عدّه صحيحا عن طريق ابن عمر.

وروى ابن مردويه عن الإمام علي عليه‌السلام بسند متصل قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قول الله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) قال : يدعى كلّ قوم بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنّة نبيّهم.

وروى أحمد في مسنده ج ٤ ص ٩٤ : من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية.

وروى أبو داود الطيالسي في مسنده ص ٢٥٩ من طريق عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ومن نزع يدا من طاعة جاء يوم القيامة لا حجة له. وفي صحيح مسلم ج ١٢ ص ٢٠١ رقم ١٨٥١ : من خلع يدا من طاعة ، لقي الله يوم القيامة ، لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية.

وروي بألفاظ معتضدة من طرق شتّى ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

من أتاه من أميره ما يكرهه فليصبر ، فإنّ من خالف المسلمين قيد شبر ثم مات ، مات ميتة جاهلية (٢). وفي صحيح مسلم ج ١٢ ص ٢٠٠ رقم ١٨٤٩ : من

__________________

(١) صحيح مسلم : ج ١٢ ص ١٩٩ رقم ١٨٤٨ ح ٥٣ وح ٥٥ وح ٥٦ وح ٥٨.

(٢) شرح السير الكبير : ج ١ ص ١١٣ ورواه البخاري ج ٨ / ٤٢٢ رقم ٧٠٥٣.

٤٥

رأى من أميره شيئا يكرهه ، فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا ، فمات ، فميتته جاهلية.

ومن مات وليس لإمام جماعة عليه مات ميتة جاهلية (١).

أما المصادر الشيعية لألفاظ هذا الحديث فكثيرة أيضا منها ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية (٢).

وما رواه الكليني أيضا في الكافي بإسناده الصحيح عن الحارث بن المغيرة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات ولا يعرف إمامه ، مات ميتة جاهلية ، قال : نعم ، قلت : جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه؟ قال : جاهلية كفر ونفاق وضلال(٣).

وما رواه فيه عن الفضيل بن يسار قال : ابتدأنا أبو عبد الله عليه‌السلام يوما وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية ، فقلت : قال ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : أي والله قد قال ، قلت : فكل من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية؟ قال : نعم (٤).

وما رواه فيه عن ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية ، قال : فقلت : ميتة كفر؟ قال : ميتة ضلال ، قال : فقلت : فمن مات اليوم وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية؟ فقال : نعم(٥).

فهذه الأحاديث المتقدمة لا مجال للنقاش في صحة مضامينها أو أسانيدها التي فيها الأسانيد الصحاح مع بلوغها حدّ الاستفاضة بل حدّ التواتر ، وهي بتواترها المعنوي بمثابة حديث : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا الحديث مضافا

__________________

(١) المجمع للهيثمي : ج ٥ ص ٢٢٤.

(٢) روضة الكافي : ص ١٤٦.

(٣) أصول الكافي : ج ١ ص ٣٧٧ ح ٣.

(٤) أصول الكافي : ج ١ ص ٣٧٦ ح ١.

(٥) أصول الكافي : ج ١ ص ٣٧٦ ح ٢.

٤٦

إلى تواتره المعنوي هو من المتواترات اللفظية أيضا.

وكل هذه الأحاديث تعتبر نصوصا صريحة في أصولية الإمامة وفضلها عند الله تعالى.

الطائفة الثانية : ما ورد في المروي عن ذريح عن مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

يقول : والله ما ترك الله الأرض قط منذ قبض آدم إلّا وفيها إمام يهتدى به إلى الله عزوجل ، وهو حجّة الله على العباد ، من تركه هلك ، ومن لزمه نجا حقّا على الله (١).

وعن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام قال :

ما ترك الله الأرض بغير إمام قطّ منذ قبض آدم عليه‌السلام يهتدى به إلى الله عزوجل ، وهو الحجة على العباد من تركه ضلّ ، ومن لزمه نجا حقّا على الله عزوجل (٢).

الطائفة الثالثة : في الأخبار الدالّة على أنّ الإمامة على حدّ النبوّة أمر متصل من لدن آدم إلى الخاتم إلى يوم القيامة ، وأنّ الحاجة إلى النبي والإمام على نهج واحد.

فقد أورد الكليني في الكافي في باب الاضطرار إلى الحجة عدّة أخبار منها ما ورد عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبتّ الأنبياء والرسل؟

فقال : إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقا ، صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجهم ويحاجوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبّرون عنه جل وعز وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة (٣).

__________________

(١) إكمال الدين : ص ٢٣٠ ح ٢٨.

(٢) إكمال الدين : ص ٢٢١ ح ٣.

(٣) أصول الكافي : ج ١ ص ١٦٨ ح ١.

٤٧

الطائفة الرابعة : الأخبار الواردة في لزوم طاعة الأئمة عليه‌السلام وأنّ الناس غير معذورين لعدم معرفتهم.

روى الكليني في باب فرض طاعة الأئمة عن أبي سلمة عن مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

سمعته يقول : نحن الذين فرض الله عزوجل طاعتنا ، لا يسع الناس إلّا معرفتنا ، ولا يعذر الناس بجهالتنا ، من عرفنا كان مؤمنا ، ومن أنكرنا كان كافرا ، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالّا ، حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة ، فإن يمت على ضلالته يفعل لله به ما يشاء (١).

الطائفة الخامسة : الأخبار الدالّة على أنّ من لا يعرفهم ولا يواليهم فهو ضالّ غير مؤمن بالله.

روى الكليني في باب معرفة الإمام عن أبي حمزة قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : إنما يعبد الله من يعرف الله ، فأما من لا يعرف الله ، فإنما يعبده هكذا ضلالا ، قلت : جعلت فداك فما معرفة الله؟ قال : تصديق الله تعالى ، وتصديق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموالاة علي عليه‌السلام والائتمام به وبأئمة الهدى ، والبراءة إلى الله عزوجل من عدوّهم ، هكذا يعرف اللهعزوجل(٢)

إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على عظمة الإمام والإمامة وأنها أهم المعتقدات لما يترتّب عليها من معرفة بقية الأصول والمعارف التوحيدية ، وهناك أخبار كثيرة تشير إلى كفر المنكرين لأئمة آل البيت عليهم‌السلام وخلودهم في النار ، وضلالة الجاهلين بهم عليهم‌السلام وأنّ الناجي من آمن بهم عليهم‌السلام ، منها ما ورد عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

إنّ الله تعالى نصب عليّا علما بينه وبين خلقه ، فمن عرفه كان مؤمنا ، ومن أنكره كان كافرا ، ومن جهله كان ضالا ومن نصب معه شيئا كان مشركا ، ومن جاء بولايته دخل الجنة (٣).

وما ورد عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال تعقيبا على قوله تعالى :

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ١٨٧ ح ١١.

(٢) نفس المصدر : ج ١ ص ١٨٠ ح ١.

(٣) أصول الكافي : ج ١ ص ٤٣٧ ح ٧ وج ٢ ص ٣٨٨ ح ٢٠.

٤٨

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : يعني به ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قلت : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) قال : أعمى البصر في الآخرة ، أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : وهو متحير يوم القيامة يقول : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (طه / ١٢٥ ـ ١٢٦) قال : الآيات : الأئمة عليهم‌السلام (فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) يعني تركتها ، وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة عليهم‌السلام فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم. قلت : «وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى»؟ قال : يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام غيره ولم يؤمن بآيات ربه وترك الأئمة معاندة فلم يتبع آثارهم ولم يتولّهم ، قلت : «الله لطيف بعباده يرزق من يشاء»؟ قال : ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام قلت : «من كان يريد حرث الآخرة»؟ قال : معرفة أمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمة. «نزد له في حرثه» قال : «نزيده منها ، قال : يستوفي نصيبه من دولتهم «ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب» قال : ليس له في دولة الحق مع القائم نصيب» (١).

أبعد هذا يقال أن الإمامة فرع من فروع الدين وليست أصلا من أصول شريعة سيد المرسلين ، ما أظن أن يعتقد بهذا من عرف شيئا من فقه محمد وآل محمد عليهم صلوات الله أجمعين!!

النقطة الثالثة : إنّ الإمامة بالنص لا بالشورى :

وقع النزاع بين المسلمين في طرق ثبوت الإمامة (مصدر شرعية السلطة) إلى ثلاثة :

النص ـ الاختيار ـ الميراث.

الطريق الأول : «النص» :

ذهبت الإمامية ما عدا الزيدية إلى أنّ المرجع في تعيين الإمام أو من ينوب لتسلّم قيادة الأمة بعد النبي هو أمران :

الأول : النص من الله تعالى على لسان رسوله أو إمام ثبتت إمامته بالنص عليه

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ٤٣٥ ح ٩٢.

٤٩

من الرسول أو الإمام السابق.

الثاني : ظهور المعجزة على يده للتدليل على أنه متعيّن من قبل الله تعالى والشيعة «أيدهم الله تعالى» حينما يشترطون النص والمعجزة وفقا لما يعتقدون من وجوب الإمامة ، وأنها بمثابة النبوة إلّا ما استثناه الدليل ، فبذا هي ركن عظيم ، وأصل من أصول الدين ، فالمسألة عندهم توقيفية ، لا رأي لغير الشارع المقدّس فيها حتى يمكنهم أن ينتخبوا إماما لهم ، ووفقا لأصوليتها كبقية الأصول التي لا مجال لرأي العباد فيها ، لا بدّ أن يكون المعيّن لها هو الباري عزّ اسمه.

ولا بدّ في النص أن يكون جليا واضحا لا خفيا مبهما ، بمعنى أنه لا بدّ أن يبرز النص اسم الإمام الجائي بعد النبي بحيث لا يوقع الناس في الريب ، لأنّ الإمامة واجبة عليه تعالى بحكم ضرورة العقل القائل بنيابة الإمامة مناب النبوة ، بل صلاحياتها أكبر وأعظم لما تمثّله من بسط أحكام الشريعة وتطبيق قوانينها ودساتيرها إلى ما هنالك من وظائف هي من مختصات الإمام عليه‌السلام ، وكل هذا لا يتوفر إلّا برجل مسدّد معصوم في كل حركاته وأقواله وأفعاله.

وملكة العصمة في الإمام ـ على مذاق الإمامية ـ هي من الأمور الخفية والباطنية التي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، فإذا كان هكذا فلا مجال لغيره تعالى أن يعيّن الإمام ، ووافقهم جماعة من المعتزلة كالنظّامية والخابطية أتباع أحمد بن خابط والحدثية ، حيث وافقوا الإمامية باشتراط النص الجلي.

وفي المقابل ذهبت الزيدية على أنّ النص على الإمام خفيّ أي أنّ النبي نص على الإمام علي عليه‌السلام بالوصف دون الاسم ، والناس قد قصّروا حيث لم يتعرّفوا الوصف ، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم ففسقوا به (١) ، وهؤلاء أصحاب أبي جارود زياد بن منقذ العبدي وما يظهر من عبارة السيد المرتضى (٢) من اعتباره نص الغدير من النصوص الخفية وارتضائه له بعيد عن جنابه لأنه في معرض تقسيم النص إلى جلي وخفي ، فالجلي ما قالت به الشيعة الإمامية ، والخفي ما قالت به الزيدية (٣) ولو سلّم اعتقاده كون يوم الغدير نصّا خفيا فإنه رأي شاذ تفرّد

__________________

(١) تلخيص المحصّل : ص ٤١٧.

(٢) الشافي : ج ٢ ص ٦٧.

(٣) نفس المصدر : ص ٦٧ وتلخيص المحصّل : ص ٤١٦.

٥٠

به عن الأصحاب كافّة ، مضافا إلى أنه ينسف كل الأدلة الدالّة على إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام التي من أبرز مصاديقها نصّ الغدير من حيث جلائه ووضوحه.

وسوف تأتي الأدلّة على ثبوت إمامة علي بن أبى طالب عليه‌السلام.

الطريق الثاني : «الاختيار» :

في مقابل طريق النص الذي رجع إليه الشيعة الإمامية ، ذهب السنّة إلى طريق ومرجع آخر لتعيين الإمام هو مرجعية الأمة أي أن تعيين الإمام راجع إلى الأمة الإسلامية ، وهذا واضح وفقا لما يسيرون عليه في تعريفهم للإمامة أنها رئاسة دينية كما مرّ سابقا ، فهم ينظرون إليها نظرة الرئيس المحتاج إلى المرءوس ، والحاكم إلى المحكوم ، ليكون رئيسا أو حاكما وهي بهذا الاعتبار من فروع الدين ، فيجب على أفراد الأمة أن يعيّنوا منهم إماما حاكما عليهم وإلّا أثموا جميعا.

وقد اختلف العامة فيما بينهم في تحديد ماهية الأمة التي يراد لها أن تنتخب الإمام ، هل المراد منها كل أفراد الأمّة ، أو جماعة معينون يصطلح عليهم بأهل المشورة أو أهل الحل والعقد؟

الأول باطل بالوجدان عندهم لأنه لم يعهد أنّ خليفة من الخلفاء كان قد انتخبه المسلمون جميعا في كل أقطار البلاد الإسلامية ، لذا عدّلوا به إلى أن المراد من أفراد الأمة الذين يجب عليهم أن ينتخبوا هم أفراد معينون في كل بلد من بلدان المسلمين ، وهذا أيضا باطل عندهم أيضا لأنه تكليف بما لا يطاق ، وما ليس من الوسع ، والرأي الثابت لديهم هو «أن المراد بأهل الحل والعقد هم جماعة معدودون يتواجدون في بلد الإمام» (١).

قال الماوردي : ليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية تقدم بها عليه ، وإنما صار من يحضر ببلد الإمام متوليا لعقد الإمامة عرفا لا شرعا لسبق علمهم بموته ، ولأن من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في بلده» (٢).

وقد اختلفوا في عدد أهل الحل والعقد إلى آراء :

__________________

(١) الأحكام السلطانية : ص ٧.

(٢) الأحكام السلطانية.

٥١

منهم من قال : إنّ أقل عدد يتحقق به مفهوم الشورى هو خمسة أشخاص يحق لهم أن ينتخبوا الإمام.

ومنهم من قال : يكفي أربعة أو ثلاثة بل اثنان.

ومنهم من قال : بكفاية الواحد إذا شهد عليه الشهود (١).

قال عبد القاهر البغدادي المتوفي عام ٤٢٩ ه‍ :

«إنّ الإمامة تنعقد لمن يصلح لها بعقد رجل واحد من أهل الاجتهاد والورع إذا عقدها لمن يصلح لها ، فإذا فعل ذلك وجب على الباقين طاعته» (٢).

وقال الجويني :

«إنّ البيعة تنعقد بشخص واحد من بني هاشم إذا بايعه رجل واحد لا غير» (٣).

وما ذهبوا إليه ما هو إلّا تبرير لما حصل في تلك الآونة الزمنية حيث إن البيعة انعقدت لأبي بكر بخمسة اجتمعوا عليها هم : عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة الجرّاح وسالم مولى حذيفة وبشير بن سعد وأسيد بن حضير أبو الحصين.

ولم يكتفوا بهذا بل أجازوا أن يتعيّن الإمام بالقهر والاستيلاء ، فإذا مات الإمام ، تصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف ، وقهر الناس بشوكته ، انعقدت له الخلافة ، وكذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر (٤).

يرد على هذه الأقوال :

أولا : إنّ تعيين بعض الصحابة للخلافة دون مشورة البقيّة يعدّ خرقا لنظرية الجمهور القائلة بأنّ «يد الله مع الجماعة» «ولا تجتمع أمتي على ضلالة» و «لا تجتمع أمتي على خطأ» ، مضافا إلى اعتراضات هائلة صدرت من نفس الصحابة على خلافة البعض الآخر الذين تمّت بيعتهم لا سيما خلافة أبي بكر وابن

__________________

(١) نظام الحكم والإدارة : ص ١١٠ نقلا عن مغني المحتاج : ج ٤ ص ١٣١ ومآثر الأناقة : ج ١ ص ٤٤.

(٢) نظام الحكم والإدارة : ص ١١٠ نقلا عن أصول الدين : ص ٢٨٠.

(٣) إحقاق الحق : ج ٢ ص ٣٣٥.

(٤) الإلهيات : ج ٢ ص ٥٢٤ وشرح المقاصد.

٥٢

الخطاب ، حيث تمّت الأولى ببيعة الخمسة له ، وتمّت الثانية ببيعة أبي بكر له بالعهد الذي كتبه بواسطة عثمان بن عفان (١) ؛ وبيعة عثمان بشورى ستة سنّها ابن الخطّاب.

فمن الاعتراضات على بيعة أبي بكر يوم السقيفة ما رواه ابن قتيبة الدينوري «أن الزبير ـ وهو أحد الصحابة الكبار ـ وقف يوم السقيفة أمام المبايعين ، وقد اخترط سيفه وهو يقول : لا أغمده حتى يبايع علي عليه‌السلام ، فقال عمر بن الخطاب : عليكم الكلب ، فأخذ سيفه من يده وضرب به الحجر وكسر» (٢).

وما رواه الطبري في حوادث عام ١١ ه‍ : إنّ الحبّاب بن منذر انتضى سيفه وقال : أنا جذيلها المحكّك وعذيقها الموجّب ، أنا أبو شبل في عرينة الأسد ، يعزي إليّ الأسد ، فحامله عمر فضرب يده ، فندر السيف ، فأخذه ثم وثب على سعد بن عبادة ، ووثبوا عليه ، وتتابع القوم على البيعة ، وبايع سعد ، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية ، قام أبو بكر دونها ، وقال قائل حين أوطئ سعد : قتلتم سعدا ، فقال عمر : قتله الله ، إنه منافق واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه ...» (٣).

وفي باب تخلف سعد بن عبادة عن البيعة قال ابن قتيبة الدينوري : «لمّا رفض الحباب بن المنذر بيعة أبي بكر بعد أن أخذوا سيفه منه فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة فقال : فعلتموها يا معشر الأنصار ، أما والله لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم ، قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء. قال أبو بكر : أمنا تخاف يا حباب؟ قال : ليس منك أخاف ، ولكن ممن يجيء بعدك ـ يقصد عمر بن الخطاب ـ فقال سعد بن عبادة : أما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض لسمعتم مني في أقطارها زئيرا يخرجك أنت وأصحابك ولألحقتك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع ، خاملا غير عزيز ، فبايعه الناس جميعا حتى كادوا يطئون سعدا. فقال سعد : قتلتموني ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله ، فقال سعد : احملوني من هذا المكان ، فحملوه فأدخلوه داره وترك أياما ، ثم بعث إليه أبو

__________________

(١) الكامل لابن الأثير : ج ٢ ص ٤٢٥.

(٢) الإمامة والسياسة : ص ٢٨ ط الشريف الرضي قم وكذا رواه ابن الأثير في الكامل ج ٢ / ٣٢٥ باب حديث السقيفة. والطبري في تاريخه ج ٢ / ٤٤٤.

(٣) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٤٥٩.

٥٣

بكر : أن أقبل فبايع ، فقد بايع الناس ، وبايع قومك ، فقال : أما والله حتى أرميكم بكلّ سهم في كنانتي من نبل وأخضب منكم سناني ورمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي لا والله لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي ، وأعلم حسابي. فلما أتي بذلك أبو بكر من قوله ، قال عمر : لا تدعه حتى يبايعك ، فقال لهم بشير بن سعد : إنه قد أبى ولجّ ، وليس يبايعك حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه ، وأهل بيته وعشيرته ، ولن تقتلوهم حتى تقتل الخزرج ، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس ، فلا تفسدوا على أنفسكم أمرا قد استقام لكم ، فاتركوه فليس تركه بضاركم ، وإنما هو رجل واحد ، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد ، واستنصحوه لما بدا لهم منه. فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ، ولا يجمع بجمعتهم ، ولا يفيض بإفاضتهم ، ولو يجد عليهم أعوانا لصال بهم ، ولو بايعه أحد على قتالهم لقاتلهم ، فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر ، وولي عمر بن الخطاب ، فخرج إلى الشام ، فمات بها ، ولم يبايع لأحد رحمه‌الله».

وفي باب إباية علي كرّم الله وجهه وعليه‌السلام بيعة أبي بكر ذكر ابن قتيبة الدينوري : أنّ عليّا عليه‌السلام أتى به إلى أبي بكر وهو يقول : أنا عبد الله وأخو رسوله ، فقيل له : بايع أبا بكر، فقال : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصبا؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار : نحن أولى برسول الله حيا وميتا فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع ، فقال له عليّ : أحلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا. ثم قال : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه ، فقال له أبو بكر : فإن لم تبايع فلا أكرهك ، فقال أبو عبيدة بن الجراح لعليّ عليه‌السلام : يا ابن عمّ إنك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ، ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك ، وأشد احتمالا واضطلاعا به ، فسلم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء ، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق ، في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك

٥٤

ونسبك وصهرك. فقال عليّ كرّم الله وجهه : الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته ، إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فو الله يا معشر المهاجرين ، لنحن أحق الناس به. لأنا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنّه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله ، فتزدادوا من الحق بعدا. فقال بشير بن سعد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان. قال : وخرج علي كرّم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول عليّ كرّم الله وجهه : أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم».

تنبيه : إنّ قول أبي عبيدة بن الجرّاح لمولى المؤمنين عليه‌السلام «إنك حديث السن» هو بعينه ما قاله بعض الصحابة أمثال أبي بكر وعمر بن الخطاب اللذين تخلّفا عن جيش أسامة الذي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحابته بالالتحاق به ولعن المتخلفين عنه ، ولكنّ هؤلاء طعنوا في إمارته بحجة أن أسامة حدث السن ، حيث قالوا : أمرّ غلاما علينا ، فردّ عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول : إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، وإنه لخليق للإمارة ، وكان أبوه خليقا لها (١). إذن لقد طعن القوم بإمارة أسامة الفتى الصغير.

والسؤال المطروح دائما والذي يثير الانتباه : لما ذا عيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسامة بن زيد قائدا على جيش كبير يريد غزو جيش الإمبراطورية الرومية في حين وجود شخصيات من الصحابة أكبر منه سنا؟!

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير : ج ٢ / ٣١٧ أحداث سنة ١١ والطبري ج ٢ / ٤٣١ والملل والنحل للشهرستاني : ج ١ / ٢٣.

٥٥

والجواب :

أولا : أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فعله هذا أن يهيئ المسلمين لقبول قاعدة «الجدارة والكفاءة» في ولاية أمورهم من الناحية العملية ، فليست الشهرة أو الجاه أو المال أو النسب أو تقدم العمر هو الأساس لاستحقاق الامارة والولاية ، لذا عبّرا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أسامة بأنه كان جديرا بالإمارة كما كان أبوه من قبل.

ثانيا : لكي يترسخ في أذهان المسلمين أنّ صغر السنّ ليس عائقا ولا شرطا لقيادة الجيوش والمجتمعات ، فإذا جاز لأسامة بن زيد قيادة جيش إسلامي كبير ينضوي تحته مشايخ كبار ، فبطريق أولى جاز للإمام علي عليه‌السلام أن يتولى الخلافة وهو لا يتجاوز الثلاثين من عمره.

ثالثا : أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك تبعيدهم عن المدينة ساعة وفاته ـ وهذه هي الغاية من إرسالهم في الجيش ـ لئلا يطمعوا في الخلافة خشية أن يزيحوها عن صاحبها الشرعي مولى الثقلين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقد ثبت لدينا بما نملك من قرائن خارجية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتوجس منهم خيفة على أهل بيته عليهم‌السلام ، لذا نراه صلوات الله عليه وآله قد أمر بإرسال كل من تتطاول نفسه إلى الرئاسة ، ولم يدخل في الجيش الإمام عليا عليه‌السلام ولا أحدا ممن يميلون إليه أمثال : سلمان المحمدي وأبي ذر الغفاري والمقداد وعمار بن ياسر وخيرة أصحابه عليه‌السلام.

رابعا : أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك أن يقيم الحجة على الناس أن من لم يكن جديرا لأن يقود جيشا فكيف يكون جديرا لقيادة مجتمع بكامله ، وهي ولاية أمور جميع المسلمين قاطبة؟!!

إذن كانت الغاية عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعّدهم عن ساحة المدينة ، ويروم من خلال ذلك شيئين :

الأول : ليكشف للمسلمين زيف هؤلاء وكذبهم وخبث سرائرهم.

الثاني : ليكون ذلك حجة على المستصغرين سنّة ، ودليلا على عدم صلاح غيره لهذا المنصب.

فإذا كان إخلاء المدينة من منافس الإمام علي عليه‌السلام لم يتم لتمانع القوم وعرقلتهم لتحرك الجيش ، فإن الحجة ثابتة مع الدهر.

وما ادعاه الأشاعرة من أن القوم إنما تخلّفوا عن جيش أسامة لصغر سنّة ،

٥٦

بنظر التحقيق ليس سببا حقيقيا لتخلفهم ، وإنما لأجل أن يبقوا بجانب النبي ليتمّ ما اتفقوا عليه سابقا وخططوا له سرا ألا وهو غصب الخلافة من أصحابها الشرعيين ، وإلّا لو كان صغر السنّ سببا برأسه لما تنفّذ البعث بعد أن تمّ أمر الخلافة ، والدليل على ما قلنا أن عمر بن الخطاب ذهب مع أسامة ثم أرسل أسامة عمر بن الخطاب وجماعة معه ـ كما يدّعى ابن الأثير (١) ـ إلى أبي بكر خوفا وحرصا منه من أن يتخطّف المشركون المسلمين وخليفتهم أبي بكر ، وكيفما تكونوا يولّى عليكم.

عود على بدء :

قلنا أن كبار الصحابة اعترضوا على بيعة أبي بكر ، وعلى رأسهم مولى المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقد روى ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة :

أن أبا بكر تفقد قوما تخلّفوا عن بيعته عند علي كرّم الله وجهه ، فبعث إليهم عمر بن الخطاب ، فجاء فناداهم وهم في دار علي عليه‌السلام ، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده ، لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا أبا حفص ، إنّ فيها فاطمة؟ فقال : وإن ، فخرجوا فبايعوا إلا عليا فإنه زعم أنه قال : حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن ، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها ، فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا اسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردوا لنا حقا ، فأتى عمر أبا بكر ، فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ وهو مولى له : اذهب فادع لي عليا ، قال : فذهب إلى علي فقال له : ما حاجتك؟ فقال : يدعوك خليفة رسول الله ، فقال علي : لسريع ما كذبتم على رسول الله ، فرجع فأبلغ الرسالة ، قال : فبكى أبو بكر طويلا ، فقال عمر الثانية : لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة ، فقال أبو بكر لقنفذ : عد إليه ، فقل له : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع ، فجاءه قنفذ ، فأدى ما أمر به ، فرفع علي صوته، فقال : سبحان الله؟ لقد ادعى ما ليس له ، فرجع قنفذ ، فأبلغ الرسالة ، ثم قام عمر ، فمشى معه جماعة ، حتى أتوا باب فاطمة ، فدقوا

__________________

(١) الكامل لابن الأثير : ج ٢ / ٣٣٤ باب إنفاذ جيش أسامة.

٥٧

الباب ، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول الله ، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها ، انصرفوا باكين ، وكادت قلوبهم تنصدع ، وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا عليا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا : إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ، فقال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلم. فقال عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال : لا أكره على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق علي بقبر رسول الله يصيح ويبكي ، وينادي : يا ابن أم إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ، فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة ، فإنّا قد اغضبناها ، فانطلقا جميعا ، فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا عليا فكلماه فأدخلهما عليها ، فلما قعدا عندها ، حولت وجهها إلى الحائط ، فسلما عليها فلم ترد السلام عليهما ، فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله! والله إن قرابة رسول الله أحب إليّ من قرابتي ، وإنك لأحب إليّ من عائشة ابتني ، ولوددت يوم مات أبوك أني مت ، ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك واعرف فضلك وشرفك وامنعك حقك وميراثك من رسول الله ، إلا أني سمعت أباك رسول الله يقول : لا نورث ما تركنا فهو صدقة ، فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله تعرفانه وتفعلان به؟ قالا : نعم ، فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا : نعم سمعناه من رسول الله ، قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه ، فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة ، ثم انتحب أبو بكر يبكي ، حتى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصليها ، ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس ، فقال لهم : يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته مسرورا بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي ، قالوا : يا خليفة رسول الله ، إن هذا الأمر لا يستقيم ، وأنت أعلمنا بذلك ، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين ، فقال : والله لو لا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة ، بعد ما سمعت ورأيت من فاطمة».

٥٨

والحديث المتقدم (كغيره من الأحاديث المتضافرة) ينص على أحداث جرت على مولى الثقلين علي بن أبي طالب وزوجته الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليهما‌السلام ، حيث اقتحم دارهما عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وجماعة معهما بحجة أخذ البيعة قهرا من الإمام عليعليه‌السلام ، وقد أشار الحديث إلى اعتراض واستنكار مولانا أمير المؤمنين علي ومولاتنا الزهراءعليهما‌السلام على القوم ، وهناك تفاصيل أخرى لم يشر إليها ابن قتيبة أو أنه أشار ولكنّ البعض حذفها لكونها تفصح عن حقيقة القوم ، والمهم أن مروياتنا استفاضت بما جرى على مولاتنا الصدّيقة الطاهرة من الحيف والظلم ممن ادّعى الخلافة عن رسول الله بهتانا وكذبا ، فقد أشارت النصوص أنّ القوم دخلوا الدار ، وتناوبوا على ضرب بضعة المصطفى فاطمةعليها‌السلام بل إنّ عمر بن الخطاب ضربها على بطنها (١) روحي فداها حتى أسقطت جنينها ، وكسر ضلعها عند ما ضغطها بين الحائط والباب.

وقد سجّل التاريخ أول احتجاج صدر من أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما أخذ من قبل أعوان أبي بكر إلى المسجد للبيعة ، فاحتجّ عليهم بحديث الغدير ، ومن جملة ما قال عليه‌السلام : (أما والله لو وقع سيفي في يدي لعلمتم أنكم لم تصلوا إلى هذا أبدا ، أما والله ما ألوم نفسي في جهادكم ، ولو كنت استمكنت من الأربعين رجلا لفرقت جماعتكم ولكن لعن الله أقواما بايعوني ثم خذلوني ، يا أبا بكر! ما أسرع ما توثبتم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأي حق وبأي منزلة دعوت الناس إلى بيعتك؟! ألم تبايعني بالأمس بأمر الله وأمر رسول الله ... يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار! أنشدكم الله أسمعتم رسول الله يقول يوم غدير خم كذا وكذا فقالوا : نعم (٢).

هذا مضافا إلى احتجاجات مولاتنا الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام لا سيما خطبتها القاصعة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، وكذا احتجاجات بعض

__________________

(١) ومما يقرح قلبي أن ابن الخطاب رفس برجله بطن سيدة النساء مولاتنا فاطمة عليها‌السلام كما أشار إلى ذلك العسقلاني في لسان الميزان ج ١ / ٢٩٣ فقال : «إن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن». وكذا ذكر مثله الشيخ المفيد (قدّس سره) في كتاب الاختصاص / ١٨٥ وقد فصّلنا ذلك في تعاليقنا على مراجعات السيد شرف الدين ، فلاحظ.

(٢) لاحظ كتاب الخلافة للصحابي الجليل سليم بن قيس.

(٣) الاحتجاج للطبرسي ج ١ / ١٣١ ، ط. قم.

٥٩

الصحابة (١) على أبي بكر وعمر اللذين ادعيا حقا ليس لهما ، فما فعله هذان الرجلان بالبتول وزوجها يخجل أن يفعله يهودي أو نصراني ، وكان من الواجب على المسلمين يوم ذاك أن يقفوا بجانب من يدور الحق معه حيثما دار لكنهم ارتدوا جميعا إلّا القليل ممن نذروا أنفسهم للحق فأدوا ما عليهم واعترضوا واحتجوا ولكن لا حياة لمن تنادي!

أبعد كل هذا يصح أن يقال أن بعض الصحابة لم ينكر على دعاة البيعة؟!! أليس الحباب وسعد والزبير وبنو هاشم من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

ثانيا : إنّ هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة يعرب عن بطلان نفس الأصل ، لأنه إذا كانت الإمامة مفوّضة إلى الأمة ، كان من الواجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة ، وأنّه هل تنعقد بواحد أو باثنين من الصحابة؟ أو تنعقد بأهل الحل والعقد أو بالصحابة الحاضرين يوم وفاة النبي؟

ثالثا : كيف يعقل أن يترك النبي أمّته بلا تعيين خليفة وهو يعلم إن لم يفعل سوف تراق الدماء من أجلها وقد قال : «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار» وأنّ أصحابه لن ينجو منهم إلّا مثل همل النعم ، فيرتدّ أكثرهم ويرجعون بعده كفارا ، فيقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» (٢).

وما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يحكم أو يمضي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» (٣) ،

فهذه الأحاديث وغيرها كثير ، تشهد على ما كان يعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اختلاف أمّته ، وأنّ الإمامة من أولى قضاياه ، ومع هذا يقال انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوص أو أنه أو كل اختيار الخليفة إلى عقول الناس المتضاربة ، «ولو كنا نصدّقها مستسلمين لكذّبنا

__________________

(١) أمثال : سلمان الفارسي وأبي ذر الغفارى والمقداد وعمار بن ياسر وبريدة الأسلمي وأبي بن كعب وغيرهم ممن أنكروا على أبي بكر تقدمه وجلوسه في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) صحيح مسلم : ج ٨ ص ١٠٧ ، حديث قم ٢٢٩٤ ورقم ٢٢٩٠ و ٢٢٩١ و ٢٢٩٣ و ٢٢٩٥ و ٢٢٩٦.

(٣) صحيح مسلم ج ١٢ / ١٦٩ رقم الحديث ١٨٢١ وينابيع المودة ص ٣٠٨ ط قم.

٦٠