الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

المظلوم وإعداده وإعانته في كونه ظالما وقبيحا وهذا ينافي العدل الذي قلنا أنه إعطاء كل ذي حقّ حقّه ، والتسوية كالتقديم إبطال الحق وهو عين الظلم.

الثالث : لو لم يكن معاد لجزاء الإنسان لزم التسوية بين المجرمين والصالحين وتقديم الظالمين على المظلومين وإعداد الأشرار واقدارهم ، لأنّ أبناء البشر كانوا ويكونون على الصلاح والفساد وعلى الإصلاح والإفساد وعلى الهداية والضلالة ، وكثيرا ما تتغلّب الفئة الظالمة على المظلومة ، والأشرار على الصلحاء ، وعليه فإن اكتفى بهذه الدنيا ولا يكون وراءها الآخرة ، كان معناه هو عدم مجازاة الظالمين والمجرمين ، وعدم مكافأة الصالحين والمتقين ، بل معناه هو تقديم الطائفة الظالمة على الطائفة المظلومة لإعدادهم بأنواع النعم دون الطائفة المغلوبة.

إشكال :

قد يقال : إنّ هذه لدنيا تكفي لجزاء الصالحين والطالحين فمن عمل سيئا سلب منه النعم ، وابتلاه بالخزي والذلّة ، ومع جزاء كل فرقة بما يناسبهم ، لا يلزم التسوية بين المجرمين وغيرهم ، كما لا يلزم تقديم إحدى الطائفتين على الأخرى.

والجواب : إننا نرى بالوجدان عدم جزاء كثير من الظالمين والمفسدين والفاسقين ، بل هم يعيشون إلى آخر عمرهم في غاية العزة الدنيوية والقدرة ، بخلاف غيرهم فإنهم في غاية المهانة والصعوبة ، وهو أمر محسوس مشاهد ، هذا مضافا إلى أن أعمال المؤمنين والكافرين على درجات مختلفة وقد يكون بعضها مما لا يمكن جزاؤه في عالم الدنيا ، كمن يقتل ألف ألف نفس ببعض أنواع الصواريخ ، ومن المعلوم أنّ سلب نعمة الحياة أو إعدام هذا القاتل مرة واحدة لا يكون جزاء إفساده ، كما أن من يحيي النفوس الكثيرة بالمعالجة أو الهداية ، لا يمكن أن يكون جزاؤه هو نعمة الدنيا مع محدوديتها فضلا عن الأنبياء والأولياء الذين لا يمكن تقويم عملهم ، ولا يصلح مثل الدنيا الدنية لجزائهم لا سيما أنّ محمدا وآله قد فاق بعض دقائق عمرهم على جميع عمر الآخرين ، وقد اشتهر في جوامع الحديث أن ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ، على أن الجزاء على بعض الأعمال لا يمكن أن يتمّ في الدنيا بعد موت أصحابها لعدم توفّر الظرف الزمني لمجازاتهم بالخير أو الشرّ ، كما إذا جاهد المؤمنون الكافرين فمن استشهد من المؤمنين لا يمكن جزاؤه ، كما أن من هلك من الكافرين لا

٤٨١

يمكن جزاؤه ، وكما إذا أسس سنّة حسنة أو سنّة سيئة ، فعمله بعد الموت يدوم بدوام ما أسسه مع عدم إمكان جزاء العامل ، فطبع الدنيا لا يليق بكونها جزاء كاملا للعاملين (١).

هذا مضافا إلى احتفاف الدنيا بأنواع المصائب والآلام التي لا تكون معها لائقة لجزاء الأولياء والأنبياء والصالحين بل المناسب لهم هو جزاؤهم بما لا يحتفّ بهذه المكاره والمصائب وهو لا يكون إلّا في الآخرة.

دليل العدل : بتقرير آخر :

مما لا ريب فيه أنّ العباد صنفان :

 ـ صنف قد بذلوا المشاق في سلوك طريق امتثال أوامر الله تعالى ونواهيه ، والتقيّد بما أودعه تعالى في عقول الناس من معرفة طرق الخير والشر.

 ـ وصنف آخر تهاونوا في المعاصي والموبقات ، فسلكوا طرق الفساد ، ومخالفة أوامر السماء وإرشادات الفطرة السليمة.

وهنا لا يخلو الأمر من أحد وجوه :

الأول : أن يهملهم المولى سبحانه من حيث الثواب والعقاب.

الثاني : أن يسوّي بينهم بأن يثيب الجميع أو يعاقب الجميع.

الثالث : أن يفرّق بينهم بأن يثيب العاصي ويعاقب المطيع.

الرابع : أن يفرّق بينهم بأن يثيب المطيع ويعاقب العاصي.

والأول عبث لأنه خلاف الحكمة.

والثاني والثالث خلاف العدل.

فيتعين الرابع وهو مقتضى العدل الإلهي.

وحيث إنّ هذا التفريق العادل غير محقق في هذه النشأة الدنيويّة ، فلا بدّ أن تكون ثمّة نشأة أخرى فيها عدله سبحانه يثيب فيها المطيعين ويعاقب العاصين.

وإلى هذا يشير قوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص / ٢٩).

__________________

(١) بداية المعارف : ج ٢ ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦ بتصرّف ببعض ألفاظه.

٤٨٢

وقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(٥) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٦)) (سبأ / ٥ ـ ٦).

فالآية الأولى واضحة الدلالة على أن مقتضى عدله سبحانه التفريق بين العباد بالثواب والعقاب ، بإثابة المطيعين وعقاب العاصين ، وأنه يستحيل عليه تعالى أن يعامل الجميع بالسوية.

والآية الثانية تشير إلى أنّ مسألتي الإثابة والمعاقبة لا تكونان في دار الدنيا وإنما في دار أخرى غيرها.

الدليل الرابع : الوفاء بالوعد والوعيد :

مفاده : أنه سبحانه وعد بالثواب وتوعّد بالعقاب وهو تعالى لا يخلف الوعد ، لأنّ الخلف ناشئ عن النقص وهو سبحانه لا نقص فيه ، أو ناشئ عن الاضطرار والضرورة وهو أيضا لا مورد له في حقه ، لأنه عزوجل لا يضطره ضرورة ؛ لذا قال العلامة الطباطبائي (قدس‌سره) :

(وخلف الوعد وإن لم يكن قبيحا بالذات لأنه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه لا يضطره ضرورة ، فلا يحسن منه خلف الوعد في حال) (١) ، وقد أرشد إليه تعالى بقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (الحج / ٤٨).

وعليه فإنّ الله تعالى وعد بالثواب والعقاب الأخرويين ، وبالجنة والنار ، وكل ما وعده الله آت ولا يخلفه تعالى ، فالجنة والنار والثواب والعقاب الأخرويان حتميّان ولا خلف فيهما.

وقال المحقق اللاهيجي (قدس‌سره) :

(وليعلم أن إيصال الثواب والعقاب الجسمانيين يتوقف لا محالة على إعادة البدن ، حيث لا يمكن تحقق اللذة والألم الجسمانيين من دون وجود البدن ، ثم لا ينافي ثبوت اللذة والألم الجسمانيين مع ثبوت اللّذة والألم الروحانيين ، كما هو مذهب المحققين ، الذين قالوا بتجرّد النفس الناطقة فالحق هو ثبوت الثواب

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٦ ص ١٦٣.

٤٨٣

والعقاب الروحانيين والجسمانيين ؛ أما الروحاني فهو بناء على تجرّد النفس الناطقة وبقائها بعد مفارقتها عن البدن ، والتذاذها بالكمالات الحاصلة له من ناحية العلم والعمل وتألمه عن ضد الكمالات المذكورة ، وأما الجسماني فهو بناء على وجوب الإيفاء بالوعد والوعيد الموجبين لإيصال الثواب والعقاب الجسمانيين) (١).

وأمّا الأدلة النقلية :

لا ريب في حتمية المعاد ، لعدم استحالته عقلا لأنه ممكن وقوعا لأن المقتضي لوجوده موجود ، ولا مانع منه ، أما المقتضي فهو لتمامية شرط الفاعلية بسبب كونه موافقا للحكمة والعدالة ، وأما عدم المانع فلعدم وجود ما يمنع من تحققه ، بل أدل شيء على وقوعه هو وقوع مثل المعاد وهو الرجعة في الدنيا وقد أخبر القرآن الكريم عن كلا الرجعتين إلّا أن الفارق بينهما ، أن الرجعة هي عود الأرواح إلى أبدانها لفترة زمنية معينة مخصوصة ببعض الأفراد ، أما المعاد فهو مثلها لكنه شامل لكل الأفراد.

وقد ذكر القرآن ما يقارب الألف وأربعمائة آية عن المعاد ، وأغلب الآيات الدالّة على الاعتقاد بيوم الجزاء قرنت بالاعتقاد بالله تعالى ، وهذه الآيات تعرّضت لخصوصيات المعاد وتفصيلاته مع تأكيد الأخبار على ذلك ، وإليك بعض الآيات : منها : قوله تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (الحج / ٨).

هنا أخبر سبحانه عن وقوع القيامة والمعاد الجسماني بالجزم والقطع.

ومنها : قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٩) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٨٠) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨١) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨٢)) (يس / ٧٩ ـ ٨٢).

فالآية المباركة ترفع استبعاد المشركين وقوع المعاد الجسماني حيث قالوا : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) (السجدة / ١١)

__________________

(١) بداية المعارف : ج ٢ ص ٢٨٢ نقلا عن سرمايه ايمان : ص ١٦٠. بتصرّف ببعض الألفاظ.

٤٨٤

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) (الصافات / ٥٤) وقوله تعالى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (الصافات / ١٧) فأبطل سبحانه استبعادهم بقوله: (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي نسي أنّا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء ، ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصور والقوام وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذان بهما استحقوا الإكرام ؛ فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلّا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محل الحياة أصلا ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه ثم إن استبعادهم كان من جهة ما في المعاد من التفتت والتفرّق حيث قالوا : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) اختاروا العظم للذكر لأنه بعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت والله دفع استبعادهم من جهة ما في المعيد من القدرة والعلم.

ومنها : قوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (التغابن / ٨).

إلى غير ذلك من الآيات المتعلّقة بيوم النشور والحساب والجزاء.

فالاعتقاد بيوم الجزاء من أهم العوامل التي تجبر الإنسان على أن ينتهج الورع والتقوى ، وأن يتجنّب الأخلاق الرذيلة ، كما أن نسيانه أو عدم الاعتقاد به سوف يكون أساسا وأصلا لكل معصية أو ذنب ، يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (ص / ٢٧).

النقطة الثالثة : مذاهب الفلاسفة في المعاد :

انقسم الفلاسفة إلى مذاهب بشأن المعاد ، فهل يعاد بروحه وجسده؟ أو بروحه وحسب؟

ففي المسألة ثلاثة آراء :

١ ـ أن تعاد الروح وحدها وهو مذهب جمهور الفلاسفة (١).

٢ ـ أن يعاد الجسد وحده وهو مذهب شذاذ من المسلمين (٢).

__________________

(١) الأسفار لصدر المتألهين : ج ٩ ص ١٦٥ م ٥.

(٢) نفس المصدر.

٤٨٥

٣ ـ أن يعاد الروح إلى الجسد الأصلي وهو مذهب المليين من المسلمين والنصارى واليهود.

قال صدر المتألهين (قدس‌سره) :

اتفق المحققون من الفلاسفة والمليين على أحقية المعاد ، وثبوت النشأة الباقية ، لكنهم اختلفوا في كيفيّته ، فذهب جمهور الإسلاميين وعامّة الفقهاء وأصحاب الحديث إلى أنه جسماني فقط ، بناء على أنّ الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم ، والماء في الورد والزيت في الزيتونة ، وذهب جمهور الفلاسفة وأتباع المشائين إلى أنّه روحاني أي عقليّ فقط لأنّ البدن ينعدم بصوره وأعراضه لقطع تعلّق النفس بها ، فلا يعاد بشخصه تارة أخرى ، إذ المعدوم لا يعاد والنفس جوهر باق لا سبيل للفناء إليه ، فتعود إلى عالم المفارقات لقطع التعلقات بالموت الطبيعي.

وذهب كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلمين كالغزالي والكعبي والحليمي والراغب الأصفهاني وكثير من أصحابنا الإمامية كالشيخ المفيد وأبي جعفر الطوسي والمرتضى والمحقق الطوسي والحلّي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين إلى القول بالمعادين ذهابا إلى أنّ النفس مجرّدة تعود إلى البدن (١).

والقول الأول واضح البطلان إذ لا دليل على ما ادّعوه ، كما سوف يأتي في النقطة الرابعة مضافا إلى مخالفته لنصوص القرآن والأحاديث المتواترة الدالّة على رجعة الأرواح إلى الأجساد.

وأما القول الثاني فمثل الأول بل أسخف منه لأنّ الروح عند هؤلاء هي جسم سار في البدن سريان النار في الفحم والماء في الورد والزيت في الزيتونة ، فإذا مات الجسد ماتت الروح ، فالإعادة تكون للجسد ، وكأنّ الأصالة ـ عندهم ـ للمادة لا للروح.

فالأصح القول الثالث وهو صحة المعادين جميعا الروح والبدن ، وعليه اتفاق جميع الملل والأديان إلّا من شذّ منهم.

__________________

(١) الأسفار : ج ٩ ص ١٦٥ م ٥.

٤٨٦

وقد اختلفت كلمات الفلاسفة في كيفية الجسد المعاد هل أنّ المعاد من جانب البدن هو هذا البدن بعينه أو مثله ، وكل من العينية أو المثلية أيكون باعتبار كل واحد من الأعضاء والأشكال والتخاطيط أم لا؟

والظاهر أنّ هذا الأخير لم يوجبه أحد ، بل كثير من الإسلاميين مالوا إلى الاعتقاد بأنّ البدن المعاد غير البدن الأول بحسب الخلقة والشكل ، وربّما يستدلّ عليه ببعض الأخبار المذكورة فيها صفات أهل الجنة والنار ككون أهل الجنّة جردا مردا ، وكون ضرس الكافر مثل جبل أحد ، وبقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) وبقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (١).

إذن القرآن الكريم والسّنة المباركة يدلّان على أن المعاد يوم الفصل هو الإنسان بروحه وبدنه ، ومنكر ذلك خارج عن عداد المسلمين ، ويمكن تصنيف الآيات الواردة حول المعاد ليظهر بوضوح فكرة عود الأرواح إلى أبدانها :

أهمها :

الصنف الأول :

ما دلّ على أنّ الحشر عبارة عن الخروج من الأجداث والقبور كقوله تعالى :

١ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (يس / ٥٢).

٢ ـ (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (القمر / ٨).

ومن الواضح أنّ التشبيه بالجراد المنتشر إنما يكون على الأرواح المتلبسة بالأبدان.

٣ ـ (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (الحج / ٨).

٤ ـ (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (الانفطار / ٥).

الصنف الثاني :

ما دلّ على أنّ الإنسان خلق من الأرض وإليها يعود ومنها يخرج بجميع أجزاء بدنه.

__________________

(١) الأسفار : ج ٩ ص ١٦٦.

٤٨٧

منها : قوله تعالى :

١ ـ (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٩) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٨٠)) (يس / ٧٩ / ٨٠).

فهي تدلّ على إعادة الحياة إلى رفات الموتى ، ومن الواضح أن عودة الجسد يرافقه عودة الروح.

٢ ـ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٨) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) (نوح / ١٨ ـ ١٩).

٣ ـ (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (الروم / ٢٦).

الصنف الثالث :

ما دلّ على شهادة الأعضاء على أصحابها يوم الفصل كقوله تعالى :

١ ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (النور / ٢٥).

٢ ـ (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) (فصلت / ٢١).

٣ ـ (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (يس / ٦٦).

الصنف الرابع :

ما دلّ على تبديل الجلود بعد نضجها وتقطيع الأمعاء كقوله تعالى :

١ ـ (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (النساء / ٥٧).

فنضج الجلود إشارة إلى العذاب الجسدي ، وذوق العذاب إشارة إلى العذاب الروحي.

٢ ـ (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (محمد / ١٦).

وقد أشكل بعضهم على الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : ما تقول في قوله تعالى : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) هب أنّ هذه الجلود عصت فعذّبت فما ذنب الغير؟

قال عليه‌السلام : ويحك هي هي وهي غيرها ، قال : اعقلني هذا القول!

٤٨٨

قال عليه‌السلام : أرأيت لو أن رجلا عمد إلى لبنة (١) فكسرها ثم صبّ عليها الماء وجبلها ثم ردّها إلى هيئتها الأولى ألم تكن هي هي ، وهي غيرها؟

قال : بلى ، أمتع الله بك (٢).

الصنف الخامس :

ما دلّ على اللذات والآلام الروحيّة في اللّذات والآلام الجسدية كما يصوّرها القرآن الكريم منها قوله تعالى :

١ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة / ٧٣).

فقوله تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً ...) إشارة إلى الذات الجسدية ، وقوله : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) إشارة إلى اللّذات الروحية ، ويصف الثانية بأنها أكبر من الأولى وأن الفوز بها هو الفوز العظيم.

وقد أشار مولانا علي بن الحسين عليه‌السلام إلى هذا المعنى فقال : إذا صار أهل الجنة في الجنة ودخل وليّ الله إلى جنانه ومساكنه واتكأ كلّ مؤمن منهم على أريكته حفّته خدّامه ، وتهدّلت عليه الثمار (٣) ، وتفجّرت حوله العيون وجرت من تحته الأنهار وبسطت له الرزابي وصففت له النمارق وأتته الخدّام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك ؛ قال : ويخرج عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله.

ثمّ إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم : أوليائي وأهل طاعتي وسكّان جنّتي في جواري ألا هل أنبئكم بخير ممّا أنتم فيه؟ فيقولون : ربّنا وأيّ شيء خير ممّا نحن فيه؟ نحن فيما اشتهت أنفسنا ، ولذّت أعيننا من النعم في جوار الكريم ؛ قال : فيعود عليهم بالقول ، فيقولون : ربّنا نعم ، فأتنا بخير ممّا نحن فيه ، فيقول لهم تبارك وتعالى : رضاي عنكم ومحبّتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه ، قال : فيقولون : نعم ، يا ربّنا رضاك عنّا ومحبتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا.

__________________

(١) وهي ما يبنى بها من الطين.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٣٩.

(٣) أيّ استرخت.

٤٨٩

ثمّ قرأ الإمام عليّ بن الحسين عليه‌السلام هذه الآية : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة / ٧٣) (١).

وفي مقابل هذه اللذّات الجسدية والروحية هناك آلام جسدية وروحية معا كما في قوله تعالى :

١ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (التوبة / ٦٩).

فقوله : (خالِدِينَ فِيها) إشارة إلى العذاب الجسدي.

وقوله : (وَلَعَنَهُمُ) إشارة إلى العذاب الروحي ، وألم البعد لأنّ اللعن هو الطرد من الرحمة الإلهية.

٢ ـ ومنها قوله تعالى : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) إشارة إلى العذاب الجسدي. (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (الأحزاب / ٦٧).

وهذا إشارة إلى العذاب الروحي لأنهم يتحسرون على ترك الإطاعة ، والتحسّر ألم روحي لا جسدي.

هذا بعض الآيات الدالّة على رجوع الروح إلى البدن.

وأما الأخبار فكثيرة منها :

١ ـ ما ورد عن عمّار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الميّت يبلى جسده؟

قال : نعم ، حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلّا طينته التي خلق منها ، فإنّها لا تبلى ، تبقى في القبر مستديرة حتى يخلق منها كما خلق أول مرة (٢).

٢ ـ وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨ ص ١٤٠ ح ٥٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٢٣ ح ٢١. ومعنى قوله : «مستديرة» اما أنها مدوّرة وإما متغيرة في أحوال مختلفة ككونها رميما وترابا وغير ذلك فهي محفوظة في كل الأحوال وهذا ما يؤيد ما ذكره المتكلمون من أن تشخص الإنسان إنما هو بالأجزاء الأصلية ولا مدخل لسائر الأجزاء والعوارض فيه.

٤٩٠

تنوّقوا في الأكفان فإنكم تبعثون بها (١).

٣ ـ ما عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء أبي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففتّه ثم قال : يا محمد إذا كنّا عظاما ورفاتا أإنّا لمبعوثون؟ فأنزل الله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٩) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢) (يس / ٧٩ ـ ٨٠).

وهناك أخبار كثيرة يلاحظها من أرادها فلتطلب من مظانها.

هذا مضافا إلى بعض المؤيدات العقلية أهمها :

أولا : إنّ إعادة الجسد الذي تفتت ممكن في قدرة الله تعالى فيجب المصير إليه ، لأن المراد من الإعادة هو جمع الأجزاء المتفرقة وذلك جائز في قدرته تعالى.

ثانيا : إنّ عدم عود البدن الدنيوي لا يخلو من أمور إمّا عجز الفاعل وإما جهله ، وإما عدم قابلية القابل :

فأما الأول : فمنتف لأنه من المعلوم أنّ الموجد عزّ شأنه ليس بعاجز على إعادة الأجزاء المتفرقة.

وأما الثاني : فهو منتف أيضا لأنه كما هو معلوم أنه تعالى عليم بكل شيء ، وقد تقدم في باب معرفة الله أن الجهل من الصفات السلبية وهو عزوجل منزّه عنه.

وأما الثالث : أيضا هو منتف لأنه كما كان في ابتداء الأمر قابلا للإيجاد مع عدم كونه شيئا أصلا ، فقابليته للعود ثانيا بطريق أولى لأنه شيء مادي.

النقطة الرابعة : أدلة منكري المعاد الجسماني :

أورد منكرو المعاد الجسماني إيرادات عدة عليه فهي :

الإيراد الأول :

إنّ حصول الجنة فوق الأفلاك من أرض وقمر وشمس .. الخ يقتضي عدم كروية الأرض ـ هذا الإشكال مبني على كون المعاد سيحصل على الكرة الأرضية

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٤٣ ح ٢٠ نقلا عن الكافي.

(٢) نفس المصدر السابق.

٤٩١

 ـ بمعنى أن المعاد الجسماني يحتاج إلى مكان واسع ، وكروية الأرض لا تسع كل تلك الحشود من الأبدان التي سترجع ، فعلى هذا الأساس أين تكون الجنة ، فلو كانت في الدنيا فهذا غير صحيح لانتفائها فيها ، وإن كانت فوق الدنيا فلا يستقرّ شيء في الفضاء.

والجواب :

لنفرض أنّ المعاد سيكون على الأرض ، ولكن من الممكن أن تستقرّ عليها كل المخلوقات ، هذا على فرض كون الثواب والعقاب على الأرض ، وأما بناء على كونهما في عالم الآخرة فهو سبحانه قادر على خلق ذلك المكان بعد أن يفني الأفلاك كلّها.

الإيراد الثاني :

إنّ دوام احتراق أهل النار مع بقاء الحياة محال ، بمعنى أن بدن المعذّب في النار يتحوّل إلى رماد ، وبذلك تنعدم الحياة فيه ، وعليه لا بدّ من المعاد الروحاني دون الجسدي.

والجواب :

إنّ دوام احتراق الجسم مع بقاء الجسم ممكن لأنه تعالى قادر على كل مقدور ، فيمكن استحالته إلى أجزاء نارية ثم يعيدها سبحانه هكذا دائما كما أشار إلى هذا قوله تعالى: (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها ...).

الإيراد الثالث :

إنّ تولّد الأشخاص وقت الإعادة من غير توالد من الأبوين باطل.

والجواب :

فكما أنّ آدم عليه‌السلام ولد من دون أب وأم كذا الناس يولدون للحساب من جديد من دون توالد.

وهناك شبهتان أثارهما المنكرون للمعاد الجسماني :

الشبهة الأولى :

شبهة الآكل والمأكول ، تقريرها :

إنّ من تفرّقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع

٤٩٢

وبعضه في أبدان الرّباع (١) كيف يجمع؟

وأبعد من هذا هو أن إنسانا إذا أكل إنسانا وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل ، فإن أعيد ، فأجزاء المأكول إما أن تعاد إلى بدن الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تخلق منها أعضاؤه ، وإما أن تعاد إلى بدن المأكول منه فلا يبقى للآكل أجزاء.

والجواب :

إنّ في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية ، وفي المأكول كذلك ، فإذا أكل إنسان إنسانا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل ، والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل ، والله يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل وينفخ فيها من روحه ، ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيها روحه ، وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع المبددة في الأصقاع بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة (٢).

وبعبارة مختصرة أفضل :

إنّ للإنسان أجزاء أصلية وأخرى عرضية ؛ والتي تستحيل إلى بدن آخر هي الأجزاء العرضية ، وأما الأصلية فلا تصير جزءا من غيرها ، بل تبقى على حقيقتها من أول العمر إلى يوم النشور.

الشبهة الثانية :

إنّ انتقال النفس بعد الموت إلى بدن آخر مثالي في عالم البرزخ ، يعدّ نوعا من التناسخ (٣) الذي ثبت بطلانه بالأدلة ، فيثبت بطريق أولى بطلان المعاد الجسماني.

والجواب :

إن بطلان التناسخ وإن كان ثابتا بحكم الأدلة القطعية ، لكنّ هذا الانتقال لا

__________________

(١) الرّباع : جمع ربع وهو ما ولد من الإبل في الربيع.

(٢) تفسير الرازي : ج ٢٦ ص ١٠٩.

(٣) لا يخفى أن التناسخ عبارة عن خروج الروح من جسد وانتقالها إلى جسد آخر ـ كما يزعمون ـ.

٤٩٣

يدلّ على وجود تناسخ ، ضرورة أن الاختلاف (لو فرض فإنما هو في الهيئة وتلطيف البدن العنصري الدنيوي في عالم الآخرة) لازم لحصول السنخية والجنسية كي يشابه الجنة والحور والغلمان ، فلا مانع من أن يكون الالتذاذ والتألم بهذا الجسد الدنيوي في عالم الآخرة بوجه ألطف ، وما ورد في بعض النصوص من حشر بعض الناس يوم القيامة على صور البهائم فلا يعدّ من التناسخ ـ كما توهّم التناسخيون ـ وإنما هو عبارة عن حشر بصورة حيوان ، وهذا من قبيل دخول الإنسان في جلد الأسد مثلا ويظنّ أنه أسد ، وبعد خروجه من جلد الأسد انكشف أنه إنسان ، فبعض الناس من هذا القبيل ، حيث يكون باطنهم حيوان حقيقة لكنها كانت مختفية في الدنيا وتظهر يوم تبلى السرائر.

وبعبارة موجزة : إنّ التناسخ شيء وحشر البشر بصورة حيوان يوم القيامة شيء آخر. ولتوضيح حقيقة التناسخ التي اقحمها أصحابها بمسألة المعاد ، لكن في الدنيا لا في الآخرة ، أحببت التحدث مجملا عنها ليكون الطالب على بصيرة منها ، وأما التفاصيل فتركتها للبحوث الخاصة بها.

أقول :

إن نظرية التناسخ أو التقمص من البحوث التي دار الجدل فيها قديما وحديثا ، لكنّها اليوم أخذت حيّزا لا بأس به في أوساطها ، واتخذت لنفسها منحى آخر في عالم الروح بين الأوروبيين عموما ، وفي مناطق محدودة في العالم العربي خصوصا ، لا سيما لبنان وسوريا حيث فيهما من يعتقد بالتقمص أو التناسخ ، وأخص بالذكر «الدروز».

والمهم أن هذه النظرية أخذت حيّزا هاما في المجتمع الغربي ، حيث يغدق عليها الأموال الطائلة ، وبالأخص الأعلام الأميريكي حيث تقام لأجلها الأفلام بين الحين والآخر ، ولعلّ المبرّر لذلك يرجع إلى الإفلاس الروحي الّذي تعاني منه المجتمعات الأوروبية والأميركية ، فألجأتهم الضرورة إلى تبنّي مذهب التناسخ الذي ترجع جذوره إلى زمن بعيد.

فالمجتمع الأوروبي من خلال تبنّيه لمذهب التناسخ رأى فيه علاجه الوحيد لمجتمعه الموبوء بتفسخ الأخلاق والإباحية الجنسية ، ولما في هذا المذهب من أفكار سخيفة واهية تتنكر للدين ولرسالات السماء ، وهذا مما يناسب الفكر المادي الذي تسير من خلاله الحضارة المادية بشقيها «الأوروبي والأميركي» لذا

٤٩٤

فإنّ هذه المزعومة الجديدة لا أساس علمي لها وإنما مجرد تخرصات لا تصمد أمام النقد العلمي.

وهنا نستجلي ماهية التقمص ضمن نقاط :

الأولى : تعريف التناسخ «التقمص» ومبدأ نشوئه.

الثانية : أقسام التناسخ.

الثالثة : أدلة التناسخيين والرد عليها.

النقطة الأولى :

التناسخ من «النسخ» بمعنى الإزالة والنقل ؛ قال الراغب الأصفهاني :

«النسخ إزالة شيء بشيء يتعقبه كنسخ الشمس الظلّ ، والظلّ الشمس ، والشيب الشباب ، فتارة يفهم منه الإزالة ، وتارة يفهم منه الإثبات ، وتارة يفهم منه الأمران ، ونسخ الكتاب إزالة الحكم بحكم يتعقبه ، والقائلون بالتناسخ قوم ينكرون البعث على ما أثبتته الشريعة ، ويزعمون أن الأرواح تنتقل إلى الأجسام على التأبيد» (١)

ويظهر أن أصل التناسخ هم الحرنانيون «وهؤلاء طائفة من الصابئة» قالوا (إنّ التناسخ هو أن تتكرر الأكوار والأدوار إلى ما لا نهاية له ، ويحدث في كلّ دور مثل ما حدث في الأول ، والثواب والعقاب في هذه الدار لا في دار أخرى لا عمل فيها ، والأعمال التي نحن فيها إنما هي أجزية على أعمال سلفت منّا في الأدوار الماضية ... والصابئون كلّهم يصلّون ثلاث صلوات ويغتسلون من الجنابة ومن مسّ الميت وحرّموا أكل الجزور والخنزير والكلب ومن الطير كلّ ذي مخلب والحمام ، ونهوا عن السكر في الشراب وعن الاختتان وأمروا بالتزويج بوليّ وشهود ولا يجوّزون الطلاق إلا بحكم الحاكم) (٢).

والمعروف أن الدروز على حدّ تعبير الذّبياني (٣) ـ وهو درزيّ ـ أنّ الدروز يتمذهبون بناسخ الأرواح.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ط قم ص ٤٩٠.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ج ٢ ص ٥٥ ـ ٥٧.

(٣) صاحب كتاب التقمّص ص ١٣٤.

٤٩٥

وممّا يؤكّد ذلك ما ورد في كتاب (رسائل الحكمة) (١) لحمزة بن علي بن أحمد إسماعيل بن محمد التميمي السّموقي حيث صرّح بأهمية التجسّد الإلهي عبر الأدوار ، وعلى ضرورة التقمّص وانتقال الأرواح من جسد إلى جسد ، فقال : «والنفوس النفيسة للطافتها تتعالى عن الرذائل بمعالم الحكمة والارتياض وتترقّى إلى أعلى المنازل أنفة من الانسفال والانخفاض ، كلفة بالأمور الدينية منزّهة عن اللدد والاعتراض ، والنفوس الكدرة العاصية لعلقها بالأبالسة المدّعين معكوسة في الحلول والانتقال مائلة إلى الطّرفين المذمومين بعيدة عن التوسّط والاعتدال ...» (٢).

النقطة الثانية :

للتناسخ حالات وانتقالات عدة كل حالة يصطلح عليها باسم خاص عندهم ، هي كما يلي :

١ ـ النسخ : هو انتقال النفس بالموت من البدن الأول المادي إلى بدن آخر مادي في هذه النشأة.

٢ ـ المسخ : هو الرجوع إلى بدن حيواني ، فإن كان محسنا فإلى حيوان سعيد ، وإن كان مسيئا فإلى حيوان شقي.

٣ ـ الفسخ : هو الانتقال إلى شجر ونبات.

٤ ـ الرسخ : هو الانتقال إلى حجر وجماد.

تلك أقسام التناسخ في مدارج النزول ، وهناك أقسام أخرى في مدارج الصعود ، مفادها :

أن النفس في بدء وجودها إنما توجد في صورة أحسن النباتات ثم تتدرج بالصعود إلى أرقى الدرجات لتصل إلى درجة الحيوان الذي هو أشرف من النبات ، ثم تتدرج لتصل إلى النوع الإنساني وبعده تتصل بأجرام فلكية ، غاية استكمالها النهائي ، فتصبح في عالم المجردات متحدة مع العقول ، هذا في

__________________

(١) هذا الكتاب من الكتب التشريعية عند الدروز.

(٢) لاحظ الجزء الثاني من الرسائل ص ٤٨٧.

٤٩٦

السعداء ، وأما الأشقياء فتنتكس نفوسهم في مظاهر الظلمانيات لتخلد إلى الأرض مع الأبد(١).

فالنسخ يصطلح عليه بالتناسخ المطلق ، والمسخ والفسخ بالتناسخ المحدود ، والرسخ بالتناسخ الصعودي وهو ما يحصل فيه انتقال النفس في جهة الصعود من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان.

فيتلخص من هذا أن النفس لا تزال تنتقل ضمن أجسادها هابطة أو صاعدة.

وبالجملة : يترتب على القول بالتناسخ محذوران :

الأول : الاستخفاف بقدرة الله سبحانه حيث إن الاعتقاد بانتقال الروح من بدن إلى بدن آخر دليل عجز الإله ـ بحسب نظرية التناسخ ـ على أن يخلق لكل بدن روحا خاصة به.

الثاني : إنكار المعاد الجسماني وهو عودة الأرواح إلى أجسادها الأصلية يوم القيامة. هذا مع أن المسلمين مجمعون على صحة المعاد الجسماني لصريح الآيات والأخبار بذلك ، واطباقهم قولا واحدا على أن الأرواح حادثة وليست بقديمة كما يعتقد التناسخيون ؛ وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية المنكر للمعاد الجسماني كافرا لاستصغاره قدرة الله تعالى على الإيجاد والإعادة.

قال شارح المقاصد :

(القول بالتناسخ في الجملة محكي عن كثير من الفلاسفة إلا أنه حكاية لا تعضدها شبهة فضلا عن حجة ، ومع ذلك فالنصوص القاطعة من الكتاب والسنة ناطقة بخلافها ، وذلك أنهم ينكرون المعاد الجسماني ، أعني حشر الأجساد وكون الجنة والنار داري ثواب وعقاب ، ولذّات وآلام حسيّة ، ويجعلون المعاد عبارة عن مفارقة النفوس الأبدان ، والجنة عن ابتهاجها بكمالاتها والنار عن تعلّقها بأبدان حيوانات أخر يناسبها فيما اكتسبت من الأخلاق وتمكنت فيها من الهيئات ، معذّبة بما يلقى فيها من الذل والهوان ، مثلا تتعلق نفس الحريص بالخنزير ، والسارق بالفأر والمعجب بالطاووس ، والشرير بالكلب ، ويكون لها تدريج في ذلك بحسب الأنواع والأشخاص ، أي ينزل من بدن إلى بدن هو أدنى في تلك الهيئة المناسبة ،

__________________

(١) الأسفار الأربعة ج ٩ / ٤ م ٥ ط إحياء التراث العربي. والبحار ج ٥٨ / ١١٧ ط مؤسسة الوفاء.

٤٩٧

مثلا يبتدئ نفس الحريص من التعلق ببدن الخنزير ثم إلى ما دونه في ذلك ، حتى ينتهي إلى النمل ثم يتصل بعالم العقول عند زوال تلك الهيئة بالكلية ... ثم إن من المنتمين من التناسخية إلى دين الإسلام يروّجون هذا الرأي بالعبارات المهذّبة ، والاستعارات المستعذبة ، ويصرفون به إليه بعض الآيات الواردة في أصحاب العقوبات اجتراء على الله وافتراء على ما هو دأب الملاحدة والزنادقة ...) (١).

وقال العلّامة النوبختي :

(إن أهل التناسخ قالوا بالدور في هذه الدار ، وإبطال القيامة والبعث والحساب ، وزعموا أن لا دار إلا الدنيا ، وأن القيامة إنما هي خروج الروح من البدن ودخوله في بدن آخر غيره ، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا ، وأنهم مسرورون في هذه الأبدان أو معذّبون فيها ، والأبدان هي الجنات وهي النار وأنهم منقولون في الأجسام الحسنة الإنسية المنعّمة في حياتهم ، ومعذّبون في الأجسام الردية المشوّهة من كلاب وقردة وخنازير وحيّات وعقارب وخنافس وجعلان محوّلون من بدن إلى بدن ، معذّبون فيها هكذا أبد الأبد فهي جنتهم ونارهم لا قيامة ولا بعث ولا جنة ولا نار غير هذا على قدر أعمالهم وذنوبهم وإنكارهم لأئمتهم ومعصيتهم لهم فإنما تسقط الأبدان وتخريب إذ هي مساكنهم فتتلاشى الأبدان وتفنى وترجع الروح في قالب آخر منعّم أو معذّب ، وهذا معنى الرجعة عندهم ، وإنما الأبدان قوالب ومساكن بمنزلة الثياب التي يلبسها الناس فتبلى وتطرح وتلبس غيرها ... والعقاب على الأرواح دون الأجساد ، وتأولوا آيات عدة) (٢) والتناسخ بأقسامه المطلقة الثلاثة باطل جملة وتفصيلا كما سوف ترى ، لكن تبقى أمور حسبها التناسخيون أدلة قاطعة لمذهبهم ، لكنها جميعا بمعزل عن مذهب التناسخ رأسا ، منها قياسهم المسخ (المصطلح عليه عند المسلمين) على التقمص أو التناسخ ، واستدلوا عليه بما ورد في القرآن الكريم أن الله سبحانه مسخ جماعة من البشر إلى قردة وخنازير (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (البقرة / ٦٦) ، (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٨ / ١١٦ نقلا عن شارح المقاصد.

(٢) فرق الشيعة ط النجف ص ٣٦. والنوبختي (قدّس سره) من أعلام القرن الثالث الهجري.

٤٩٨

وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (المائدة / ٦١). وكذلك ما أثر عن بعض الأولياء (١) ، حيث حوّلوا أناسا أشرارا إلى صور حيوانات خسيسة وقد اعترف بها المؤمنون ، فبذا يكون المسخ نوعا من التناسخ بحسب نظر التناسخيين.

والجواب :

أن ما ورد في القرآن الكريم وكذا ما ورد في الآثار ، لا يدخل تحت التناسخ المبحوث عنه ، لأن معنى التناسخ هو أن انتقال الروح من بدن إلى بدن غير الأبدان المثالية في عالم البرزخ ، أما المسخ فهو عبارة عن تغيير صورة البدن مع بقاء الروح فيه ومن دون أن تدخله روح أخرى.

وبعبارة : أن التناسخ هو خلع النفس جسدا عنصرا ثم تلبّسها جسدا آخر غير ما تركته سابقا ، وأما المسخ الوارد في الشريعة فهو تبدل صورة البدن من شكل إلى شكل ، والجسد هو الجسد ، وإنما المتغير هو شكله وهيكله ، فليس هناك انتقال بالنفس ولا تحول من جسد إلى جسد.

«فالخلع والتلبس في التناسخ يختلفان عمّا هو عليه في المسخ ، فإنهما في الأول انقطاع بالمرة ثم تعلق من جديد ، وأما الثاني فهو تبدل في أجزاء الجسم الحي بالاتلاف والتعويض المستمرين طيلة الحياة بما يؤدي إلى تجديد الجسم كليا في كل سبع سنين على رأي فلورنس ، وفي كل ثلاثين يوما على رأي موليشوت ، وليس هذا من التناسخ المبحوث عنه في شيء» (٢).

النقطة الثالثة :

أدلة التناسخيين.

وليس للتناسخية دليل يعتد به ، وغاية ما تمسكوا به في إثبات التناسخ على الإطلاق [أي انتقال النفس بعد المفارقة إلى جسم آخر إنساني أو غيره] وجوه :

__________________

(١) نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أن رجلا قال له وقد حكم عليه بحكم : والله ما حكمت بالحق! فقال له عليه‌السلام: إخسأ كلبا ، فتطايرت عنه أثوابه وصار كلبا يمصع ـ أي يحرك ـ بذنبه. لاحظ البحار ج ٥٨ / ١١١ ط. الوفاء.

(٢) تناسخ الأرواح ط قم ص ١١ محمد هادي معرفة. وللسيد المرتضى علم الهدى كلام لطيف فلاحظ البحار ج ٥٨ / ١١٢.

٤٩٩

الوجه الأول :

إن النفس لو لم تتعلق بجسد آخر بعد مفارقتها للأول لبقيت معطّلة بلا عمل ، لأن البدن بمنزلة الآلات والأدوات للنفس ، وبدونه لا نستطيع القيام بأي عمل. ولا تعطيل في الوجود.

والجواب :

أولا : إن لزوم التعطيل إنما يكون إذا كان العمل مطلقا متوقفا على التجسد العنصري ، ولكن هذا لم يثبت بدليل قطعي ، فالنفس تمر في مرحلة محدودة تكون بحاجة إلى البدن في مكاسب خاصة لا تحصل إلا بذلك ، أما بعدها فهي غنية بذاتها مستغنية في فعالياتها لا تزال تعمل في ترقيها وهي في عالم الأرواح.

ثانيا : على فرض أنه لا بدّ للنفس من تدبير عمل ، فليس من الضروري أن يكون عملها بعد مفارقة البدن تماما كعملها حين اتصالها به ، فربما كان عملها من نوع آخر كإشراق وابتهاج أو ما شابه ذلك مما لا يستدعي وجود البدن.

الوجه الثاني :

أنها مجبولة على الاستكمال ، ولا استكمال إلّا بالتعلق الجسماني ، ولذلك فإن تعلقات النفس الجسمانية تتكرر حتى تبلغ الكمال النهائي.

والجواب :

أولا : دعوى أن الروح تتوقف مكاسبها على التجسد العنصري بحاجة إلى دليل وهو مفقود في البين ، هذا مضافا إلى وجود التهافت الظاهر بين الدليلين في مثبتهما حيث الأول يفيد أبدية التعلقات الجسدية ، وأما الثاني فيوقفها عند حد الاستكمال.

ثانيا : إن استئناف التجسد لفرض الاستكمال يقتضي تذكرا لما سبق من نتائج التجسدات الماضية لتكون الحياة الجديدة امتدادا الحياة القديمة ، وما دام الإنسان لم يتذكر شيئا من تجسداته الماضية ، فما هي الفائدة من وراء هذا الاستئناف والتجسد المتكرر؟!

الوجه الثالث :

أنها قديمة ، فتكون متناهية العدد ، لامتناع وجود ما لا يتناهى بالفعل بخلاف ما لا يتناهى من الحوادث كالحركات والأوضاع وما يستند إليها ، فإنها إنما تكون

٥٠٠