الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

محقون الدم ، محرّم العرض ، لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه ، بل المسلم أخو المسلم عليه من حقوق الأخوة لأخيه ما يكشف عنه البحث الآتي : في عقيدتنا في حق المسلم على المسلم.

* * *

أقول :

ذكر المصنّف رحمه‌الله أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام كان يدعو لأهل الثغور وهو حقّ ولكن من هم أهل الثغور الذين كان يدعوا لهم الإمام زين العابدين عليه‌السلام؟ ... هل هم الذين اغتصبوا حقوقهم وقتلوا آباءه وسفكوا دماء شيعتهم أو أنّ أهل الثغور أناس يختلفون بالتوجهات والتطلّعات والإيمان عن الذين ظلموا باسم الدين والإسلام.

لا ريب أن دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام لأهل الثغور وتعليمه المسلمين ذلك ، لم يكن الهدف منه الدعاء لأولئك الظلمة والكفرة والمنافقين الذين كانوا ينضوون تحت لواء تلك الحكومات الظالمة والكافرة التي لم تراع القيم الإنسانية والمبادي الخلقية التي تسالم عليها العقلاء من كلّ دين وفي كلّ زمان ، فكيف يدعو الإمام عليه‌السلام للذين اغتصبوا الحق من مولى الثقلين واقتحموا داره ، وضربوا زوجه ، كاسرين ضلعها ، لاطمين خدّها ، مسقطين جنينها ، وهي التي يرضى الله لرضاها ويسخط لسخطها ، مع تغييرهم لأحكام الله وانتهاكهم للحرمات ، وهم الذين أسّسوا دولة بني أمية في بلاد الشام ، فنصّبوا معاوية عليها ، حيث قلب الموازين رأسا على عقب ، فلم يبق من الإسلام شيئا هو وابنه يزيد .. هل يعقل أن يدعو الإمام عليه‌السلام لهؤلاء وأمثالهم من بني العباس وهو يعلم أن بدعائه لهم ستقوى شوكتهم ويشتدّ أمرهم ويغرّر المكلّفين بحسن حالهم ، وتغرير المكلّفين والدعاء للظالمين قبيح لا يصدر من مؤمن عاقل يعرف الله ، فكيف بسيّد العقلاء والمؤمنين زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام ، بل يقصد عليه‌السلام بدعائه لأهل الثغور أولئك المخلصين بتوجّهاتهم واعتقاداتهم وأعمالهم ، وهم الأقلّون عددا في كل زمان ومكان ، ولكنهم يلعبون دورا في حفظ ثغور المسلمين العسكرية والعقائدية والسياسية والاجتماعية ، وهؤلاء كانوا متواجدين داخل وخارج الحكومات الجائرة.

إذن ، دعاؤه إنما هو للخلّص من عبيد الله لا للظلمة الفجرة الفسقة الذين

٤٦١

كثّروا السّواد على مولى الأحرار الحسين بن علي عليه‌السلام في صحراء كربلاء ، لأن الدعاء لهؤلاء نوع من الرضى عنهم وعن تصرّفاتهم ولو بحسب الظاهر بنظر المسلمين ، فيكون تغريرا بالقبيح وهو قبيح.

من هنا لم يتقدّم أمير المؤمنين عليه‌السلام خطوة واحدة نحو الفتوحات التي طالما تشدّق بها العامة وجعلوها من الأدلة على إمامة أبي بكر وعمر بن الخطاب ، مع أنها لم تجرّ إلى الإسلام سوى العار والشّنار!! والحكمة من عدم مشاركة أمير المؤمنين عليه‌السلام في الفتوحات في عهود المغتصبين الثلاثة يرجع إلى أمرين :

الأول : حرمة دعم هؤلاء لكونهم مالوا عن الحق واعتدوا على الحرمات ، لأن في دعمهم تضعيف عقائد المؤمنين وتوهين شريعة سيّد المرسلين ، والإغراء بالقبيح ، هذا مضافا إلى أنهم لم يطلبوا بهذه الفتوحات وجه الله والقرب منه بل كلّ همّهم الحصول على النفائس وصوافي الغنائم والاختصاص بالحسناوات من النساء بعنوان سبايا وجواري ... وعلى كلّ حال فإن الحرب من أجل بسط نفوذهم وتقوية أمرهم ، فصاروا يجمعون الأنصار بالمال وبالإغراء بالمناصب وبغير ذلك من سياسات ، ليس الترهيب والقمع في كثير من الأحيان إلّا واحدا منها ، فالحرب من أجل الغنائم والأموال كانت هي الصفة المميزة لأكثر تلك الفتوحات ، ويشهد لهذا ما فعلوه بأمير المؤمنين عليه‌السلام ورسول الله مسجّى على الفراش ، ثم انتهاكهم لحرمة ابنته الزهراء ومنعها من الخمس واغتصابهم لفدك وغير ذلك لأكبر شاهد على ما قلنا ، هذا مضافا إلى أن ظاهرة الطمع في الأموال والنفائس كانت سائدة بين بعض المسلمين على عهد رسول الله ممّا سبّب انكسار المسلمين في معركة أحد ، وبقيت هذه الظاهرة إلى ما بعد وفاة النبي ، بل لا نبالغ إذا ما قلنا أنها إزدادت عمّا كانت عليه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : إنّ ضعف الإيمان في نفوس المسلمين وعدم معرفتهم بأكثر أحكام دينهم استدعى عدم مشاركته عليه‌السلام في تلك الفتوحات ، هذا علاوة على أنّه لم يأمر أحدا من أصحابه بالمشاركة فيها ، لأنّ مهمته عليه‌السلام وأصحابه معه هي تثقيف الناس بعقائدهم وتثبيت الإيمان في نفوسهم ونشر فكر الإسلام الصحيح للأمّة ، وللمتصدّين لإدارة شئونها على حد سواء وقد نوّه بذلك عليه‌السلام في خطبة له فقال : «أيها الناس ، خذوها عن خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه يموت من مات منّا وليس بميّت ... ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر ، قد

٤٦٢

ركزت فيكم راية الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام وألبستكم العافية من عدلي ، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي ، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي ، فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا تتغلغل إليه الفكر ...» (١).

وبالجملة فإنّ أئمة الهدى عليهم‌السلام كانوا لا يرون في الاشتراك في هذه الفتوحات أو الحروب مصلحة ، بل لا يرون نفس تلك الحروب خيرا ، فقد روي عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال لعبد الملك بن عمرو : «يا عبد الملك ، ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟ قال : قلت : وأين؟ قال عليه‌السلام : جدّة وعبادان والمصيصة وقزوين ، فقلت : انتظارا لأمركم والاقتداء بكم ، فقال عليه‌السلام : أي والله لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، قال : قلت له : فإنّ الزيدية يقولون ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلّا أنه لا يرى الجهاد ، فقال عليه‌السلام : أنا لا أراه؟! بلى والله إني لأراه ولكنّني أكره أن أدع علمي إلى جهلهم» (٢).

وثمة روايات أخرى تدل على أنهم عليهم‌السلام كانوا لا يشجّعون شيعتهم بل ويمنعونهم من الاشتراك في تلك الحروب ، ولا يوافقون حتى على المرابطة في الثغور أيضا ، ولا يقبلون منهم حتى ببذل المال في هذا السبيل ولو كان نذرا ، ففي رواية علي بن مهزيار قال : كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام أني كتب نذرت نذرا منذ سنين أن أخرج إلى ساحل من سواحل البحر إلى ناحيتنا مما يرابط فيه المتطوّعة نحو مرابطتهم بجدة وغيرها من سواحل البحر ، افترى جعلت فداك أنه يلزمني الوفاء به أو لا يلزمني أو أفتدي الخروج إلى ذلك بشيء من أبواب البرّ لأصير إليه إن شاء الله؟ فكتب إليه بخطّه وقرأته : إن كان سمع منك نذرك أحد من المخالفين فالوفاء به إن كنت تخاف شنعته وإلا فاصرف ما نويت من ذلك في أبواب البرّ وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى» (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة ج ١ ص ١٥٣ الخطبة ٨٣ بشرح محمد عبده ، والخطبة ٨٧ بشرح صبحي الصالح.

(٢) وسائل الشيعة ج ١١ ص ٣٢ ح ٢ باب ١٢ (اشتراط وجوب الجهاد بأمر الإمام وإذنه).

(٣) نفس المصدر ج ١١ ص ٢١ ح ١ باب ٧ (حكم من نذر مالا للمرابطة).

٤٦٣

وشرّعوا لشيعتهم أنهم إذا دخلوا في الحكومات الجائرة اضطرارا لدفع هجوم العدوّ عليهم أن يدخلوا دفاعا عن بيضة الإسلام لا عن أولئك الحكّام ، ويشهد له ما روي عن محمد بن عيسى ، عن مولانا الإمام الرضا عليه‌السلام «إن يونس سأله وهو حاضر عن رجل من هؤلاء مات وأوصى أن يدفع من ماله فرس وألف درهم وسيف لمن يرابط عنه ويقاتل في بعض هذه الثغور ، فعمد الوصي فدفع ذلك كله إلى رجل من أصحابنا فأخذه منه وهو لا يعلم ، ثم علم أنه لم يأن لذلك وقت بعد ، فما تقول يحلّ له أن يرابط عن الرجل في بعض هذه الثغور أم لا؟ فقال عليه‌السلام : يردّ إلى الوصيّ ما أخذ منه ولا يرابط ، فإنه لم يأن لذلك وقت بعد ، فقال : يردّه عليه ، فقال يونس : فإنه لا يعرف الوصي ، قال عليه‌السلام : يسأل عنه ، فقال له يونس بن عبد الرحمن : فقد سأل عنه فلم يقع عليه كيف يصنع؟ فقالعليه‌السلام : إن كان هكذا فليرابط ولا يقاتل ، قال : فإنه مرابط فجاءه العدو حتى كاد أن يدخل عليه كيف يصنع ، يقاتل أم لا؟ فقال له الرضا عليه‌السلام : إذا كان ذلك كذلك فلا يقاتل عن هؤلاء ، ولكن يقاتل عن بيضة الإسلام فإنّ في ذهاب بيضة الإسلام دروس ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...» (١).

بل صريح بعض الروايات حرمة الجهاد مع غير الإمام العاقل ، فعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ في الفيء أمر الله عزوجل ، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقنا والإشاطة بدمائنا وميتته ميتة جاهلية» (٢).

فالأئمة عليهم‌السلام هم أحرص الناس على توسعة رقعة الإسلام ونشره ليشمل الدنيا بأسرها ، ولكن الطريقة والأسلوب الذي كان يتمّ ذلك بواسطته كان خطأ ومضرّا بنظرهم.

__________________

(١) نفس المصدر والباب ح ٢.

(٢) نفس المصدر ح ٨ باب ١٢ (تحريم الجهاد مع غير الإمام العادل).

٤٦٤

الباب الثّامن والثّلاثون

عقيدتنا في حق المسلم على المسلم

قال المصنّف قدّس الله سرّه :

إنّ من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدّين الإسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم. كما أنّ من أخسّ ما صنعه المسلمون اليوم وقبل اليوم هو تسامحهم بالأخذ بمقتضيات هذه الأخوّة الإسلامية.

لأنّ من أيسر مقتضياتها ـ كما سيجيء في كلمة الإمام الصادق عليه‌السلام ـ أن يحبّ لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه (١).

أنعم النظر وفكّر في هذه الخصلة اليسيرة في نظر آل البيت عليهم‌السلام ، فستجد أنها من أشقّ ما يفرض طلبه من المسلمين اليوم وهم على مثل هذه الأخلاق الموجودة عندهم ، البعيدة عن روحيّة الإسلام ، فكر في هذه الخصلة لو قدّر للمسلمين أن ينصفوا أنفسهم ويعرفوا دينهم حقّا ويأخذوا بها ، فقط أن يحبّ أحدهم لأخيه ما يحبّ لنفسه ـ لما شاهدت من أحد ظلما ولا اعتداء ، ولا سرقة ولا كذبا ، ولا غيبة ولا نميمة ، ولا تهمة بسوء ولا قدحا بباطل ، ولا إهانة ولا تجبّرا ـ.

بلى : إن المسلمين لو وفقوا لإدراك أيسر خصال الأخوّة فيما بينهم وعملوا بها لارتفع الظلم والعدوان من الأرض ، ولرأيت البشر إخوانا على

__________________

(١) البحار : ج ٧١ ص ٢٢٤ ح ١٢.

٤٦٥

سرر متقابلين قد كملت لهم أعلى درجات السعادة الاجتماعية ولتحقق حلم الفلاسفة الأقدمين في المدينة الفاضلة ، فما احتاجوا حينما يتبادلون الحبّ والمودّة إلى الحكومات والمحاكم ، ولا إلى الشرطة والسجون ، ولا إلى قانون للعقوبات وأحكام للحدود والقصاص ، ولما خضعوا لمستعمر ولا خنعوا لجبّار ولا استبدّ بهم الطغاة ، ولتبدّلت الأرض غير الأرض وأصبحت جنّة النعيم ودار السعادة.

أزيدك ، أن قانون المحبّة لو ساد بين البشر ، كما يريده الدين ، بتعاليم الأخوّة ـ لانمحت من قاموس لغاتنا كلمة (العدل) ـ بمعنى أنّا لم نعد نحتاج إلى العدل وقوانينه حتى نحتاج إلى استعمال كلمته بل كفانا قانون الحبّ لنشر الخير والسّلام ، والسعادة والهناء ، لأنّ الإنسان لا يحتاج إلى استعمال العدل ولا يطلبه القانون منه إلّا إذا فقد الحبّ فيمن يجب أن يعدل معه ، أما فيمن يبادله الحبّ كالولد والأخ إنما يحسن إليه ويتنازل له عن جملة من رغباته فبدافع من الحبّ والرغبة عن طيب خاطر ، لا بدافع العدل والمصلحة.

وسرّ ذلك أن الإنسان لا يحبّ إلّا نفسه وما يلائم نفسه ، ويستحيل أن يحبّ شيئا أو شخصا خارجا عن ذاته إلّا إذا ارتبط به ، وانطبعت في نفسه منه صورة ملائمة مرغوبة لديه. كما يستحيل أن يضحّي بمحض اختياره له ، في رغباته ومحبوباته لأجل شخص آخر لا يحبّه ولا يرغب فيه ، إلّا إذا تكونت عنده عقيدة أقوى من رغباته مثل عقيدة حسن العدل والإحسان. وحينئذ إذ يضحّي بإحدى رغباته إنما يضحّي لأجل رغبة أخرى أقوى كعقيدته بالعدل إذا حصلت التي تكون جزءا من رغباته ، لا بل جزءا من نفسه.

وهذه العقيدة المثالية لأجل أن تتكوّن في نفس الإنسان تتطلّب منه أن يسمو بروحه على الاعتبارات المادية ، ليدرك المثال الأعلى في العدل والإحسان إلى الغير ، وذلك بعد أن يعجز أن يتكّون في نفسه شعور الأخوة الصادق والعطف بينه وبين أبناء نوعه.

فأول درجات المسلم التي يجب أن يتّصف بها هي أن يحصل عنده الشعور بالأخوّة مع الآخرين ، فإذا عجز عنها ـ وهو عاجز على الأكثر لغلبة

٤٦٦

رغباته الكثيرة وأنانيته ـ فعليه أن يكوّن في نفسه عقيدة في العدل والإحسان اتّباعا للإرشادات الإسلامية ، فإذا عجز عن ذلك فلا يستحقّ أن يكون مسلما إلّا بالاسم وخرج عن ولاية الله ، ولم يكن لله فيه نصيب على حدّ التعبير الآتي للإمام. والإنسان على الأكثر تطغى عليه شهواته العامة فيكون من أشقّ ما يعانيه أن يهيئ نفسه لقبول عقيدة العدل ، فضلا عن أن يحصل عليها عقيدة كاملة تفوق بقوتها على شهواته.

فلذلك كان القيام بحقوق الأخوة من أشقّ تعاليم الدين إذا لم يكن عند الإنسان ذلك الشعور الصادق بالأخوّة. ومن أجل هذا أشفق الإمام أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام أن يوضح لسائله أكثر مما ينبغي أن يوضح له خشية أن يتعلّم ما لا يستطيع أن يعمل به. قال المعلّى (١) :

قلت له : ما حقّ المسلم عل المسلم؟

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : له سبع حقوق وواجبات ... ما منهنّ حقّ إلّا وهو عليه واجب ، إن ضيّع منها شيئا خرج من ولاية الله وطاعته ، ولم يكن لله فيه نصيب.

قلت له : جعلت فداك! وما هي؟

قال : يا معلّى ، إني عليك شفيق ، أخاف أن تضيع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل.

قلت : لا قوة إلّا بالله.

وحينئذ ذكر الإمام الحقوق السبعة بعد أن قال عن الأول منها : «أيسر حقّ منها ، أن تحب له كما تحبّ لنفسك ، وتكره له ما تكره لنفسك».

يا سبحان الله! هذا هو الحقّ اليسير! فكيف نجد ـ نحن المسلمين اليوم ـ يسر هذا الحقّ علينا؟ شاهت وجوه تدّعي الإسلام ولا تعمل بأيسر ما يفرضه من حقوق. والأعجب أن يلصق بالإسلام هذا التأخّر الذي أصاب المسلمين ، وما الذنب إلّا ذنب من يسمّون أنفسهم بالمسلمين ، ولا يعملون

__________________

(١) راجع الوسائل ، كتاب الحج ، أبواب أحكام العشرة ، الباب ١٢٢ الحديث ٧.

٤٦٧

بأيسر ما يجب أن يعلموه من دينهم.

ولأجل التاريخ فقط ، ولنعرف أنفسنا وتقصيرها ، أذكر هذه الحقوق السبعة التي أوضحها الإمام عليه‌السلام :

١ ـ أن تحبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك ، وتكره له ما تكره لنفسك.

٢ ـ إن تتجنّب سخطه ، وتتبع مرضاته ، وتطيع أمره.

٣ ـ تعينه بنفسك ، ومالك ، ولسانك ويدك ، ورجلك.

٤ ـ أن تكون عينه ، ودليله ومرآته.

٥ ـ أن لا تشبع ويجوع ، ولا تروى ويظمأ ، ولا تلبس ويعرى.

٦ ـ أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم ، فواجب أن تبعث خادمك ، فتغسل ثيابه ، وتصنع طعامه ، وتمهّد فراشه.

٧ ـ أن تبرّ قسمه ، وتجيب دعوته ، وتعود مريضه ، وتشهد جنازته. وإذا علمت له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه إلى أن يسألكها ، ولكن تبادره مباشرة.

ثمّ ختم كلامه عليه‌السلام بقوله :

«فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته ، وولايته بولايتك».

وبمضمون هذا الحديث روايات مستفيضة عن أئمتنا عليهم‌السلام ، جمع قسما كبيرا منها كتاب الوسائل في أبواب متفرقة.

وقد يتوهّم المتوهم (١) أنّ المقصود بالأخوة في أحاديث أهل البيت

__________________

(١) أقول : لم يلحظ المصنّف رحمه‌الله عنصر المداراة والتقية في تلك الأحاديث التي ادّعى أنها تشمل جميع فرق المسلمين مع تباين معتقداتهم وتضاربها ، كما لم يلحظ النصوص الأخرى التي وقفت منهم موقفا سلبيا تجاه ما يعتقدون من الأراجيف والأباطيل ، إن مورد تلك الأحاديث هو تسهيل الأمر على المؤمن ، كما أرادت منه أن لا يكون عنصر هدم في المجتمعات الإسلامية وغيرها بل عليه أن يتحلى بمكارم الأخلاق والفضيلة تماما كما كان الأنبياء والمرسلون والأئمة عليهم‌السلام لقوله عليه‌السلام «كونوا زينا لنا ولا تكونوا شيئا علينا».

٤٦٨

عليهم‌السلام خصوص الأخوة بين المسلمين الذين من أتباعهم (شيعتهم خاصة) ... ولكن الرجوع إلى رواياتهم كلها يطرد هذا الوهم ، إذ كانوا من جهة أخرى يشددون النكير على من يخالف طريقتهم ولا يأخذ بهداهم ، ويكفي أن تقرأ حديث معاوية بن وهب ... (١) قال :

قلت له ـ أي الصادق عليه‌السلام ـ : كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا. فقال : «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون. فو الله أنّهم ليعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم ، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ، ويؤدّون الأمانة إليهم».

أمّا الأخوّة التي يريدها الأئمة عليهم‌السلام من أتباعهم الأحاديث في فصل تعريف الشيعة. ويكفي أن تقرأ هذه المحاورة بين أبان بن تغلب وبين الصادق عليه‌السلام من حديث أبان نفسه (٢).

قال أبان كنت أطوف مع أبي عبد الله فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجته ، فأشار إليّ ، فرآنا أبو عبد الله عليه‌السلام.

قال عليه‌السلام : يا أبان ، إيّاك يريد هذا؟

قلت : نعم.

قال عليه‌السلام : هو على مثل ما أنت عليه؟

قلت : نعم.

قال عليه‌السلام : فاذهب إليه واقطع الطّواف.

__________________

وما نسبه المصنف للعلماء والمراجع (من أنهم متوهمون لو حملوا الأحاديث على خصوص الشيعة) غير سديد ، وقبيح صدوره منه عافاه الله ورحمه ، لا سيما أن الأحاديث المدّعاة واضحة الدلالة على تبيين الوظيفة الظاهرية للمؤمن حفاظا عليه من الوقوع في التهلكة.

(١) أصول الكافي ، كتاب العشرة ، الباب الأول ، فهي أرفع من هذه الأخوة الإسلامية وقد سمعت بعضها.

(٢) راجع الوسائل ـ كتاب الحجّ ـ أبواب العشرة ، الباب ١٢٢ ح ١٦.

٤٦٩

قلت : وإن كان طواف الفريضة.

قال عليه‌السلام : نعم.

قال أبان : فذهبت ، ثم دخلت عليه بعد ، فسألته عن حقّ المؤمن.

فقال عليه‌السلام : دعه لا تردّه!

فلم أزل أردّ عليه حتى قال عليه‌السلام : يا أبان تقاسمه شطر مالك ، ثم نظر إليّ ، فرأى ما داخلني ، فقال : يا أبان ، أما تعلم أنّ الله قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟

قلت : بلى.

قال : إذا أنت قاسمته فلم تؤثره ، إنّما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر!

(أقول) : إنّ واقعنا المخجل لا يطمعنا أن نسمّي أنفسنا بالمؤمنين حقا. فنحن بواد وتعاليم أئمتنا عليهم‌السلام في واد آخر. وما داخل نفس أبان يداخل نفس كل قارئ لهذا الحديث ، فيصرّف بوجهه ، متناسيا له كأنّ المخاطب غيره ، ولا يحاسب نفسه حساب رجل مسئول.

* * *

٤٧٠

الفصل الخامس

المعاد

٤٧١
٤٧٢

الباب التّاسع والثّلاثون

عقيدتنا في البعث والمعاد

قال المصنّف قدّس الله سرّه :

نعتقد أن الله تعالى يبعث الناس بعد الموت في خلق جديد في اليوم الموعود به عباده ، فيثيب المطيعين ويعذّب العاصين ، وهذا أمر على جملته وما عليه من البساطة في العقيدة اتفقت عليه الشرائع السماوية والفلاسفة ، ولا محيص للمسلم من الاعتراف به عقيدة قرآنية جاء بها نبيّنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ من يعتقد بالله اعتقادا قاطعا ، ويعتقد كذلك بمحمد رسولا منه أرسله بالمهدى ودين الحقّ ، لا بدّ أن يؤمن بما أخبر به القرآن الكريم من البعث والثواب والعقاب والجنة والنعيم والنار والجحيم. وقد صرّح القرآن بذلك ولمّح إليه بما يقرب من ألف آية كريمة.

وإذا تطرّق الشكّ في ذلك إلى شخص ، فليس إلّا لشك يخالجه في صاحب الرسالة أو وجود خالق الكائنات أو قدرته ، بل ليس إلّا لشكّ يعتريه في أصل الأديان كلها وفي صحة الشرائع جميعها.

٤٧٣

الباب الأربعون

عقيدتنا في المعاد الجسماني

قال المصنّف (قدس‌سره):

وبعد هذا ، فالمعاد الجسماني بالخصوص ضرورة من ضرورات الدين الإسلامي ، دلّ صريح القرآن الكريم عليها (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٤) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٥)) [القيامة / ٤ ـ ٥] (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (الرعد / ٦) (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦)) (ق / ١٦).

وما المعاد الجسماني على إجماله إلّا إعادة الإنسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب ، وإرجاعه إلى هيئته الأولى بعد أن يصبح رميما. ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن وأكثر ممّا يتبعها من الحساب والصراط والميزان والجنّة والنّار والثّواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية.

(ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلّا صاحب النظر الدقيق ، كالعلم بأنّ الأبدان هل تعود بذواتها؟ أو إنّما يعود ما يماثلها بهيئات؟ وأنّ الأرواح هل تعدم كالأجساد أو تبقى مستمرة حتى تتصل بالأبدان عند المعاد؟ وانّ المعاد هل يختصّ بالإنسان أو يجري على كافّة ضروب الحيوان؟ وأنّ عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي.

وإذا لزم الاعتقاد بالجنّة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن ولا العلم بأنهما في السماء أو الأرض أو يختلفان. وكذا إذا وجبت معرفة الميزان لا

٤٧٤

تجب معرفة أنها ميزان معنوية أو لها كفّتان ، ولا تلزم معرفة أنّ الصراط جسم دقيق أو هو الاستقامة المعنوية. والغرض أنّه لا يشترط في تحقيق الإسلام معرفة أنها من الأجسام ...)(١).

نعم ، إنّ تلك العقيدة في البعث والمعاد على بساطتها هي التي جاء بها الدين الإسلامي ، فإذا أراد الإنسان أن يتجاوزها إلى تفصيلها بأكثر مما جاء في القرآن ، ليقنع نفسه دفعا للشبه التي يثيرها الباحثون والمشككون بالتماس البرهان العقليّ أو التجربة الحسيّة ، فإنه إنما يجني على نفسه ويقع في مشكلات ومنازعات لا نهاية لها. وليس في الدين ما يدعو إلى مثل هذه التفصيلات التي حشدت بها كتب المتكلّمين والمتفلسفين ، ولا ضرورة دينيّة ولا اجتماعية ولا سياسية تدعو إلى أمثال هاتيك المشاحنات والمقالات المشحونة بها الكتب عبثا ، والتي استنفدت كثيرا من جهود المجادلين وأوقاتهم وتفكيرهم بلا فائدة.

والشبه والشكوك التي تثار حول تلك التفصيلات يكفي في ردّها قناعتنا بقصور الإنسان عن إدراك هذه الأمور الغائبة عنّا والخارجة عن أفقنا ومحيط وجودنا والمرتفعة فوق مستوانا الأرضي ، مع علمنا بأنّ الله تعالى العالم القادر أخبرنا عن تحقيق المعاد ووقوع البعث ، وعلوم الإنسان وتجربياته وأبحاثه يستحيل أن تتناول شيئا لا يعرفه ولا يقع تحت تجربته واختياره إلّا بعد موته وانتقاله من هذا العالم عالم الحسّ والتجربة والبحث. فكيف ينتظر منه أن يحكم باستقلال تفكيره وتجربته بنفي هذا الشيء أو إثباته ، فضلا عن أن يتناول تفاصيله وخصوصياته ، إلّا إذا اعتمد على التكهن والتخمين أو على الاستبعاد والاستغراب ، كما هو من طبيعة خيال الإنسان أن يستغرب كلّ ما لم يألفه ولم يتناوله علمه وحسّه ، كالقائل المندفع بجهله لاستغراب البعث والمعاد ، (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). ولا سند لهذا الاستغراب إلّا أنه لم ير ميّتا رميما قد أعيدت له الحياة من جديد ، ولكنّه ينسى هذا المستغرب كيف خلقت ذاته لأوّل مرة ، ولقد كان عدما ، وأجزاء بدنه رميما تألّفت من الأرض ، وما حملت ومن الفضاء وما حوى من هنا

__________________

(١) مقتبس من كتاب كشف الغطاء : ص ٥ للشيخ الكبير كاشف الغطاء.

٤٧٥

وهنا ، حتى صار بشرا سويّا ذا عقل وبيان (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٨) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) (يس / ٧٨ ـ ٧٩).

يقال لمثل هذا القائل الذي نسي خلق نفسه : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). يقال له : إنك بعد أن تعترف بخالق الكائنات وقدرته وتعترف بالرسول وما أخبر به ، مع قصور علمك حتى عن إدراك سرّ خلق ذاتك وسرّ تكوينك ، وكيف كان نموّك وانتقالك من نطفة لا شعور له ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل متصاعدة مؤتلفا من ذرّات متباعدة ، لبلغ بشرا سويّا عاقلا مدبّرا ذا شعور وإحساس. يقال له : بعد هذا كيف تستغرب أن تعود لك الحياة من جديد بعد أن تصبح رميما ، وأنت بذلك تحاول أن تتطاول إلى معرفة ما لا قبل لتجاربك وعلومك بكشفه؟ يقال له : لا سبيل حينئذ إلّا أن تذعن صاغرا للاعتراف بهذه الحقيقة التي أخبر عنها مدبّر الكائنات العالم القدير وخالقك من العدم الرميم.

وكلّ محاولة لكشف ما لا يمكن كشفه ولا يتناوله علمك فهي محاولة باطلة وضرب في التيه ، وفتح للعيون في الظلام الحالك.

إنّ الإنسان مع ما بلغ من معرفة في هذه السنين الأخيرة ، فاكتشف الكهرباء والرادار واستخدم الذرّة ، إلى أمثال هذه الاكتشافات التي لو حدّث عنها في السنين الخوالي لعدّها من أوّل المستحيلات ، ومن مواضع التندر والسخرية أنّه مع كلّ ذلك لم يستطع كشف حقيقة الكهرباء ولا سرّ الذرّة ، بل حتى حقيقة إحدى خواصهما وأحد أوصافهما ، فكيف يطمع أن يعرف سرّ الخلقة والتكوين ، ثمّ يترقى فيريد أن يعرف سرّ المعاد والبعث.

نعم ينبغي للإنسان بعد الإيمان بالإسلام أن يتجنّب عن متابعة الهوى ، وأن يشتغل فيما يصلح أمر آخرته ودنياه ، وفيما يرفع قدره عند الله ، وأن يتفكّر فيما يستعين به على نفسه ، وفيما يستقبله بعد الموت من شدائد القبر والحساب بعد الحضور بين يديّ الملك العلّام ، وأن يتّقى يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون.

* * *

٤٧٦

نبحث في المعاد الجسماني عبر نقاط بإيجاز :

النقطة الأولى :

إننا ذكرنا في بحث سابق : أن الإنسان مركّب من روح وبدن ، وقد أوردنا هناك بعض الأدلة على بقاء الروح.

ونزيده هنا توضيحا فنقول :

إنّ الباحثين والفلاسفة سواء من الشيعة والسنّة أم غيرهم من المليين لهم نظريات متفاوتة في حقيقة الروح ، والروح والبدن ـ بنظر الإسلام ـ هما حقيقتان متضادتان ، ليس أحدهما من سنخ الآخر ، فالبدن يختلف تماما عن الروح بكل تفاصيلها ، حيث يفقد خواص الحياتية بالموت ويضمحل بصورة تدريجية ، وهذا بعكس الروح ، فإنّ الحياة أصالة للروح ، وما دامت في الجسم فإنه يستمد حياته منها ، وعند ما تفارق الروح البدن وتقطع علاقتها به لا يقوى البدن على القيام بأي عمل إلّا أن الروح تستمر في حياتها.

ومن خلال التدبّر في آيات الكتاب وأخبار أهل بيت العصمة عليهم‌السلام يستنبط أنّ الروح الإنسانية ـ كما قررته أدلّة العقل أيضا ـ غير مادية ، ولكنّها تنشئ نوعا من العلاقة والوحدة مع الجسم كما في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٤) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (المؤمنون / ١٣ ـ ١٥).

يتضح من سياق الآيات وجود شيئين متمايزين :

أحدهما : يتصف بالخلقة المادية بشكلها التدريجي.

وثانيهما : يتصف بخلقة أخرى يختلف تماما عن الخلقة الأولى ، ليست سوى أمر روحي ذي شعور وإرادة وإدراك.

وفي آية أخرى : قال تعالى :

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (السجدة / ١٢).

فهي في معرض الردّ على من استبعد المعاد أو أنكره فجاءهم الجواب أن ملك الموت يقبض الأرواح من الأبدان وتحفظ عنده تعالى.

٤٧٧

وفضلا عن هذا فإن القرآن الكريم يعرّف الروح بصورتها المطلقة غير المادية بقوله تعالى:

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الإسراء / ٨٦).

فإذا كان الإنسان مركّبا من روح وجسد ، فإنه بالموت تنحل الروح عن الجسد فيموت ، فحقيقة الموت ليست إلّا انعدام وفناء للجسد المادي وإلّا فإن الروح التي كانت مرتبطة بالبدن ، انقطعت عنه وانتقلت إلى بدن مثالي مشابه له في الحياة البرزخية ، وهناك أخبار كثيرة تشير إلى أن الأرواح في عالم البرزخ يعيشون في قوالب مثالية كأبدانهم الدنيوية كما نصّ عليه خبر أبي ولّاد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : قلت له :

جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش؟ فقال : لا ؛ المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم (١).

وفي خبر آخر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«... فإذا قبضه الله عزوجل صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا» (٢).

وورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

«أيها الناس إنّا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء ولكنكم من دار تنقلون ، فتزوّدوا لما أنتم صائرون إليه ، وخالدون فيه والسلام» (٣).

فالموت وسيلة انتقال للإنسان وارتقائه وتخليصه عن الأوساخ والكدورات ، وسبب نجاته عن سجن الدنيا وموجب لاستراحة المؤمن من الكفار والأشرار قال الإمام الجواد عليه‌السلام: إنّ الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام سئل عن الموت؟ فقال : «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة ، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة ، والاستبدال

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦ ص ٢٦٨ ح ١١٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٦ ص ٢٧٠ ح ١٢٤.

(٣) بحار الأنوار : ج ٧٣ ص ٩٦.

٤٧٨

بأفخر الثياب وأطيبها روائح ، وأوطئ المراكب وآنس المنازل ، وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب»(١).

النقطة الثانية : الأدلة على وجوب المعاد :

«المعاد» لغة واصطلاحا : بمعنى الرجوع ، وهو زمان عود الأرواح إلى أبدانها التي تعلّقت بها في الحياة الدنيا ، وزمن العود هو يوم القيامة ، يوم يحاسب الله سبحانه العباد ، فيدخل المطيع إلى الجنة ، والعاصي إلى النار ، هذا بناء على بقاء الروح وانفكاكه عن البدن بالموت ، وأما بناء على اتحاده مع البدن وفنائه بالموت ـ كما يعتقده الماديون وبعض التناسخية ـ فالمراد من المعاد حينئذ هو الوجود الثاني للأجسام والأبدان وإعادتها بعد موتها وتفرّقها.

وقد قامت الأدلة العقلية والنقلية على إثباته.

أما الأدلة العقلية :

وهي كثيرة ذكرها الفلاسفة المسلمون والمتكلمون أهمها :

الدليل الأول : الإمكان :

إنّ إمكان المعاد ممكن عقلا ، لأنّ العقل لا يفرّق بين المتساويين حيث إن يوم المعاد هو يوم مماثل لعالمنا هذا ، لأنّ هذا العالم ممكن الوجود ، وحكم المثلين واحد ، فلمّا كان العالم ممكنا وجب الحكم على الآخر بالإمكان أيضا ، مثاله : إذا أوجد الباني بيتا نحكم بأنه يستطيع أن يبني مثله متى شاء ، من باب قياس أحد المتماثلين على الآخر ، وقد أوجد الله تعالى دنيانا من لا شيء فبالأحرى أن يوجد مثلها من شيء أو من لا شيء ، وإلى هذا أشار قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (يس / ٨٢).

الدليل الثاني : الحكمة :

مفاده : بما أنه سبحانه وتعالى حكيم ، والحكيم لا يفعل العبث والسفه لأنّ ذلك قبيح ويستحيل صدوره منه تعالى لرجوعه إلى ترجيح المرجوح ، نعلم من

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦ ص ١٥٥.

٤٧٩

خلال ذلك أنّ خلقه تعالى لهذا العالم ليس عبثا بل هناك غايات وأهداف في أفعاله تعالى ، وليست هذه الغايات والأهداف هي الدنيا التي أمر الإنسان بالتكليف فيها مع العيش في قساوتها ومرارتها وتلقّي الصعاب والمهالك فيها ، فلا بدّ أن يعوّضه شيئا من النعم بدل تلك الصعاب التي عانى منها الإنسان في الدنيا ، وهذه النعم لا تكون إلّا في عالم آخر وحياة أخرى يستريح فيها الإنسان الذي عانى تلك الصعاب والكدورات في العالم الأول الذي هو أنبوب اختبار وتمحيص للعباد ، وحلبة سباق لتحصيل الكمالات النفسية والروحية ، والاكتساء بزي العبودية لله تعالى والفوز بكأس النجاة والسعادة الأوفى.

إلى دليل الحكمة وعدم العبثية في أفعاله تعالى يشير قوله عزوجل : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون / ١١٦).

وقوله عزّ شأنه : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٩) ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (الدخان / ٣٩ ـ ٤١).

الدليل الثالث : العدالة :

مفاده : أن الله تعالى متّصف بالعدل ، ومعنى كونه عادلا يقتضي استحالة اتّصافه بالظلم ، لأنّ العدل هو إعطاء كل ذي حقّ حقه ، ومقتضى العدل أن ينتصف للمظلوم من الظالم ولا يسوّي بينهما ولا يقدّم الظالم على المظلوم لأنه خلاف العدل.

وبهذا يقال : لو لم يكن للإنسان معاد ، لزم التسوية بين الظالم والمظلوم ، ولزم إقدار الظالم على المظلوم ، ولزم الإخلال بالانتقام من الظالمين ، ولكنّه تعالى منزّه عن تلك الأمور ، فالمعاد ثابت للإنسان حتى يجزى كل إنسان بما يستحقه.

توضيح ذلك عبر ثلاثة أمور :

الأول : إنّ الله تعالى عادل لا يظلم شيئا لأنه كمال محض ومحض الكمال لا يكون ناقصا حتى يظلم ، والظلم معلول النقص ، إذ سببه إما الجهل أو حاجة الظالم أو شقاوته وخبث ذاته أو حسده ، وكل واحد نقص وهو منتف عنه تعالى.

الثاني : إنّ التسوية بين الظالم والمظلوم في الجزاء كتقديم الظالم على

٤٨٠