الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

الباب الخامس والثّلاثون

عقيدتنا في التعاون مع الظالمين

قال المصنّف (قدس‌سره) :

ومن خطر الظلم وسوء مغبته أن نهى الله تعالى عن معاونة الظالمين والركون إليهم (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) هذا هو أدب القرآن الكريم. وهو أدب آل البيت عليهم‌السلام. وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين ، والاتصال بهم ومشاركتهم في أيّ عمل كان ومعاونتهم ، ولو بشقّ تمرة.

ولا شكّ أنّ أعظم ما مني به الإسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور ، والتغاضي عن مساوئهم ، والتعامل معهم ، فضلا عن ممالأتهم ومناصرتهم وإعانتهم على ظلمهم. وما جرّ الويلات على الأمة الإسلامية إلّا ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحقّ ، حتى ضعف الدّين بمرور الأيام ، فتلاشت قوته. ووصل إلى ما هو عليه اليوم ، فعاد غريبا ، وأصبح المسلمون ـ أو ما يسمون أنفسهم بالمسلمين ـ وما لهم من دون الله أولياء ثمّ لا ينصرون حتى على أضعف أعدائهم وأرذل المجترئين عليهم ، كاليهود الأذلّاء ، فضلا عن الصليبيين الأقوياء.

لقد جاهد الأئمة عليهم‌السلام في إبعاد من يتّصل بهم عن التعاون مع الظالمين ، وشددوا على أوليائهم في مسايرة أهل الظلم والجور وممالأتهم ، ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا الباب. ومن ذلك ما كتبه الإمام زين العابدين عليه‌السلام إلى محمد بن مسلم الزهري بعد أن حذّره من إعانة الظلمة

٤٤١

على ظلمهم «أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم ، وسلما إلى ضلالتهم ، داعيا إلى غيّهم ، سالكا سبيلهم .. يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم ... فلم يبلغ أخصّ وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلّا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم. واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمّروا لك في جنب ما خرّبوا عليك. فانظر لنفسك ، فإنه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسئول ...» (١).

ما أعظم كلمة «وحاسبها حساب رجل مسئول» ، فإنّ الإنسان حينما يغلبه هواه يستهين في أغوار مكنون سرّه بكرامة نفسه ، بمعنى أنه لا يجده مسئولا عن أعماله ، ويستحقر ما يأتي به من أفعال ويتخيّل أنه ليس بذلك الذي يحسب له الحساب على ما يرتكبه ويقترفه أنّ هذا من أسرار النفس الإنسانيّة الأمّارة فأراد الإمام أن ينبّه الزهريّ على هذا السرّ النفسانيّ في دخيلته الكامنة ، لئلا يغلب عليه الوهم فيفرط في مسئوليته عن نفسه.

وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان الجمّال مع الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام ، وقد كان من شيعته ورواة حديثه الموثّقين.

قال ـ حسب رواية الكشي في رجاله بترجمة صفوان ـ دخلت عليه ، فقال لي : يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ، خلا شيئا واحدا.

قلت : جعلت فداك! أي شيء؟

قال : كراك جمالك من هذا الرجل (يعني هارون).

قلت : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ، ولا للصيد ، ولا للهو ، ولكن أكريته لهذا الطريق (يعني طريق مكة) ولا أتولّاه بنفسي ... ولكن أبعث معه غلماني.

قال : يا صفوان أيقع كراك عليهم؟

قلت : نعم جعلت فداك. قال : أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟

قلت : نعم. قال : فمن أحب بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد

__________________

(١) تحف العقول : ص ٦٦.

٤٤٢

النار. قال صفوان : فذهبت وبعت جمالي عن آخرها.

فإذا كان نفس حبّ حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنزلة ، فكيف بمن يستعينون به على الظلم أو يؤيدهم في الجور ، وكيف حال من يدخل في زمرتهم أو يعمل بأعمالهم أو يواكب قافلتهم أو يأتمر بأمرهم.

* * *

من الواضح عند الإمامية أنّ الظالم هو المرتكب للذنوب حتى الصغيرة منها سواء مع الإصرار عليها أم لا ، وفي هذا الباب لا بدّ أن يعرف القارئ هل المقصود من حرمة معاونة الظالمين يشمل من ارتكب الذنوب صغيرة أو كبيرة أو أن مفهوم الظالم أوسع من ذلك؟ بمعنى أنه هل يحرّم التعاون مع الفاسق المرتكب للذنوب الكبيرة والصغيرة معا أو أنّ حرمة التعاون مقتصرة على من ظلم غيره عبر سلطة معيّنة؟

الظاهر هو الثاني أي يحرّم معونة الظالمين المتحكّمين على رقاب الناس حيث يتعدى ظلمهم إلى الآخرين وإلّا لو كان التعاون مع الفسّاق حراما لاختلّ النظام وتعطّلت الأرزاق ولأدّى إلى الحرج الشديد المرفوع عن أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فحرمة التعامل مع الظالمين المتحكّمين عبر أجهزة السلطة أو من يملك القوة والمقدرة ثابتة بالأدلة الأربعة :

الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

أما الكتاب : فقوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (المائدة / ٣).

ولا شك أنّ الإثم والعدوان هما عين الظلم ؛ فإذا تعاون الفرد مع الظالم في ظلمه فقد صار ظالما وقد نهى سبحانه مهددا الظالمين للناس بقوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (الفرقان / ٢٠).

وقوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء / ٢٢٨).

أمّا الاجماع : فمما لا ريب فيه حيث أطبقت الشيعة الإمامية خلفا عن سلف على حرمة معاونة الظالمين المستبدّين بأموال وأعراض الآخرين.

وأمّا العقل : فحكمه واضح لا لبس فيه ولا تضليل ، إذ إن حرمة الظلم بديهية لا تحتاج إلى تأمل ودقة.

٤٤٣

أما الأخبار : فسنأتي على ذكرها بعد قليل.

وحيث إن مفهوم «معاونة الظالمين» واسع يتحقق ضمن صور :

الصورة الأولى : أن يعينهم في الظلم.

الصورة الثانية : أن يعدّ من أعوانهم كأن يكون اسمه في ديوانهم من دون أن يشارك في ظلمهم ، وإن شارك فإنما يشارك في الأعمال الصالحة كبناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى أو نصب ضياء في الطريق وما شابه ذلك.

الصورة الثالثة : لا يعينهم في الظلم ولا يعدّ من أعوانهم ، وإنما يعمل لهم عملا تبرعا أو بأجرة.

أما بيان الصورة الأولى :

أي معونة الظالم في ظلمه. فيدلّ على حرمتها بعد استقلال العقل بقبحها قوله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود / ١١٤).

(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام / ٦٩).

(وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (هود / ٦٠).

(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (هود / ٩٨).

(وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (الكهف / ٥٢).

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (الجاثية / ٢٠).

فالركون إلى الذين ظلموا يتحقق بشيئين :

إما بمعنى الميل والحب.

وإمّا بمعنى الاعتماد عن ميل وحب.

وهذان يتحققان :

إما في نفس الدين : كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه التي يضرهم إفشاؤها.

٤٤٤

وإمّا في حياة دينية : كأن يسمح لهم بنوع من المداخلة في إدارة أمور المجتمع الديني بولاية الأمور العامّة أو المودة التي تفضي إلى المخالطة والتأثير في شئون المجتمع أو الفرد الحيوية.

وبالجملة : الاقتراب (في أمر الدين أو الحياة الدينية) من الذين ظلموا بأي نوع من الاعتماد والاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير ، ويغيّرهما عن الوجهة الخالصة ، ولازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل ، أو إحياء حقّ بإحياء باطل ، وبالآخرة إماتة الحق لإحياء الباطل.

«والمراد بالذين ظلموا في الآية ليس من تحقق منه الظلم تحققا ما وإلّا لعمّ جميع الناس إلّا أهل العصمة ولم يبق للنهي حينئذ معنى ، بل المراد منهم الذين وقفوا في وجه الدعوة والدعاة والمبشرين لرسالات الله تعالى ، فالذين ظلموا هم أولئك الأشرار الطغاة الذين يتعدّى شرّهم إلى الآخرين» (١).

وأمّا الأخبار الشريفة الدالّة على حرمة الصورة الأولى :

منها : ما ورد عن كتاب الشيخ ورّام بن أبي فراس قال : قال عليه‌السلام :

من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام (٢).

ومنها : ما ورد في النبوي الشريف قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«... ومن علّق سوطا بين يدي سلطان جائر جعلها الله حيّة طوله سبعون ألف ذراع ، فيسلطه الله عليه في نار جهنم خالدا فيها مخلّدا ...» (٣).

وأما بيان الصورة الثانية :

فتدلّ على حرمتها مضافا إلى الآية المذكورة ، عدّة أخبار ، منها :

١ ـ ما ورد عن ابن عذافر عن أبيه قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا عذافر نبئت أنّك تعامل أبا أيوب والربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟

قال : فوجم أبي فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام لمّا رأى ما أصابه ؛ أي عذافر إنما خوّفتك بما خوّفني الله عزوجل به ؛ قال محمد ابن عذافر : فقدم أبي فما زال

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١١ ص ٥١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ١٣١ ح ١٥.

(٣) نفس المصدر السابق : ص ١٣٠ ح ١٤.

٤٤٥

مغموما مكروبا حتى مات (١).

٢ ـ وعن ابن أبي يعفور قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له : جعلت فداك إنه ربّما أصاب الرجل منا الضيق أو الشدة فيدعى إلى البناء يبنيه ، أو النهر يكريه ، أو المسناة يصلحها ، فما تقول في ذلك؟

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما أحبّ أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء ، وإنّ لي ما بين لابتيها ، لا ولا مدّة بقلم إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد (٢).

٣ ـ ورواية السّكوني عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوان الظلمة ومن لاق (٣) لهم دواتا ، أو ربط كيسا ، أو مدّ لهم مدّة قلم فاحشروهم معهم (٤).

فهذه الروايات في هاتين الصورتين وما شابهها محمولة على ما لو كان من أعوانهم على الظلم ، وهذا مما لا إشكال في حرمته.

أما بيان الصورة الثالثة :

فيما لو أعانهم على أمر مباح غير محرّم ولا كان معدودا من أعوانهم ، فقد يستظهر من بعض النصوص حرمته لدخوله تحت عنوان أعظم أو يجر إلى شيء أعظم ، مثل ما ورد :

١ ـ في صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة قال :

ما أحبّ أني عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء ...».

فإنّ مفهومها مبغوضية الإمام عليه‌السلام لكل من عمل للظالمين عملا مباحا لأنّ ذلك يستدعي التدرج في العمل وينسلك في سلك أعوان الظلمة ، لأنّ الإنسان يتدرج من مباح إلى مكروه حتى يصير عونا للظلمة.

__________________

(١) الوسائل : ج ١٢ ص ١٢٨ ح ٣.

(٢) الوسائل : ج ١٢ ص ١٢٩ ح ٦.

(٣) لاق أي أصلح.

(٤) الوسائل : ج ١٢ ص ١٣٠ ح ١١.

٤٤٦

٢ ـ في رواية السكوني المتقدمة أيضا ما فيه إشارة إلى ذلك ، حيث من المعلوم أنّ بري القلم أو إصلاح الدواة أمر مباح ولكنّه مقدمة لإعانتهم على الظلم.

٣ ـ ورواية أبي بصير قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن أعمالهم؟ فقال لي : يا أبا محمد : لا ، ولا مدة قلم ، إنّ أحدهم لا يصيب من دنياهم شيئا إلّا أصابوا من دينه مثله أو حتى يصيبوا من دينه مثله (١).

٤ ـ وفي رواية يونس بن يعقوب قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام لا تعنهم على بناء مسجد (٢).

يحتمل أن يكون النهي لأجل أنّ إعانتهم في بناء مسجد يكون سببا لتقويتهم أو إغراء للعوام بحسن سيرتهم.

٥ ـ خبر صفوان الجمّال قال :

دخلت على أبي الحسن الأول عليه‌السلام فقال لي : يا صفوان كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا؟

قلت : جعلت فداك أي شيء؟

قال : إكراؤك جمالك من هذا الرجل ، يعني هارون ، قال : والله ما أكريته أشرا ولا بطرا ولا للصيد ولا للهو ، ولكني أكريته لهذا الطريق يعني طريق مكة ، ولا أتولّاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني ، فقال لي : يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت : نعم جعلت فداك ، قال لي : أتحب بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟ قلت : نعم.

قال : من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النار ، قال صفوان : فذهبت فبعت جمالي عن آخرها ، فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني فقال لي : يا صفوان بلغني أنك بعت جمالك؟ قلت : نعم.

قال : ولم؟ قلت : أنا شيخ كبير وإنّ الغلمان لا يفون بالأعمال؟ فقال : هيهات هيهات إني لأعلم من أشار عليك بهذا ، أشار عليك بهذا موسى بن

__________________

(١) الوسائل : ج ١٢ ص ١٢٩ ح ٥.

(٢) نفس المصدر : ح ٨.

٤٤٧

جعفر ، قلت : ما لي ولموسى بن جعفر؟

فقال : دع هذا عنك فو الله لو لا حسن صحبتك لقتلتك (١)

فالخبر وإن كان مورده حب صفوان بقاء هارون ليعطيه كراءه إلا أن الحب يتولّد عادة من الأمر المباح الدنيوي ، إذ لو لا حبّ تحصيل المال ما كان تعلّق صفوان ببقاء هارون. لكنّ الإمام عليه‌السلام ما أحبّ أن يكون صفوان عونا للظلمة نتيجة حبّه لبقاء هارون لأنّ من أحبّ بقاء الظالمين (وإن كان لأجل تحصيل أمر مباح) فهو منهم.

* * *

__________________

(١) الوسائل : ج ١٢ ص ١٣١ ح ١٧.

٤٤٨

الباب السّادس والثّلاثون

عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة

قال المصنّف (قدس‌سره) :

إذا كانت معاونة الظالمين ولو بشقّ تمرة ، بل حبّ بقائهم ، من أشدّ ما حذّر منه الأئمة عليهم‌السلام ، فما حال الاشتراك معهم في الحكم والدخول في وظائفهم وولاياتهم ، بل ما حال من يكون من جملة المؤسّسين لدولتهم ، أو من كان من أركان سلطانهم والمنغمسين في تشييد حكمهم «وذلك أنّ ولاية الجائر دروس الحقّ كله. وإحياء الباطل كله ، وإظهار الظلم والجور والفساد» كما جاء في حديث تحف العقول عن الصادق عليه‌السلام.

غير أنّه ورد عنهم عليهم‌السلام جواز ولاية الجائر ، إذا كان فيها صيانة العدل وإقامة حدود الله ، والإحسان إلى المؤمنين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «إنّ لله في أبواب الظلمة من نوّر الله به البرهان ، ومكّن له في البلاد ، فيدفع بهم عن أوليائه ، ويصلح بهم أمور المسلمين ... أولئك هم المؤمنون حقا ، أولئك منار الله في أرضه أولئك نور الله في رعيّته» ... كما جاء في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام. وفي هذا الباب أحاديث كثيرة توضح النهج الذي ينبغي أن يجري عليه الولاة والموظفون. مثل ما في رسالة الصادق عليه‌السلام إلى عبد الله النجاشي أمير الأهواز (راجع الوسائل ـ (١) ـ كتاب البيع ـ الباب ٤٦).

* * *

__________________

(١) الوسائل : ج ١٢ ص ١٤٢ ح ١٣.

٤٤٩

أقسام الولاية :

والولاية : هي القيام بالأمر والتسلّط عليه ، وقد تأتي بمعنى حاكمية شخص نيابة عن ملك أو خليفة يدير بلدا أو يكون حاكما فيها ، وقد غلّب هذا المعنى واختصّ بمن يرسله الملوك والخلفاء إلى أصقاع البلاد الإسلامية نيابة عنهم لإدارة البلاد والحكم فيها ويسمونه واليا.

والولاية على قسمين :

ولاية العادل : وهي القيام بالأمر نيابة عن الإمام العادل ، وهذه جائزة بضرورة العقل والنقل ، بل قد تجب لما فيها من دفع المنكر والأمر بالمعروف إذا توقف دفع المنكر عليها وإلّا فتستحب.

ولاية الجائر : وهي القائم بالأمر على قوم منصوبا من قبل الجائر المستبد وهي محرّمة بحكم العقل (لما فيه من الظلم والحيف على عباد الله) وضرورة النقل بدليلين :

الأول : لأنّ الوالي من أعظم الأعوان عند الجائر ، وقد تقدم معنا حرمة إعانة الجائر.

الثاني : ما ورد في الأخبار الصحيحة والموثّقة التي اختلفت فيما بينها في جهة الحرمة هل هي نفسية ذاتية أو أن الولاية من قبل الجائر محرّمة من باب المقدمة المفضية إلى الحرام؟

الظاهر هو الثاني ، ولا يهمنا الخوض في أنّ الرحمة ذاتية أم مقدمية ، ما دامت الأخبار متفقة على كون ولاية الجائر حراما إلّا أن يقيم حقا ويدفع باطلا ، من هذه الأخبار:

١ ـ ما ورد في خبر تحف العقول عنه عليه‌السلام :

«وأما وجه الحرام من الولاية ، فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته والعمل لهم والكسب لهم بجهة الولاية معهم حرام محرّم معذّب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير لأنّ كل شيء من جهة المعونة له معصية كبيرة من الكبائر وذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دروس الحقّ كله ، وإحياء الباطل كله ، وإظهار الظلم والجور والفساد ، وإبطال الكتب وقتل الأنبياء وهدم المساجد وتبديل سنة الله وشرائعه فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم إلّا بجهة الضرورة

٤٥٠

نظير الضرورة إلى الدم والميتة ... إلى آخر الخبر» (١).

٢ ـ ما ورد عن زياد بن أبي سلمة قال :

دخلت على أبي الحسن موسى عليه‌السلام فقال لي : يا زياد إنك لتعمل عمل السلطان؟ قال : قلت : أجل قال لي : ولم؟ قلت : أنا رجل لي مروّة وعليّ عيال وليس وراء ظهري شيء ، فقال لي : يا زياد لئن أسقط من حالق فأنقطع قطعة قطعة أحبّ إليّ من أن أتولى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم إلّا لما ذا؟ قلت : لا أدري جعلت فداك قال : إلّا لتفريج كربة عن مؤمن ، أو فكّ أسره أو قضاء دينه ، يا زياد إن أهون ما يصنع الله جلّ وعزّ بمن تولّى لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ الله من حساب الخلائق ، يا زياد فإن ولّيت شيئا من أعمالهم فأحسن إلى إخوانك فواحدة بواحدة ، والله من وراء ذلك ، يا زياد أيّما رجل منكم تولّى لأحد منهم عملا ثم ساوى بينكم وبينه فقولوا له : أنت منتحل كذّاب ، يا زياد إذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة الله عليك غدا ونفاذ ما أتيت إليهم عنهم وبقاء ما أبقيت إليهم عليك (٢).

فالرواية المتقدمة تبيح الدخول في الولاية من قبل الجائر فيما إذا أحسن إلى إخوانه المؤمنين خدمة حسنة تجاه الخدمة التي خدم بها الجائر ، وهذا معنى قوله عليه‌السلام : «فواحدة بواحدة».

٣ ـ ما ورد في صحيحة داود بن زربي قال : أخبرني مولى الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام قال : كنت بالكوفة فقدم أبو عبد الله عليه‌السلام الحيرة (٣) فأتيته ، فقلت له : جعلت فداك لو كلّمت داود بن علي ، أو بعض هؤلاء فأدخل في بعض هذه الولايات؟ فقال : ما كنت لأفعل ، فانصرفت إلى منزلي فتفكّرت ، فقلت : ما أحسبه منعني إلّا مخافة أن أظلم أو أجور لآتينّه ولأعطينّه الطلاق والعتاق والإيمان المغلّظة أن لا أجورنّ على أحد ، ولا أظلمنّ ولأعدلنّ ، قال : فأتيته فقلت : جعلت فداك إني فكرت في إبائك عليّ ، وظننت أنك إنما منعتني وكرهت ذلك مخافة أن أظلم أو أجور ، وإنّ كل امرأة لي طالق ، وكل مملوك لي

__________________

(١) راجع تحف العقول : ص ٢٤٤ ط. الأعلمي.

(٢) الوسائل : ج ١٢ ص ١٤٠ ح ٩.

(٣) «الحيرة» من المناطق العراقية الهامة تبعد عن الكوفة باثني عشر كيلومترا.

٤٥١

حرّ إن ظلمت أحدا ، أو جرت على أحد إن لم أعدل ؛ قال : كيف قلت؟

قلت : فأعدت عليه الإيمان فرفع رأسه إلى السماء فقال : تناول السماء أيسر عليك من ذلك (١).

فذيل الرواية دلالة واضحة على حرمة الدخول في ولاية الجائرين حيث عدّ الإمامعليه‌السلام الصعود إلى السماء أيسر عليه من الدخول في ولاية الظالم. ولكن يظهر من تحريم الإمامعليه‌السلام على السائل الدخول في ولايتهم مبنيّ على عدم استقامة السائل المذكور لو دخل معهم ، ومما يؤكد ذلك ما ورد في الروايات الصحيحة من جواز الدخول معهم لخدمة المؤمنين وقضاء حوائجهم فيكون الدخول معهم مستثنى عن الأصل الأولى الدالّ على الحرمة.

والجوس في أخبارهم عليهم‌السلام يتمخّض عنه بعض المسوّغات للدخول في ولاية الجائر ، هي في موردين :

المورد الأول : القيام بمصالح العباد :

فلو قلنا بحرمة الولاية نفسيا أو من باب المقدمة ، فإنه يجوز ارتكابها لأجل المصالح ودفع المفاسد التي هي أهم من مفسدة انسلاك الشخص في أعوان الظلمة بحسب الظاهر ، ويدل عليه الأخبار المتعددة منها :

١ ـ ما روي في النبوي الذي رواه الصدوق في حديث المناهي ، قال :

من تولّى عرّافة (٢) قوم أتى به يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه ، فإن قام فيهم بأمر الله تعالى أطلقه الله ، وإن كان ظالما يهوى به في نار جهنم وبئس المصير (٣).

٢ ـ وما عن عقاب الأعمال عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«... ومن تولّى عرافة قوم ولم يحسن فيهم ، حبس على شفير جهنم بكل

__________________

(١) الوسائل : ج ١٢ ص ١٣٦ ح ٤.

(٢) عرّاف مصدر عرف يعرف على وزان قتل يقتل معناه القيام بسياسة قوم وتدبير أمورهم ، فويل للساسة المكذّبين والذين يقودون الزوار والحجيج إلى بيت الله والمراقد المقدّسة (الحملدارية) إن لم يحسنوا ملاطفة الزائر ولم يعطوه حقه أن تصيبهم فتنة أو عذاب أليم.

(٣) الوسائل : ج ١٢ ص ١٣٦ ح ٦.

٤٥٢

يوم ألف سنة ، وحشر ويداه مغلولتان إلى عنقه فإن قام فيهم بأمر الله أطلقه الله ، وإن كان ظالما هوي به في نار جهنم سبعين خريفا.

(نفس المصدر ص ١٣٧ ح ٧).

٣ ـ وما في صحيحة زيد الشحّام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

من تولّى أمرا من أمور الناس فعدل فيهم وفتح به ، ورفع ستره ـ أي فتح قلبه وباب داره لخدمة الناس ـ ونظر في أمور الناس كان حقا على الله أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنّة. (الوسائل : ج ١٢ ص ١٤٠ ح ٧).

٤ ـ ورواية زياد بن أبي سلمة المتقدّمة صريحة المضمون في جواز الدخول في ولاية الجائر لتفريج كرب المؤمن وقضاء حاجته.

٥ ـ وما ورد في رواية علي بن يقطين قال : قال لي أبو الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه (١).

والمعروف عند الإمامية أن عليّ بن يقطين أحد صحابة الإمام الكاظم عليه‌السلام كان وزيرا لهارون الرشيد وقد طلب من الإمام عليه‌السلام مرارا أن يعفيه من البقاء فى وزارة هارون فلم يأذن له الإمام عليه‌السلام لما يترتّب على بقائه يوم ذاك من فوائد على المؤمنين ، روى عن مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال :

ما من جبّار إلّا على بابه ولي لنا يدفع الله به عن أوليائنا ؛ أولئك لهم أوفر حظ من الثواب يوم القيامة (٢).

وروى صاحب البحار عن صاحب كتاب قضاء الحقوق أنه قال : استأذن علي بن يقطين مولانا الكاظم عليه‌السلام في ترك عمل السلطان فلم يأذن له ، وقال : لا تفعل ، فإنّ لنا بك أنسا ولإخوانك بك عزّا وعسى أن يجبر الله بك كسرا ، ويكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه ، يا علي كفارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم ، أضمن لي واحدة ، وأضمن لك ثلاثا ، اضمن لي أن لا تلقى أحدا من أوليائك إلّا قضيت حاجته وأكرمته ، وأضمن لك أن لا يظلّك سقف سجن أبدا ولا ينالك حدّ

__________________

(١) الوسائل : ج ١٢ ص ١٣٩ ح ١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧٢ ص ٣٧٩ ح ١.

٤٥٣

سيف أبدا ولا يدخل الفقر بيتك أبدا ، يا علي من سرّ مؤمنا فبالله بدأ وبالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثنّى وبنا ثلّث (١).

٦ ـ وما عن الإمام الصادق عليه‌السلام :

كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان (٢).

وفي هذا المورد يمكن تقسيم الدخول في ولاية الظالمين إلى أمور :

الأمر الأول : أن تكون ولايتهم مع الجائرين مرجوحة ، بمعنى الإباحة بحيث يكون دخوله في ولايتهم لنظام معاشه وقاصدا بالعرض الإحسان إلى المؤمنين ودفع الضرر عنهم.

ويشهد له ما روي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما من جبّار إلّا ومعه مؤمن يدفع الله عزوجل به عن المؤمنين وهو أقلّهم حظا في الآخرة ، يعني أقل المؤمنين حظا بصحبة الجبّار (٣).

الأمر الثاني : أن تكون ولايتهم مع الجبارين مستحبة بحيث لم يقصد بدخوله معهم إلّا الإحسان إلى المؤمنين.

ويشهد له ما روي عن محمد بن بزيع أحد أصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام والرضا عليه‌السلام قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام :

إنّ لله تعالى بأبواب الظالمين من نوّر الله به البرهان ومكّن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله بهم أمور المسلمين ، إليهم ملجأ المؤمنين من الضرّ ، وإليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا ، وبهم يؤمّن الله روعة المؤمنين في دار الظلمة ، أولئك المؤمنون حقا ، أولئك أمناء الله في أرضه ، أولئك نور الله في رعيّتهم يوم القيامة ، ويزهر نورهم لأهل السماوات كما يزهر نور الكواكب الزهرية لأهل الأرض ، أولئك من نورهم يوم القيامة تضيء منهم القيامة ، خلقوا والله للجنّة وخلقت الجنّة لهم ، فهنيئا لهم ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله؟ قال : قلت بما ذا جعلني الله فداك؟ قال : يكون معهم فيسّر بإدخال السرور على

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٢ ص ٣٧٩ ، ووسائل الشيعة ج ١٢ ص ١٤٣ ح ١٦.

(٢) الوسائل : ج ١٢ ص ١٣٩ ح ٢.

(٣) الوسائل : ج ١٢ ص ١٣٤ ح ٤.

٤٥٤

المؤمنين من شيعتنا ، فكن منهم يا محمد (١).

الأمر الثالث : أن تكون ولايتهم واجبة بحيث يتوقف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عليه ، فإنّ ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب مع القدرة.

مضافا إلى أنه إذا تعيّن حفظ النفوس والأعراض على الدخول في ولايتهم فيعتبر حينئذ واجبا لحفظ المصالح المترتبة عليه ، وهذا ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري في مكاسبه قال بعد عرضه للآراء ونقضه عليها :

«فلا إشكال في وجوب تحصيل الولاية إذا كان هناك معروف متروك ، أو منكر مرتكب يجب فعلا الأمر بالأول ، والنهي عن الثاني» (٢).

والدليل عليه إطلاقات أدلة الأمر بالمعروف السالم عن التقييد.

مضافا إلى أنّ تفريج كرب المؤمن وتخليصه من أيدي الظلمة يعتبر واجبا في أكثر الأحيان فيشمله الأدلة التي تقدمت وغيرها من الأدلة على ذلك.

المورد الثاني :

ومما يسوّغ الدخول في ولاية الجائر : الإكراه والإجبار على قبولها بالتوعيد على تركها من الجائر بما يوجب ضررا بدنيا أو ماليا عليه أو على من يتعلق به بحيث يعدّ الإضرار به وبمن تعلّق به أمرا شاقا على النفس كالأب والولد ومن جرى مجراهما.

وبالجملة : لا يبعد كون الولاية محرّمة في نفسها وبالأصل الأولي ، ومباحة بالعنوان الثانوي للعمومات الدالة على ذلك ، والاستثناءات الخارجة منها ، لذا قال العلّامة الأنصاري :

«وهذا مما لا إشكال في تسويغه ارتكاب الولاية المحرّمة في نفسها (٣) لعموم قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (آل عمران / ٢٩) في الاستثناء عن عموم (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) والنبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمتى ما أكرهوا عليه».

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٢ ص ٣٨١ نقلا عن منية المريد للشهيد الثاني وص ٣٨٤ نقلا عن أعلام الدين للديلمي ، وتنقيح المقال : ج ٢ ص ٨١.

(٢) المكاسب : ج ٤ ص ٣٢٥ ط. كلانتر.

(٣) الدخول في ولاية الظالم عند الشيخ الأنصاري محرّم ذاتا لا من باب المقدمة المفضية إلى الحرام.

٤٥٥

وقولهم عليهم‌السلام : التقية في كل ضرورة ، وما من شيء إلّا وقد أحلّه الله لمن اضطرّ إليه. إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة : من العمومات وما يختص بالمقام ..» (١).

* * *

__________________

(١) المكاسب : ج ٤ ص ٣٢٦.

٤٥٦

الباب السّابع والثّلاثون

عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية

قال المصنّف (قدس‌سره) :

عرف آل البيت عليهم‌السلام بحرصهم على بقاء مظاهر الإسلام ، والدعوة إلى عزّته ، ووحدة كلمة أهله ، وحفظ التآخي بينهم ، ورفع السخيمة من القلوب والأحقاد من النفوس.

ولا ينسى موقف أمير المؤمنين عليه‌السلام مع الخلفاء الذين سبقوه مع تواجده عليهم واعتقاده بغصبهم لحقّه ، فجاراهم وسالمهم ، بل حبس رأيه في أنه المنصوص عليه بالخلافة ، حتى أنه لم يجهر في حشد عام بالنصّ إلّا بعد أن آل الأمر إليه (١) ، فاستشهد بمن بقي من الصحابة عن نصّ (الغدير)

__________________

(١) أقول : إنّ ما ذكره المصنف مما لا تقرّه الإمامية بل ما ذكره ما هو إلّا مجرّد تعبير عن رأيه الخاص الدالّ على عدم الإحاطة ، بل إنّ العكس هو الصحيح حيث إنّ عدم ذهاب الأمير عليه‌السلام للبيعة بنفسه يعدّ دليلا على اعتراضه عليه‌السلام على القوم أمام المسلمين في الأيام الأولى من رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا سيما أنّ الاعتراض الفعلي أبلغ من الاعتراض اللفظي. لكنّ الإمام عليا عليه‌السلام اعترض على القوم في حشد عام وذلك في مسجد النبي عند ما أخذوه مقادا للبيعة ، وقد ذكر عامة مؤرّخي الشيعة ، ثم استنكر عليهم أمام جموع الصحابة مرارا ، ويشهد لما قلنا ما رواه ابن قتيبة في كتابه الإمامة كيف أن القوم نفوا عن الإمام عليه‌السلام إخوة رسول الله له وكيف كان حاله في المسجد ، كما يشهد لهذا ما رواه الطبرسي في الاحتجاج وسليم بن قيس في كتاب الخلافة والطوسي في الأمالي وغيرهم ذكروا احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام على القوم أمام حشود المسلمين يوم ذاك. هذا بالإضافة إلى اعتراض مولاتنا السيدة الزهراء عليها‌السلام على أبي بكر وابن الخطّاب في مسجد النبي أمام جمهور ـ

٤٥٧

في يوم (الرحبة) المعروف. وكان لا يتأخر عن الإشارة عليهم فيما يعود على المسلمين أو للإسلام بالنفع والمصلحة ، وكم كان يقول عن ذلك العهد : «فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما».

كما لم يصدر منه ما يؤثّر على شوكة حكمهم أو يضعف من سلطانهم أو يقلّل من هيبتهم ، فانكمش على نفسه وجلس حلس البيت ، بالرغم مما كان يشهده منهم. كلّ ذلك رعاية لمصلحة الإسلام العامة ورعاية أن لا يرى في الإسلام ثلما أو هدما ، حتى عرف ذلك منه. وكان عمر بن الخطاب يقول ويكرّر القول : (لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن) أو (لو لا علي لهلك عمر).

ولا ينسى موقف الإمام الحسن بن علي عليه‌السلام من الصلح مع معاوية ، بعد أن رأى أنّ الإصرار على الحرب سيديل من ثقل الله الأكبر ومن دولة العدل ، بل اسم الإسلام إلى آخر الدّهر ، فتمحى الشريعة الإلهية ويقضى على البقية الباقية من آل البيت ، ففضّل المحافظة على ظواهر الإسلام واسم الدّين ، وإن سالم معاوية العدوّ الألدّ للدين وأهله ، والخصم الحقود له ولشيعته ، مع ما يتوقع من الظلم والذلّ له ولأتباعه ، وكانت سيوف بني هاشم وسيوف شيعته مشحوذة تأبى أن تغمد ، دون أن تأخذ بحقّها من الدفاع والكفاح ، ولكن مصلحة الإسلام العليا كانت عنده فوق جميع هذه الاعتبارات.

وأما الإمام الحسين الشهيد عليه‌السلام فلئن نهض فلأنه رأى من بني أميّة إن دامت الحال لهم ولم يقف في وجههم من يكشف سوء نيّاتهم ، سيمحون ذكر الإسلام ويطيحون بمجده ، فأراد أن يثبت للتاريخ جورهم وعدوانهم ، ويفضح ما كانوا يبيتونه لشريعة الرسول ، وكان ما أراد. ولو لا نهضته المباركة لذهب الإسلام في خبر كان يتلهى بذكره التاريخ كأنه دين باطل ، وحرص الشيعة على تجديد ذكراه بشتّى أساليبهم إنما هو لإتمام رسالة

__________________

 ـ المسلمين ، أكبر شاهد على اعتراض الأمير عليه‌السلام على القوم ، فما نطقت به السيدة الزهراء روحي فداها هو بعينه ما أراده أمير المؤمنين عليه‌السلام وكذا ما فعله اثنا عشر من صحابته الميامين في اعتراضاتهم على أبي بكر الغاصب لحقّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لاحظ الخصال ص ٤٦١ باب ١٢ ، والاحتجاج ج ١ / ١١٠ باب : ما جرى بعد وفاة الرسول.

٤٥٨

نهضته في مكافحة الظلم والجور ولإحياء أمره امتثالا لأوامر الأئمّة من بعده.

ويتجلّى لنا حرص آل البيت عليهم‌السلام على بقاء عزّ الإسلام ، وإن كان ذو السلطة من ألدّ أعدائهم ، في موقف الإمام زين العابدين عليه‌السلام من ملوك بنى أميّة ، وهو الموتور لهم ، والمنتهكة في عهدهم حرمته وحرمه ؛ والمحزون على ما صنعوا مع أبيه وأهل بيته في واقعة كربلاء ، فإنّه ـ مع كلّ ذلك ـ كان يدعو في سرّه لجيوش المسلمين بالنصر وللإسلام بالعزّ وللمسلمين بالدعة والسّلامة ، وقد تقدّم أنه كان سلاحه الوحيد في نشر المعرفة هو : الدعاء ، فعلّم شيعته كيف يدعون للجيوش الإسلامية والمسلمين كدعائه المعروف ب (دعاء أهل الثغور) الذي يقول فيه : «اللهم صلّ على محمد وآل محمّد ، وكثّر عددهم واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم وألّف جمعهم ، ودبّر أمرهم ، وواتر بين ميرهم ، وتوحّد بكفاية مؤنهم ، وأعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصّبر ، والطف بهم في المكر» إلى أن يقول ـ بعد أن يدعو على الكافرين ـ : «اللهم وقوّ بذلك محالّ أهل الإسلام وحصّن به ديارهم وثمّر به أموالهم ، وفرّغهم عن محاربتهم لعبادتك ، وعن منابذتهم للخلوة بك ، حتى لا يعبد في بقاع الأرض غيرك ، ولا تعفّر لأحد منهم جبهة دونك» (١).

وهكذا يمضي في دعائه البليغ ـ وهو من أطول أدعيته ـ في توجيه الجيوش المسلمة إلى ما ينبغي لها من مكارم الأخلاق وأخذ العدّة للأعداء ، وهو يجمع إلى التعاليم الحربيّة للجهاد الإسلامي بيان الغاية منه وفائدته ، كما ينبّه المسلمين إلى نوع الحذر من أعدائهم وما يجب أن يتخذوه في معاملتهم ومكافحتهم ، وما يجب عليهم من الانقطاع إلى الله تعالى والانتهاء عن محارمه ، والإخلاص لوجهه الكريم في جهادهم.

وكذلك باقي الأئمة عليهم‌السلام في موقفهم مع مولك عصرهم ، وإن لاقوا منهم أنواع الضغط والتنكيل ، فإنهم لما علموا أنّ دولة لحق لا تعود إليهم

__________________

(١) ما أجمل هذا الدعاء ... وأجدر بالمسلمين في هذه العصور أن يتلوا هذا الدعاء ليعتبروا به وليبتهلوا إلى الله تعالى في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم وتنوير عقولهم.

٤٥٩

انصرفوا إلى تعليم الناس معالم دينهم وتوجيه أتباعهم التوجيه الديني العالي ، وكل الثورات التي حدثت في عصرهم من العلويين وغيرهم لم تكن عن إشارتهم ورغبتهم (١) ، بل كانت كلها مخالفة صريحة لأوامرهم وتشديداتهم ، فإنهم كانوا أحرص على كيان الدولة الإسلامية من كل أحد حتى من خلفاء بني العباس أنفسهم.

وكفى أن نقرأ وصيّة الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام لشيعته : «لا تذلّوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم فإن كان عادلا فاسألوا الله بقاءه ، وإن كان جائرا فاسألوا الله إصلاحه ، فإنّ صلاحكم في صلاح سلطانكم وانّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم ، فأحبّوا له ما تحبّون لأنفسكم ، وأكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم» (٢).

وهذا غاية ما يوصف في محافظة الرعيّة على سلامة السلطان أن يحبوا له ما يحبّون لأنفسهم ، ويكرهوا له ما يكرهون لها.

وبعد هذا ، فما أعظم تجنّي بعض كتّاب العصر ، إذ يصف الشيعة بأنهم جمعيّة سرية هدّامة ، أو طائفة ثوريّة ناقمة. صحيح أن من خلق الرجل المسلم المتّبع لتعاليم آل البيت عليهم‌السلام بغض الظلم والظالمين ، والانكماش عن أهل الجور والفسوق ، والنظرة إلى أعوانهم وأنصارهم نظرة الاستنكار والاستحقار ، وما زال هذا الخلق متغلغلا في نفوسهم يتوارثونه جيلا بعد جيل. ولكن مع ذلك ليس من شيمتهم الغدر والختل ، ولا من طريقتهم الثورة والانتفاض على السلطة الدينية السائدة باسم الإسلام ، لا سرّا ولا علنا ، ولا يبيحون لأنفسهم الاغتيال أو الوقيعة بمسلم مهما كان مذهبه وطريقته ، أخذا بتعاليم أئمتهم عليهم‌السلام ، بل المسلم الذي يشهد الشهادتين ، مصون المال ،

__________________

(١) ما قاله المصنف (قدس‌سره) غير صحيح بإطلاقه ، إذ كثير من الثورات الشيعية التي أقضّت مضاجع بني أمية وبني العبّاس كانت ممضاة من الأئمة عليهم‌السلام لما فيها من الأثر الجميل على الواقع الاجتماعي والسياسي لحظ آل البيت ، ولما فيها من إبراز مظلوميتهم وما جرى عليهم من طواغيت زمانهم ، لا سيما ثورة المختار المباركة وثورة زيد الشهيد وثورة فخ وغيرها من الثورات المقدّسة التي قادها رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.

(٢) الوسائل : كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ج ١١ ح ١ الباب ٢٧.

٤٦٠