الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

بل هم يريدون من أتباعهم أن يكونوا دعاة للحقّ وأدلاء على الخير والرشاد ، ويرون أنّ الدعوة بالعمل أبلغ من الدعوة باللسان : «كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم ، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع». (١)

ونحن نذكر لك الآن بعض المحاورات التي جرت لهم مع بعض أتباعهم ، لتعرف مدى تشديدهم وحرصهم على تهذيب أخلاق الناس.

١ ـ محاورة أبي جعفر الباقر مع جابر الجعفي (٢) :

«يا جابر ، يكتفي من ينتحل (التشيّع) أن يقول بحبّنا أهل البيت! فو الله ما (شيعتنا) إلّا من اتقى الله وأطاعه».

«وما كانوا يعرفون إلّا بالتواضع ، والتخشع ، والأمانة ، وكثرة ذكر الله ، والصوم والصلاة ، والبرّ بالوالدين ، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام ، وصدق الحديث وتلاوة القرآن ، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير ، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء» ، «فاتقوا الله واعملوا لما عند الله! ليس بين الله وبين أحد قرابة. أحبّ العباد إلى الله عزوجل أتقاهم وأعملهم بطاعته» (٣).

يا جابر ، والله ما تتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة وما معنا براءة من النار (٤) ، ولا على الله لأحد من حجّة من كان لله مطيعا فهو لنا وليّ

__________________

(١) نفس المصدر باب الورع.

(٢) نفس المصدر باب الطاعة والتقوى.

(٣) وبهذا المعنى قال أمير المؤمنين في خطبته القاصعة : (إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض واحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين).

(٤) فقوله عليه‌السلام : «وما معنا براءة من النار» معارض بالنصوص المتواترة الدالّة على أن لهم عليهم‌السلام الشفاعة للمذنبين ، ولو سلّمنا بصحة صدور الحديث عنهم عليهم‌السلام فلا بدّ من تأويل العبارة هذه بما يلي :

أ ـ المقصود من العبارة أنه ليس معنا براءة من النار لكلّ الناس بل البراءة مختصة بالمستحقّين لها.

ب ـ أو يكون المقصود ـ والله أعلم ـ أنه ليس معنا براءة كاملة لعصاة الشيعة من النار بل سوف يعذّبون فترة ثمّ تنالهم البراءة والشفاعة. للحديث المتفق عليه بين الفريقين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. (الشارح).

٤٢١

ومن كان لله عاصيا فهو لنا عدوّ. وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع».

٢ ـ محاورة أبي جعفر عليه‌السلام أيضا مع سعيد بن الحسن (١) :

أبو جعفر عليه‌السلام : أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟

سعيد : ما أعرف ذلك فينا.

أبو جعفر عليه‌السلام : فلا شيء إذن.

سعيد : فالهلاك إذن.

أبو جعفر : إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد.

٣ ـ محاورة أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام مع أبي الصباح الكناني (٢) :

الكناني لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما نلقى من الناس فيك؟!

أبو عبد الله : وما الذي تلقى من الناس؟

الكناني : لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام ، فيقول جعفري خبيث.

أبو عبد الله : يعيّركم الناس بي؟!

الكناني : نعم!

أبو عبد الله : ما أقلّ والله من يتبع جعفرا منكم! إنما أصحابي من اشتدّ ورعه ، وعمل لخالقه ، ورجا ثوابه. هؤلاء أصحابي!

٤ ـ ولأبي عبد الله عليه‌السلام كلمات في هذا الباب نقتطف منها ما يلي :

أ ـ (ليس منّا ـ ولا كرامة ـ من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون ، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه).

ب ـ (إنّا لا نعدّ الرجل مؤمنا حتى يكون لجميع أمرنا متبعا ومريدا إلّا وإن من اتباع أمرنا وإرادته الورع ، فتزينوا به يرحمكم الله).

ج ـ (ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدرات بورعه في خدورهن ،

__________________

(١) أصول الكافي كتاب الإيمان : باب حق المؤمن على أخيه.

(٢) نفس المصدر باب الورع.

٤٢٢

وليس من أولياءنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم خلق لله أورع منه).

د ـ (إنما شيعة «جعفر» من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه. فإذا رأيت أولئك ، فأولئك شيعة جعفر).

* * *

متى نشأ التشيّع؟

لعلّ طالب الحقيقة يسأل : إذا كان الإسلام دينا كاملا وشاملا جاء لهداية البشرية جمعاء ، فما بال أتباعه ينقسمون إلى طائفتين : شيعة وسنّة؟

وهل دين السنّة غير دين الشيعة ، ومتى برز اصطلاح سنّة وشيعة؟ وهل الشيعة ليسوا من أهل السنّة ، ومن هم الشيعة؟

هذه تساؤلات تعرض على بساط البحث ، وعلى طالب الحق والحقيقة أن يذعن للصواب مهما كانت النتائج مرّة وصعبة.

فنقول : إنّ مصطلح «سنّة» مع إضافة «الجماعة» إليه أي أهل السنّة والجماعة ليس له علاقة بالإسلام بل ابتدعته أراجيف السياسة الظالمة ضدّ عترة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين طهّروا بمحكم الكتاب العزيز ؛ ولو رجعنا إلى تاريخنا قليلا وحلّلنا الأسباب التي أدّت إلى نشوء هذا المصطلح يظهر لنا بوضوح أنّ هذا التقسيم برز إلى العلن وبشكل واضح ـ وإن كان لمصطلح الشيعة وجود في القرآن والسنة ـ بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالأخص يوم السقيفة المشئومة حيث انضم إلى أبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب ثلّة من الصحابة ، وأيّدهما جماعة كثيرة من الصحابة الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، وقد قام جماعة من حواريّي مولانا الإمام علي بن أبي طالب روحي فداه بمعارضة أبي بكر وجماعته.

«وبديهيّ أنّ السلطة الحاكمة أقصت هؤلاء وأبعدتهم واعتبرتهم خارجين من الصفّ الإسلاميّ وعملت بكلّ جهودها على شلّ معارضتهم بكلّ الأساليب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية».

وممّا يؤكّد صحة هذا القول أن هذا المصطلح برز بوضوح أكثر عند ما اشترط عبد الرحمن بن عوف على أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه يبايعه على شرط كتاب الله وسنة رسوله وسنّة الشيخين كما جاء ذلك في تاريخ الخلفاء للسيوطي (صفحة

٤٢٣

١٥٤ ط. قمّ) ، وقد جاء في الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ص ٤٥) : أن عبد الرحمن قال للإمام علي عليه‌السلام : أبايعك على شرط عمر أن لا تجعل أحدا من بني هاشم على رقاب الناس ، فقال الإمام (ع) : ما لك ولهذا إذا قطعتها في عنقي؟ إلى أن قال عليه‌السلام : لا والله لا أعطيكه أبدا ... وكأن سيرة الشيخين أو سنتهما شيء واجب الاتّباع في قبال سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن يظهر أنّ سنتهما تختلف عن سنّة النبي وآله الأطهار.

لذا ومن هذا المنطلق أكّد الإمام أبو الأحرار أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام في وصيّته الغرّاء لأخيه محمّد بن الحنفية بقوله : «خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب».

فسيرة الإمام علي عليه‌السلام تناهض سيرة الشيخين لأنّ سيرته امتداد لسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقابل سيرة الشيخين. فسيرة الشيخين أصبحت سنّة متّبعة مقدّسة عند أتباعهما قديما وحديثا لذا يتهمون بالرفض كل من لم يتّبع سيرتهما وكأنّ سيرتهما وحي أنزله الله تعالى ونحن نستغرب كيف أنّ اتباع مدرسة الشيخين يغالون في تقديس تلك المدرسة في حين يستنكرون على الشيعة اتّباع رسول الله وآله المطهّرين المقدّسين الذين رفعهم الله تعالى على العالمين بصريح الآيات وأحاديث النبي ، فهم عليهم‌السلام الأعلم والأفضل والأشجع والأتقى والأورع من كلّ صحابة النبي والتابعين باعتراف الخصم ، ألم يقل عمر بن الخطاب : «لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن» و «لو لا عليّ لهلك عمر» (١).

وورد بألفاظ متعددة أنّ عمر بن الخطاب قال :

١ ـ اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب (٢).

٢ ـ لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو الحسن (٣).

__________________

(١) لاحظ الاستيعاب : ج ٣ ص ٣٩ والرياض : ج ٢ ص ١٩٤ ومناقب الخوارزمي : ص ٤٨ وشرح الجامع الصغير : ص ٤١٧ وتذكرة السبط : ص ٨٧ وفيض القدير : ج ٤ ص ٣٥٧ والحاكم في المستدرك.

(٢) تذكرة السبط : ص ٨٧ ومناقب الخوارزمي : ص ٥٨ ومقتل الخوارزمي : ج ١ ص ٤٥.

(٣) إرشاد الساري : ج ٣ ص ١٩٥.

٤٢٤

٣ ـ لا أبقاني الله بعدك يا عليّ (١).

٤ ـ أعوذ بالله من معضلة ولا أبو الحسن لها (٢).

٥ ـ أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن (٣).

٦ ـ اللهم لا تنزل بي شديدة وأبو الحسن إلى جنبي (٤).

وقال معاوية : كان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذه منه (٥) ـ أي من الإمام علي ـ وقال ابن عباس حبر الأمة : والله لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر (٦).

مضافا إلى ذلك النصوص المتعددة التي بلغت حدّ التواتر تذكر بخير الإمام عليعليه‌السلام وترفع من شأنه وتجعله في مصافّ الكاملين ، ومع هذا فكيف يجرؤ العامة على تكفير الشيعة واتهامهم بالرفض ، وأنهم ـ أي الشيعة ـ رفضوا سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

وردّنا على هؤلاء : أنّ الشيعة يعتقدون أنّهم هم أهل السنّة حقيقة لأنهم ساروا على الخطى التي رسمها لهم ابن عمّ الرسول وزوج الزهراء البتول علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي اقتفى أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وكلمة «شيعة» لم يطلقها الشيعة على أنفسهم بل أطلقها القرآن عليهم والنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهنا لا بأس بالتطرّق إلى نقطتين :

النقطة الأولى : معنى الشيعة لغة واصطلاحا :

«الشيعة» لغة : الاتباع والأعوان ، أخذت من الشياع ، وكلّ قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ، والجمع : شيع قال في النهاية : إنّ أصل الشيعة «الفرقة» من الناس

__________________

(١) الرياض النضرة : ج ٢ ص ١٩٧ مناقب الخوارزمي : ج ٦ تذكرة السبط : ص ٨٨ وفيض القدير : ج ٤ ص ٣٥٧.

(٢) تاريخ ابن كثير : ج ٧ ص ٣٥٩ الفتوحات الإسلامية : ج ٢ ص ٣٠٦.

(٣) فيض القدير : ج ٤ ص ٣٥٧.

(٤) أخرجه ابن البختري كما في الرياض : ج ٢ ص ١٩٤.

(٥) مناقب أحمد ـ الرياض النضرة : ج ٢ ص ١٩٥.

(٦) الاستيعاب : ج ٣ ص ٤٠ الرياض : ج ٢ ص ١٩٤ ومطالب السئول : ص ٣٠ ولاحظ الغدير : ج ٣ ص ٩٧.

٤٢٥

وتقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنّث بلفظ واحد ومعنى واحد.

وقال ابن منظور : «الشيعة : القوم الذين يجتمعون على الأمر وكلّ قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة والشيعة أتباع الرجل وأنصاره ، وقد غلب هذا الاسم على من يتولّى الإمام علي بن أبي طالب وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين حتى صار لهم اسما خاصّا ، فإذا قيل: فلان من الشيعة عرف أنّه منهم».

وقال الأزهري : «الشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

وزبدة المخض : أنّ الشيعة تطلق على معنيين :

الأوّل : بمعنى الفرقة من الناس كقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) (مريم / ٧٠).

والمعنى : من كلّ فرقة.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) (الحجر / ١١) أي فرقهم وطوائفهم.

الثاني : بمعنى الأنصار والأعوان كقوله تعالى : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (القصص / ١٦) وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) (الصافات / ٨٤) أي من شيعة نوح لإبراهيم عليه‌السلام لأنّه كان على منهاج نوح وسنّته في التوحيد والعدل واتباع الحقّ. روي أنّ إبراهيم عليه‌السلام من شيعة النبيّ الأكرم محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قال تعالى : (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (يس / ٤٢) أي من هو أب لهم فجعلهم ذرية وقد سبقوهم.

وروى الرازي عن الكلبي : «إنّ المراد : إن من شيعة محمّد لإبراهيم بمعنى أنه كان على دينه ومنهاجه فهو من شيعته وإن كان سابقا له» (٢).

وللفظ الشيعة مفهوم أوسع من هذا ، إذ يمكن تعديته إلى كلّ أولياء الله تعالى فقد روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلس يوما يحدّث أصحابه في المسجد فقال : يا قوم إذا

__________________

(١) لسان العرب مادّة شيع : ج ٨ ص ١٨٨.

(٢) تفسير الرازي : ج ٢٦ ص ١٤٦ ومجمع البيان : ج ٨ ص ٤٤٩.

٤٢٦

ذكرتم الأنبياء الأوّلين فصلّوا عليهم ، وإذا ذكرتم أبي إبراهيم عليه‌السلام فصلّوا عليه ثم صلّوا عليّ. قالوا : يا رسول الله بما نال إبراهيم ذلك؟ قال : اعلموا أنّ ليلة عرج بي إلى السماء ، فرقيت السماء الثالثة نصب لي منبر من نور ، فجلست على رأس المنبر ، وجلس إبراهيم عليه‌السلام تحتي بدرجة ، وجلس جميع الأنبياء الأولين حول المنبر فإذا بأمير المؤمنين عليه‌السلام قد أقبل وهو راكب ناقة من نور ووجهه كالقمر وأصحابه حوله كالنجوم.

فقال إبراهيم عليه‌السلام : يا محمد : أيّ نبي معظّم هذا؟ وأيّ ملك مقرّب؟

قلت : لا نبيّ معظّم ولا ملك مقرّب ، هذا أخي وابن عمّي وصهري ووارث علمي علي بن أبي طالب.

قال : ومن هؤلاء الذين حوله كالنجوم؟

قلت : شيعته.

فقال إبراهيم : اللهم اجعلني من شيعة عليّ عليه‌السلام (١).

ملاحظة :

إنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إذا بعليّ عليه‌السلام قد أقبل وهو راكب على ناقة من نور ...» إشارة إلى التمثلات الروحية لمولانا علي عليه‌السلام وأصحابه الميامين في تلك المواطن المطهّرة لإبراز فضلهم.

ومن هذا القبيل ما رواه الحافظ الكنجي في الكفاية صفحة ٥١ : عن يزيد بن هارون عن حميد الطويل الثقة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مررت ليلة أسري بي إلى السماء فإذا أنا بملك جالس على منبر من نور والملائكة تحدّق به ، فقلت : يا جبرائيل من هذا الملك؟ قال : أدن منه وسلّم عليه. فدنوت منه وسلّمت عليه ، فإذا أنا بأخي وابن عمي علي بن أبي طالب. فقلت : يا جبرائيل سبقني عليّ إلى السماء الرابعة؟ قال لي : يا محمد لا ، ولكنّ الملائكة شكت حبّها لعلي فخلق الله تعالى هذا الملك من نور عليّ على صورة عليّ ، والملائكة تزوره في كلّ ليلة جمعة سبعين ألف مرّة يسبّحون الله ويقدسونه ويهدون ثوابه لمحبّ عليّ عليه‌السلام.

__________________

(١) مجمع البحرين : ج ٤ ص ٣٥٦.

٤٢٧

قال الشاعر العبديّ مادحا عليّا عليه‌السلام :

يا من شكت شوقه الأملاك إذ شغفت

بحبّه وهواه غاية الشغف

فصاغ شبهك ربّ العالمين فما

ينفكّ من زائر منها ومعتكف(١)

معنى «الشيعة» اصطلاحا : حيث يراد منها كل من اتبع أمير المؤمنين عليه‌السلام وقدّمه على غيره ممن اغتصب الخلافة منه عليه‌السلام.

ولو أطلق لفظ «الشيعة» بالألف واللام فهو على التخصيص لا محالة لأنصار واتّباع مولى الموحدين علي عليه‌السلام على سبيل الولاء والاعتقاد بإمامته الظاهرية بعد رحيل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأما إمامته الواقعية فهي متحققة له عليه‌السلام قبل وبعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو إمام شاء القوم أم أبوا.

أما لو أسقطت الألف واللام المعرفتين من اللفظ مع إضافة (من) التبعيضية ، فيفيد كونه غير مخصص بمن اتّبع الإمام عليّا عليه‌السلام فيقال حينئذ : هؤلاء من شيعة بني أمية ، أو من شيعة بني العبّاس أو من شيعة فلان وفلان.

قال الشهرستاني وهو من علماء العامة معرّفا «الشيعة».

قال : الشيعة الذين شايعوا عليّا عليه‌السلام على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته نصّا ووصية ، إما جليا ، وإما خفيا ، واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج من أولاده ، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره ...» (٢).

ولفظ «الشيعة» اصطلاحا وإن كان يصدق مجازا على غير المعتقدين بإمامة باقي الأئمة عليهم‌السلام كالزيدية والاسماعيلية والفطحية الخ ... إلّا أنه حقيقة مختص بمن وآلى واتبع واعتقد بإمامة الاثني عشر أولهم مولانا أمير المؤمنين وآخرهم حبيب قلوبنا الإمام الحجّة بن الحسن العسكري (عج) الشريف ، ونحن نعتقد أنّ كل من لم يوال باقي الأئمة عليهم‌السلام فهو تماما كمن لم يعتقد بالإمام علي عليه‌السلام أصلا ، للأدلة الدالّة على الاعتقاد بهم كمجموع ، منها :

خلفائي بعدي اثنا عشر كعدة نقباء موسى.

__________________

(١) الغدير : ج ٢ ص ٣٢٠.

(٢) الملل والنحل : ج ١ ص ١٤٦.

٤٢٨

ولا ينقضي هذا الأمر حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.

وفي تعبير آخر : كلهم من بني هاشم (١).

النقطة الثانية : مصدر التشيع :

إنّ المتصفح لأوراق التاريخ والحديث والتفسير يرى بوضوح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول من أطلق ـ بعد كتاب الله ـ لفظة «شيعة» على أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام كسلمان المحمدي وأبي ذرّ الغفاري وعمّار بن ياسر والمقداد وأمثالهم ، لذا ورد التأكيد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلال حياته المباركة على تأصيل وتجذير هذا المصطلح علي أصحاب وصيه وحبيبه الإمام علي عليه‌السلام ليكون بمثابة البذرة في الأرض كي تثمر في المستقبل وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، وهناك نصوص متعددة تثبت هذا المدّعى ، منها :

١ ـ ما ورد عن تفسير الصافي عن الأمالي عن جابر بن عبد الله قال : كنّا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أتاكم أخي ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده ثم قال : «والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ثم قال : إنه أولكم إيمانا معي وأوفاكم بعهد الله ، وأقومكم بأمر الله وأعدلكم في الرعية وأقسمكم بالسوية وأعظمكم عند الله مزيّة ، قال : نزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وكان أصحاب محمد إذا أقبل عليّ قالوا جاء خير البرية(٢).

٢ ـ ما ورد عن الحاكم الحسكاني الحنفي النيسابوري من أعلام القرن الخامس الهجري ، بألفاظ وطرق متعددة تبلغ حدّ التواتر ، نقتبس منها ما ورد عن يزيد بن شراحيل الأنصاريّ كاتب الإمام علي عليه‌السلام قال : «سمعت الإمام عليّا يقول : حدثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا مسنده إلى صدري فقال : أما تسمع قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب تدعون غرّا محجّلين» وأورد عن تميم بن حذلم عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) لاحظ القندوزي في ينابيع المودة : ص ٣٠٨ ومسند أحمد : ج ٥ ص ٨٩ ومستدرك الحاكم : ج ٤ ص ٥٠١ ومجمع الزوائد : ج ٥ ص ١٩٠ وكنز العمال : ج ٦ ص ٢٠١.

(٢) تفسير الصافي : ج ٥ ص ٣٥٥ ط. الأعلمي.

٤٢٩

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : «هو أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، ويأتي عدوّك غضبان مقحمين». (١)

وروى مثل ذلك الفيروزآبادي في فضائل الخمسة من الصحاح الستّة عن تفسير الطبري والسيوطي والصواعق المحرقة ونور الأبصار. (٢)

ورواه القندوزي الحنفي بطرق متعددة عن الديلمي في مسنده والطبراني في الكبير عن أبي رافع : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا علي ، أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وذريّاتنا خلف ظهورنا وأزواجنا خلف ذريّاتنا وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا» (٣).

إذن ، فإنّ تجذير وتأصيل هذا المصطلح إنّما كان في عهد النبي وصار شعارا لكلّ موال للإمام عليّ عليه‌السلام إلّا أن هذا الشعار لم ينقلب إلى حقيقة ثابتة ولم يتجسّد إلى واقع عمليّ إلّا بعد رحيل الرسول إلى عالم الخلد حيث بعد وفاته انحرف كثير من الصحابة الذين كانوا يتظاهرون بالولاء للإمام عليّ عليه‌السلام فافترقوا إلى فرق :

الأولى : فرقة المحايدين أو المذبذبين لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.

الثانية : أتباع المدرسة البكريّة التي شيّد بنيانها في سقيفة بني ساعدة.

الثالثة : أتباع المدرسة العلويّة كسلمان وأبي ذرّ وخواصّ أصحاب النبي وأمير المؤمنين ، وهؤلاء أفضل الصحابة وقفوا بجانب الوصي ، فقد عرفوا في حياة الرسول بشدّة اليقين بخلاف أتباع المدرسة البكرية فلم يعهد لواحد منهم تمرس في قتال أو شدّة إيمان كما كان يتحلّى به أتباع مدرسة الإمام علي عليه‌السلام.

فمدرسة الإمام علي عليه‌السلام عرفت بالتشيّع والولاء له لأنه صاحب الحقّ بنص القرآن وأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تقدّم وليس التشيّع بدعا من الدهر ابتدعه رجل يهودي يسمّى عبد الله بن سبأ كما ادّعى ذلك أحد علماء العامّة محمد رشيد

__________________

(١) شواهد التنزيل : ج ٢ ص ٣٥٨ ط. الأعملي ، وفي هامش شواهد التنزيل قال : وفي غير واحد من المصادر «غضابا مقمحين». المقماح : خوض الشدائد ، والاقماح : المذلة.

(٢) فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج ١ ص ٢٧٨.

(٣) ينابيع المودة : ص ٣٢٣ ط. قم.

٤٣٠

رضا صاحب مجلّة المنار المصرية ، قال :

«وكان مبتدع أصول التشيّع يهوديّ اسمه عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام خداعا ودعا إلى الغلوّ في عليّ كرّم الله وجه لأجل تفريق هذه الأمة وإفساد دينها ودنياها عليها ...» وسار على خطاه أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام ، وكذلك فريد وجدي في دائرة المعارف ، وحسين إبراهيم في كتابه «الإسلام السياسيّ» كل هؤلاء قلّدوا المؤرخ القديم الطبري في تاريخ : ج ٣ ص ٣٧٨ حيث قال :

«إن عبد الله بن سبأ كان يهوديا من أهل صنعاء أمه سوداء أسلم زمان عثمان ثم تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم وقال لهم :

إنّه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان عليّ وصيّ محمّد ثم قال : محمّد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء ... ثم قال : ومن أظلم ممن لم يجز وصيّة رسول الله ووثب على وصيّ رسول لله وتناول أمر الأمة ، ثمّ إنّ عثمان أخذها بغير حقّ وهذا وصيّ رسول الله فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه وابتدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...».

«ثمّ إنّ ابن سبأ بثّ في البلاد الإسلامية دعاته وأشار عليهم بالطعن في الأمراء فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين فيهم الصحابي الجليل أبو ذر وعمّار بن ياسر ومحمد بن أبي حذيفة وعبد الرحمن بن عديس ومحمد بن أبي بكر ومالك الأشتر وغيرهم ، فكانت السبئية تثير الناس على ولاتهم تنفيذا لخطّة زعيمها ممّا أدّى إلى تحريض جماعة من المسلمين فقدموا المدينة وحاصروا عثمان بن عفان في داره حتى قتل فيها ...».

إن ما ذكره المفترون من كون مصدر التشيّع عبد الله بن سبأ يشكل عليه بالنقاط التالية :

* أولا : إن مبدأ التشيّع كان سابقا على ظهور عبد الله بن سبأ ، ولكنّ أعداء الشيعة استغلّوا دعوى اعتقاده بأحقية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وبالبراءة من أعدائه ، حيث إنّ الرجل المذكور قد فضح مخالفي الإمام عليه‌السلام ، وكفّرهم ، من هنا قال من خالف الشيعة أن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهود على حدّ

٤٣١

تعبير الرجالي المرموق محمّد بن قولويه القمي (١).

* ثانيا : ما جاء به الطبري وأتباعه ، من أن الرجل المذكور أغرى كبار الصحابة ما هو إلّا أسطورة اختلقها أعداء الشيعة بغضا بهم ، إذ كيف يصدّق المرء أن يهوديا جاء من صنعاء استطاع أن يغري كبار الصحابة والتابعين ، ويحرّضهم على الخروج ضدّ أمرائهم في تلك الفترة القاسية ، وهل أغراهم بالمال والسلطة أم بشيء آخر؟ مع أن المذكورين من أهل التقوى والورع واليقين ، عرضت عليهم الدنيا بزخارفها منذ عهد النبي إلى خلافة عثمان ، فرفضوها ، هل يمكن إذن أن يغري هكذا رجل جماعة بهذا المستوى الإيماني؟! وهل كانوا سذّجا حتى يمكن أن يستميلهم عبد الله بن سبأ؟! ولو سلّمنا أنه حرّضهم على الخروج ضدّ أمرائهم ـ وفرض المحال غير محال ـ فما الضّير في ذلك ما دام حكام تلك الفترة لم يحكموا بمبادىء الإسلام ، لا سيما عثمان بن عفان الذي تمادى كثيرا في ظلم شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث نفى أبا ذرّ الغفاري إلى الربذة ، تلك المنطقة الصحراوية الجرداء حتى مات فيها وحيدا غريبا ، وضرب عمّار بن ياسر الصحابي الجليل حتى حصل له فتق في بطنه ، وضرب أيضا عبد الله بن مسعود سيّد القرّاء ، إلى غير ذلك من أفعال نكراء صدرت منه ، حرّكت ضمائر اشراف المسلمين ، فنهضوا لقتاله ، والمرء يستغرب كيف يترك ابن سبأ المحرّض ضد السياسة العثمانية ، في حين كان الذين حرّضهم ابن سبأ قد وقعوا فريسة أنياب عثمان ، فشرّد من شرّد وقتل من قتل؟!

ولا يبعد القول : أنّ السبئية فكرة خيالية ، نسجتها أياد خبيثة طعنا بالشيعة واتّهامهم بالرفض اليهودي ، ويؤكد هذا ما ذكره بعض كبار العامة كعبد ربّه المالكي ؛ قال «بأن الرافضة ـ يعني الشيعة ـ يهود هذه الأمة» (٢).

وكعبد الله الجميلي صاحب كتاب (بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود ـ ط. مكتبة الغرباء الأثرية في المدينة المنورة).

قال الدكتور طه حسين : «وأكبر الظن أن عبد الله بن سبأ ، إن كان كلّ ما يروى عنه صحيحا ، إنما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة ، وعظم

__________________

(١) لاحظ تنقيح المقال للممقاني ج ٢ / ١٨٤ ط. حجري.

(٢) الغدير للعلّامة الأميني ج ٣ / ٧٨ نقلا عن العقد الفريد.

٤٣٢

الخلاف ، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها ، وأن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين ، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية ، وليشنّعوا على عليّ عليه‌السلام وشيعته من ناحية أخرى فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدا للمسلمين وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة؟ (١).

ثالثا : على فرض أنّ الرجل حقيقة وليس أسطورة تاريخية لكن لا شك أنّ ما نقل عنه في ذلك المجال سراب وخداع ، لأنّنا نشك أن يكون لابن سبأ هذا الأثر الفكري العميق مؤثرا على صحابة بلغوا القمة في العلم والعمل ، عدا عن أنه أحدث انشقاقا عقائديا بين طائفة كبيرة من المسلمين.

رابعا : إن الشيعة برمّتهم يتبرّءون من الرجل المذكور لغلوه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام على فرض صحة ما نسب إليه وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام استتابه ثلاثة أيام فلم يرجع فأحرقه بالنار في جملة سبعين رجلا (٢).

وقال الشيخ الطوسي (قدس‌سره) (٣٨٥ ـ ٤٦٠) في رجاله في باب أصحاب أمير المؤمنين : عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ (٣).

وقال الشيخ الحلي «قدس‌سره» (٦٤٨ ـ ٧٢٦) : غالّ ملعون ، حرّقه أمير المؤمنين عليه‌السلام بالنار ، كان يزعم أن عليا إله وأنّه نبي ، لعنه الله (٤).

وقال ابن داود (٦٤٧ ـ ٧٠٧) : عبد الله بن سبأ رجع إلى الكفر وأظهر الغلو (٥).

وقال الشيخ حسن (ت عام ١٠١١) في التحرير الطاوسي : غال ملعون حرّقه أمير المؤمنين عليه‌السلام بالنار (٦).

خامسا : على فرض أنّ كلّ ما ساقوه في القصة صحيح ، ولكن لا ملازمة

__________________

(١) الفتنة الكبرى فصل ابن سبأ والغدير ج ٩ / ٢٢٠.

(٢) رجال الكشّي ، صفحة ٩٨ ، رقم ٤٨.

(٣) رجال الطوسي ، باب أصحاب علي عليه‌السلام ، رقم ٧٦ ، ص ٥١.

(٤) الخلاصة للعلامة الحلي : القسم الثاني ، الباب الثاني ، ص ٢٣٦.

(٥) رجال ابن داود : القسم الثاني ص ٢٥٤ رقم ٢٧٨.

(٦) التحرير الطاوسي ص ١٧٣ رقم ٢٣٤.

٤٣٣

بين التصديق بها ، وبين أن ذلك الحدث هو منشأ مذهب الشيعة ، فإن التشيّع حدث ـ كما قلنا ـ في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتنقته أمّة مسلمة ورعة من الصحابة والتابعين ، وأما ما قام به ابن سبأ على فرض صحة وقوعه ، فإنه يعبّر عن موقف فردي ، وتصرّف شخصي خارج عن إطار المذهب ومن تبعه. فالواجب على أصحاب الضمائر الحرة عند علماء السنّة أن لا يقعوا في محذور إساءة الظن بإخوانهم الشيعة الذين تمسّكوا بالكتاب وسنّة النبي وعترته الطاهرة الذين أمر النبيّ المسلمين بالتمسّك بهما ، وأنّ من تخلّف عنهما غرق وهوى.

نظريات أخرى :

وهناك نظريات أخرى ترجع أصل التشيع إليها ، منها :

 ـ النظرية الأولى : ترجع التشيّع إلى ما بعد وفاة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر العلّامة الشيخ جعفر السبحاني أنّ المؤرخ اليعقوبي ممّن تبنّوا هذه النظرية فقال : «وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبيّ بن كعب» (١).

ولكن يرد عليه :

إنّ مجرد الميل إلى الإمام علي عليه‌السلام ليس دليلا على أن مصدر التشيّع كان يوم السقيفة ، فلا توجد ملازمة بين الميل إلى مولانا علي عليه‌السلام وبين مصدر التشييع.

 ـ النظرية الثانية : ترجع أصل التشيّع إلى عهد عثمان بن عفان ، نتيجة أحداث وتناقضات أفرزتها سياسة الحكام المنحرفين ، ممّا هيّأ جوا ملائما لنشوء الفرق والأحزاب.

ومن مؤيدي هذا الاتجاه جماعة من المؤرخين منهم : ابن حزم وجماعة آخرون ذكرهم يحيى هاشم فرغل في كتابه (عوامل وأهداف نشأة علم الكلام ، ج ١ ص ١٠٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ / ١٢٤.

٤٣٤

 ـ النظرية الثالثة : ترجع أصل التشيّع إلى أيام خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وممّن قال بهذا الرأي ابن النديم في الفهرست ص ٢٢٣ ، قال : «لمّا خالف طلحة والزبير عليّا عليه‌السلام ، وأبيا إلّا الطلب بدم عثمان بن عفان ، وقصدهما علي عليه‌السلام ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله تعالى ، تسمّى من اتّبعه على ذلك بالشيعة ، فكان يقول : «شيعتي».

 ـ النظرية الرابعة : ترجع أصل التشيّع إلى أيام شهادة الإمام الحسين عليه‌السلام وما أفرزته تلك الواقعة الفريدة من تطورات هامة في داخل الساحة الإسلامية ، ومن مؤيدي هذا الاتجاه: الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيّع ، ج ١ ص ٢٢) وبروكلمان في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية ص ١٢٨).

 ـ النظرية الخامسة : ترجع أصل التشيّع إلى الأصول الفارسية ، ومن أنصار هذه النظرية كثير من المستشرقين حيث لهم تلميحات وإيماءات تشير إلى ذلك ، وكذا أبو زهرة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية) ، وأحمد عطية في كتابه (القاموس الإسلامي).

 ـ النظرية السادسة : ترجع أصل التشيع إلى عهد الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قام تلميذه هشام بن الحكم بوضع قواعد وأسس المذهب الشيعي ، ومن مؤيدي هذه النظرية الدكتور محمد عمارة في كتابه (الإسلام وفلسفة الحكم ص ١٥٨).

هذه أهم النظريات عن أصل التشيع وكلّها مردودة جملة وتفصيلا ، لأنّ التشيع ـ وكما قلنا سابقا ـ أول حركته كانت منذ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي أصّل قواعده وثبّت دعائمه ، فمن خلال إلقاء نظرة تدبرية على النصوص المحمدية نجد بوضوح أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل شيعيّ مناصر لعليّ عليه‌السلام ، ألم يصرّح النبي في غدير خم : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ، وما ورد عن أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ وشيعته هم الفائزون يوم القيامة».

والتشيع برأي تلكم النظريات لا يحظى بجذور فكرية أصيلة ، فهو وإن كان في نشأته الأولى تيارا سياسيا محضا ـ وهو ما أكد عليه عدد من المستشرقين منهم برنار لويس وجولد سهير وغيرهما ـ إلّا أنه في تكوينه المذهبي اللاحق كان من وحي اليهودي المتأسلم عبد الله بن سبأ ، وهذا ما أكدته المصادر السنية المتقدمة ،

٤٣٥

حيث صوّرت للآخرين أن هذا التشيّع الذي بدأ سياسيا ـ نتيجة ظروف تاريخية ـ سرعان ما انتظم في تعاليم دخيلة انتحلها بشكل منتظم بعض الثوّار على النظام الأموي أو هشام بن الحكم في بداية الحكم العباسي كما نصّت عليه النظريتان الأخيرتان ـ من خلال هذه المماحكة ، يحاول أعداء الشيعة لفت الأنظار إلى كون الأمة التي تفجّر منها ذلك الصراع السياسي الأول ، وبالتالي الموقف الشيعي من الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، يصعب الإمساك بها ، في حين لم تعد الجماعة التي ناصرت عليّا عليه‌السلام تملك مشروعية ما ، غير أنها ضالة ، وانتهى بها الإخفاق السياسي إلى مدّ الجسور مع القوى المتآمرة ضد السلطة السياسية القائمة ، وضدّ الإسلام بشكل عام.

نحن إذن ، أمام مشروعية زئبقية للموقف الشيعي ، مشروعية لم تبرح كونها في الزمن الأول ولاء سياسيا للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام حيث تنطلي عليه اللعبة ، فلا يكون الإمام عليه‌السلام سيّد الحملة التصحيحية التي يسمّيها بعضهم «الفتنة» ، بل كان الأمر هنا يتعلق بيهودي مجهول الأصل ، وظّف شخصية علي بن أبي طالب عليه‌السلام في مؤامرة يهودية.

* * *

٤٣٦

الباب الرّابع والثّلاثون

عقيدتنا في الجور والظلم

قال المصنّف (قدّس الله سرّه) :

من أكبر ما يأخذه الأئمة عليهم‌السلام على الإنسان من الذنوب : الظلم والعدوان على الغير ، وذلك اتباعا لما جاء في القرآن الكريم من استنكار الظلم ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ).

وقد جاء في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ما يبلغ الغاية في تصوير الظلم ، كقوله في نهج البلاغة برقم ٢١٩ : «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت» وهذا غاية ما يمكن أن يتصوره الإنسان في التعفف عن الظلم والحذر من الجور واستنكاره وإنّه لا يظلم «نملة» في قشرة شعيرة وإن أعطي الأقاليم السبعة. فكيف حال من يلغ في دماء المسلمين وينهب أموال الناس ويستهين في أعراضهم وكراماتهم؟ كيف يكون قياسه إلى فعل أمير المؤمنين؟ وكيف تكون منزلته من فقهه صلوات الله عليه؟ إنّ هذا هو الأدب الإلهيّ الرفيع الذي يتطلبه الدين من الشر.

نعم ، إنّ الظلم من أعظم ما حرّم الله تعالى ، فلذا أخذ من أحاديث آل البيت وأدعيتهم المقام الأوّل في ذمّه وتنفير أتباعهم عنه.

وهذه سياستهم عليهم‌السلام ، وعليها سلوكهم حتى مع من يعتدي عليهم. وقصّة الإمام الحسن عليهم‌السلام معروفة في حلمه عن الشامي الذي اجترأ عليه

٤٣٧

وشتمه ، فلاطفه الإمام وعطف عليه ، حتى أشعره بسوء فعلته. وقد قرأت آنفا في دعاء سيد الساجدين من الأدب الرفيع في العفو عن المعتدين وطلب المغفرة لهم. وهو غاية ما يبلغه السمو النفسي والإنسانية الكاملة ، وإن كان الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى جائزا في الشريعة وكذا الدعاء عليه جائز مباح ، ولكن الجواز شيء ، والعفو الذي هو من مكارم الأخلاق شيء آخر ، بل عند الأئمة أنّ المبالغة في الدعاء على الظالم قد تعدّ ظلما ، قال الصادق عليه‌السلام : «إن العبد ليكون مظلوما فما يزال يدعو حتى يكون ظالما» (١) أي حتى يكون ظالما في دعائه على الظالم بسبب كثرة تكراره. يا سبحان الله! أيكون الدعاء على الظالم إذا تجاوز الحدّ ظلما؟ إذا ما حال من يبتدئ بالظلم والجور ، ويعتدي على الناس ، أو ينهش أعراضهم ، أو ينهب أموالهم أو يشي عليهم عند الظالمين ، أو يخدعهم فيورطهم في المهلكات أو ينبزهم ويؤذيهم ، أو يتجسس عليهم؟ ما حال أمثال هؤلاء في فقه آل البيتعليهم‌السلام؟ إنّ أمثال هؤلاء أبعد الناس عن الله تعالى ، وأشدّهم إثما وعقابا وأقبحهم أعمالا وأخلاقا.

* * *

أقول : عرّف الجور والظلم : بأنّ الجور هو الحيف الذي يتعدّى من الشخص لغيره أو الميل عن القصد.

والظلم مثل الجور إلّا أنه أعمّ فهو يتناول وضع الشيء في غير موضعه (٢).

وقال بعضهم : إنّ الجور خلاف الاستقامة في الحكم وفي السيرة السلطانية تقول جار الحاكم في حكمه والسلطان في سيرته إذا فارق الاستقامة في ذلك ، والظلم ضرر لا يستحق ولا يعقب عوضا سواء كان من سلطان أو حاكم أو غيرهما ألا ترى أن خيانة الدانق والدرهم تسمى ظلما ولا تسمى جورا فإن أخذ ذلك على وجه القهر أو الميل سمي جورا ، وأصل الظلم نقصان الحق ، والجور

__________________

(١) البحار : ج ٩٠ ص ٣٢٥.

ووجه صيرورته ظالما بأمرين :

١ ـ أنه يدعو فلا يستجاب له فيقنط فيصير ظالما بعد ما كان مظلوما.

٢ ـ أن يدعو حتى يتعدّى مظلوميته. (من الشارح).

(٢) لسان العرب : ج ١٢ ص ٣٧٢.

٤٣٨

العدول عن الحق من قولنا جار عن الطريق إذا عدل عنه (١).

أنواع الظلم :

ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : ظلم بين الإنسان وربّه ، وأعظمه الشرك والكفر والنفاق ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان / ١٤).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (الأنعام / ٢٢).

وهؤلاء لهم عذاب عظيم عند ربّهم قال تعالى : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (الإنسان / ٣٢).

الثاني : ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، وقد ذمّ الله سبحانه مرتكبيه قال تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى / ٤١) (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) (الشورى / ٤٣).

الثالث : ظلم الإنسان لنفسه ومنه قوله تعالى :

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) (فاطر / ٣٣).

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (الصافات / ١١٤).

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) (القصص / ١٧).

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (الأعراف / ٢٤).

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل / ٣٤).

والظالمون الثلاثة ـ الظالم لربّه والظالم لأخيه والظالم لنفسه ـ تربطهم صفة واحدة مشتركة هي الظلم ، لكن ظلم الأول والثاني أقبح من الثالث ، لأنّ الأولين ظالمان لنفسيهما مع ظلمهما للآخرين ، لأنّ الإنسان عند تعدّيه على غيره بظلم يكون قد ظلم نفسه.

والظلم قبيح بمقتضى ضرورة العقل والشرع ، وقبحه ذاتي لا يمكن أن تغيّره

__________________

(١) الفروق اللغوية : ص ١٩١ لأبي هلال العسكري.

٤٣٩

المحسّنات الاعتبارية ، فهو قبيح عند كل العقلاء ، لا فرق بقبح صدوره من المؤمن أو الكافر، فالظلم قبيح ولو صدر من مؤمن ، والعدل حسن ولو صدر من كافر.

لذا ورد عن مولى الثقلين علي بن أبي طالب روحي فداه أنه قال : «وأيم الله لأبقرنّ الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته» (١).

«لا يؤنسنّك إلّا الحق ولا يوحشنّك إلّا الباطل» (٢).

وقال روحي فداه :

«أيها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل ، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ، ولم يقو من قوى عليكم ، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل ولعمري ليضعفنّ لكم التّيه من بعدي أضعافا بما خلّفتم الحق وراء ظهوركم» (٣).

وقال عليه‌السلام في حق الشيخين :

«وتركا الحق وهما يبصرانه ، وكان الجور هواهما والاعوجاج رأيهما ، وقد سبق استثناؤنا عليهما في الحكم بالعدل والعمل بالحق سوء رأيهما وجور حكمهما ، والثقة في أيدينا لأنفسنا ، حين خالفنا سبيل الحق» (٤).

«رحم الله رجلا رأى حقا فأعان عليه أو رأى جورا فردّه وكان عونا بالحق على صاحبه» (٥).

__________________

(١) موضوعات نهج البلاغة : ص ٦٧٨ انتشارات جهان قم.

(٢) نفس المصدر : ص ٦٨٠.

(٣) نفس المصدر.

(٤) الدليل على موضوعات نهج البلاغة ط قم ص ٦٨٢.

(٥) نفس المصدر والصفحة.

٤٤٠