الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

الدليل الرابع :

طلب الحاجة من غير الله سبحانه محرّم ، بدعوى أنّ الاستشفاع من الأولياء يعني الاستعانة بغيره وهو غير جائز بنص القرآن كما في قوله تعالى :

(فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (الجن / ١٩).

(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر / ٦١).

والجواب :

١ ـ إنّ المقصود من قوله تعالى : (فَلا تَدْعُوا ...) هو الدعوة المحرّمة المقرونة بالعبادة والاعتقاد بألوهية ذلك المدعو وربوبيته وليس المقصود من تحريم دعوة غير الله في الآية الدعوة المطلقة الشاملة للأوثان والصالحين.

فمعنى الآية : لا تعبدوا مع الله أحدا في العبادة كما قال في آية أخرى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (الفرقان / ٦٩).

٢ ـ إنّ ما تحرّمه الآية وتنهى عنه هو أن ندعو مع الله أحدا ونجعله مساويا في الدعاء كما تدلّ على هذا جملة (مَعَ اللهِ) فإذا طلب إنسان من النبي أو الولي عليهما‌السلام أن يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء والتوسّل لقضاء حاجته وغفران ذنوبه فليس معناه أنه دعا مع الله أحدا ، بل إنّ هذا الدعاء في الحقيقة ليس إلّا دعاء الله سبحانه قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وما أشارت إليه بعض الآيات كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (الأعراف / ١٩٥).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (الأنعام / ١٩٨).

فإنّ هاتين الآيتين تشيران إلى أن المشركين كانوا يعتبرون الأصنام آلهة صغارا تملك الاختيار الكامل لأفعال الله تعالى كلها أو بعضها ، لذا انتقدهم سبحانه بهاتين الآيتين وغيرهما.

والخلاصة : إنّ المشركين كانوا يعتبرون أصنامهم آلهة صغارا وإنّ أفعال الله تعالى مفوّضة إليها بشكل مطلق ، لكنّ طلب الشفاعة والدعاء من إنسان منحه الله

٤٠١

هذا الحق ، وهذه المنزلة فاقدة للخصائص والشرائط التي كان يتحلّى بها الجاهلون بعبادتهم للأصنام.

 ـ هذه أهم الأدلة عند الوهابيين على حرمة التشفع بالأولياء ، وقد عرفت بطلانها وسخافتها ، حيث إن ما استدل به هؤلاء على حرمة التشفع دونه خرط القتاد ، بل لا يصح أن نسميه دليلا لأنه مجرد تخرّص على الغيب وتحريف للكلم عن مواضعه (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (يونس / ٦٠).

النقطة الرابعة : أدلة جواز التوسل :

عند ما يتوسّل المتوسلون لا يعني ذلك أنه سبحانه لا يسمع دعاءهم إلّا عبر واسطة ، وإنما فائدة الوسيلة والغاية منها هي أن قابلياتنا ناقصة ، فهي بحاجة إلى كامل يفيض عليها من الجود والكرم والعفو والمغفرة ، فالشفاعة أو الوسيلة هي عبارة عن جعل شيء بين الفيض والإيجاد والإنسان الكامل المتوسّل به هو محل الفيض الإلهي لسعة قابليته وشدة إحاطته ، فالنبي محمد وآله المعصومون المطهّرون الكاملون هم المخصوصون بالشفاعة الكبرى والمقام المحمود ، ومعنى الشفاعة على حدّ تعبير العلّامة المجلسي (قدس‌سره).

إنهم وسائط فيوض الله تعالى ، في هذه النشأة والنشأة الأخرى ، إذ هم القابلون للفيوضات الإلهية والرحمات القدسية ، وبفيضهم تفيض الرحمة على سائر الموجودات ، وهذه هي الحكمة في لزوم الصلاة عليهم ، والتوسّل بهم في كل حاجة لأنّه إذا صلّى عليهم لا يردّ لأنّ المبدأ فيّاض والمحل قابل وببركتهم تفيض على الداعي بل على جميع الخلق (١).

والخلاصة : إن التوسل فعل مشروع بنص الكتاب وأحاديث السنة وسيرة المسلمين.

فأمّا الكتاب :

١ ـ فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة / ٣٦) خاطب الله سبحانه وتعالى

__________________

(١) في المصدر هكذا ، ولكن الأصح إضافة كلمة مقدّرة بعد كلمة «الداعي» فالمعنى هكذا : وببركتهم تفيض على الداعي الخيرات ...».

٤٠٢

في هذه الآية المؤمنين بثلاثة تكاليف يؤدي الالتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح والحياة الرغيدة ، وهذه التكاليف هي :

التكليف الأول : تقوى الله تعالى بمعنى أخذ الحيطة والحذر من الوقوع في المعاصي والمزالق المؤدية إلى الهلاك والخسران (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).

التكليف الثاني : وجوب انتخاب وسيلة للتقرّب إليه تعالى كفعل الطاعات وما شابه ذلك (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).

التكليف الثالث : الجهاد في سبيل الله (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ).

هذا هو الرأي السائد بين المفسرين في تفسيرهم للآية المباركة ، ولكننا نفهم من الآية معنى آخر مفاده : أن الأمر بالتقوى عبارة عن ترك المعاصي والإتيان بالواجبات المقرّرة في الشريعة المقدّسة.

والأمر بانتخاب وسيلة عبارة عن اتّخاذ قدوة إليه تعالى بواسطته يتم الوصول إلى المقصود والغاية المنشودة فالتقوى من دون الالتزام بالوسيلة لا معنى لها ، كما أن اتخاذ الوسيلة من دون الجهاد ـ سواء كان جهادا نفسيا أم خارجيا ـ يعتبر عملا ناقصا بحاجة إلى ما يكمّله ، فالعناصر الثلاثة : التقوى+ الوسيلة+ الجهاد تشكّل منعطفا عظيما نحو التكامل والارتقاء.

لذا نبحث هنا في أمرين باختصار :

الأول : ما هو مفهوم «الوسيلة» في اللغة العربية؟

الثاني : هل أن التوسل بالأنبياء والأولياء من مصاديق مفهوم الوسيلة أو لا؟

والجواب عن الأمرين :

فالوسيلة لغة هي : القربة والوصلة ، وهي فعيلة ، من وسل إليه إذا تقرّب إليه قال لبيد الشاعر :

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم

ألا كل ذي لبّ إلى الله واسل

أي متوسل ، فالوسيلة هي التي يتوسل بها إلى المقصود ، ومفهوم «الوسيلة» واسع له مصاديق متعددة ، فالوسيلة تشمل كل عمل أو شيء يؤدي إلى التقرّب إليه سبحانه لذا قال ابن منظور :

٤٠٣

«توسل إليه بوسيلة : إذا تقرّب إليه وتوسل إليه بكذا تقرّب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه ، وهي في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرّب به ويطلق على كل عمل خالص يسلك به طريق التقرّب إلى الله بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات. والوسيلة الوصلة والقربى وجمعها الوسائل قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)» (١).

فكما أن العبادات وكل الطاعات وسائل إليه تعالى للقرب منه ونيل ألطافه كذا شفاعة الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين يعدّ تقرّبا إليه تعالى وفق ما نصّ عليه القرآن الكريم وهي داخلة في مفهوم الوسيلة ، والذين خصصوا هذه الآية وقيدوها ببعض المفاهيم لا يمتلكون في الحقيقة أي دليل على هذا التخصيص لأنّ كلمة «وسيلة» تطلق في اللغة على كل شيء يؤدي إلى التقرّب ، لذا من أهم الوسائل إليه تعالى الاقتداء بأئمة الهدى المنصوبين من قبله تعالى ، من هنا وردت النصوص الصريحة والواضحة أن «الوسيلة» هي علي (٢) بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال القمي (قدس‌سره) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) قال : تقرّبوا إليه بالإمام (٣).

وهناك وسائل أخرى قد تحدّث عنها القرآن يمكن بواسطتها العروج إلى الكمال المطلق والحياة الأبدية.

من هذه الطرق : الصلاة والصوم كما قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة / ١٥٤).

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت / ٤٦).

فالصلاة وسيلة للنهي عن الفحشاء والمنكر.

ومن الطرق أيضا : «مودّة أهل القربى» فقد أجمع المفسرون أن المقصود من قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى / ٢٤).

__________________

(١) لسان العرب : ج ١١ ص ٧٢٤.

(٢) تفسير الميزان : ج ٥ ص ٣٣٣ نقلا عن ابن شهرآشوب.

(٣) تفسير القمي : ج ١ ص ١٩٥ ط. دار السرور.

٤٠٤

هم أهل البيت عليه‌السلام (١) ، هذه المودة هي جسر للسعادة ووسيلة للقرب منه تعالى.

فمودة آل البيت عليهم‌السلام هي السبيل المشار إليه في الآية ، والتي عبّرت عنه سورة الفرقان آية ٥٨ :

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فالمودّة في القربى هي نفس «السبيل» المشار إليه في هذه الآية المباركة.

وأحب أن أنوّه بأنه ليس المقصود من «المودة» الحب الجاف الأجوف ، بل المراد هو الحب الخالص البنّاء ، الذي يكون أساس تجانس الطرفين ، ونفوذ المحبوب في قلب المحب ، ونتيجة ذلك هو التشابه الخلقي بهؤلاء والتكامل الروحي في ضوء الإتيان بالفرائض والابتعاد عن المعاصي ، لأنّ مودة كهذه تكون هي الطريق الذي يمهّد نحو السعادة ، وأن الهدف من الرسالة هو قيادة الناس إلى هذه السبل والطرق ، وعلى هذا فإن مودة هؤلاء الأعاظم توجب فائدة عظيمة ترجع آثارها على الإنسان المحب ، وليس لصاحب الرسالة ، وإلى هذا أشار قوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (سبأ / ٤٨).

وعلى هذا الأساس يمكن للمودة في القربى أن تكون إحدى الوسائل التي دعانا إليها سبحانه في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولو توسلنا إليه بالنبي محمّد وآله المعصومين فإننا لا محالة فائزون منتصرون.

٢ ـ ومن الآيات الدالّة على جواز التوسّل ومشروعيته ، قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء / ٦٥).

٣ ـ وقوله تعالى : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٨) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف / ٩٨ ـ ٩٩).

هنا تشير الآية إلى إخوة يوسف كيف طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم

__________________

(١) لاحظ تفسير شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي : ج ٢ ص ١٣٠.

٤٠٥

خطاياهم بالطلب من الله تعالى ذلك.

٤ ـ وقوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ...) (التوبة / ١١٥).

فهذه الآيات دليل على تأثير دعاء الأنبياء في حق الآخرين.

أما السنة الشريفة :

وردتنا أخبار كثيرة من طرق الفريقين تفيد بوضوح مشروعية التوسل وأنه أمر جرى عليه العقلاء من كل دين.

من هذه الأخبار ما روي من أنه سبحانه تاب على آدم عليه‌السلام عند ما توسل إليه تعالى بالكلمات وهي محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما‌السلام (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة / ٣٨).

فقد أورد جماعة من المفسرين (١) والمحدثين من العامة عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

«لمّا أذنب آدم الذي أذنبه ، رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحقّ محمّد إلّا غفرت لي ، فأوحى الله إليه ومن محمّد! فقال : تبارك اسمك لمّا خلقت رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب «لا إله إلا الله محمّد رسول الله» فقلت : إنه ليس أحد أعظم عندك قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك ، فأوحى إليه ، أنه آخر النبيين من ذريّتك ولو لا هو ما خلقتك (٢).

فقد أثبت هذا الحديث المروي من طرق العامة اسم النبي محمّد دون التعرّض للعترة الطاهرة المروية في مصادر الإمامية ، فتخصيص «الكلمات» في الآية المباركة بالنبي محمّد دون آله الميامين خلاف الفهم القرآن حيث بين ووضّح في عدّة آيات أهمية بعض الأفراد كما في شأن يحيى وعيسى عليهما‌السلام (أَنَّ اللهَ

__________________

(١) الطبراني في المعجم الصغير ـ والحاكم في المستدرك والسيوطي في الدر المنثور والآلوسي في روح المعاني وابن عساكر في تاريخه.

(٢) لاحظ روح المعاني : ج ١ ص ٢١٧ والدر المنثور : ج ١ ص ٥٩ نقلا عن الطبراني والبيهقي.

٤٠٦

يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) (آل عمران / ٤٠).

(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً) (آل عمران / ٤٦).

(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها) (النساء / ١٧٢).

فهذه الآيات أشارت إلى كلمتين إلهيتين هما :

يحيى وعيسى. وكان التعبير عن كل واحد منهما بصيغة المفرد لا الجمع ، فمع الانتباه إلى هذه الآيات يمكن القول أن المقصود من «كلمات» في الآية المتقدمة هي عدّة أفراد مقدسين لهم مكانة عنده تعالى لذا توسل بهم آدم عليه‌السلام.

ومن الأحاديث الدالّة على جواز التوسّل ما رواه ابن ماجة في السنن ج ١ ص ٤٤١ رقم الحديث ١٣٨٥ ط. إحياء الكتب العربية ، ومسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ١٣٨ ومستدرك الصحيحين للنيسابوري ج ١ ص ٣١٣ ط. حيدرآباد الهند ، والجامع الصغير للسيوطي ص ٥٩ عن الترمذي والحاكم ، وتلخيص المستدرك للذهبي المطبوع بهامش المستدرك ، والتاج الجامع ج ١ ص ٢٨٦.

عن عثمان بن حنيف قال :

إنّ رجلا ضريرا أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أدع الله أن يعافيني.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت وهو خير؟

قال : فادعه ، فأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء : «اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبي الرحمة ، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى اللهم شفّعه فيّ.

قال ابن حنيف :

فو الله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضر».

وسند الحديث صحيح على رأي ابن تيمية الذي يحرّم التوسّل (١).

__________________

(١) لاحظ الوهابية في الميزان للسبحاني : ص ١٦٤.

٤٠٧

سيرة المسلمين :

جرت سيرة المسلمين في حياة النبي (١) وبعد وفاته على التوسّل بأولياء الله والاستشفاع بمنزلتهم وجاههم عند الله تعالى ونحن ننقل ما ذكره بعض مؤرخي العامة :

منهم ابن الأثير حيث روى :

١ ـ إنّ عمر بن الخطّاب استسقى بالعبّاس ، عام الرّمادة ، لمّا اشتدّ القحط ، فسقاهم الله تعالى به وأخصبت الأرض ، فقال عمر : هذا ـ والله ـ الوسيلة إلى الله والمكان منه.

وقال حسّان :

سأل الإمام وقد تتابع جدبنا

فسقى الغمام بغرّة العبّاس

عمّ النبي وصنو والده الذي

ورث النبيّ بذاك دون الناس

أحيى الإله به البلاد فأصبحت

مخضرة الأجناب بعد الياس

ولمّا سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعبّاس ويقولون : هنيئا لك ساقي الحرمين» (٢).

عن عبد الله بن أنس عن أنس قال : انّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال : اللهم إنّا كنا نتوسّل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعمّ نبينا فاسقنا ، قال : فيسقون.

٢ ـ وفي رواية أخرى :

إنّ عمر ـ لمّا استسقى بالعبّاس ـ قال : أيها الناس إنّ رسول الله كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد ، فاقتدوا به في عمّه واتخذوه وسيلة إلى الله.

قال القسطلاني في كتاب المواهب اللدنية ط. مصر تعقيبا على هذه الرواية : «ففيه تصريح بالتوسّل ، وبهذا يبطل قول من منع التوسّل مطلقا وبالأحياء

__________________

(١) لقد أورد البخاري في المجلد الثاني كتاب الاستسقاء العديد من النصوص الدالة على أن المسلمين استسقوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) أسد الغابة في معرفة الصحابة : ج ٣ ص ١١١ ط. مصر وص ١٦٦ ط. دار الكتب العلمية بيروت.

رواه البخاري في باب صلاة الاستسقاء رقم الحديث ١٠١٠.

٤٠٨

والأموات ، وقول من منع ذلك بغير النبي» انتهى.

٣ ـ إنّ المنصور الدوانيقي سأل مالك بن أنس إمام المالكية عن كيفية زيارة رسول الله والتوسّل به فقال لمالك :

«يا أبا عبد الله استقبل القبلة وادعوا ، أم استقبل رسول الله؟ فقال مالك في جوابه: لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ...)» (١).

٤ ـ عرف عن الشافعي إمام الشافعية بتوسله بعترة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا ذكر ابن حجر الهيثمي هذين البيتين من الشعر للشافعي قال :

آل النبي ذريعتي وهم إليه وسيلتي

أرجو بهم أعطى غدا بيدي اليمنى صحيفتي(٢)

٥ ـ وروى في كتاب «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» كيفية توسل عمر بالعباس وأنه قال :

«اللهم إنّا نستقيك بعمّ النبي ، ونستشفع إليك بشيبته ، فسقوا» وفي ذلك يقول العبّاس بن عتبة بن أبي لهب :

بعمي سقى الله الحجاز وأهله

عشية يستسقى بشيبته عمر(٣)

وقال ابن حجر العسقلاني :

إنّ العباس دعا إلى الله تعالى بقوله : (... وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيّك)(٤).

٦ ـ لقد أنشدت صفية بنت عبد المطلب ـ عمّة النبي ـ قصيدة بعد وفاة النبي في رثائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها :

ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا

وكنت بنا برّا ولم تك جافيا

__________________

(١) وفاء الوفاء : ج ٢ ص ١٣٧٦.

(٢) الصواعق المحرقة : ص ١٧٨.

(٣) وفاء الوفاء : ج ٣ ص ٣٧٥ نقلا عن مصباح الظلام.

(٤) فتح الباري في شرح صحيح البخاري : ج ٢ ص ٤١٣.

٤٠٩

وكنت بنا برّا رءوفا نبينا

ليبك عليك اليوم من كان باكيا (١)

بعد هذا كله يأتي بعض المدّعين للعلم كابن تيمية والقصيمي ومحمد بن عبد الوهاب فينسفون كل الأدلة وسيرة المسلمين والعقلاء القائمة على التوسّل بالأنبياء والأئمةعليهم‌السلام ، كل ذلك باسم الدين.

وقبل أن نختم الكلام عن الشفاعة ، لا بأس بالتطرق إلى عدة شبهات أثارها منكروها ، أو قد تطرأ على الفكر للوهلة الأولى.

 ـ الشبهة الأولى :

ذكر العلّامة الجليل الشيخ السبحاني في الإلهيات بحث الشفاعة : أنّ الشفاعة لا تنال جماعة ، منهم :

١ ـ الغاشّ للمسلمين لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من غشّ العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي (٢). والمراد من العرب ـ كما قال السبحاني ـ هم المسلمون لأن المسلمين يوم ذاك كانوا منحصرين في العرب.

٢ ـ المستخف بالصلاة ؛ لما روي عن الإمام الكاظم عليه‌السلام قال : لما حضر أبي الوفاة قال لي : يا بنيّ ، إنه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة (٣).

فأخرج مورد هاتين الروايتين عن موضوع الشفاعة.

لكن يجاب عنه :

(١) لو سلّمنا بصحة هاتين الروايتين ، فلا تخرجان عن موضوع الشفاعة ـ كما قد يتصور البعض ـ من باب حمل المطلق على المقيّد ، لأن هذا الحمل إنما يصح فيما لو لم يتعارض مع المطلقات النقلية الأخرى والأدلة العقلية والأصول الاعتقادية ، فلا يمكن قياس الغاش للمسلمين والمستخف بصلاته بالزنديق الذي لا يشم رائحة الجنة عدا عن الشفاعة ، فالمستخف والغاشّ معتقد بالله وبما جاء به محمد بن عبد الله وأما الزنديق فبعكس الأول تماما ، فمساواتهما معا بدرجة

__________________

(١) ذخائر العقبى للطبري : ص ٢٥٢ ومجمع الزوائد : ج ٩ ص ٣٦.

(٢) مسند أحمد ج ١ / ٧٢.

(٣) الكافي ، ج ٣ / ٢٧٠ وج ٦ / ٤٠١ والتهذيب للطوسي ج ٩ / ١٠٧.

٤١٠

واحدة في النار خلاف العدل الإلهي.

فلا بد حينئذ من التصرف بظاهر النص حتى لا نقع في المحذور المتقدم ، فيكون المراد: أن المستخف بصلاته وكذا الغاشّ (الذي قد يكون مصليا محافظا على الصلاة) لا تنالهما الشفاعة إلا بعد مكث طويل في العذاب ، وكأن لسان الرواية هكذا : لا ينال شفاعتنا الكاملة والسريعة من استخف بالصلاة.

(٢) إن المستخف بالصلاة مرتكب كبيرة ، ومرتكب الكبيرة يشمله الحديث المتواتر «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» والمستخف والغاشّ مرتكبان للكبيرة فيشملهما الحديث المزبور ، فاستثناؤهما منه خلاف القرينية العقلية المتقدمة ، هذا مضافا إلى أنهما ليسا أسوأ حالا ممن ستنالهم الشفاعة من أصحاب الكبائر كقاتل النفس المحترمة والزاني بالمحارم واللواط وما شابه ذلك مما وردت الأدلة القطعية على حرمته وتشديد العقاب عليه في الدنيا والآخرة ، فقبول الشفاعة في حق هؤلاء دون المستخف والغاشّ يعتبر ترجيحا بلا مرجح.

وبالجملة : فالشفاعة شاملة لكل مرتكب ذنب من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدا المشرك والناصب العداء لعترة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمكذّب بشفاعة النبي وآله الأطهار ، فالمشرك والناصب والمكذّب قد استثناهم الدليل لكونهم قطعوا الروابط الإيمانية مع الله تعالى ومع الشفيع بحيث يعدون أناسا مجرمين بحق أصحاب النعم ، وبعيدين عنهم ، فتشريع الشفاعة في حقهم يعد ترجيحا بلا مرجح وهو قبيح عقلا وشرعا.

 ـ الشبهة الثانية :

إن الشفاعة تجرّ إلى تمادي العصاة الفسقة بالاستمرار على المعصية والعدوان ، لأنّ المجرم عند ما يسمع بأن الشفاعة ستدركه فإنّه سيستمر على عصيانه وعدوانه رجاء غفران ذنوبه بالشفاعة ؛ من هنا استشكل الطنطاوي في تفسيره (ج ١ ص ٦٩) : بأن «الشفاعة» بالمعنى الذي يفهمه العامة تقود الأمّة إلى الانتكاس على أمّ الرأس ، ويبقى الدين من أسباب التأخّر لا الرقيّ.

والجواب :

(١) إن كان مقصوده بالشفاعة التي يفهمها العوام هي الشفاعة المطلقة وبلا قيود أصلا فنحن معه نرفضها لأنها حينئذ تكون عامل هدم ؛ هذا مضافا إلى كونها

٤١١

خلاف الأدلة النقلية والعقلية ، وأمّا الشفاعة التي يفهمها الشيعة والسنة طبقا للموازين الشرعية والضوابط العقلية فهذا ممّا لا ريب فيه ولا شك يعتريه.

(٢) إنّ الخلط بين الشفاعة السائدة في المجتمع المادّي والشفاعة المصطلحة أدّى إلى استنكار الطنطاوي لبعض تفاصيل الشفاعة ، لأنها لو كانت عاملا للجرأة على المعاصي لكان الوعد بالمغفرة عاملا للجرأة أيضا ، مع أن الله سبحانه وعد بها بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء / ١١٧).

وهل يصحّ أن يقال هنا : إنّ الله تعالى جرّأ العصاة على المعصية لأنه وعدهم بالمغفرة؟! ... إنّ الله سبحانه كما وعد بالمغفرة (ومنها الشفاعة) كذا أوعد بالعقاب كما قال تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (الرعد / ٧) وكما في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (النساء / ٣٢).

فهل يجد المستشكل الطنطاوي وأمثاله في نفسه أنّ هذا التشريع يوجب جرأة على ارتكاب بعض السيئات رجاء غفرانها بالاجتناب من الكبائر؟!

(٣) إنّ الشفاعة بمعناها القرآني تبعث الأمل في نفوس العصاة حتى لا ييأسوا من روح الله ورحمته ، فلا يغلبهم الشعور بالحرمان من عفوه فيتمادوا في العصيان.

وهذا الاعتقاد بالرغم من أنّ البعض لاقاه بالاعتراض من حيث إنه يوجب الجرأة ويحيي روح التمرد في العصاة والمجرمين ، لكنه وكما نعتقد يتسبّب في إصلاح سلوك المجرم فيعود للتوبة والإنابة. ومن هنا يتوضح لك الحال إذا لاحظنا مسألة التوبة ـ من دون ارتباط بالشفاعة ـ فإنّه لو كان باب التوبة موصدا في وجه العصاة والمذنبين ، واعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرّة واحدة أو مرات سيخلّده في نار جهنم فلا ريب أنّ هذا الاعتقاد سيوجب التمادي في اقتراف السيئات وارتكاب الذنوب ، لأنه يعتقد حينئذ بأنّه لو غيّر وضعه وسلوكه في مستقبل أمره لا يقع ذلك مؤثرا في مصيره وخلوده في عذاب الله ، فلا وجه لأن يترك المعاصي ما دام لن يخرج من نار جهنم ، بل سيستمرّ على وضعه السابق حتى يوافيه الأجل ، وهذا بخلاف ما إذا وجد الجوّ مشرقا والطريق مفتوحا ،

٤١٢

واعتقد بأن الله سيقبل توبته وأنّ رجوعه سيغيّر مصيره في الآخرة ، فعند ذلك سيترك العصيان ويستغفر لذنوبه ويطلب الإغضاء عن سيئاته ، فهذا الاعتقاد يولّد اشراقة أمل وبصيص نور في النفس لتسلك طريق الطاعة والعبادة والفضيلة ، فالاعتقاد بالشفاعة مثل الاعتقاد بأنّ الله سيغفر للعاصي ، لأنّ المشفوع له إذا اعتقد بأن أولياء الله تعالى سيشفعون في حقّه ضمن شرائط معينة بحيث لم يبلغ حدّا لا تنفع معه شفاعة الشافعين ، فعند ذلك سوف يعيد النظر في مسيره ويحاول تطبيق نفسه على شرائط الشفاعة حتى يستحقّها. فالشفاعة الموجبة للتجرّؤ ومواصلة العناد والتمرد هي الاعتقاد بأنّ الأنبياء والأولياء سيشفعون في حقه يوم القيامة على كلّ حال حتى ولو كفر بالله وقتل الأنبياء والأولياء ، وقد يغفر الله لقاتل الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام وأئمة آل البيت عليهم‌السلام بنظر هؤلاء الذين فهموا الشفاعة فهما منكوسا.

إنّ الشفاعة المقبولة هي التي لم يقطع المشفوع له العلائق الروحية مع الشافعين بحيث لا يتمرّد عليهم قلبا ، فما دامت الوشائج الروحية باقية مع الشافعين ولم يصل التمرّد إلى حد القطيعة فإن الشفاعة حينئذ تبقى معقولة ومقبولة. فالعاصي يستحقّ العقاب لعصيانه ، ويستحقّ الرحمة لاعتقاده ، والله سبحانه عند ما تقبّل شفاعة الشفيع في العاصي وهو عالم بها منذ الأزل (لأنّ إرادته لا تغيّر من علمه) ومريد لها لحسن اعتقاد العاصي ، فالإرادة كانت حاصلة الله تعالى مذ علمه الأزلي لا سيما على المبنى القائل بأنّ الإرادة من صفات الذات لا الأفعال ، فعند ما نقول : إنّ الله مريد أي عالم باشتمال الفعل على المصلحة الداعية إلى إيجاده ، فقبول الله لشفاعة الشفيع يستلزم إرادته تعالى لها لعلمه أن المصلحة هي في قبول شفاعته ليظهر فضل الشفيع ، فالإرادة بمعنى علمه بالمصلحة ، فإرادته عزوجل تعلّقات بالمغفرة قبل وبعد الشفاعة ، فالله هو الذي ألهم الشفيع أن يشفع للمشفوع له ، لأنّ الشفاعة فرع رحمته الرحيمية المطلقة ، وعلى المبنى القائل بأن الإرادة من صفات الأفعال تكون إرادته عزوجل قد تعلّقت بالمغفرة بعد طلب الشفيع ، لكن ليس بمعنى أنه عزوجل لم يكن راضيا أن يغفر للمشفوع له ثم رضي عنه نتيجة توسّط الشفيع ، بل أنه كان مريدا لها قبل شفاعة الشفيع فارتأت المصلحة (كما قلنا أن الإرادة ـ وكما فسرها المتكلّمون ـ هي علمه باشتمال الفعل على المصلحة الداعية إلى إيجاده) أن يربطها ـ أي المغفرة ـ

٤١٣

بشفاعة الشفيع ، فتكون المصلحة في المغفرة بعد شفاعة الشفيع بمعنى أنه سبحانه أراد أن يغفر للمشفوع له بعد شفاعة الشفيع أي أنّه عزوجل ربط المغفرة بسبب وهو شفاعة الشفيع.

وبالجملة : فإن الله سبحانه ربط مغفرته بسببين :

أحدهما : الاستغفار والتوبة والدعاء.

ثانيهما : التوسل بالشفيع.

ويشير إلى هذين السببين آيات عدة ، منها قوله تعالى :

(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) (هود / ٤).

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (هود / ٥٣).

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل / ٢١).

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران / ١٦٠).

(فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) (النور / ٦٣).

(شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) (الفتح / ١٢).

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٨) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف / ٩٨ ـ ٩٩).

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (مريم / ٤٨).

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء / ٦٥).

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال / ٣٣).

فالاستغفار وطلب الرسول المغفرة لمستحقها سببان مهمان جعلهما الله رحمة للمؤمنين ، فإذا كان نفس وجود الرسول بين ظهراني العباد سببا لرحمة الله

٤١٤

لهم ، فبطريق أولى أن يكون دعاؤه وشفاعته سببا كذلك لنزول الفيض الأقدس على قابليات السالكين والمحتاجين ، فتأمل.

فعفوه سبحانه وتعالى عن المذنب بواسطة الشفيع لا يغيّر من واقع المغفرة شيئا سوى أنه رفع من مقام المشفوع له رحمة به ، وأظهر فضل الشفيع على غيره لكرامته عنده وفوزه لديه ، بل هو نوع تكريم وتبجيل لهم ولمقامهم ونوع إشادة بهم. وهؤلاء الكرام البررة لا يطلبون فيضه وغفرانه إلّا لمن استحقها وهو من لم يقطع صلته الإيمانية بالله وعلاقته الروحية مع أوليائه وشفعائه. فالآيات الآنفة الذكر حينما تدعو النبي الأكرم أن يستغفر للمؤمنين لكونه الوسيلة إلى الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة / ٣٦) حيث أن الوسيلة هي كل ما يتوسل به إلى الشيء ، فالآية تدعو إلى الاتيان بالقربات والقيام بالوظائف التي يتوسل بها الإنسان إلى مرضاته ورضوانه. فدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستغفاره للمؤمنين ليست سنّة مخصوصة بالأمة الإسلامية بل جرت عليها مشيئته في الأمم السابقة حيث نرى أن أبناء يعقوب عند ما شعروا بالإثم راحوا يطلبون من أبيهم أن يستغفر الله لهم لذا وعدهم كما حكى عزوجل عنه وعنهم فقال : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٨) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف / ٩٨ ـ ٩٩).

فالله تعالى هو صاحب الشفاعة أولا وآخرا ، فزمامها بيده عزوجل ، فهو الذي يبعث الشفيع حتى يشفع في حق المجرم الذي له صلاحية المغفرة ، فتصبح النتيجة أن رحمته الواسعة ومغفرته العميمة تصل من طريق الشفيع إلى عباده ، فالأمور كلها بيده وناشئة منه ، وراجعة إليه ، فلولاه سبحانه لما كان هناك بعث من المجرم لكي يشفع له الشفيع ، كما أنه لولاه لما كان هناك استجابة من الشفيع للمشفوع له ، فالله سبحانه هو الذي يبعث الشفيع على الدعاء والشفاعة ، وهو الذي يأذن له ويرتضي من يشاء من عباده ، وليس للشفيع هنا أي دخالة إن لم يأذن له الله سبحانه ، لذا ورد عنهم عليهم‌السلام القول : نحن أوعية مشيئة الله. فجرت السنة الإلهية على إيصال المسببات عن طريق أسبابها ، فقد جعل لكل شيء سببا من دون أن يقوم هو سبحانه بنفسه مكان الأسباب والعلل ، بهذا التقرير يندفع

٤١٥

بعض من أن الاعتقاد بشفاعة الشفعاء يستلزم أن يكون الشفيع أشد رأفة بالعباد من الله سبحانه ، لأن المفروض ـ بحسب هذا التوهّم ـ أنه لو لا دعاء الشفيع لا ترفع العقوبة عن المجرم والعاصي.

فيعلم مما تقدّم أن الشفاعة لا تتحقق إلا بإذنه سبحانه للشفيع وارتضائه للمشفوع له فليس ذلك إلا لأجل أن المرضي هو اللائق دون غيره ، فلو حرم المشرك من شفاعة الأنبياء والأولياء ، أو حرم بعض العصاة منها فليس ذلك إلّا لعدم لياقتهم لهذا الفيض ، وليس من أجل نفاد الرحمة الإلهية التي لا يحدها شيء أبدا.

الشبهة الثالثة :

إن المراد من الشفاعة هو الإيمان والعمل ، ويعبّرون عنها ب «الشفاعة القيادية» التي أركانها الأنبياء والأولياء ، فالشفاعة ـ بحسب هذه النظرية ـ تابعة للاقتداء ، فمن عمل نال من الشفاعة بمقدار عمله ، ومن لم يعمل بما أمره الله تعالى فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة ولم يسقه ولم يربه ولم ينمّه بالعمل فيحرم ثمرته مع أنه ساوى جميع المسلمين في حصول البذر عنده ، وخالفهم في قعوده عن استثماره ، فعلى هذا تكون الشفاعة عبارة عن العمل بالواجبات وترك المحرّمات. ينسب هذا القول للطنطاوي في تفسيره الجواهر ج ١ / ٦٥.

والجواب :

أولا : إن تفسيره الشفاعة بالعمل خلاف الحديث المتواتر بين الفريقين عن النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». والكبائر هي المحرّمات التي يرتكبها المشفوع له. فلو كانت الشفاعة هي نفس العمل بالواجبات لاستلزم صدور العبث من الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأن من عمل بالواجبات وترك المحرّمات على وجهها المقرّر ليس بحاجة إلى شفاعة بل قد يشفع لغيره ، لأن الشفاعة فرع وجود المعصية في المشفوع له ، فإذا ارتفعت المعصية ، ارتفع حينئذ وجه الحاجة إلى الشفاعة ، فهي تماما كتعلق الحكم بوجود موضوعه ، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم.

ثانيا : لو كانت الشفاعة هي الإيمان والعمل ، فلما ذا وعد الله سبحانه في كتابه بأنه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ

٤١٦

وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (النساء / ٤٩).

فلو كان المراد هو المغفرة على ضوء الإيمان والعمل لما صحّ استثناء الشرك في الآية ، وبذلك يعلم أن لله سبحانه مغفرة ورحمة خارجة عن إطار العمل ، وأن رحمته الواسعة كما تصل إليهم عن طريق العمل بالأحكام ، تصل إليهم عن طريق آخر أيضا وهو كون العبد قابلا للمغفرة والرحمة حافظا لعلاقاته مع الله ومع الشفعاء المرضيين وإن كان مقصّرا في عمله.

ثالثا : لو كانت الشفاعة نفس العمل ، فكيف صار دعاء المؤمن لأخيه المؤمن بظهر الغيب مؤثرا مع أن المدعو له لم يعمل ، ومع هذا فقد نال بغيته من جراء استجابة الله تعالى لدعاء المؤمن لأخيه ، كما يظهر من قوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (الحشر / ١١) وكذا دعاء الملائكة للمؤمنين كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (غافر / ٨).

فلو كانت الشفاعة هي نفس العمل ، فكيف يكون دعاء المؤمن لأخيه المؤمن ، ودعاء حملة العرش موجبا للمغفرة؟.

الشبهة الرابعة :

إن الاعتقاد بالشفاعة يتنافى مع الآيات الدالة على أن الجزاء رهن العمل والسعي ، قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (النجم / ٤٠) (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (يونس / ٥٣). فكيف نجمع بين هذه الآيات وبين آيات الشفاعة التي ليست لها واقعية كواقعية السعي والعمل ، بل كل ما في الأمر أن المشفوع له ينال المغفرة بدون سعي.

والجواب :

أولا : بما أن الله سبحانه هو الواجب المفيض لكل ما في الوجود من حياة أو موت أو رزق أو نعمة أو رحمة أو نقمة ، وهي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء ، ولا لرابطة واحدة كيفما كانت ، فإن فيه بطلان الارتباط والسببية ، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب ، ومصلحة مقتضية ، ولا يشفيه لأن الله هو المميت المنتقم ، بل لأنه عزوجل الرءوف الرحيم المنعم

٤١٧

الشافي المعافي ، ولا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب ، لأنه عزوجل رءوف رحيم به ، بل لأنه المنتقم الشديد البطش القهار ، فعند ما يغفر سبحانه للعاصي بدعاء الشفيع فلأن رحمته سبقت غضبه لمقتضيات في نفس المشفوع له ، وليس من حقنا البحث عنها ، فقد يرحم عزوجل لنية المرء لا لعمله ، فموضوع الشفاعة مستثنى عن قانون العقاب الذي يتناول المجرمين الذين قطعوا علاقاتهم الروحية بالله وبرسوله وأولياء النعم عليهم‌السلام ، فقانون العقاب سار على كل العصاة إلا البعض من عبيده ، وهل يحق لنا أن نسأله عزوجل : لم غفرت لبعض دون بعض؟ كلا (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء / ٢٤).

فالشفاعة فرع الاعتقاد بالله وبما أنزله على رسوله الأمين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا الاعتقاد هو المصحح للشفاعة والموجب للمغفرة بدعاء الشفيع ، والشاهد على ما قلنا قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (الأنبياء / ٢٩) ، فأثبت الشفاعة على من ارتضى ، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه كما في قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (طه / ١١٠) ، ففهمنا أن المراد به ارتضاء أنفسهم أي ارتضاء دينهم لا ارتضاء عملهم ، فبذا تكون هذه الآية موضّحة لآيات الجزاء على السعي والعمل ، أو مخصصة لها بمعنى أن الله يجازي على السعي إلا فئة معينة يجازيها لاعتقادها الصحيح. قال تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٦) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٧) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (مريم / ٨٤ ـ ٨٦) ، «فهو يملك الشفاعة (أي المصدر المبني للمفعول) وليس كل مجرم بكافر محتوم له النار ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٥) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (طه / ٧٦) ؛ فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن ، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحا ، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنّه لم يعمل صالحا وهو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦١) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس / ٦١ ـ ٦٢) ، فقوله تعالى : (وَأَنِ اعْبُدُونِي) عهد بمعنى الأمر وقوله تعالى : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة. فهؤلاء قوم من أهل الإيمان يدخلون النار لسوء أعمالهم ، ثم ينجون منها

٤١٨

بالشفاعة ، وإلى هذا المعنى يلوّح قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) (البقرة / ٨١).

فهذه الآيات أيضا ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ، والجميع تدل على أن مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيامة هم الدائنون بدين الحق من أصحاب الكبائر ، وهم الذين ارتضى الله دينهم» (١).

ثانيا : إن آيات الجزاء على السعي والعمل لا تلغي آيات الشفاعة ، لأن الاعتقاد بالله وبما أنزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر سعيا قام به المشفوع له ، ويعدّ من آثاره وتوابعه إذ لو لا جده واجتهاده في الإيمان بالله سبحانه وبما جاء به رسوله لما نالته شفاعة الأولياء ، فالسعى الّذي قام به طيلة حياته على وجه حفظ به علاقاته القلبية ـ على أقل تقدير ـ مع الله سبحانه ومع أوليائه ، هو المصحح للشفاعة والغفران بدعاء الشفيع ، والله سبحانه لا يضيع سعى المؤمنين من ذكر وأنثى بل يثيب عليه بالدخول للجنة من دون حساب أو بالمغفرة له بشفاعة الأنبياء والأولياء. فكما أنه عزوجل يثيب على الايمان المجرد من دون عمل ، كذا يثيب على العمل ، قال تعالى :

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (البقرة / ١٤٤).

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران / ١٧٣).

(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف / ٩١).

ملخص مما ذكرنا : انه لا مانع من القول بجواز العفو في حق العصاة بواسطة الشفاعة كما لا مانع من شمول آيات الشفاعة لهم. وبذا نكون قد انتهينا من إيراد الشبهات حول الشفاعة والإجابة عليها بنحو الإجمال وهي كافية بتأدية المراد بحمد الله لمن القى السمع وهو شهيد.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ج ١ / ١٧١.

٤١٩

الباب الثّالث والثّلاثون

عقيدتنا في معنى التشيع عند آل البيت

(عليهم‌السلام)

قال المصنّف (قدس‌سره) :

إنّ الأئمة من آل البيت عليهم‌السلام لم تكن لهم همّة ـ بعد أن انصرفوا عن أن يرجع أمر الأمّة إليهم ـ إلّا تهذيب المسلمين وتربيتهم تربية صالحة كما يريدها الله تعالى منهم ، فكانوا مع كلّ من يواليهم ويأتمنونه على سرهم ، يبذلون قصارى جهدهم في تعليمه الأحكام الشرعيّة وتلقينه المعارف المحمدية ، ويعرّفونه ما له وما عليه.

ولا يعتبرون الرجل تابعا وشيعة لهم إلّا إذا كان مطيعا لأمر الله مجانبا لهواه آخذا بتعاليمهم وإرشاداتهم. ولا يعتبرون حبّهم وحده كافيا للنجاة كما قد يمنّي نفسه بعض من يسكن إلى الدعة والشهوات ويلتمس عذرا في التمرّد على طاعة الله سبحانه. أنهم لا يعتبرون حبّهم وولاءهم منجاة إلّا إذا اقترن بالأعمال الصالحة ، وتحلّى الموالي لهم بالصدق والأمانة والورع والتقوى.

«يا خيثمة! أبلغ إلينا أنّه لا نغني عنهم من الله شيئا إلّا بعمل ، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلّا بالورع ، وأنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثمّ خالفه إلى غيره»(١).

__________________

(١) أصول الكافي كتاب باب زيارة الإخوان.

٤٢٠