الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

الرّعب والفزع من الإقدام على المعصية.

مثل ما تقرأ في الدعاء السادس والأربعين : «حجّتك قائمة ، وسلطانك ثابت لا يزول ، فالويل الدائم لمن جنح عنك ، والخيبة الخاذلة لمن خاب منك والشقاء الأشقى لمن اغترّ بك. ما أكثر تصرفه في عذابك ، وما أطول تردده في عقابك! وما أبعد غايته من الفرج! وما أفطنه من سهولة المخرج! عدلا من قضائك لا تجوز فيه ، وإنصافا من حكمك لا تحيف عليه ، فقد ظاهرت الحجج وأبليت الأعذار ...».

ومثل ما تقرأ في الدعاء الواحد والثلاثين : «اللهم فارحم وحدتي بين يديك ووجيب قلبي من خشيتك ، واضطراب أركاني من هيبتك ، فقد أقامتني ـ يا رب ـ ذنوبي مقام الخزي بفنائك. فإن سكت لم ينطق عني أحد وإن شفعت فلست بأهل الشفاعة».

ومثل ما تقرأ في الدعاء التاسع والثلاثين : «فإنك إن تكافني بالحقّ تهلكني وإلّا تغمدني برحمتك توبقني ... واستحملك من ذنوبي ما قد بهظني حمله وأ تسعين بك على ما قد فدحني ثقله ، فصلّ على محمد وآله وهب لنفسي على ظلمها نفسي ، ووكّل رحمتك باحتمال إصري ...».

الرابع : سوق الداعي بهذه الأدعية إلى الترفّع عن مساوي الأفعال وخسائس الصفات ، لتنقية ضميره وتطهير قلبه ، مثل ما تقرأ في الدعاء العشرين : «اللهم وفّر بلطفك نيّتي ، وصحّح بما عندك يقيني واستصلح بقدرتك ما فسد مني» «اللهم صلّ على محمد وآل محمّد ومتّعني بهدى صالح لا أستبدل به وطريقة حق لا أزيغ عنها ، ونيّة رشد لا أشكّ فيها» ، «اللهم لا تدع خصلة تعاب مني إلّا أصلحتها ، ولا عائبة أؤنب بها إلّا حسّنتها ، ولا أكرومة فيّ ناقصة إلا أتممتها».

الخامس : الإيحاء إلى الداعي بلزوم الترفّع عن الناس وعدم التذلل لهم ، وألّا يضع حاجته عند أحد غير الله ، وأنّ الطمع بما في أيدي الناس من أخسّ ما يتّصف به الإنسان ، مثل ما تقرأ في الدعاء العشرين : «ولا تفتني بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت ، ولا بالخشوع لسؤال غيرك إذا افترقت ، ولا بالتضرّع إلى من دونك إذا رهبت ، فأستحق بذلك خذلانك ومنعك وإعراضك».

٣٨١

ومثل ما تقرأ في الدعاء الثامن والعشرين : «اللهم إنّي أخلصت بانقطاعي إليك ، وصرفت وجهي عمّن يحتاج إلى رفدك ، وقلبت مسألتي عمّن لم يستغن عن فضلك ، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله». ومثل ما تقرأ في الدعاء الثالث عشر : «فمن حاول سدّ خلته من عندك ورام صرف الفقر عن نفسه بك ، فقد طلب حاجته في مظانّها وأتى طلبته من وجهها ومن توجه بحاجته إلى أحد من خلقك أو جعله سبب نجاحها دونك ، فقد تعرّض للحرمان واستحقّ منك فوت الإحسان».

السادس : تعليم الناس وجوب مراعاة حقوق الآخرين ومعاونتهم والشفقة والرأفة من بعضهم لبعض ، والإيثار فيما بينهم ، تحقيقا لمعنى الأخوّة الإسلامية. مثل ما تقرأ في الدعاء الثامن والثلاثين : «اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ، ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره ، ومن مسيء أعتذر إليّ فلم أعذره ، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره ، ومن حقّ ذي حق لزمني لمؤمن فلم أوفره ، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره ...» أنّ هذا الاعتذار من أبدع ما ينبه النفس إلى ما ينبغي عمله من هذه الأخلاق الإلهية العالية. وفي الدعاء التاسع والثلاثين ما يزيد على ذلك ، فيعلمك كيف يلزمك أن تعفو عمن أساء إليك ويحذّرك من الانتقام منه ، ويسمو بنفسك إلى مقام القديسين : «اللهم وأيّما عبد نال مني ما حظرت عليه وانتهك مني ما حجرت عليه ، فمضى بظلامتي ميتا أو حصلت عليه وانتهك مني ما حجرت عليه ، فمضى بظلامتي ميتا أو حصلت لي قبله حيّا. فاغفر له ما ألمّ به مني ، واعف له عمّا أدبر به عني ، ولا تقفه على ما ارتكب فيّ ولا تكشفه عمّا اكتسب بي ، واجعل ما سمحت به من العفو عنهم وتبرعت من الصدقة عليهم أزكى صدقات المتصدقين وأعلى صلات المتقربين ، وعوضني من عفوي عنهم عفوك ومن دعائي لهم رحمتك ، حتى يسعد كل واحد منا بفضلك» ، ما أبدع هذه الفقرة الأخيرة وما أجمل وقعها في النفوس الخيرة لتنبيهها على لزوم سلامة النية مع جميع الناس وطلب السعادة لكلّ أحد حتى من يظلمه ويعتدي عليه. ومثل هذا كثير في الأدعية السجادية وما أكثر ما فيها من هذا النوع من التعاليم السماويّة المهذّبة لنفوس البشر لو كانوا يهتدون.

٣٨٢

الباب الثّاني والثّلاثون

عقيدتنا في زيارة القبور

قال المصنّف (قدس‌سره الشريف) :

وممّا امتازت به الإمامية بزيارة القبور : قبور النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام ، وتشييدها وإقامة العمارات الضخمة عليها ، ولأجلها يضحّون بكل غال ونفيس عن إيمان وطيب نفس. ومردّ كل ذلك إلى وصايا الأئمة عليهم‌السلام ، وحثّهم شيعتهم على الزيارة ، وترغيبهم فيما لها من الثواب الجزيل عند الله تعالى ، باعتبار أنها من أفضل الطاعات والقرابات بعد العبادات الواجبة ، وباعتبار أنّ هاتيك القبور من خير المواقع لاستجابة الدعاء والانقطاع إلى الله تعالى. وجعلوها أيضا من تمام الوفاء بعهود الأئمة عليهم‌السلام ، (إذ أنّ لكل إمام عهدا في عنق أوليائه وشيعته ، وأن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة)(١).

وفي زيارة القبور من الفوائد الدينية والاجتماعية ما تستحقّ العناية من أئمتنا ، فإنها في الوقت الذي تزيد من رابطة الولاء والمحبة بين الأئمة وأوليائهم ، وتجدّد في النفوس ذكرى مآثرهم وأخلاقهم وجهادهم في سبيل الحق ، تجمع في مواسمها أشتات المسلمين المتفرقين على صعيد واحد ، ليتعارفوا ويتألفوا ، ثمّ تطبع في قلوبهم روح الانقياد إلى الله تعالى والانقطاع

__________________

(١) من قول الإمام الرضا عليه‌السلام راجع كامل الزيارات لابن قولويه : ص ١٧٧.

٣٨٣

إليه وطاعة أوامره ، وتلقنهم في مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن آل البيت حقيقة التوحيد والاعتراف بقدسيّة الإسلام والرسالة المحمدية ، وما يجب على المسلم من الخلق العالي الرصين والخضوع إلى مدبّر الكائنات وشكر آلائه ونعمه ، فهي من هذه الجهة تقوم بنفس وظيفة الأدعية المأثورة التي تقدم الكلام عليها ، بل بعضها يشتمل على أبلغ الأدعية وأسماها كزيارة «أمين الله» وهي الزيارة المرويّة عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام حينما زار قبر جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

كما تفهّم هذه الزيارة المأثورة مواقف الأئمة ٣ وتضحياتهم في سبيل نصرة الحق وإعلاء كلمة الدين وتجردهم لطاعة الله تعالى ، وقد وردت بأسلوب عربي جزل ، وفصاحة عالية ، وعبارات سهلة يفهمها الخاصة والعامة ، وهي محتوية على أسمى معاني التوحيد ودقائقه والدعاء والابتهال إليه تعالى. فهي بحقّ من أرقى الأدب الديني بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة والأدعية المأثورة عنهم ، إذ أودعت فيها خلاصة معارف الأئمة ٣ فيما يتعلق بهذه الشئون الدينية والتهذيبية.

ثمّ إنّ في آداب أداء الزيارة أيضا من التعليم والإرشاد ما يؤكّد من تحقيق تلك المعاني الدينية السامية : من نحو رفع معنوية المسلم وتنمية روح العطف على الفقير ، وحمله على حسن العشرة والسلوك والتحبّب إلى مخالطة الناس. فإنّ من آدابها ما ينبغي أن يصنع قبل البدء بالدخول في المرقد المطهر وزيارته.

ومنها ما ينبغي أن يصنع في أثناء الزيارة وفيما بعد الزيارة ، ونحن هنا نعرض بعض هذه الآداب للتنبيه على مقاصدها التي قلناها.

١ ـ من آدابها : أن يغتسل الزائر قبل الشروع بالزيارة ويتطهّر ، وفائدة ذلك فيما نفهمه واضحة ، وهي أن ينظف الإنسان بدنه من الأوساخ ليقيه من كثير من الأمراض والأدواء ، ولئلّا يتأفف من روائحه الناس (١) ، وأن يطهّر

__________________

(١) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «تنظفوا بالماء من الريح المنتنة وتعهدوا أنفسكم ، فإنّ الله يبغض من عباده القاذورة الذي يتأفف من جلس إليه» تحف العقول : ص ٢٤.

٣٨٤

نفسه من الرذائل. وقد ورد في المأثور أن يدعو الزائر بعد الانتهاء من الغسل لغرض تنبيه على تلكم الأهداف العالية فيقول : «اللهم اجعل لي نورا وطهورا وحرزا كافيا من كلّ داء وسقم ومن كل آفة وعاهة ، وطهّر به قلبي وجوارحي وعظامي ولحمي ودمي وشعري وبشري ومخّي وعظمي وما أقلت الأرض مني ، واجعل لي شاهدا يوم حاجتي وفقري وفاقتي».

٢ ـ أن يلبس أحسن وأنظف ما عنده من الثياب ، فإنّ في الأناقة في الملبس في المواسم العامة ما يحبّب الناس بعضهم إلى بعض ويقرّب بينهم ويزيد في عزّة النفوس والشعور بأهمية الموسم الذي يشترك فيه.

ومما ينبغي أن نلفت النظر إليه في هذا التعليم أنّه لم يفرض فيه أن يلبس الزائر أحسن الثياب على العموم ، بل يلبس أحسن ما يتمكّن عليه ، إذ ليس كلّ أحد يستطيع ذلك وفيه تضييق على الضعفاء لا تستدعيه الشفقة فقد جمع هذا الأدب بين ما ينبغي من الأناقة وبين رعاية الفقير وضعيف الحال.

٣ ـ أن يتطيّب ما وسعه الطيب ، وفائدته كفائدة أدب لبس أحسن الثياب.

٤ ـ أن يتصدّق على الفقراء بما يعن له أن يتصدّق فيه. ومن المعلوم فائدة التصدق في مثل هذه المواسم ، فإنّ فيه معاونة المعوزين وتنمية روح العطف عليهم.

٥ ـ أن يمشي على سكينة ووقار غاضا من بصره. وواضح ما في هذا من توقير للحرم والزيارة وتعظيم للمزور وتوجّه إلى الله تعالى وانقطاع إليه ، مع ما في ذلك من اجتناب مزاحمة الناس ومضايقتهم في المرور وعدم إساءة بعضهم إلى بعض.

٦ ـ أن يكبّر بقول : «الله أكبر» ويكرر ذلك ما شاء. وقد تحدد في بعض الزيارات إلى أن تبلغ المائة. وفي ذلك فائدة إشعار النفس بعظمة الله وأنه لا شيء أكبر منه. وأن الزيارة ليست إلّا لعبادة الله وتعظيمه وتقديسه في إحياء شعائر الله وتأييد دينه.

٧ ـ وبعد الفراغ من الزيارة للنبي أو الإمام يصلي ركعتين على الأقلّ ، تطوّعا وعبادة لله تعالى ليشكره على توفيقه إيّاه ، ويهدي ثواب الصلاة إلى المزور. وفي الدعاء المأثور الذي يدعو به الزائر بعد هذه الصلاة ما يفهم

٣٨٥

الزائر أنّ صلاته وعمله إنّما هو لله وحده وأنّه لا يعبد سواه ، وليست الزيارة إلّا نوع من التقرّب إليه تعالى زلفى ، إذ يقول :

«اللهم لك صلّيت ولك ركعت ولك سجدت وحدك لا شريك لك ، لأنه لا تكون الصلاة والركوع والسجود إلّا لك ، لأنّك أنت الله لا إله إلا أنت. اللهم صلّ على محمد وآل محمّد وتقبّل مني زيارتي واعطني سؤلي بمحمّد وآله الطاهرين.

وفي هذا النوع من الأدب ما يوضح لمن يريد أن يفهم الحقيقة عن مقاصد الأئمة وشيعتهم تبعا لهم في زيارة القبور ، وما يلقم المتجاهلين حجرا حينما يزعمون أنها عندهم من نوع عبادة القبور والتقرّب إليها والشرك بالله.

وأغلب الظنّ أن غرض أمثال هؤلاء هو التزهيد فيما يجلب لجماعة الإمامية من الفوائد الاجتماعية الدينيّة في مواسم الزيارات ، إذ أصبحت شوكة في أعين أعداء آل بيت محمّد ، وإلّا فما نظنّهم يجهلون حقيقة مقاصد آل البيت فيها. حاشا أولئك الذين أخلصوا لله نيّاتهم وتجرّدوا له في عباداتهم ، وبذلوا مهجهم في نصرة دينه أن يدعو الناس إلى الشرك في عبادة الله.

٨ ـ ومن آداب الزيارة (أن يلزم للزائر حسن الصحبة لمن يصحبه وقلّة الكلام إلّا بخير وكثرة ذكر الله (١) ، والخشوع وكثرة الصلاة ، والصلاة على محمد وآل محمد ، وأن يغضّ من بصره ، وأن يعدو إلى أهل الحاجة من إخوانه إذا رأى من إخوانه منقطعا ، والمواساة لهم ، والورع عما نهى عنه وعن الخصومة وكثرة الإيمان والجدال الذي فيه الإيمان) (٢).

ثم انّه ليست حقيقة الزيارة إلّا السلام على النبي أو الإمام باعتبار أنهم

__________________

(١) ليس المراد من كثرة ذكر الله تكرار التسبيح والتكبير ونحوهما فقط ، بل المراد ما ذكره الإمام الصادق عليه‌السلام في بعض الحديث في تفسير ذكر الله كثيرا أنه قال : أما أني لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وإن كان هذا من ذاك ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية.

(٢) راجع كامل الزيارات : ص ١٣١.

٣٨٦

(أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ، فهم يسمعون الكلام ويردّون الجواب ، ويكفي أن يقول فيها مثلا : «السلام عليك يا رسول الله» غير أنّ الأولى أن يقرأ فيها المأثور الوارد من الزيارات عن آل البيت ، لما فيها ـ كما ذكرنا ـ من المقاصد العالية والفوائد الدينيّة ، مع بلاغتها وفصاحتها ، ومع ما فيها من الأدعية العالية التي يتجه بها الإنسان إلى الله تعالى وحده.

* * *

إن زيارة القبور ، سيما قبور الأنبياء والأولياء والصالحين مما جرت عليه سيرة المتشرعة بل جرت عليه السيرة العقلائية من كل دين حيث تراهم يزورون قبور عظمائهم ويضعون أكاليل الزهور والورود عليها احتراما وتقديرا لأصحابها.

والبحث في هذا الباب ضمن نقاط :

النقطة الأولى : فلسفة زيارة القبور :

إنّ القبور التي تحظى باهتمام واحترام المؤمنين بالله سبحانه في العالم ، وخاصة المسلمين منهم ، هي في الغالب قبور حملة الرسالات الإصلاحية حيث أدّوا مهماتهم الموكلة إليهم على أفضل وجه ، وهؤلاء ينقسمون إلى أقسام ثلاثة :

القسم الأول : الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام حيث حملوا رسالة السماء وضحّوا من أجلها بالنفس والمال والجاه ، وتحمّلوا شتّى أنواع العذاب والتنكيل من أجل هداية البشرية إلى السعادة الحقة.

القسم الثاني : العلماء والمفكّرون الذين هم تبع للأنبياء والأولياء ، ومنهم يستمدون أنوار الهداية ، ويخرجون الناس من ظلمات الجهل إلى نور الطاعة ، فهؤلاء كالشمعة تحرق نفسها لتضيء للآخرين دروبهم المظلمة ، وهم كالسراج يحرق زيته ليضيء البيوت التي عمّها الظلام ، فالعلماء الذين عاشوا حياة الزهد والحرمان والتقشف ، وقدّموا للعالم البحوث القيّمة والتحقيقات الرائعة في مجالات العلم والفكر والطبيعة ومفاهيم السماء ، حريّ للبشرية أن تقدّرهم وتكنّ لهم الاحترام في الحياة وبعد الممات.

القسم الثالث : المجاهدون الثائرون الذين ثاروا على الباطل بسيوفهم وقدّموا جماجمهم على صخرة الموت ليحيا بموتهم الناس ، لأنّ أية ثورة أو تغيير اجتماعي لا يقدّر له النجاح إلّا بدفع الثمن ، وإنّ ثمن الثورة التي تستهدف تدمير

٣٨٧

قصور الظالمين وخنق أنفاسهم هو الدماء الزكية التي يضحّي بها المجاهدون لإعادة الحق إلى نصابه.

إنّ الناس يزورون قبور هؤلاء الشرفاء ويذرفون عندها الدموع الممزوجة بعطر المحبة وشوق اللقاء ، يترتّب على زيارتهم فوائد ومصالح :

منها : إنّ زيارة مراقد هؤلاء هي نوع شكر وتقدير لهؤلاء على تضحياتهم ، وإعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الذين يسلكون طريق الحق والفضيلة والدفاع عن المبدأ والعقيدة.

ومنها : إن زيارة مراقدهم تزيد من رابطة الولاء والمحبة بين هؤلاء وبين زائريهم.

ومنها : إنّ زيارة المراقد توجب ترابط الزائرين بعضهم مع بعض في مواسم الزيارات بما يزيد في تعارفهم وتآلفهم وهذا عين ما أرادته شريعة السماء (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا).

ومنها : إنّ مشاهدة قبور الموتى التي تضم في داخلها الغني والفقير والقوي والضعيف ولم يصحبوا معهم سوى قطع من القماش ، إن مشاهدة هذا المنظر يولّد في نفس الزائر قلبا خاشعا ، ويخفف من روح الطمع والحرص على الدنيا وزخارفها ، فالنظر والتأمّل في قبور الموتى يفتح عيون القلب مهما كانت حالكة ، وكثيرا ما تدفع بالإنسان إلى إعادة النظر في سلوكه وحياته.

هذا فيما يتعلق بقبور الصلحاء أما زيارة قبور الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ففيها من الفوائد ما يلي :

أولا : زيارة الثواب والأجر الجزيل عنده تعالى باعتبار أنّ زيارتهم نوع صلة وتقرّب إليه تعالى.

ثانيا : إنّ قبورهم عليهم‌السلام من المواقع التي يتأكد استجابة الدعاء عندها لشرافتها عنده تعالى ولأنها مهبط الملائكة المقدسين.

ثالثا : إنّ زيارتهم عليهم‌السلام توجب سنخية روحية بينهم وبين الزائر ، لأنه لا يزورهم إلّا من اعتقد فضلهم ، وهذا يستوجب الاستشراق بنورهم وبهديهم.

رابعا : إنّ الزائر لهم عليهم‌السلام عن طريق مضامين عبارات الزيارات البليغة الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام تلقّن الزائر حقيقة التوحيد والمعارف الحقّة وتدخل إلى النفس اليقين بقدسية الإسلام والإيمان.

٣٨٨

خامسا : إنّ آداب زيارة الأنبياء والأولياء الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام تعلّم الزائر حسن الآداب من التكلم واللباس والتطيب مما يعني أنّ الأنبياء والأولياء أحياء ولكنّ الناس لا يشعرون.

النقطة الثانية : الأدلة على مشروعية زيارة القبور :

كما قلنا إن زيارة القبور من المسلّمات عند كل العقلاء ، إذا ليست هي بحاجة إلى إقامة الدليل والبرهان على صحتها وضرورتها ولكننا نضطر لإقامة بعض الأدلة عليها لمن يتوقف في مشروعيتها ، حجة عليهم ، وتنبيها لهم عن غفلتهم.

والقرآن الكريم والسنّة المطهّرة زاخران بالشواهد على صحة زيارة أهل القبور.

فمن القرآن الكريم :

١ ـ قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (التوبة / ٨٥).

هنا نهى الله سبحانه نبيّه الأكرم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة على جنازة المنافق ، والقيام على قبره ، والسر في هذا النهي هو هدم شخصية المنافق وهز العصا في وجوه حزب النفاق ، ومعنى النهي عن هذين الأمرين ـ الصلاة والقيام على القبر ـ عدم جوازهما بالنسبة للنبي ولغيره من المكلّفين أن يقوموا على قبر المنافق ، ومفهوم النهي مطلوبية هذين الأمرين لغير المنافق.

ومورد البحث في الآية قوله تعالى : (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) هل معناه القيام وقت الدفن فحسب حيث لا يجوز ذلك للمنافق ويستحب للمؤمن ، أم ان معناه أعمّ من وقت الدفن وغيره؟

فيه رأيان ، أوجههما الثاني أي أن النهي عن القيام على قبر المنافق لا يختص بوقت الدفن وإنما يتعدّاه إلى غيره ، فيكون مفهومه جواز القيام على قبر المؤمن لزيارته والتبرّك بقبره فيما لو كان من أهل البركة والخير الجزيل.

ويستدل على ذلك بأنّ الآية مركبة من جملتين :

الأولى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً).

حيث إن لفظه (أَحَدٍ) بحكم ورودها في سياق النفي تفيد العموم

٣٨٩

والاستغراق لجميع الأفراد ولفظة (أَبَداً) تفيد الاستغراق الزمني ، فيكون معناها : لا تصلّ على أحد من المنافقين في أي وقت كان.

الثانية : (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ).

وبما أن هذه الجملة معطوفة على الجملة السابقة فيكون مفادها كمفاد الجملة الأولى يعني : «لا تقم على قبره أبدا» وفي كل الأوقات لأنّ (أَبَداً) تفيد الاستغراق الزمني ، فيكون المقصود من القيام على القبر ليس وقت الدفن لأنّ (أَبَداً) المقدّرة في الجملة الثانية تفيد إمكانية تكرار هذا العمل ، مما يدلّ على أنّ القيام على القبر لا يختصّ بوقت الدفن ، وبالجملة فمعنى الآية :

إنّ الله تعالى نهى نبيّه الأكرم عن مطلق الاستغفار والترحّم على المنافق سواء أكان بالصلاة أم بمطلق الدعاء ، ونهى عن مطلق القيام على القبر سواء أكان عند الدفن أم بعده.

ومفهوم هذين الأمرين جوازهما على المؤمن الميّت ، وبهذا يثبت جواز زيارة قبر المؤمن ، وجواز قراءة القرآن لروحه حتى بعد سنين من موته.

٢ ـ ومن الآيات قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات / ٣).

والآية الشريفة واضحة الدلالة في النهي عن رفع الصوت بوجه النبي في حياته ، وقد مدح الله سبحانه من غضّ صوته عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد مماته.

فقد ورد أن مولانا الإمام الحسين عليه‌السلام قد أسكت بالآية الشريفة عائشة عند ما رفضت أن يدفن مولانا الإمام الحسن المجتبى بجانب جدّه النبي فقال عليه‌السلام : إنّ الله حرّم من المؤمنين أمواتا ما حرّم منهم أحياء ، ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله بقربهما منه الأذى (١).

«فغض الصوت عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرع صحة زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبث الشكوى إليه وإلّا لو قصرنا غضّ الصوت أمامه عليه‌السلام حال حياته لتوقف كثير من أحكام

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ج ٥ ص ٨١.

٣٩٠

القرآن إذا اعتبرناها مجموعة أحكام انصرم وقتها بانصرام من نزلت بشأنهم الآيات ولا أحد يقول به» (١).

٣ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء / ٦٥).

فهنا يأمر الله سبحانه المؤمنين المذنبين بالحضور على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستغفار عنده بالطلب من الله سبحانه أن يغفر لهم خطاياهم ، وبالطلب من النبي ليكون شفيعا لهم في قبول المغفرة من الله تعالى لهم ، وهذا أيضا عام في حياته وبعد مماته مما يدلّ على جواز زيارة قبره عليه‌السلام ، فهذه قبور الأنبياء والأولياء يلتجئ إليها المذنب ليحصل على الفوز والشفاعة ، أما قبور غيرهم فيلتجئ إليها المرء ليتذكر الموت وغصّاته أو ليكسب الميّت المغفرة بإهدائه بعض الخيرات كقراءة القرآن أو صدقة أو نسك (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء / ١١٥).

هذه أهم الآيات الدالّة على جواز زيارة القبور واستحبابها ومن أراد المزيد فليراجع المطولات التفسيرية.

أما السنّة المطهّرة :

تزخر السنّة المطهّرة بأحاديث تحثّ على زيارة القبور لما في الزيارة من آثار تربوية على الصعيدين الفردي والاجتماعي وفي مقابلها بعض النصوص الناهية عن زيارة القبور ، فقد روى ابن ماجة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهّد في الدنيا وتذكّر الآخرة» (٢).

ورواه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه : زار قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله ... وقال : استأذنت ربي في أن أزور قبرها ، فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكّركم الموت (٣).

فلو سلّمنا بصحة صدور هذه الأحاديث عنه (التي مفادها النهي عن الزيارة ثم

__________________

(١) التوسل للعلّامة السبحاني : ص ٤٢.

(٢) سنن ابن ماجة : ج ١ ص ١١٤ ط. الهند أبواب الجنائز.

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ باب استئذان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٩١

الترخيص بها) ومعارضتها ـ لو صحت المعارضة ـ مع النصوص المشجّعة لزيارة القبور ، فمقتضى الجمع بينهما لا بدّ أن تحمل على أحد وجهين :

الأول : إما لأنّ الأموات كانوا مشركين وعبدة للأصنام ، وقد قطع الإسلام كلّ العلاقات مع الشرك وأهله فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن زيارة الأموات.

الثاني : وإما لأنّ المسلمين كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فكانوا ينوحون على قبور موتاهم نياحة باطلة تخرجهم عن نطاق الشريعة ، ولمّا تمركز الإسلام في قلوبهم وأنسوا بالشريعة والأحكام ، ألغى النبي بأمر الله تعالى النهي عن زيارة القبور لما فيها من الآثار الحسنة والنتائج الطيبة.

وأما الروايات الصادرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زيارة القبور فكثيرة.

منها : ما ورد عن أبي هريرة أن النبي أتى المقبرة فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون (١).

ومنها : ما ورد عن ابن عباس قال : مرّ رسول الله بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه وقال : السلام عليكم يا أهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر (٢).

ومنها : ما ورد عن بريدة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا :

السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، وأنتم لنا فرط ونحن لكم تبع نسأل الله العافية (٣).

والروايات كثيرة متواترة نقل العديد منها العلّامة الأميني في كتابه الغدير ج ٥ ص ١٧١ عن المصادر المعتبرة عند العامة.

النقطة الثالثة : أدلة من حرّم زيارة القبور :

اتّفقت أمّة الإسلام على استحباب زيارة القبور إلّا الشواذ منهم كالوهابية في عصرنا الحاضر والتي تعرف بالسلفية ، فهؤلاء ذهبوا إلى حرمة التوسل بالأنبياء

__________________

(١) رواه صاحب الغدير : ج ٥ ص ١٧٠ نقلا عن أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي.

(٢) رواه الترمذي والبغوي في المصابيح : ج ١ ص ١١٦.

(٣) سنن البيهقي : ج ٤ ص ٧٩.

٣٩٢

والأولياء وزيارة القبور وما هنالك من سخافات باطلة أوحاها لهم إبليس اللعين ، وقد أخذ هؤلاء الظاهريون ببعض النصوص المعارضة ـ كما قلنا لو صحت المعارضة وسلّمنا بصدورها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ منها :

 ـ ما ورد عن بريدة مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها (١).

 ـ وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن فيها عبرة(٢).

وعن أنس بن مالك مرفوعا : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكّركم الموت (٣).

والروايات عديدة فلاحظ الغدير.

وكما قلنا إنّ أمة الإسلام متفقة على استحباب أو رجحان زيارة القبور ، وقد جرت السيرة القطعية أيضا من صدر الإسلام منذ عصر الصحابة الأولين على زيارة القبور التي تضمنت في كنفها نبيا مرسلا أو إماما طاهرا أو وليا صالحا وكانت الصلاة لديها والدعاء عندها ، والتبرّك والتوسل بها والتقرّب إلى الله سبحانه بإتيان تلك المشاهد من المتسالم عليه بين فرق المسلمين من دون أي نكير من آحادهم وأي غميزة من أحد منهم على اختلاف مذاهبهم حتى ولد الدهر ابن تيمية الحرّاني ـ الذي أخذت عنه الوهابية اليوم معتقداتها ـ فجاء كالمغمور مستهترا يهذي ولا يبالي ، فأنكر تلك السّنة الجارية ، سنّة الله التي لا تبديل لها ، فابن تيمية الحرّاني ذاك الزنديق الذي شدّد النكير على تلك الآداب الإسلامية ، وأفتى بحرمة شدّ الرّحال لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدّ السفر لأجل ذلك سفر معصية لا تقصّر فيه الصلاة ، فخالفه أعلام عصره ورجالات قومه فقابلوه بالطعن والردّ الشديد ، وأفردوا لذلك كتبا عدّة في الردّ عليه (٤).

ولم يكتف ابن تيمية بفتاواه الجهنمية على الشيعة وكل من زار القبور حتى

__________________

(١) الغدير : ج ٥ ص ١٦٦.

(٢) نفس المصدر : ص ١٦٧.

(٣) نفس المصدر : ص ١٦٦.

(٤) لاحظ الغدير : ج ٥ ص ٨٦.

٣٩٣

تبعه القصيمي في قرننا الحاضر فحذا حذوه واتخذ وتيرته ، واتبع هواه فقذف الشيعة وكفّرهم لأنهم يقرون الاعتصام بحبل العترة الطاهرة ويأخذون منها معتقداتهم التي منها زيارة القبور والدعاء عندها والتوسل ببعضها كالأنبياء والأولياء والاستشفاع بهم.

واستندوا على تحريم زيارة القبور بأمرين :

الأول :

إنّ زيارتها عبث لا فائدة فيه ، وهل ينفع الطين والحجر لو زارهما إنسان ، أما الصلاة والسلام على الرسول الكريم فلا فرق فيها بين القرب والبعد لأنها حاصلة في الحالين ، وأما مشاهدة النبي في حياته فلا فضل لها بذاتها ، وأما زيارته ميتا فلن يستطيع أحد من الناس أن يثبت لزيارة قبره الشريف فضلا ما (١).

والجواب :

إنّ زيارة مطلق القبور فيها نفع للزائر والمزور ، فهي تنفع الزائر لاتّعاظه برؤية القبور واقتباس العبرة من حال الأموات ، وتنفع المزور بوصول الثواب والعطاء من الزائر ، هذا فيما إذا كان المزور غير نبيّ أو وليّ أو هما ، فالثواب يرجع إلى الزائر لتعظيمه قبور الأنبياء والأولياء.

أمّا زيارة النبيّ وشدّ الرحال إليه فإنّه نوع تكريم له سيما أن كلّ ملّة من الملل تستعظم زيارة كبرائها وزعمائها وتراها فضلا وشرفا وتعدّها للزائر مفخرة ومحمدة وتكثر إليها رغبات أفرادها لما يرون فيها من الكرامة وقد جرت على هذه سيرة العقلاء من الملل والنحل وعليه تصافقت الأجيال في أدوار الدنيا وكان يقدّر الناس سلفا وخلفا أعلام الدّين بالزيارة والتبرّك بهم.

الثاني :

إنّ زيارة القبور يعني زيارة أموات غير قابلين للتفهيم ويستدلون بقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (فاطر / ٢٣).

__________________

(١) الغدير : ج ٥ ص ٩٠ نقلا عن «الصراع» للقصيمي : ج ١ ص ٥٤.

٣٩٤

وقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (النمل / ٨١).

يجاب عنه : إنّ الزائر للقبور لا يخاطب الجثث الهامدة تحت التراب ، والتي تحوّلت إلى رميم ، وإنما يخاطب الأرواح الحيّة القاطنة في عالم خفي عن أبصارنا يسمى ب «عالم البرزخ» ، فإذا ذهبنا إلى زيارة قبر نبي أو ولي أو مؤمن ما ، فإننا نروم من خلال هذا الطريق أن نخلق الاستعداد في أنفسنا لكي نخلق معهم علاقة روحية تؤهلنا للوصول إلى الكمالات المنشودة.

مضافا إلى أن الأدلة العقلية والنقلية القائمة لإثبات بقاء الأرواح بعد انفصالها عن البدن ، قد قدّمنا شطرا منها في بحوثنا المتقدمة.

والمتمعن بدقة في آيات الكتاب الكريم يجد بوضوح أن مسألة بقاء الأرواح بعد انفصالها عن البدن مؤكد وصريح بل يجب على العباد الإيمان بها من خلال عرض القرآن وأحاديث النبي والعترة وكلمات الصحابة والتابعين ، نورد بعضا منها بإيجاز :

١ ـ كقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة / ١٥٥).

٢ ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران / ١٧٠).

٣ ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (غافر / ٤٧).

٤ ـ (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٨) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٩) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٣٠) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر / ٢٨ ـ ٣١).

٥ ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (١٠٠) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون / ١٠١).

اذن هذه الآيات تصرّح بوضوح بقاء الروح بعد انفصالها عن الجسد مما يعني

٣٩٥

جواز الاتصال بها عن طريق التوسل والاستشفاع أو الدعاء أو الزيارة ، فما تصوّره الوهابيون من أن زيارة القبور شرك أو لا نفع فيه ليس إلّا مجرّد تهويل على الشيعة وبقية المسلمين ، فما ادّعاه الوهابيون لا أساس علميا له لأنه وبمقتضى نظرة القرآن إلى الكون والبراهين الفلسفية فإن روح الإنسان كانت مركز القدرة ومنبع جل الكمالات ، وإنّ واقع الإنسان هو عين روحه ونفسه ، والجسد كالثوب كسي به هيكله بمقتضى الضرورة ومن أجل نموّ وتكامل الروح ، وإن انفصال الروح عن الجسد ، خاصة أرواح الأنبياء والأولياء ما هي إلا برهان على تكامل الروح وعدم حاجتها إلى الجسد المركب من العناصر.

أما حجة الوهابيين على حرمة التشفع بالأولياء فهي كما يلي :

الدليل الأول :

إنّ التشفع بالأولياء نوع شرك ، لأنّ طلب الشفاعة من الشافعين يعدّ شركا مع الله تعالى لأن طلب الشفاعة من الشفيع يعني عبادته.

والجواب :

أولا ـ إنّ الشفاعة من الشافعين تعني طلب الشيء منهم ، ونحن هنا نسأل :

هل أنّ أي طلب من الإنسان ـ حتى طلب الشفاعة ـ يعدّ عبادة أو شركا؟

يمكننا الإجابة على هذا السؤال : بأنه ليس أي طلب من إنسان آخر يعدّ عرفا ولغة عبادة من دون الله تعالى ، لأنّ العبادة ـ بمفهوم القرآن الكريم واللغة العربية ـ هي المقرونة باعتقاد أنّ الشافع هو إله ورب ، بل إنّ طلب الشفاعة من الشافعيين إنما يكون مندرجا تحت عنوان أنهم عباد مقرّبون إليه سبحانه ، وأن دعاءهم في محضر ساحة الله يحظى بالاستجابة.

ثانيا ـ إنّ الشفعاء الصالحين إنما يشفعون تحت إطار إذنه تعالى لمن يستحق الشفاعة ويليق بها ضمن شروط معينة : من كونه مؤمنا بالله تعالى ورسوله وبالعترة الطاهرة وبكل ما جاء به محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بحيث تكون علاقاتهم المعنوية متصلة به تعالى ، فإذا شفعوا ضمن إطار إذنه تعالى فلا يعدّ الطلب منهم شركا لأن تشفّعهم في طول إذنه تعالى ، فإذا كان كذلك فلا مانع منه عقلا وشرعا وعرفا.

ثالثا ـ إنّ القرآن الكريم يدعو المسلمين للحضور عند رسوله الكريم :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ

٣٩٦

الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ...) (النساء / ٦٥).

فالآية ربطت توبة الله عليهم باستغفار رسول الله لهم ، فما لم يستغفر لهم الرسول لم يتب الله عليهم ، فعدم استغفار الرسول لهم يعتبر دليلا على أنهم لا يستحقّون المغفرة ، ويشهد لهذا مورد نزول الآية الدالّ على أنّ اثني عشر رجلا من المنافقين ائتمروا فيما بينهم واجتمعوا على أمر مكيدة لرسول الله فأتاه جبرائيل فأخبره بها فقال عليه‌السلام إنّ قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه فليقوموا وليستغفروا الله وليعترفوا بذلك حتى أشفع لهم ، فلم يقوموا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا لا تقومون! فلم يقم أحد منهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قم يا فلان قم يا فلان حتى عدّ اثنى عشر رجلا ، فقاموا وقالوا : كنّا عزمنا على ما قلت ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا ، فاشفع لنا ، فقال : «الآن أخرجوا عني أنا كنت في أول أمركم أطيب نفسا بالشفاعة ، وكان الله أسرع إلى الإجابة» فخرجوا عنه حتى لم يرهم.

فالآية تجيب ضمنا على كلّ الذين يعتبرون التوسل بالنبي أو بالإمام نوعا من الشرك ، فالتوسّل بالنبي والاستشفاع به إلى الله وطلب الاستغفار منه لمغفرة المعاصي مؤثر وموجب لقبول التوبة وشمول الرحمة الإلهية. فلو كانت وساطة النبي ودعاؤه للعصاة المتوسلين به والاستشفاع به وطلب الاستغفار منه شركا فكيف يمكن أن يأمر الله تعالى العصاة والمذنبين بمثل هذا الأمر ، فقوله تعالى : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) إشارة إلى أن يستفيد النبي من مقامه ومكانته ويستغفر للعصاة التائبين تماما كاستغفار إبراهيم لأبيه (عمّه) ، ومنطوق الآيات التي تنهى عن الاستغفار للمشركين حيث دلّ مفهومها على جواز الاستغفار للمؤمنين.

مضافا إلى ذلك فإنه تعالى وضّح هوية الشفعاء بقوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف / ٨٧).

حيث ذكر سبحانه أن المشركين الذين يجعلون من دونه وسطاء من الأصنام وغيرها غير قادرين على الشفاعة لبطلان ما يتشفعون به وهو الأصنام إلّا جماعة من الناس وهم المؤمنون الذين يتخذون بعض الصالحين شفعاء لهم عند الله تعالى ليسقط العقاب عن المذنبين المتشفعين ، فأداة الاستثناء (إِلَّا) تصرّح بوضوح عمل تلك الصفوة للشفاعة الحقّة.

رابعا ـ لو كان مطلق طلب الشفاعة شركا لكانت الاستعانة «بالصبر والصلاة»

٣٩٧

شركا بقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (البقرة / ٤٦).

في حين أنه سبحانه قيّد الاستعانة به تعالى بآيات أخر بقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

فهنا حصر الاستعانة بذاته المقدّسة ثم أجاز الاستعانة بالصبر والصلاة والصدقة والدعاء والشفاعة المجازة بإذنه تعالى. هذا مضافا إلى أنه لو كان مطلق طلب الشفاعة شركا لكان الطلب من الآخرين حينئذ شركا ، كمن طلب من ابنه أن يسقيه ماء ، أو من زوجه أن تهيء له طعاما ، مع أن سيرة العقلاء جارية على هذا من دون الحكم على أنفسهم بالشرك لنكتة الاستعانة.

خامسا ـ إن المتشفع أو المستغيث بالأولياء عليهم‌السلام لا يقصد الألوهية فيهم ، بل يستغيث متشفعا بهم لاعتقاده أنهم وسائل إليه تعالى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ومعادن الرحمة الإلهية ومستقر الفيض الربوبي.

ولم يحصل في تاريخ المسلمين بوجه عام ، والشيعة بوجه خاص أن قصدوا الألوهية بالأنبياء والأولياء عليهم‌السلام حال استغاثتهم بهم ، بمعنى أنه لم يدّع أحد أن محمدا أو عليا أو أحدا من العترة الطاهرة موجودات منفصلة عن الله تعالى ، ومستقلة عنه بالتأثير كما كان يعتقده المشركون سابقا وحاضرا.

فالشفيع يستفيد من صفات الله العليا من الرحمة والخلق والأحياء والرزق وغير ذلك في إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه ، فكما أن الشفاعة التكوينية ـ (التي هي عبارة عن مؤثرات خارجة عن حواسنا واحساسنا كالملائكة المدبرة لهذا الكون بإذنه تعالى ضمن سلسلة نظام العلة والمعلول) ـ ليست إلا توسط العلل والأسباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها ، فكذلك الشفاعة المصطلحة فإن الآيات تثبت الشفاعة لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الاذن والارتضاء لهم ، فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده ساءت حاله بالمعصية وشملته بلية العقوبة ، ولله الملك وهو القائل (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (الفرقان / ٧١) وبذلك ظهر أن الشفاعة المصطلحة قسم من الشفاعة التكوينية ، بمعنى تأثير دعاء النبي أو الولي ومسألته في جلب

٣٩٨

الغفران بتوسيط صفاته العليا في هذا الأمر.

الدليل الثاني :

انحصار الشفاعة بالله تعالى ، بدعوى أنّ الآيات القرآنية حصرتها به سبحانه كما في قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٤) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر / ٤٤ ـ ٤٥).

والجواب :

١ ـ إنّ التدبّر في الآية المباركة يتضح لديه أنّ هدف الآية هو نفي الشفاعة من الأوثان التي كان يعبدها الجاهلون ، وليس الهدف منها نفي الشفاعة من الشفعاء الصالحين ، لذا فهي بصدد تقريعهم وتوبيخهم حيث يعبدون أحجارا بحجة أنها تقربهم نحوه تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (يونس / ١٩).

فقوله تعالى في ذيل الآية : (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ).

ما هو إلّا ردّ عليهم بالمناقشة في إطلاق كلامهم ، فإنّ من البديهي أنّ الشفاعة تتوقف على علم في الشفيع يعلم به ما يريد ، وممن يريد ولمن يريد ، فلا معنى لشفاعة الجماد الذي لا شعور له ، وكذا تتوقف على أن يملك الشفيع الشفاعة ويكون له حق أن يشفع ولا ملك لغير الله إلّا أن يملّكه الله شيئا ويأذن له في التصرف فيه ، فقولهم بشفاعة أوليائهم مطلقا الشامل لما لا يملكونه ولا علم لهم بإذنه تعالى لهم فيها تخرّص.

فالاستفهام في (أَوَلَوْ كانُوا ...) للإنكار ، والمعنى قل لهم : هل تتخذونهم شفعاء لكم ولو كانوا لا يملكون من عند أنفسهم شيئا كالملائكة ولا يعقلون شيئا كالأصنام؟ فإنه سفه (١).

٢ ـ يوجد في القرآن الكريم آيات عدّة تثبت أنّ للأولياء حق الشفاعة بإذنه تعالى كقوله عزوجل :

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (البقرة / ٢٥٦).

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٧ ص ٢٧٠.

٣٩٩

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (الأنبياء / ٢٩).

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف / ٨٧).

والتدبّر في الآية التي استدلّ بها الوهابيون يتمخض عنه أمران :

الأول : إنّ عبارتي (لا يملكون) و (لا يعقلون) تفيدان أنّ الشفعاء الذين يملكون حقّ الشفاعة يجب أن يتصفوا بالعقل والشعور والإدراك التام ، مضافا إلى كونهم مالكين للشفاعة في حين أن الأصنام تفقد هاتين الصفتين ، إذ إن الأصنام لا تملك حقّ الشفاعة ولا هي واعية ذات شعور حتى يمكن أن تشفع لغيرها.

الثاني : إنّ الشفاعة وإن كانت أصالة ملكا لله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) وليست ملكا للأوثان الخشبية أو المعدنية أو الحجرية بل هي حق يتفرّد به الله عزوجل وقد أعطاه عبيده تبعا وبالعرض ، فبهذا لا مانع أن يكون الله «مالك الشفاعة» وأن يشفع الآخر أي العبد النبي أو الولي بسماح منه تعالى.

الدليل الثالث :

ادّعى الوهابيون أنّ المشركين إنما صاروا مشركين لطلبهم الشفاعة من الأوثان ، واستدلّوا عليه بقوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (يونس / ١٩).

وبذا يكون مطلق طلب الشفاعة من غيره تعالى شركا وعبادة للشفيع.

والجواب :

إنّ القرآن الكريم عند ما يعتبر أولئك الناس مشركين فليس لأجل طلبهم الشفاعة من الأصنام فحسب ، بل بسبب عبادتهم لها عبادة تؤدي بهم إلى الاستشفاع بها أيضا في حين أنها لا تعقل ولا تدرك ، فلهذا فإنّ أيّ نوع من الطلب المشفوع بهذه العقيدة الباطلة سيكون عبادة للشفيع في حين أن المسلمين يعتبرون الشافعين الصالحين عباد الله المقربين ، حيث إنهم بدون إذنه تعالى لا يقومون بعمل الشفاعة ، بل ليسوا بقادرين على الشفاعة من دون إذنه سبحانه (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الأنبياء / ٢٨).

٤٠٠