الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

الفصل الرّابع

وفيه :

١ ـ تمهيد

٢ ـ عقيدتنا في الدعاء

٣ ـ أدعية الصحيفة السجادية

٤ ـ عقيدتنا في زيارة القبور

٥ ـ عقيدتنا في معنى التشيّع عند آل البيت

٦ ـ عقيدتنا في الجور والظلم

٧ ـ عقيدتنا في التعاون مع الظالمين

٨ ـ عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة

٩ ـ عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية

١٠ ـ عقيدتنا في حق المسلم على المسلم

٣٦١
٣٦٢

تمهيد

قال المصنّف (قدس‌سره) :

إنّ الأئمة من آل البيت عليهم‌السلام علموا من ذي قبل أنّ دولتهم لن تعود إليهم في حياتهم ، وأنّهم وشيعتهم سيبقون تحت سلطان غيرهم ممّن يرى ضرورة مكافحتهم بجميع وسائل العنف والشدّة.

فكان من الطبيعيّ ـ من جهة ـ أن يتخذوا التكتم «التقيّة» دينا وديدنا لهم ولأتباعهم ، ما دامت التقيّة تحقن من دمائهم ولا تسيء إلى الآخرين ولا إلى الدّين ، ليستطيعوا البقاء في هذا الخضمّ العجاج بالفتن والثائر على آل البيت بالإحن.

وكان من اللازم بمقتضى إمامتهم ـ من جهة أخرى ـ أن يتصرفوا إلى تلقين أتباعهم أحكام الشريعة الإسلامية ، وإلى توجيههم توجيها دينيا صالحا ، وإلى أن يسلكوا بهم مسلكا اجتماعيّا مفيدا ، ليكونوا مثال المسلم الصحيح (العادل).

وطريقة آل البيت في التعليم لا تحيط بها هذه الرسالة ، وكتب الحديث الضخمة متكفلة بما نشروه من تلك المعارف الدينية ، غير أنه لا بأس أن نشير هنا إلى بعض ما يشبه أن يدخل في باب العقائد فيما يتعلّق بتأديبهم لشيعتهم بالآداب التي تسلك بهم المسلك الاجتماعي المفيد ، وتقربهم زلفى إلى الله تعالى ، وتطهر صدورهم من درن الآثام والرذائل ، وتجعل منهم عدولا صادقين ، وقد تقدّم الكلام في (التقية) التي هي من تلك الآداب المفيدة اجتماعيا لهم ، ونحن ذاكرون هنا بعض ما يعن لنا من هذه الآداب.

٣٦٣
٣٦٤

الباب الثّلاثون

عقيدتنا في الدعاء

قال المصنّف (قدس‌سره) :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض» ، وكذلك هو ، أصبح من خصائص الشيعة التي امتازوا بها ، وقد ألّفوا في فضله وآدابه وفي الأدعية المأثورة عن آل البيت ما يبلغ عشرات الكتب من مطوّلة ومختصرة. وقد أودع في هذه الكتب ما كان يهدف إليه النبيّ وآل بيته صلّى الله عليهم وسلّم من الحثّ على الدعاء والترغيب فيه ، حتى جاء عنهم : «أفضل العبادة : الدعاء» و «أحبّ الأعمال إلى الله عزوجل في الأرض الدعاء» ، بل ورد عنهم : «أنّ الدعاء يردّ القضاء والبلاء» و «أنّه شفاء من كلّ داء».

وقد ورد أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان رجلا دعاء ، أي كثير الدعاء. وكذلك ينبغي أن يكون وهو سيّد الموحّدين. وقد جاءت أدعيته كخطبه آية من آيات البلاغة العربية كدعاء كميل بن زياد المشهور ، وقد تضمنت من المعارف الإلهية والتوجيهات الدينية ما يصلح أن تكون منهجا رفيعا للمسلم الصحيح.

وفي الحقيقة أنّ الأدعية الواردة عن النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام خير منهج للمسلم ـ إذا تدبرها ـ تبعث في نفسه قوّة الإيمان ، والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحقّ ، وتعرفه سرّ العبادة ، ولذّة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه ، وتلقنه ما يجب على الإنسان أن يعلمه لدينه وما

٣٦٥

يقربه إلى الله تعالى زلفى. ويبعده عن المفاسد والأهواء والبدع الباطلة. وبالاختصار أنّ هذه الأدعية قد أودعت فيها خلاصة المعارف الدينية من الناحية الخلقيّة والتهذيبيّة للنفوس ، ومن ناحية العقيدة الإسلامية ، بل هي من أهم مصادر الآراء الفلسفيّة والمباحث العلميّة في الإلهيّات والأخلاقيّات.

ولو استطاع الناس ـ وما كلهم بمستطعين ـ أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تثيره هذه الأدعية في مضامينها العالية ، لما كنت تجد من هذه المفاسد المثقلة بها الأرض أثرا ، ولحلّقت هذه النفوس المكبّلة بالشرور في سماء الحقّ حرة طليقة ولكن أنّى للبشر أن يصغى إلى كلمة المصلحين والدعاة إلى الحقّ ، وقد كشف عنهم قوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

نعم إن ركيزة السوء في الإنسان اغتراره بنفسه وتجاهله لمساوئه ومغالطته لنفسه في أنّه يحسن صنعا فيما اتخذ من عمل : فيظلم ويتعدّى ويكذب ويراوغ ويطاوع شهواته ما شاء له هواه ، ومع ذلك يخادع نفسه أنّه لم يفعل إلّا ما ينبغي أن يفعل ، أو يغضّ بصره متعمّدا عن قبيح ما يصنع ويستصغر خطيئته في عينه. وهذه الأدعية المأثورة التي تستمدّ من منبع الوحي تجاهد أن تحمل الإنسان على الاختلاء بنفسه والتجرّد إلى الله تعالى ، لتلقنه الاعتراف بالخطإ وأنّه المذنب الذي يجب عليه الانقطاع إلى الله تعالى لطلب التوبة والمغفرة ، لتلمسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه ، ومثل أن يقول الداعي من دعاء كميل بن زياد :

«إلهي ومولاي! أجريت عليّ حكما اتبعت فيه هوى نفسي ولم أحترس فيه من تزيين عدوّي ، فغرّني بما أهوى ، وأسعده على ذلك القضاء ، فتجاوزت بما جرى عليّ من ذلك بعض حدودك ، وخالفت بعض أوامرك».

ولا شكّ أنّ مثل هذا الاعتراف في الخلوة أسهل على الإنسان من الاعتراف علانيّة مع الناس ، وإن كان من أشقّ أحوال النفس أيضا. وان كان بينه وبين نفسه في خلواته ، ولو تمّ ذلك للإنسان فله شأن كبير في تخفيف غلواء نفسه الشريرة وترويضها على طلب الخير. ومن يريد تهذيب نفسه لا بدّ أن يصنع لها هذه الخلوة والتفكير فيها بحرّية لمحاسبتها ، وخير طريق

٣٦٦

لهذه الخلوة والمحاسبة أن يواظب على قراءة هذه الأدعية المأثورة التي تصل بمضامينها إلى أغوار النفس ، مثل أن يقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ :

«أي رب! جلّلني بسترك ، واعف عن توبيخي بكرم وجهك».

فتأمل كلمة «جللني ...» فإنّ فيها ما يثير في النفس رغبتها في كتم ما تنطوي عليه من المساوي ، ليتنبه الإنسان إلى هذه الدخيلة فيها ويستدرجه إلى أن يعترف بذلك حين يقرأ بعد ذلك :

«فلو اطّلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته».

وهذا الاعتراف بدخيلة النفس وانتباهه إلى الحرص على كتمان ما عنده من المساوي يستثيران الرغبة في طلب العفو والمغفرة من الله تعالى لئلا يفتضح عند الناس لو أراد الله أن يعاقبه في الدنيا أو الآخرة على أفعاله ، فيلتذّ الإنسان ساعتئذ بمناجاة السرّ ، وينقطع إلى الله تعالى ويحمده أنّه حلم عنه وعفا عنه بعد المقدرة فلم يفضحه ، إذ يقول في الدعاء بعد ما تقدّم :

«فلك الحمد على حلمك بعد علمك وعلى عفوك بعد قدرتك».

ثم يوحي الدعاء إلى النفس سبيل الاعتذار عمّا فرط منها على أساس ذلك الحلم والعفو منه تعالى ، لئلا تنقطع الصلة بين العبد وربّه ، ولتلقين العبد أنّ عصيانه ليس لنكران الله واستهانة بأوامره إذ يقول :

«ويحملني ويجرئني على معصيتك حلمك عنّي ، ويدعوني إلى قلّة الحياء سترك عليّ. ويسرعني إلى التوثّب على محارمك معرفتي بسعة رحمتك وعظيم عفوك».

وعلى أمثال هذا النمط تنهج الأدعية في مناجاة السرّ لتهذيب النفس وترويضها على الطاعات وترك المعاصي. ولا تسمح الرسالة هذه بتكثير النماذج من هذا النوع وما أكثرها.

ويعجبني أن أورد بعض النماذج من الأدعية الواردة بأسلوب الاحتجاج مع الله تعالى لطلب العفو والمغفرة ، مثل ما تقرأ في دعاء كميل بن زياد :

«وليت شعري يا سيدي ومولاي! أتسلّط النار على وجوه خرّت لعظمتك ساجدة ، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة وبشكرك مادحة ، وعلى قلوب

٣٦٧

اعترفت بألوهيتك محققة ، وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة ، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبّدك طائعة وأشارت باستغفارك مذعنة ... ما هكذا الظنّ بك ولا أخبرنا بفضلك».

كرّر قراءة هذه الفقرات ، وتأمّل في لطف هذا الاحتجاج وبالغته وسحر بيانه ، فهو في الوقت الذي يوحي للنفس الاعتراف بتقصيرها وعبوديتها ، يلقنها عدم اليأس من رحمة الله تعالى وكرمه ، ثم يكلّم النفس بابن عمّ الكلام ومن طرف خفيّ لتلقينها واجباتها العليا ، إذ يفرض فيها أنّها قد قامت بهذه الواجبات كاملة ، ثم يعلمها أنّ الإنسان بعمل هذه الواجبات يستحقّ التفضل من الله بالمغفرة ، وهذا ما يشوّق المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل ما يجب أن يعمله إن كان لم يؤدّ تلك الواجبات.

ثم تقرأ أسلوبا آخر من الاحتجاج من نفس الدعاء :

«فهبني يا إلهي وسيدي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك! وهبني يا إلهي صبرت على حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك».

وهذا تلقين للنفس بضرورة الالتذاذ بقرب الله تعالى ومشاهدة كرامته وقدرته ، حبّا له وشوقا إلى ما عنده ، وبأنّ هذا الالتذاذ ينبغي من الدرجة على وجه يكون تأثير تركه على النفس أعظم من العذاب وحرّ النار ، فلو فرض أنّ الإنسان تمكّن من أن يصبر على حرّ النار ، فإنّه لا يتمكن من الصبر على هذا الترك ، كما تفهمنا هذه الفقرات أنّ هذا الحبّ والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيع للمذنب عند الله لأن يعفو ويصفح عنه ، ولا يخفى لطف هذا النوع من التعجب والتملّق إلى الكريم الحليم قابل التوب وغافر الذنب.

ولا بأس أن نختم بحثنا هذا بإيراد دعاء مختصر جامع لمكارم الأخلاق ولما ينبغي لكلّ عضو من الإنسان وكلّ صنف منه أن يكون عليه من الصفات المحمودة.

«اللهمّ ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية ، وصدق النيّة وعرفان الحرمة».

«وأكرمنا بالهدى والاستقامة ، وسدّد ألسنتنا بالصواب والحكمة واملأ

٣٦٨

قلوبنا بالعلم والمعرفة ، وطهّر بطوننا من الحرام والشبهة ، واكفف أيدينا عن الظلم والسرقة ، واغضض أبصارنا عن الفجور والخيانة ، واسدد أسماعنا عن اللغو والغيبة».

وتفضّل على علمائنا بالزهد والنصحية ، وعلى المتعلمين بالجهد والرغبة ، وعلى المستمعين بالاتباع والموعظة».

«وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة ، وعلى موتانا بالرأفة وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة وعلى الشبان بالإنابة والتوبة والرحمة».

«وعلى النساء بالحياء والعفّة ، وعلى الأغنياء بالتواضع والسعة ، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة».

«وعلى الغزاة بالنصر والغلبة ، وعلى الأسراء بالخلاص والراحة ، وعلى الأمراء بالعدل والشفقة ، وعلى الرعيّة بالإنصاف وحسن السيرة».

«وبارك للحجّاج والزوّار في الزّاد والنفقة ، وأقض ما أوجبت عليهم من الحجّ والعمرة».

«بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين».

وإني لموص إخواني القرّاء ألّا تفوتهم الاستفادة من تلاوة هذه الأدعية ، بشرط التدبّر في معانيها ومراميها وإحضار القلب والإقبال والتوجّه إلى الله بخشوع وخضوع ، وقراءتها كأنها من إنشائه للتعبير بها عن نفسه ، مع اتّباع الآداب التي ذكرت لها من طريقة آل البيت ، فإنّ قراءتها بلا توجّه من القلب صرف لقلقة في اللسان ، لا تزيد الإنسان معرفة ، ولا تقرّبه زلفى ، ولا تكشف له مكروبا ، ولا يستجاب معه له دعاء (إنّ الله عزوجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة» (١).

* * *

أقول : الدعاء من أقسام الذكر المطلق الذي حثّ عليه الباري عزوجل في كتابه بقوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) والذّكر هو استحضار ما غاب عن الحواس الظاهرة ، فهو من خواص النفس الناطقة الإنسانية المهيمنة على الأزمنة الدهرية

__________________

(١) باب الاقبال على الدعاء من أصول الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام.

٣٦٩

الملكوتية ، والذكر من قوى النفس الناطقة التي عرّف عنها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لكميل بن زياد صاحبه المشهور عند ما قال لسيده علي بن أبي طالب عليه‌السلام : أريد أن تعرّفني نفسي ؛ قال عليه‌السلام : يا كميل أي النفس تريد أن أعرّفك؟

قال : قلت يا مولاي وهل هي إلّا نفس واحدة؟

قال عليه‌السلام : يا كميل إنما هي أربعة :

النامية النباتية ، والحسيّة الحيوانية ، والناطقة القدسية ، والكلية الإلهية ، ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان : فالنامية النباتية لها خمس قوى : ماسكة وجاذبة وهاضمة ودافعة ومربيّة ، ولها خاصيتان : الزيادة والنقصان ؛ وانبعاثها من الكبد وهي أشبه الأشياء بأنفس الحيوانات.

والحسية الحيوانية لها خمس قوى : سمع وبصر وشمّ وذوق ولمس ، ولها خاصيتان : الرضا والغضب ، وانبعاثها من القلب وهي أشبه الأشياء بأنفس الأناس.

والناطقة القدسية : لها خمس قوى : فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة ، وليس لها انبعاث وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية ، ولها خاصيتان : النزاهة والحكمة.

والملكية الإلهية : لها خمس قوى : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذلّ ، وفقر في غناء ، وصبر في بلاء ، ولها خاصيتان : الرضا والتسليم ، وهذه مبدؤها من الله وإليه تعود قال تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) وقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٨) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) والعقل وسط الكل (١).

وهنا نبحث في الدعاء ضمن نقطتين :

النقطة الأولى : في معنى الدعاء وسبب الاستجابة وعدمها :

معنى الدعاء لغة : طلب الإقبال ، يقال : دعوت زيدا أي طلبت إقباله إليّ ، ويأتي الدعاء بمعنى الابتهال إلى الله سبحانه بالسؤال والرغبة فيما عنده من الخير.

__________________

(١) رواه الكاشاني في «الكلمات المكنونة» مرسلا ولكن يشهد بصدوره عن مهبط الوحي صحة معانيه وسبك مبانيه. وكذا رواه الشيخ البهائي (قدّس سره) في الكشكول : ج ٢ ص ٢٤٨ ط. دار الزهراء ، بيروت.

٣٧٠

قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) أي اطلب يا حبيبي محمد من المكلفين إقبالهم إلى سبيل ربّك ، والسبيل كما ورد في نصوص معتبرة : هو آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإذا دعوت الله سبحانه يعني أنك طلبت إقباله عليك ، وسألته أن يقبل إليك بوجهه الكريم ، فإذا دعوته في أمر خاص يعني طلبت إقباله إليك من ذلك الوجه ومن ذلك الباب ، كما توجهت إليه من ذلك الباب ، فإذا أقبلت على الله سبحانه من وجه العافية ألقى مثال وجهه ذلك عليك فعافاك ، وإذا أقبلت إليه من وجه الغنى ألقى سبحانه مثال وجهه ذلك عليك فأغناك واستغنيت به عمّن سواه ، وهكذا فإنّ الله سبحانه لا يقبل على عبد بذاته المقدّسة وإنما يقبل عليه بمشيئته الماضية ، ولها رءوس ووجوه بحسب ذرّات الموجودات ، ولتلك الرءوس مظاهر ومجال هي أبواب ظهور آثار تلك الرءوس منها على حسبها ، فلها وجه ظاهر من باب الغنى ، ووجه ظاهر من باب العافية ، ووجه ظاهر من باب المغفرة ، ووجه ظاهر من باب العفو ، ووجه ظاهر من باب الرحمة ، وهكذا تلك الأبواب هي مجال ومظاهر لمحل المشيئة الكلي ، فإنه الباب الكلي ، وتلك المجالي شئونه وأطواره ، فإنه أصل كل خير ومعدنه ومأواه ومنتهاه ، فأنت إذا قرعت بابا من تلك الأبواب ووقفت عليه مبتهلا خالصا في التوجّه منقطعا عن غيره ودعوته أن يقبل عليك من ذلك الباب أقبل عليك وفتحه على وجهك ؛ فإذا فتح باب المغفرة على وجهك فاض عليك المغفرة وإذا فتح على وجهك باب العافية أفاض على وجهك العافية لتفوز مشيته الكلية عنه وانصباغها فيه ، وذلك الباب الخاص مكنون فيك مخزون عندك ومفتاحه الدعاء ؛ فإذا صوّرت نفسك بصورة المغفرة فهي منك طلب مغفرة ومنه سبحانه عطاء المغفرة ، وتصويرك بالمغفرة أن تتوجه نفسك إلى الاسم الغفّار العام الكلي حتى يقع شبحه فيها فتتصوّر بصورة الغفّار فينطبع صورة الغفّار في شبحك فيصير خيالك منشأ أثر المغفرة فتغفر لمستحق المغفرة من إخوانك المؤمنين ولمن أساء إليك ، فإذا غفرت لمستحق المغفرة كما قال سبحانه : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) صدقت حينئذ في توجّهك إلى الاسم الغفّار ويتوجّه إليه بدنك حتى يقع عليه شبحه فيظهر منه آثار المغفرة في الظاهر بالنسبة إلى الناس المستحقين ، فإذا قرعت باب المغفرة وطلبت منه المغفرة فيتوجه سبحانه من هذا الباب بمشيته في توجهك الخاص الذي هو

٣٧١

الباب الخاص المعدّ لك فهو منك باب طلب ، ومنه باب عطاء.

واعلم أنّ الله سبحانه يفيض بمشيته على القابليات الإمكانية وهو عطاء غير مجذوذ وغير محظور ، فليس لربّك قرابة مع أحد ، ولا له خصوصية بأحد إلّا من ارتضى ، وليس فيه منع عن أحد ، وإنما عطاؤه شامل على البرّ والفاجر فمن اغترف من ذلك البحر نال نصيبه منه على حسب اغترافه وسعة إنائه وضيقه وسرعته وبطئه ، ومن لم يغترف لم ينل منه شيئا (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) وطلب العطاء من غير مسألة واغتراف منه سبحانه أمنية (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (النساء / ١٢٤) ؛ وحيث إنه سبحانه خلق من جوده الماء ، فمن شرب روي ، ومن لم يشرب لم يرو ، وخلق الهواء فمن تنفّس عاش ، ومن لم يتنفس لم يعش ، وخلق المعدن ، فمن عمل استخرج الجوهر ، ومن لم يعمل لم يخرج شيئا ، فليس للإنسان إلّا ما سعى وأنّ سعيه سوف يرى ، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره ، وكذلك إنّ الله سبحانه أنزل من السماء عطاء عاما شاملا يعمّ الدنيا والآخرة والجواهر والأعراض فليغترف مغترف بقدر ما يشتهي ، وليرج ربه أن لا يمنعه العطاء ، وأنه إذا اغترف يمتلئ إناؤه من فضله ، ويعطى ما يسأل ثم ليعمل على حسب رجائه كما يرجو في أمور دنياه ويعمل لها بقدر رجائه حرفا بحرف ، وليحسن ظنّه بربه في فضله وجوده وليؤمن به وبقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة / ١٨٧) وذلك إنّ لمن يدع لم يغترف ، ومن لم يغترف لم ينل ماء ، ومن لم ينل ماء مات وهلك ووقع في نار العذاب والعطش المؤلم.

ولمّا كان للإنسان مراتب من بدء وجوده إلى منتهى شهوده وكل مرتبة منه على حسب عالم من العوالم كان لكل مرتبة منه طريقة اغتراف وهي عباداته الموظّفة في الشرع التي دعا إليها الأنبياء والمرسلون ونزلت بها الكتب السماوية والشرائع الإلهية فجميع صنوف العبادة من جميع جهاتها وجوه اغتراف من بحر عطاء الله ، والعامل بها سائل جميع جهات الخير والفضل من الله سبحانه ، فهو البحر الزخّار المحيط بعالم الإمكان ، فهو جوّاد كريم لا تعطيل فيه ولا امتناع ولا نقصان أو تأخير ، وإنما النقصان في الآخذ منه ، ولا تقل إني دعوت ولم يستجب لي فإنه محال في عرصة الفضل والوعد بعد المنحة العامة ، وإنما النقصان منك

٣٧٢

وطلبك ، فمن طلبه وجده البتة وهو قبل الدعاء ومع الدعاء وبعد الدعاء حاضر عتيد ، فسل تعط ، وادع تجب ، وفي الدعاء : «ربّ من ذا الذي دعاك فلم تجبه ومن ذا الذي سألك فلم تعطه».

والسرّ في الإعطاء وعدمه ؛ أنك إذا دعوت بلسانك ولكن ذرّات وجودك كان بخلاف لسانك ، أو هي معرضة مدبرة فحينئذ لا يمكن أن يستجاب للداعي ، ولا يمكن له أن يقول دعوت فلم يستجب لي ، ألا ترى أنك لو زرعت ولم ينبت يكون التقصير منك بأن تكون قد حرثت الأرض بعد الزرع فتفسده ، أو أنك لم تحرث الأرض قبل الزرع أو كان الحبّ فاسدا أو كان في غير أوانه ، أو كانت الأرض سبخة أو لم تسقه ماء أو لم تمنع عنه سائر الآفات ، كل ذلك مما يفسد الزرع ، كذلك بالنسبة إلى استجابة الدعاء وعدمه ، فلا خلف في وعده ولا نقص في حكمه ، فمن يزرع حقيقة وبالشروط المعتبرة للزراعة يجد الزرع الحقيقي وكذلك من دعا بشرط الدعاء استجيب له حقيقة ومن رأى خلاف ذلك من نفسه فليعلم أن النقص من الدعاء والمسألة فليصلحهما ولا ييأس من الله تعالى ومن عطائه وجوده ، فمن اغترف بالمنخل ولم يصب ماء فلا ينبغي أن يقنط من البحر وييأس منه ويعتقد أنّه لا ماء فيه ، وإنما ينبغي أن يعتقد أنّ العيب في المغرفة ويبادر إلى إصلاحها فإن أصلحتها وإلّا فعجزك عن إصلاحها وجزعك على ذلك وانكسارك وسخطك على نفسك معرفة واسعة تسع كثيرا من الماء إن شاء الله (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) ولا يقنط من روح الله : قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وقال أيضا : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

أما القنوط من النفس فجائز حيث إنه سبحانه في هذه الآيات لم يقل لا تقنطوا من أنفسكم ولا تيأسوا من أنفسكم ، بل المؤمن قانط من نفسه ، من أن تقدم على شرّ أو سخط يوجب بعدها عن ساحته عزوجل.

فالمؤمن دائما قانط آيس من نفسه متعمد ومتكل على مولاه الحق سبحانه ، راج منه محسن ظنه به ، مقبل عليه بالخضوع والتضرّع والابتهال والاعتذار والإقرار والازدراء على نفسه أبدا والسعي في إصلاحها ، ولا يشك أنه لو لا فضل الله سبحانه لم يقدر المؤمن على خير أبدا بل لو لا فضله سبحانه لم يكن المؤمن شيئا مذكورا ؛ إذ بفضله وجوده وجد الموجودات ؛ ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام

٣٧٣

قال : أوحى الله عزوجل إلى موسى عليه‌السلام : يا موسى اشكرني حقّ شكري ، فقال : يا ربّ كيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به عليّ ، قال : يا موسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك مني.

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

لا والله ما أراد الله سبحانه من الناس إلّا خصلتين : أن يقرّوا له بالنعم فيزيدهم ، وبالذنوب فيغفرها لهم.

وبالجملة العجز والإخبات والانكسار بنفسه من أعظم المغارف من بحر رحمة الله تعالى.

وباختصار : إن لاستجابة الدعاء مقتضيات وموانع.

فمقتضياته هي الأمور التي يجب أن يتحلى بها الداعي.

وأما الموانع فهي ما يبعّد عن ساحته عزوجل ، فمن راعى المقتضيات وتخلّى عن الموانع استجيب له البتة.

فمن أتى بجميع جهات الدعاء ومراتبه فقد نال الاسم الأعظم ، فمن قدر عليه وأتى به هو الذي لا يردّ له دعوة ولا يخيّب له طلبة ، ومن نقص عنه نقص عنه بقدره ، وجماع ذلك كله الأخذ بسنن الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام والعمل بشرائعهم في جميع المراتب ، وبذلك يصير الإنسان ممن يستجاب دعوته ويعطى مسألته ، وتقضى حاجته على حسب ما يشاء ويكون الله له كما كان لله تعالى ، فعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

«الدعاء استجابة الكل منك للحق وتذويبك المهجة في مشاهدة الرب ، وترك الاختيار جميعا وتسلّم الأمور كلها ظاهرها وباطنها إلى الله ، فإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة فإنه يعلم السر وأخفى».

فإن قلت :

فما بال المشركين والكفار قد يستجاب لهم دعوة وهم غير آخذين بشرائع الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام؟

والجواب :

إنهم إذا دعوا الله سبحانه فإنهم يعتقدون بشرائع الأنبياء في الجملة ، فكل ما بهم من خصال الخير ولو بالعرض أخذ من شرايع الأنبياء في الجملة.

٣٧٤

وقد يستجاب لهم نتيجة اقتضاءات كونية أو لمصالح وجودية يتوقف عليها النظام الوجودي للعالم ، وقد يكون في إجابتهم مصالح تخفى على العباد.

وقد يستجاب لهم ثوابا معجّلا في دار الدنيا دون حظ الآخرة وذلك حظهم من انتحالهم بعض الخير ولا يضيع في باب عظمة الله وجلاله عمل عامل وكلّ يناله نصيبه ، وهذا يزيد في رجاء الراجين وإحسان ظنّ المؤمنين.

النقطة الثانية : في أنّ الدعاء من تخطيطات العبودية :

بما أنّ الله سبحانه غني عن خلقه بالكليّة ، لا حاجة به إلى شيء من خلقه ولا انتساب له مع أحد من خلقه ولا مماثلة له ولا مشاكلة ولا مجانسة ، فلا يعطي بمقتضى ذاته أي لأجل ذاته ، لأن كل ذلك يستلزم الحدوث.

والله تعالى وإن كان هو المبتدئ بالنعم قبل أن تسأله بلسانك ولكن لا يعقل (مقبول بلا قابل ، وعطاء بلا سائل).

ففي طلب لعبد منه سبحانه بالدعاء نوع انكسار وتواضع إلى جناب الحق تعالى ، وغير الداعي مستكبر على ساحته عزوجل وفيه ما يوجب السخط والبعد والشقاء عن العزّة الإلهية والرحمة الربوبية.

فلا بدّ للعبد بأن يدعوه ويرفع إليه أكفّ حاجته ويتوجّه إليه بكلّه بوجه حاجته حتى يقدّر له ويقضي حاجته ويعطاها ويختص به الفيض العام ، والفضل الشامل الدائم المتواصل ، ولو لا دعاء العبد إليه سبحانه ورفع الأكفّ إليه تعالى وتوجهه نحو خالق الوجود لم يختص به شيء ولم يظهر عليه فضل ولم يقع في كفه عطاء أبدا قال تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

فمن لم يدع لم ينل شيئا في الدنيا والآخرة ؛ والدعاء في الحقيقة هو تخطيطات العبودية ، وأحكام الشريعة حدود العبودية ، والعبودية هي الانقياد للرب والانقطاع إليه عن نفسه وما سواه وذلك الانقياد والانقطاع هو مجلبة كل خير ومدفعة كل شرّ.

وحيث إن الدعاء من تخطيطات العبودية فتاركه خارج عن حدّ العبيد قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) فسمّى الدعاء عبادة وتاركه مستكبرا فكلما كمل العبد في مقام العبودية كثر دعاؤه وتضرعه ومسألته ، وكلما كثر دعاؤه كثرت إجابته وكثرت مسئولاته ومطلوباته

٣٧٥

واتّسعت جنته ووفر خيره وظهرت عليه آثار الربوبية حتى تحققت فيه وكل ذلك بالدعاء ، والدعاء من متممات القابلية ومكملاتها وليس كما يتصوّر البعض أنّ الله تعالى هو الرءوف الرحيم وأبرّ من الوالد الشفيق وخبير عليم يعلم حاجتي وصلاحي فيدبّر أمري ولا حاجة إلى المسألة أو كما يقولون أنه يخالف الرضا والتسليم.

والجواب :

أولا : إنّ الله سبحانه بعظيم حكمته أوجد الأشياء على التسبيب والترتيب فيما بينها ، فربط المسبّبات بالأسباب ، ورتّب بعضها على بعض وجعل بعضها سببا وواسطة لبعض آخر وهو مسبّب الأسباب ، ومن جملة الأسباب لبعض الأمور الدعاء والتصدّق وأمثالهما ، فكما أنّ شرب الماء سبب رتّبه مسبّب الأسباب لإزالة العطش ، ولو لم يشربه لكان عطشه باقيا إلى أن يؤدي إلى هلاكه ، وشرب المسهّل سبب لدفع الأخلاط الردية ولو لم يشربه لبقيت على حالها ، فكذلك الدعاء سبب رتّبه الله تعالى لدفع البلايا والشرور ورفعها ، ولو لم يدع لنزل البلاء ولم يندفع.

ثانيا : إنّ الدعاء قد تعبّدنا به الشرع الحنيف وكثرت له أدعية الأنبياء والأولياء وقد كانوا في أعلى درجات الرضا والتسليم وقد أثنى سبحانه على بعض عباده بقوله تعالى : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً).

والحكمة في تعبّده عباده بالدعاء لما يستبطنه الدعاء من ذلّ الجوارح وخشوع القلب ورقة التضرّع ، «ويكون ذلك جلاء للقلب ومفتاحا للكشف وسببا لتواتر مزايا اللطف ، كما أنّ حمل الكوز وشرب الماء ليس مناقضا للرّضا بقضاء الله تعالى في العطش وشرب الماء طلبا لإزالة العطش ومباشرة سبب رتّبه مسبّب الأسباب فكذلك الدعاء سبب رتّبه الله تعالى وأمر به» (١).

ولو تأملنا الآيات الواردة في الحثّ على الدعاء وأنّ تاركه يعدّ مستكبرا لارتفع الإبهام والإشكال ، كقوله تعالى :

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف / ٥٦).

__________________

(١) لاحظ المحجة البيضاء : ج ٨ ص ٩٨ ط. قم.

٣٧٦

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء / ١١١).

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) (الأعراف / ٥٧).

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (غافر / ٦١).

فقد ورد أن الدعاء من معاني العبادة ، فالاستكبار عنه استكبار عن العبادة وهو بمنزلة الكافر.

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (الفرقان / ٧٨).

إذن فالمؤمن كثير الدعاء وكثير الإلحاح ، لأنّ الدعاء رمز العبودية وتركه دليل الاستكبار والانحراف ، لأنّ المنحرف لا يدعو اعتمادا على قدراته وحدها ، مضافا إلى انغماس روحه في رذائل الشهوة فأنسته ربه ونفسه فكيف يدعو وهو بهذه الحال؟!

وبالجملة فإنّ التمسّك بالأسباب جريا على سنّة الله تعالى لا يناقض التوكّل والرضا والتسليم ، نعم إظهار البلاء في معرض الشكوى وإنكاره بالقلب على الله تعالى مناقض للرضا ، وإظهار البلاء على سبيل الشكر والكشف عن قدرة الله تعالى لا يناقض الرضا والتسليم.

فعن أبي عبيد الله عليه‌السلام قال :

يا ميسر ادع ولا تقل قد فرغ من الأمر فإنّ الدعاء هو العبادة (١).

قال العارف الكبير الشيخ الإحساني قدس‌سره :

فإن وفي وإن جفا وإن صفا

هو الحبيب أي حال ارتضى

* * *

__________________

(١) أصول الكافي : ج ٢ ص ٤٦٦ ح ٣.

٣٧٧

الباب الحادى والثلاثون

أدعية الصحيفة السجادية

قال المصنّف (قدّس الله سرّه) :

بعد واقعة الطفّ الأليمة ، التي أوغل فيها بنو أمية في الاستبداد وولغوا في الدماء واستهتروا بكلّ القيم بقي الإمام زين العابدين وسيّد السّاجدين عليه‌السلام جليس داره ثاكلا ، لا يتصل به أحد ولا يستطيع أن يفضي إلى الناس بما يجب عليهم وما ينبغي لهم.

فاضطرّ أن يتخذ من أسلوب الدعاء (الذي قلنا أنّه أحد الطرق التعليمية لتهذيب النفوس) ذريعة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وطريقة آل البيت ، ولتلقين الناس روحيّة الدين والزّهد ، وما يجب من تهذيب النفوس والأخلاق. وهذه طريقة مبتكرة له في التلقين لا تحوم حولها شبهة المطاردين له ، ولا تقوم بها عليه الحجّة لهم ، فلذلك أكثر من هذه الأدعية البليغة ، وقد جمعت بعضها (الصحيفة السجادية) التي سمّيت (بزبور آل محمد) ، وجاءت في أسلوبها ومراميها في أعلى أساليب الأدب العربي وفي أسمى مرامي الدين الحنيف وأدقّ أسرار التوحيد والنبوة ، وأصحّ طريقة لتعليم الأخلاق المحمّدية والآداب الإسلامية. وكانت في مختلف الموضوعات التربوية الدينية ، فهي تعليم للدين والأخلاق في أسلوب الدعاء أو دعاء في أسلوب تعليم للدين والأخلاق. وهي بحقّ بعد القرآن ونهج البلاغة من أعلى أساليب البيان العربي وأرقى المناهل الفلسفيّة في الإلهيات والأخلاقيات.

فمنها ما يعلمك كيف تمجّد الله وتقدّسه وتحمده وتشكره وتتوب إليه ،

٣٧٨

ومنها ما يعلمك كيف تناجيه وتخلو به بسرّك وتنقطع إليه ، ومنها ما يبسط لك معنى الصلاة على نبيّه ورسله وصفوته من خلقه وكيفيّتها ، ومنها ما يفهمك ما ينبغي أن تبرّ به والديك ، ومنها ما يشرح لك حقوق الوالد على ولده أو حقوق الولد على والده أو حقوق الجيران أو حقوق الأرحام أو حقوق المسلمين عامّة أو حقوق الفقراء على الأغنياء وبالعكس ، ومنها ما ينبهك على ما يجب إزاء الديون للناس عليك وما ينبغي أن تعمله في الشئون الاقتصادية والمالية ، وما ينبغي أن تعامل به أقرانك وأصدقائك وسائر الناس ومن تستعملهم في مصالحك ، ومنها ما يجمع لك بين جميع مكارم الأخلاق ويصلح أن يكون منهاجا كاملا لعلم الأخلاق. ومنها ما يعلمك كيف تصبر على المكاره والحوادث وكيف تلاقي حالات المرض والصحّة ، ومنها ما يشرح لك واجبات الجيوش الإسلامية وواجبات الناس معهم ... إلى غير ذلك ممّا تقتضيه الأخلاق المحمدية والشريعة الإلهية ، وكلّ ذلك بأسلوب الدعاء وحده.

وتمتاز أدعية الإمام في عدّة أمور :

الأول : التعريف بالله تعالى وعظمته وقدرته وبيان توحيده وتنزيهه بأدقّ التعبيرات العلمية ، وذلك يتكرر في كلّ دعاء بمختلف الأساليب ، مثل ما تقرأ في الدعاء الأول :

«الحمد لله الأول بلا أول كان قبله والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا واخترعهم على مشيئته اختراعا».

فتقرأ دقيق معنى الأول والآخر وتنزّه الله تعالى عن أن يحيط به بصر أو وهم ، ودقيق معنى الخلق والتكوين ، ثم تقرأ أسلوبا آخر في بيان قدرته تعالى وتدبيره في الدعاء السادس : الحمد لله الذي خلق الليل والنهار بقوّته وميّز بينهما بقدرته ، وجعل لكل منهما حدّا محدودا ، يولج كلّ واحد منهما في صاحبه ويولج صاحبه فيه ، بتقدير منه للعباد فيما يغذوهم به وينشئهم عليه ، فخلق لهم الليل ليسكنوا فيه من حركات التعب ونهضات النصب ، وجعله لباسا ليلبسوا من راحته ومقامه ، فيكون ذلك لهم جماما وقوة لينالوا

٣٧٩

به لذّة وشهوة» ، إلى آخر ما يذكر من فوائد خلّق النهار والليل وما ينبغي أن يشكره الإنسان من هذه النّعم.

وتقرأ أسلوبا آخر في بيان أنّ جميع الأمور بيده تعالى في الدعاء السابع : «يا من تحلّ به عقد المكاره ويا من يفثا به حدّ الشدائد ، ويا من يلتمس منه المخرج إلى روح الفرج، ذلّت لقدرتك الصّعاب ، وتسببت بلطفك الأسباب ، وجرى بقدرتك القضاء ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة ، وبإرادتك دون نهيك منزجرة».

الثاني : بيان فضل الله تعالى على العبد وعجز العبد عن أداء حقه ، مهما بالغ في الطاعة والعبادة والانقطاع إليه تعالى ، كما تقرأ في الدعاء السابع والثلاثين : «اللهم إنّ أحدا لا يبلغ من شكرك غاية إلّا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكرا ، ولا يبلغ مبلغا من طاعتك ، وإن اجتهد إلّا كان مقصّرا دون استحقاقك بفضلك ، فاشكر عبادك عاجز عن شكرك واعبدهم مقصر عن طاعتك».

وبسبب عظم نعم الله تعالى على العبد التي لا تتناهى بعجز عن شكره فكيف إذا كان يعصيه مجترئا ، فمهما صنع بعدئذ لا يستطيع أن يكفّر عن معصية واحدة. وهذا ما تصوّره الفقرات الآتية من الدعاء السادس عشر : «يا إلهي لو بكيت إليك حتى تسقط أشفار عيني وانتحبت حتى ينقطع صوتي ، وقمت لك حتى تنتشر قدماي ، وركعت لك حتى ينخلع صلبي ، وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي ، وأكلت تراب الأرض طول عمري ، وشربت ماء الرماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكلّ لساني ، ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي».

الثالث : التعريف بالثواب والعقاب والجنّة والنار وأنّ ثواب الله تعالى كلّه تفضّل ، وأنّ العبد يستحقّ العقاب منه بأدنى معصية يجترئ بها ، والحجة عليه فيها لله تعالى. وجميع الأدعية السجّادية تلهج بهذه النغمة المؤثرة ، للإيحاء إلى النفس الخوف من عقابه تعالى والرجاء في ثوابه. وكلّها شواهد على ذلك بأساليبها البليغة المختلفة التي تبعث في قلب المتدبّر

٣٨٠