الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة أو رواجا للباطل ، أو فسادا في الدين ، أو ضررا بالغا على المسلمين بإضلالهم أو إفشاء الظلم والجور فيهم.

وعلى كلّ حال ليس معنى التقيّة عند الإماميّة أنها تجعل منهم جمعية سريّة لغاية الهدم والتخريب ، كما يريد أن يصوّرها بعض أعدائهم غير المتورعين في إدراك الأمور على وجهها ، ولا يكلّفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا. كما أنه ليس معناها أنها تجعل الدّين وأحكامه سرّا من الأسرار لا يجوز أنّ يذاع لمن لا يدين به كيف وكتب الإمامية ومؤلفاتهم فيما يخصّ الفقه والأحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملأت الخافقين وتجاوزت الحدّ الذي ينتظر من أية أمّة تدين بدينها.

بلى! إنّ عقيدتنا في التقية قد استغلّها من أراد التشنيع على الإمامية ، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم ، وكأنهم كان لا يشفى غليلهم إلّا أن تقدّم رقابهم إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعيّ ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت من الأمويين والعباسيين ، بل والعثمانيين.

وإذا كان طعن من أراد أن يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية ، فإنّا نقول له :

أولا : إننا متّبعون لأئمتنا عليهم‌السلام ونحن نهتدي بهداهم ، وهم أمرونا بها وفرضوها علينا وقت الحاجة ، وهي عندهم من الدّين وقد سمعت قول الصادق عليه‌السلام : «من لا تقيّة له لا دين له».

ثانيا : قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم ذلك قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفا من أعداء الإسلام ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) وقوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ).

* * *

نبحث في التقية ضمن نقاط :

٣٤١

النقطة الأولى : تعريفها لغة واصطلاحا :

التقية لغة : الحذر والحفظ ؛ والتقية اسم ل (اتقى يتقي) ووقى وقاية : أي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه يقال : وقيت الشيء : أقيه وقاية ووقاء.

قال سبحانه : (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا).

والتقوى : جعل النفس في وقاية مما يخاف ، وصارت التقوى في عرف الشرع حفظ النفس عمّا يؤثم وذلك بترك المحظور.

وأما تعريفها اصطلاحا : فهي إظهار خلاف الواقع في الأمور الدينية بقول أو فعل خوفا على النفس أو المال أو العرض.

أو بعبارة أخرى : هي التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق(١).

وبعبارة موجزة : هي إبطان الإيمان وإظهار الكفر أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق خوفا على نفسه أو عرضه أو ماله. فهي بهذا المعنى تقابل النفاق ، تقابل الإيمان والكفر ، فإنّ النفاق ضدها وخلافها ، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، والتظاهر بالحق وإخفاء الباطل ، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصح عدها من فروع النفاق ، كما اتّهمنا بذلك الجميلي (٢) بحسب فهمه المنكوس للتقية بعد استعراضه للروايات الصادرة عن العترة الطاهرة بشأن التقية قال :

«جاء في هذه الروايات الحثّ على التظاهر بخلاف ما يدين به الإنسان ويعتقده ، وهذه ليست من صفات المؤمنين ، بل هي من شيم المنافقين الذين قال الله فيهم : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (البقرة / ١٥) ، وقال في وصفهم (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (البقرة / ١٦٨) انتهى.

والجواب :

إنّ مفهوم هذه الآيات يشير إلى أنّ المنافقين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان

__________________

(١) رسالة في التقية آخر مكاسب الشيخ الأنصاري : ص ٣٢٠ ط. قم.

(٢) بذل المجهود : ج ٢ ص ٦٣٩.

٣٤٢

لذا عرّفهم الله سبحانه بقوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (المنافقون / ٢) فإذا كان هذا حدّ المنافق ـ بحسب المصطلح القرآني ـ فكيف تقاس التقية بالنفاق ، ويتهم المتقي الخائف على نفسه أو عرضه أو ماله بأنه منافق؟!

النقطة الثانية : الأدلة على التقية من الكتاب والسنة والعقل :

أما الكتاب :

فقد نصّت جملة من آيات الكتاب الكريم على مشروعية التقية صونا للنفس أو العرض أو المال عن الوقوع في الخطر والتهلكة منها :

الآية الأولى :

قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (النحل / ١٠٧).

فالآية المباركة واضحة الدلالة على تجويز إظهار الكفر كرها ومجاراة للكافرين خوفا منهم بشرط بقاء القلب مطمئنا بالإيمان ، وقد قام إجماع المفسرين والفقهاء والمحدّثين بإثبات ذلك ضمن مطاوي كلماتهم نستعرض جملة منها :

١ ـ قال المحدّث القمي (قدس‌سره) :

أما قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ...) الآية المتقدمة ، هو عمّار بن ياسر أخذته قريش بمكة فعذّبوه بالنار حتى أعطاهم بلسانه ما أرادوا وقلبه مطمئن بالإيمان(١).

٢ ـ وقال المحدّث الخبير الطبرسي (قدس‌سره) :

نزلت الآية في جماعة أكرهوا على الكفر وهم عمّار وأبواه ياسر وسميّة ، وقتل الأبوان لأنهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه فأطلقوه ، ثم أخبر عمّار بذلك رسول الله وانتشر خبره بين المسلمين فقال قوم : كفر عمّار ، فقال الرسول : كلا إنّ عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، وفي ذلك نزلت الآية وكان عمّار يبكي ،

__________________

(١) لاحظ تفسير القمي : ج ١ ص ٤٢٢.

٣٤٣

فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت (١).

٣ ـ وأخرج السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس قال :

لما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه تفرّقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرّت بي الأرض فالحقوا بي.

فأصبح بلال المؤذن وخبّاب وعمّار وجارية من قريش كانت أسلمت فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، وأمّا عمّار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية وأمّا الجارية فوتّد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدّها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها ثم خلّوا عن بلال وخبّاب وعمّار فلحقوا برسول الله ... واشتدّ على عمّار الذي تكلّم به فقال له رسول الله كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحا بالذي قلت أم لا؟ قال : لا.

وقال : وأنزل الله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ ...).

ملاحظة : الجارية المذكورة هي سميّة أمّ عمّار رضي الله تعالى عنها وأرضاها ، أسرت وزوجها وولدها عمّار ، وكان ياسر وسميّة أول شهيدين في الإسلام ، وقد استفاضت الروايات بشأن قتلهما بالفتنة وإظهار عمّار الكفر تقية ونزول الآية فيه (٢).

٤ ـ وقال الزمخشري :

روي أنّ أناسا من أهل مكة فتنوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه : ياسر وسميّة وصهيب وبلال وخبّاب ، أمّا عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها ...» (٣).

٥ ـ وقال الحافظ ابن ماجة :

«والإيتاء : معناه الإعطاء إن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ،

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ٣٨٨.

(٢) لاحظ تفسير الميزان : ج ١٢ ص ٣٥٨.

(٣) الكشاف عن حقائق التنزيل : ج ٢ ص ٤٣٠.

٣٤٤

والتقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ...) (١).

٦ ـ وقال القرطبي : قال الحسن : التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ... وقد أجمع أهل العلم على أنّ من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (٢).

٧ ـ وقال إسماعيل حقي :

(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ...) أجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لأنّ الكفر اعتقاد ، والإكراه على القول دون الاعتقاد ، والمعنى «ولكن المكره على الكفر باللسان» «وقلبه مطمئن بالإيمان» لا تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند الله هو التصديق بالقلب (٣).

الآية الثانية :

قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران / ٢٩).

نهى الله سبحانه المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء بأن يملك الكافرون تدبير أمور المؤمنين فيتصرفون فيها كيفما يشاءون بحيث يؤدّي هذا الامتزاج الروحي بين المؤمنين والكافرين إلى مطاوعتهم والتأثر بهم في الأخلاق وسائر شئون الحياة وتصرفهم في ذلك ، لأنّ ذلك يستدعي الانفصال عن إخوانهم المؤمنين بحيث يركنون إلى أولئك الكافرين دون إخوانهم اللهم إلّا في حالة واحدة هي حال التقية حيث استثنى من هذه الولاية التقية هي صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.

قال الطبرسي (قدس‌سره) :

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ج ١ ص ٥٣ شرح حديث رقم ١٥٠.

(٢) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : ج ٤ ص ٥٧.

(٣) روح البيان لاسماعيل حقي : ج ٥ ص ٨٤.

٣٤٥

معنى الآية : أنه سبحانه مالك الدنيا والآخرة والقادر على الإعزاز والإذلال ، نهى المؤمن عن موالاة من لا إعزاز عندهم ولا إذلال من أعدائه لتكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه المؤمنين دون أعدائه الكافرين فقال : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أي لا ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم وأن يستعينوا بهم ويلتجئوا إليهم ويظهروا المحبة لهم كما قال تعالى في موضع آخر : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).

ومن اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فليس من الله في شيء أي ليس هو من أولياء الله ، والله بريء منه ، ثم استثنى فقال : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) والمعنى إلّا أن يكون الكفّار غالبين ، والمؤمنون مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم ولم يحسن العشرة معهم فعند ذلك يجوز له إظهار مودّتهم بلسانه ومداراتهم تقية منه ودفعا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك.

وفي الآية دلالة على أنّ التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس ، وقال أصحابنا أنها جائزة في الأحوال كلّها عند الضرورة وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح ، وليست جائزة في قتل المؤمن ولا بما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين (١).

وقال الطبري :

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال أبو العالية : التقية باللسان وليس بالعمل ، حدّثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال : التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو لله معصية فتكلم مخافة نفسه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فلا إثم عليه إنما التقية باللسان(٢).

أقول : إنّ تقييد التقية باللسان تقييد من دون دليل يعتدّ به وما ورد بشأن نزول الآية في عمّار (حيث أعطاهم بلسانه ما أرادوا هو القدر المتيقن وإلّا فإن الفعل في بعض الأحيان أبلغ في دفع الضرر من التلفّظ باللسان ، هذا مضافا إلى الإطلاق في

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٢ ص ٤٣٠.

(٢) جامع البيان : ج ٣ ص ١٥٣.

٣٤٦

الآية (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) فلم يقيّد باللفظ ، وما صدر من تلفّظ عمّار إنما هو قضية خارجية لا يمكن بها تقييد ذاك الإطلاق وإلّا لقيّدنا كل الأحكام الشرعية التي وردت على مواضيعها في الأزمنة الخاصة لذا اشتهر عند الفقهاء القدامى والجدد «إنّ المورد لا يخصص الوارد».

فما ذكره الطبري مخالف للفهم العرفي لمفهوم التقية لذا صرّح كثير من المفسرين على أنّ التقية مخالفة الظاهر للباطن والقلب مطمئن بالإيمان.

قال الزمخشري : في تفسير قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع (١).

وقال المراغي تعقيبا على الآية : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلّا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشيء إذ القاعدة الشرعية : «إنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح» ، وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، إذا فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير إسلامية لفائدة تعود إلى الأولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضرّ المسلمين ، ولا تختصّ هذه الموالاة بحال الضعف بل هي جائزة في كلّ وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقيّة بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحقّ ، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس ، أو العرض ، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، لا يكون كافرا بل يعذر كما فعل عمّار بن يسار حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان وفيه نزلت الآية : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٢).

ومورد استعمال التقية يشمل الكافر والمسلم لا فرق في ذلك ما دام

__________________

(١) الكشّاف للزمخشري : ج ١ ص ٤٢٢.

(٢) تفسير المراغي : ج ٣ ص ١٣٦.

٣٤٧

موضوعها متحققا وهو الخوف على العرض أو النفس أو المال ، فما ادّعاه الجمّيلي (١) ومن لفّ لفّه إلا كرماد تذروه الرياح ، لأنّ التقية عند العقلاء ومنهم الشيعة يستعملونها عند الضرورة القصوى حتى على بعضهم البعض ما دام الأمر يدور حول دفع الضرر المتوجه على النفس وما شابه ذلك ، فحتى هذا الناصبي يستعمل التقية عند الضرورة عند ما يخفى بعض العلوم والمعارف عن أصحابه واخوانه خوف الضرر عليهم لو علموها ، وكذا يخفى كثيرا من المسائل عن زوجه وأولاده لئلّا يسبّب لهم تشويشا واضطرابا ، وقس عليه بقية الأمور فمورد الآيات وإن كان هو اتقاء المسلم من الكافر ، ولكن كما قلنا إنّ المورد ليس بمخصص لحكم الآية ، إذ ليس الفرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلّا صيانة النفس والنفيس من الشرّ ، فإذا ابتلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر كأن ينكّل به أو ينهب أمواله أو يقتله ، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية ، ولو سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية وتحمّلت كل فرقة آراء الفرقة الأخرى لما اضطرّ أحد من المسلمين إلى استخدام التقية ولساد الوئام مكان النزاع.

وقد فهم ذلك ثلة من علماء العامة وصرّحوا به ، إليك نصوص بعضهم :

قال الرازي في تفسير قوله سبحانه : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) :

ظاهر الآية يدلّ على أن التقية إنما تحل مع الكفّار الغالبين ، إلّا أن مذهب الشافعي: أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة عن النفس.

وقال : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال ويحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد» (٢) ، وقال القاسمي نقلا عن مرتضى اليماني في كتابه

__________________

(١) لقد افترى هذا الناصبي على الشيعة كثيرا فقال في فصل «التقية» (يوجبون ـ أي الشيعة ـ التقية مع أهل السنة ، بل أنه حتى الابن جائز له أن يستعمل التقية والنفاق مع أبيه إذا كان سيئا ...) بذل المجهود : ج ٢ ص ٦٤٠.

(٢) تفسير الرازي : ج ٨ ص ١٤.

٣٤٨

إيثار الحق على الخلق : «وزاد الحق غموضا وخفاء أمران : أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق ، ولا برح الحق عدوا لأكثر الخلق ، وقد صحّ عن أبي هريرة أنه قال : ـ في ذلك العصر الأول ـ حفظت من رسول الله وعاءين ، أما أحدهما فبثثته في الناس ، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. (١)

وقال المراغي تعقيبا على الآية المزبورة :

«ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسّم في وجوههم وبذل المال لهم لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهيّ عنها ، بل هو مشروع ، فقد أخرج الطبراني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما وقى المؤمن به عرضه فهو صدقة» (٢).

وقال الآلوسي :

«في الآية دليل على مشروعية التقية ، وعرّفوها بحفظ النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء.

والعدوّ قسمان :

الأول : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم.

الثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإدارة»(٣).

أفبعد هذا كله يقال : إنّ الشيعي يتقي من السني بزعمهم وقد علمت ـ أيها القارئ اللبيب ـ أن علماء السنّة أفتوا بجواز التقية بل بوجوبها من المسلم على المسلم في حال تعرّض النفس للخطر الخ.

فالشيعة أيدهم المولى يتّقون الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتقيهم السني ، غير أن الشيعي ولأسباب لا تخفى ، يلجأ إلى اتقاء أخيه

__________________

(١) محاسن التأويل : ج ٤ ص ٨٢ لجمال الدين القاسمي.

(٢) تفسير المراغي : ج ٣ ص ١٣٦.

(٣) تفسير روح المعاني للآلوسي : ج ٣ ص ١٢١.

٣٤٩

المسلم لا لأجل قصور عند الشيعي ، بل لقصور عند أخيه الذي دفعه إلى ذلك ، لأنه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو موافق لأصول الشرع الإسلامي وعقائده، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب ، جمود على ظاهر الآية وسدّ لباب الفهم ، ورفض للملاك الذي شرّعت لأجله التقية ، وإعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

والتاريخ أكبر شاهد أيضا على صحة تقية المسلم من أخيه المسلم عند تعرض أحدهما من الآخر للخطر ، فقد لجأ بعض المسلمين إلى استعمال التقية في ظروف عصيبة أو شكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون ، فقد أورد الطبري في تاريخه : ج ٧ ص ١٩٥ ـ ٢٠٦ عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسرا حتى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة ، ولمّا أبصر أولئك المحدثون حدّ السيف مشهرا عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسرّوا معتقدهم في صدورهم ، ولمّا أعتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان.

والقصة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع بها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

الآية الثالثة :

قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر / ٢٩).

وكانت العاقبة :

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (غافر / ٤٦).

وما كان ذلك إلّا أنه بأسلوب تقيته استطاع أن ينجّي أحد أنبياء الله تعالى من الموت: (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (القصص / ٢١).

٣٥٠

وهذه الآيات تدلّ على جواز التقية لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الكافر.

الآية الرابعة :

(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة / ١٩٦).

حيث مفادها ومعناها : أن الإنسان إذا دهمه خطر ولم يتق فقد أوقع نفسه في التهلكة المنهي عنها عقلا وشرعا.

وأما السنة المطهّرة :

فأخبار التقية فيها قد بلغت حدّ التواتر منها :

١ ـ ما ورد في موثقة أبي بصير قال :

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : التقية من دين الله ، قلت : من دين الله؟ قال عليه‌السلام : أي والله من دين الله ولقد قال يوسف عليه‌السلام : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) والله ما كانوا سرقوا شيئا ، ولقد قال إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي سَقِيمٌ) والله ما كان سقيما (١).

دلّ الحديث على أنّ التقيّة من دينه تعالى الذي أمر عباده بالتمسّك به في كل ملّة لأنّ أكثر الخلق في كل عصر لمّا كانوا من أهل البدع ، شرّع الله التقية في الأقوال والأفعال والسكوت عن الحق لخلّص عباده عند الخوف حفظا لنفوسهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم وإبقاء لدينه الحق ، ولو لا التقية بطل دينه بالكلية وانقرض أهله لاستيلاء أهل الجور ، والتقية إنّما هي في الأعمال لا العقائد لأنها من الأسرار التي لا يعلمها إلّا علّام الغيوب. واستشهد الإمام عليه‌السلام في هذا الحديث لجواز التقية بالآية الكريمة حيث قال : ولقد قال يوسف عليه‌السلام حيث نسب الإمام الصادق عليه‌السلام القول إلى يوسف مع أنّ القائل هو المؤذن بقوله تعالى : (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) باعتبار أنّ يوسف أمر به ، والفعل ينسب إلى الآمر كما ينسب إلى الفاعل. فنسب إليهم السرقة مع أنهم لم يسرقوا المتاع ، إلّا أنّ يوسف عليه‌السلام استعمل التورية التي هي نوع من التقيّة بحيث كان يقصد من سرقتهم أنهم سرقوا يوسف من أبيه ، أو المراد تشبيههم بحال السرّاق بعد ظهور السّقاية عندهم.

__________________

(١) أصول الكافي : ج ٢ ص ٢١٧ ح ٣.

٣٥١

وكذا قول إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي سَقِيمٌ) ولم يكن سقيما في جسده ، فإنه عليه‌السلام أراد التخلّف عن القوم المشركين الذين حاولوا أخذه معهم ليعبدوا الآلهة ، فتعلل بذلك أنه سقيم القلب بما يرى من القوم من عبادة الأصنام أو لما علم من شهادة الحسين عليه‌السلام فصار سقيما ، كذا قال لهم إبراهيم عند ما سألوه من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال : (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ).

فالإمام عليه‌السلام استشهد بالآيتين على التنظير لرفع الاستبعاد عن جواز التقيّة بأنه إذا جاز ما ظاهره الكذب لبعض المصالح التي لم تصل إلى حدّ الضرورة وجواز إظهار خلاف الواقع قولا وفعلا عند خوف الضرر العظيم أولى (١).

٢ ـ وفي صحيحة هشام الكندي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إياكم أن تعملوا عملا يعيرونا به ، فإنّ ولد السوء يعير والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زينا ولا تكونوا عليه شينا ، صلّوا في عشائرهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم والله ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخبء ، قلت : وما الخبء؟ قال : التقية (٢).

٣ ـ وفي صحيحة معمر بن خلّاد قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن القيام للولاة؟ فقال عليه‌السلام : التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له (٣).

٤ ـ وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به (٤).

والحديث واضح الدلالة على وجوب التقية في كل ما يضطرّ إليه الإنسان إلّا ما خرج بدليل ، وعلى أن الضرورة منوطة بعلم المكلّف وظنه وهو أعلم بنفسه كما قال تعالى (الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) والله يعلم من نفسه أنّه مداهنة أو تقية.

__________________

(١) مرآة العقول : ج ٩ ص ١٦٨.

(٢) أصول الكافي : ج ٢ ص ٢١٩ ح ١١ وفي الوسائل : ج ١١ ص ٤٧١ يوجد «خباء» بدل «حبأ».

(٣) أصول الكافي : ج ٢ ص ٢١٩ ح ١٢.

(٤) أصول الكافي : ج ٢ ص ٢١٩ ح ١٣.

٣٥٢

٥ ـ وفي صحيحة وحسنة الفضلاء عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة ، عن اسماعيل الجعفي ومعمّر بن يحيى بن سام ومحمد بن مسلم وزرارة قالوا : سمعنا أبا جعفر عليه‌السلام يقول : التقية في كل شيء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له (١).

هذه الصحيحة وغيرها من الأخبار المعتبرة والتي ظاهرها الإطلاق في كل مورد يظن أو يحتمل احتمالا عقلانيا ترتّب ضرر فيه على تركها ، لكن في المقابل هناك مقيدات لهذا الإطلاق حتى لا يتوهم جريان التقية في كل ما تشتهي الأنفس وتهواه النفس الأمّارة ، وهذه المقيدات هي بمثابة مستثنيات من المستثنى منه هي :

١ ـ ما لو أكره على قتل نفس محترمة كما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقية (٢).

فالحكمة من تشريع التقية هي حفظ النفس من الهلاك سواء الهلاك النفسي أي لنفس المتقي من الغير أم الهلاك الغيري أي التحرز من إهلاك غيره ، فكلا الأمرين يحرم على المرء ارتكابهما أي إيقاع نفسه في التهلكة والقتل وإيقاع غيره كذلك.

والمشهور أنه إن أكرهه على الجراح الذي لا يسري إلى فوات النفس يجوز فعله إن ظن أنه يقتل إن لم يفعل ، من باب التزاحم بين قتل المكره وبين الآخر الذي يريد جرحه فيقدم الجرح على القتل.

٢ ـ تحرّم التقيّة فيما إذا لم يترتب على ترك التقية أي ضرر عاجل أو آجل ، وذلك لأنّ التقية قد أخذ في موضوعها احتمال الضرر ، فإذا لم يترتب هناك ضرر على تركها فهي خارجة عن موضوع التقية رأسا.

٣ ـ مسح الخفين وشرب الخمر حيث ذكر الفقهاء أن التقية غير جارية فيهما لما ورد عن أبي عمر الأعجمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

__________________

(١) أصول الكافي : ج ٢ ص ٢٢٠ ح ١٨.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١١ ص ٤٨٣ ح ١ وفي المحاسن للبرقي : ص ٢٥٩ فيه : (الدماء .. فإذا بلغ الدماء فلا تقية).

٣٥٣

والتقية في كل شيء إلّا في النبيذ والمسح على الخفين (١).

قد يقال : إن هذا الخبر معارض للخبر الدالّ على أن التقية في كل شيء يضطرّ إليه ابن آدم.

أجيب عنه بوجوه :

الأول : إنّ خبر أبي عمر الأعجمي من مختصات الأئمة عليهم‌السلام كما نصّ على ذلك صحيحة زرارة قال : قلت له : في مسح الخفين تقية؟ قال عليه‌السلام : ثلاثة لا أتقي فيهن أحدا : شرب المسكر ، ومسح الخفين ومتعة الحج ، قال زرارة : ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتقوا فيهن أحدا (٢) ، أي عدم التقية فيهنّ مختصّ بهم عليهم‌السلام لوجهين :

١ ـ إما لأنهم يعلمون أنه لا يلحقهم الضرر بذلك ، وأنّ الله يحفظهم.

٢ ـ وإما لأنها كانت مشهورة من مذهبهم عليهم‌السلام فكان لا ينفعهم التقية.

الثاني : أنّ ما ورد في رواية أبي عمر من أنه لا تقية في الأمور الثلاثة لأجل مشقة يسيرة لا تبلغ إلى الخوف على النفس أو المال وإن بلغت أحدهما جازت.

الثالث : أنه لا تقية فيها لظهور الخلاف فيها بين المخالفين فلا حاجة إلى التقية.

الرابع : لعدم الحاجة إلى التقية فيها لجهات أخرى ، أما في النبيذ فلإمكان التعلّل في ترك شربه بغير الحرمة كالتضرر به ونحو ذلك ، وأما في المسح فلأن الغسل أولى منه وهم لا يقولون بتعيّن المسح على الخفين ، وأما في متعة الحج فلأنهم يأتون بالطواف والسعي للقدوم استحبابا ، فلا يكون الاختلاف إلّا في النية وهي أمر قلبي لا يطّلع عليه أحد ، والتقصير وإخفاؤه في غاية السهولة.

قال في الذكرى :

يمكن أن يقال :

هذه الثلاث لا تقية فيها من العامة غالبا لأنهم لا ينكرون متعة الحج ،

__________________

(١) أصول الكافي : ج ٢ ص ٢١٧ ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١١ ص ٤٦٩ ح ٥.

٣٥٤

وأكثرهم يحرّم المسكر ومن خلع خفّه وغسل رجليه فلا إنكار عليه ، والغسل أولى منه عند انحصار الحال فيهما ، وعلى هذا تكون نسبته إلى غيره كنسبته إلى نفسه في أنّه تنتفي التقيّة فيه ، وإذا قدر خوف ضرر نادر جازت التقية (١). انتهى.

٣ ـ من مستثنيات التقية ما إذا أكره على التبرّي من أمير المؤمنين عليه‌السلام لما ورد في عدّة من الأخبار من الأمر بمدّ الأعناق والنهي عن التبرّي منه عليه‌السلام لأنه على الفطرة أو مولود على الفطرة.

فمن جملتها ما رواه الشيخ في مجالسه بإسناده عن محمد بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ستدعون إلى سبي فسبوني ، وتدعون إلى البراءة مني فمدوا الرقاب فإني على الفطرة (٢).

وأيضا روى الشيخ في مجالسه بسند معنعن عن مولانا علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : إنكم ستعرضون على سبي ، فإن خفتم على أنفسكم فسبوني ، ألا وإنكم ستعرضون على البراءة مني فلا تفعلوا فإني على الفطرة (٣).

 ـ وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني فأما السبّ فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة ، وأما البراءة فلا تبرءوا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة.

والأمر بالسبّ يحمل على الإباحة لا الوجوب بمعنى أن المكلّف الذي يقع فريسة الظالمين إذا قهروه وأجبروه على السبّ وكان يشعر بالنجاة بذلك فمباح له السبّ وإلّا فليوطن نفسه على القتل استقبالا للشهادة في سبيل الله وسبيل رسوله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وقوله : «فسبوني» تماما كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) فالصيد بعد

__________________

(١) مرآة العقول : ج ٩ ص ١٦٧.

(٢) الوسائل : ج ١١ ص ٤٧٧ ح ٨.

(٣) نفس المصدر : ح ٩.

٣٥٥

الإحرام ليس واجبا على المتحلل من الإحرام وإنما يحمل على الإباحة كما هو معلوم.

فالمكلّف بالخيار بين السب ومدّ الأعناق ويدلّنا على ذلك ما رواه عبد الله بن عطاء قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما : ابريا عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فبرئ واحد منهما وأبى الآخر فخلّي سبيل الذي برئ وقتل الآخر ، فقال : أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنّة (١).

والمراد من التبرّي بالحديث التبري منه باللسان دون القلب وإلّا لخرج المتبري قلبا من أمير المؤمنين عن شريعة الإسلام فالرواية دلّت على جواز كل من التبري اللفظي منه عليه‌السلام تقية والتعرّض للقتل ، وإن كلّا من الرجلين من أهل الجنة وقد تعجّل أحدهما إلى الجنة وتأخّر الآخر.

ويشهد لما قلت :

أن يوسف بن عمران الميثمي قال :

سمعت ميثم النهرواني يقول : دعاني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقال : كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعي بني أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟

قلت : يا أمير المؤمنين أنا والله لا أبرأ منك ، قال عليه‌السلام : إذا والله يقتلك ويصلبك ، قلت : أصبر فذاك في الله قليل ، فقال : يا ميثم إذا تكون معي في درجتي (٢).

أما العقل :

من خلال ما تقدم يعرف المرء أنّ التقية أمر سائغ عقلا لصيانة النفس أو العرض أو المال من الاندثار أو الهلكة في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحا خوفا من القوى الظالمة الغاشمة ، وأكبر شاهد على ذلك ما نراه من الحكومات الظالمة التي تمارس الظلم والتعسّف والقتل

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١١ ص ٤٧٦ ح ٤.

(٢) نفس المصدر : ح ٧.

٣٥٦

والتنكيل ومصادرة الأموال والأعراض وسلب حقوق كل من يتجاهر بالحق والدعوة إليه فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقا محيص عن إبطانها ، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجهاته حتى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل إلى أن يحدث الله أمرا.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم ، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله ، لا لشيء إلّا لأنه لا يتفق معه في بعض المبادي والأفكار.

يقول العلّامة جعفر السبحاني :

«إنما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل ، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلّا بالصمت والسكوت مرغما أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها ، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لا بدّ منها من أجل إغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوّة ، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولا إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يعيب التقية على مستعملها ، يتصوّر أو يصوّر أن الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب ، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السريّة ، وهو تصوّر خاطئ ذهب إليه أولئك جهلا أو عمدا دون أن يركّزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجّة مقنعة ، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره ، ولو لم تلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة هذه الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية ، ولما تحمّلوا عبء إخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علنا ودون تردد ، إلّا أن السيف والنطع سلاح لا تتردد كل الحكومات الفاسدة من التلويح بهما أمام من يخالفها من معتقداتها وعقائدها.

أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السريّة للإطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم ، فأعمالهم كلها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.

وهؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشئومة.

٣٥٧

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ التقية غطاء وسلاحا دفاعيا ليسلم من شر الغير ، حتى لا يقتل ولا يستأصل ، ولا تنهب داره وماله ، إلى أن يحدث الله أمرا من قبيل عطف المباين على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفياتي السابق قد لا قوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصورها ، فإنّ الشيوعيين طيلة تسلّطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المجنّ ، فصادروا أموالهم وأراضيهم ومساكنهم ومساجدهم ومدارسهم وأحرقوا مكتباتهم ، وقتلوا كثيرا منهم قتلا ذريعا ووحشيا ، فلم ينج منهم إلّا من اتقاهم بشيء من التظاهر بالمرونة وإخفاء المراسم الدينية والعمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم الله سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة ، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد ، فملكوا أرضهم وديارهم ، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئا فشيئا ، وما هذا إلّا ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها الله تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين ، فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها ، وكانت هذه غايتها وهدفها ، فهو أمر فطري يسوق الإنسان إليه قبل كل شيء عقله ولبّه ، وتدعو إليه فطرته ، ولأجل ذلك يستعملها كل من ابتلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئا سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك من غير فرق بين المسلم ـ شيعيا كان أم سنيا ـ وغيره ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها» (١).

إذن فالعقل السليم يحكم بلزوم التقية عند الاضطرار إليها والنفوس البشرية مجبولة على فعلها إذا أحسّت بالخوف والخطر ، وظني أن المناقش بصحتها ناقص العقل والإدراك.

النقطة الثالثة : أقسام التقية :

تنقسم التقية إلى الأحكام التكليفية الخمسة ؛ قال الشيخ الأنصاري «قدّس سره» أما الكلام في حكمها التكليفي فهو أن التقية تنقسم إلى الأحكام الخمسة ، فالواجب : منها ما كان لدفع الضرر الواجب فعلا وأمثلته كثيرة.

والمستحب : ما كان فيه التحرز عن معارض الضرر ، بأن يكون تركه مفضيا

__________________

(١) الاعتصام بالكتاب والسنة : ص ٣١٨ ـ ٣١٩.

٣٥٨

تدريجا إلى حصول الضرر كترك المداراة مع العامة وهجرهم في المعاشرة في بلادهم فإنه ينجرّ غالبا إلى حصول المباينة الموجبة لتضرره منهم.

والمباح : ما كان التحرّز عن الضرر وفعله مساويا في نظر الشارع كالتقية في إظهار كلمة الكفر على ما ذكره جمع من الأصحاب ويدلّ عليه الخبر الوارد في رجلين أخذا بالكوفة وأمرا بسب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

والمكروه : ما كان تركها وتحمّل الضرر أولى من فعله ، كما ذكر بعضهم في إظهار كلمة الكفر وأن الأولى تركها لمن يقتدى به الناس إعلاء لكلمة الإسلام ، والمراد بالمكروه حينئذ ما يكون ضده أفضل.

والمحرّم : منه ما كان في الدماء» (١).

وللعارف الكبير والمحقق الجليل آية الله العظمى روح الله الخميني (قدس‌سره) كلمات بشأن التقية نعرضها لأهميتها أيضا قال :

(تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات التي تمثّل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة ، مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرّفة ، والرّد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسّر المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرّمات ولا تعمّها أدلة التقية ولا الاضطرار ولا الإكراه.

وتدلّ على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها «فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز» (٢).

ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعدّ موهنا للمذهب وهاتكا لحرمته ، كما لو أكره على شرب المسكر والزنا مثلا فإنّ جواز التقية في مثله متمسكا بحكومة دليل الرفع (٣) وأدلة التقية مشكل بل ممنوع ، وأولى من ذلك كله في عدم جواز التقية ، ما لو كان أصل من أصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق والصلاة

__________________

(١) رسالة في التقية للشيخ الأنصاري : ص ٣٢٠ ط. قم.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١١ باب الأمر بالمعروف ٢٥ ص ٤٦٩ ح ٦.

(٣) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمتي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه».

٣٥٩

والحجّ وغيرها من أصول الأحكام فضلا عن أصول الدين أو المذهب ، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة ، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الأصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة) (١). انتهى.

وأخيرا نقول :

إننا ندعو الفرق الإسلامية التي تعيّب على الشيعة استعمالها للتقية أن يدرسوا الأسباب التي دعت الشيعة إلى استعمال التقية ، كما أننا ندعوهم للحوار مع الشيعة والجلوس على مائدة واحدة ملؤها المحبة والسلام كما عليهم أن يدرسوا عقيدة آل البيتعليهم‌السلام الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا وأحد الثقلين اللّذين أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسّك بهما في مجال العقيدة والشريعة لا أن يعيّبوا علينا ويتهموننا بالرفض أو الروافض ، بل الرافضي من رفض قرين الكتاب وأحباب رسول رب العباد. (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) (فاطر / ٤٠).

* * *

__________________

(١) رسائل السيد الخميني : ص ١٧١.

٣٦٠