الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

من أهل بيتي» (١).

الأمر الثالث : ما هي واجباتنا خلال الغيبة؟

من أهم التكاليف الإسلامية في عصر الغيبة هي معرفة الإمام المهدي (عج) الشريف والاعتقاد به كحقيقة موجودة وكإمام مفترض الطاعة وقائد فعلي لهذه الأمّة وإن لم يكن ظاهرا للعيان. والاعتقاد به بمثابة ضرورة من ضروريات العقيدة الإسلامية بشكل عام والإماميّة بشكل خاصّ ، وهذا الاعتقاد لا بدّ أن يكون مقرونا ومشفوعا بأنّه عجّل الله فرجه الشريف مطّلع على الأعمال وملمّ بالأقوال بقدرة الله (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) فهذا الاطّلاع الذي حباه سبحانه لوليّه في الدنيا بحيث يحزن إذا رأى مواليه ينحرفون عن خطّ الرسالة ، كما أنّه يفرح للتصرّف الصالح والمثمر ويعضد المرء الذي يسير على خطاه ، وحريّ بالمرء أن يعرف أنّ أعماله الصالحة وجهوده الخيّرة في سبيل الصالح العامّ وتصعيد درجة إخلاصه وتعميق الشعور بالمسئولية تجاه المحرومين والمستضعفين المؤمنين كلّ ذلك يخوّله المشاركة في تأسيس وتمهيد يوم الظهور وتقريب اليوم الموعود.

ومعرفته عليه‌السلام تستدعي إيجاد تكاليف من إمام العصر وناموس الدهر (عج) الشريف ، وهذه التكاليف على قسمين : عامّة وخاصّة.

أمّا الخاصة فهي المتعلّقة بإمام زماننا.

وأمّا العامة فهي المتعلقة بالأفراد والجماعات خلال غيبته.

أما الأولى : فتشمل مجموعة آداب ومراسم امتثال أوامره وكيفيّة إطاعته ومعرفته أنه عبد طاعته وأنّ هذه النّعم التي يتقلّب فيها العباد إنما هي من فتات مائدة إحسان وجوده لأنّه واسطة وصول الفيوضات الإلهيّة والنعم غير المتناهية الدنيوية والأخروية ، وقد ثبت بحكم العقل : أنّ النبوة لطف خاص والإمامة لطف عام ، واللطف الخاص ينقطع بانقطاع النبوة ويبقى اللطف العام مستمرّا إلى انقضاء الساعة ، وحتى يدرك اللطف والفيض لا بدّ من التوجّه الحثيث لنيله والتقرّب منه

__________________

(١) أمالي الصدوق : ص ٦٢ ح ١٠ ط. قم وكمال الدين ص ٢١٠. وأمالي الطوسي ص ٣٣٢ المجلس ١٢. ومن لا يحضره الفقيه : ج ٢ ص ٥٨٥ ، وهو من الأخبار المستفيضة الصحيحة.

٣٠١

ولا يكون إلّا بتكاليف عدّة هي موجبات الوصول ، منها :

الأول : أن يكون المرء مهموما لغيابه عليه‌السلام ومتحسرا على فراقه وذلك لمحجوبيّته وعدم الوصول إلى أذيال وصاله مع وجوده بين الأنام واطلاعه على خفايا الأعمال ولا يمكن أن يكون الإنسان سابقا لا دعائه بالوصول إلى درجة الإيمان لمجرّد القول باللسان إلّا أن تكون محبّته إلى مولاه المهدي مقرونة بالعمل الصالح وتقديمه عليه‌السلام على نفسه وكلّ ما عليك كما ورد عن ابن شيرويه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يؤمن عبد حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه ، وأهلي أحبّ إليه من أهله ، وعترتي أحبّ إليه من عترته ، وذاتي أحبّ إليه من ذاته» (١).

الثاني : ومن التكاليف الدعاء له عليه‌السلام بطلب التعجيل لنصرته وظفره وغلبته على الكفار والملحدين والمنافقين ، وهو نوع من إظهار العبودية والرضا بما وعد الله تعالى ، بأنّ هذا الجوهر الثمين يصنع في خزانة قدرته ورحمته ، وأسدل على وجهه حجاب العظمة والجلال إلى اليوم الذي يرى المصلحة بإظهار ذلك الجوهر الثمين وإضاءة الدنيا من شعاع نوره ، ولا يظهر أثر من الدعاء في مثل هذا الوعد المنجز الحتميّ إلّا أداء مراسم العبودية وإظهار الشوق وزيادة المحبّة والثواب ، فالدعاء له عليه‌السلام يفتح أبواب المغفرة والرحمة على الداعي ، لأنّ الدعاء لصاحب النعمة يوجب زيادة اللطف للداعي ، من هنا ورد الأمر بالدعاء للإمام المهدي عليه‌السلام في كثير من الروايات ، منها : «الدعاء له في شهر رمضان قائما وقاعدا وعلى كلّ حال لا سيما في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان : اللهم كن لوليّك القائم بأمرك الحجّة بن الحسن المهدي في هذه الساعة وفي كلّ ساعة وليّا وحافظا وقائدا وناصرا ودليلا ومؤيّدا ومريدا حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتّعه فيها طولا وعرضا ...»(٢).

وفي نسخة فروع الكافي ج ٤ ص ١٦٢ كتاب الصوم باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان بإسناده عن بعضهم عليهم‌السلام قال : تتكرر في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان هذا الدعاء ساجدا وقائما وقاعدا وعلى كلّ حال وفي

__________________

(١) أمالي الصدوق : ص ٢٧٤ المجلس ٥٤ ح ٩. وبالتفصيل لاحظ النجم الثاقب : ج ٢ ص ٤٣٤ وما بعدها.

(٢) إقبال الأعمال لابن طاوس ص ٨٥ ـ ٨٦ ؛ ط. حجرية والنجم الثاقب ج ٢ ص ٤٥٥.

٣٠٢

الشهر كلّه وكيف أمكنك ومتى حضرك من دهرك ... تقول : «اللهم كن لوليك فلان بن فلان في هذه الساعة وفي كل ساعة وليّا وحافظا وناصرا ودليلا وقائدا وعينا حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا ...».

قال ابن طاوس : «إذا كان هذا كلّه فضل الدعاء لإخوانك فكيف فضل الدعاء لسلطانك الذي كان سبب إمكانك وأنت تعتقد أنّ لولاه ما خلق الله نفسك ولا أحدا من المكلّفين في زمانه وزمانك ، وأن اللطف بوجوده صلوات الله عليه سبب لكلّ ما أنت وغيرك فيه وسبب لكل خير تبلغون إليه ، فإيّاك ثم إيّاك أن تقدّم نفسك أو أحدا من الخلائق في الولاء ، والدعاء له بأبلغ الإمكان ، وأحضر قلبك ولسانك في الدعاء لذلك المولى العظيم الشأن ، وإياك أن تعتقد أنني قلت هذا لأنّه محتاج إلى دعائك هيهات هيهات إن اعتقدت هذا فأنت مريض في اعتقادك وولائك ، بل إنما قلت هذا لما عرّفتك من حقه العظيم عليك وإحسانه الجسيم إليك ، ولأنك إذا دعوت له قبل الدعاء لنفسك ولمن يعزّ عليك كان أقرب إلى أن يفتح الله جلّ جلاله أبواب الإجابة بين يديك لأنّ أبواب قبول الدعوات قد غلقتها أيها العبد بأغلاق الجنايات ، فإذا دعوت لهذا المولى الخاص عند مالك الأحياء والأموات يوشك أن يفتح أبواب الإجابة لأجله فتدخل أنت في الدعاء لنفسك ولمن تدعو له في زمرة فضله وتتّسع رحمة الله جلّ جلاله لك وكرمه وعنايته بك لتعلّقك في الدعاء بحبله.

ولا تقل فما رأيت فلانا وفلانا من الذين تقتدي بهم من شيوخك بما أقول يعملون ، وما وجدتهم إلّا وهم عن مولانا الذي أشرت إليه صلوات الله عليه غافلون وله مهملون ، فأقول لك اعمل بما قلت لك فهو الحق الواضح ومن أهمل مولانا وغفل عمّا ذكرت عنه فهو والله الغلط الفاضح» (١) وهناك أدعية كثيرة ذكرها العلامة النوري قدّس سره في كتابه النجم الثاقب فراجع.

وتوجد مكارم وفوائد تحصل بالدعاء للإمام المهدي عليه‌السلام منها :

١ ـ أنّ في الدعاء له الفرج لنا كما ورد في التوقيع الصادر عنه عليه‌السلام قال :

__________________

(١) فلاح السائل لابن طاوس ص ٤٤ ـ ٤٥.

٣٠٣

«وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإنّ ذلك فرجكم» (١).

٢ ـ يوجب ازدياد النّعم.

٣ ـ إظهار المحبة الباطنيّة.

٤ ـ أنه علامة الانتظار.

٥ ـ إحياء أمر الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام.

٦ ـ الارتباط العاطفي والعقلي بالإمام.

٧ ـ سبب فزع الشيطان اللعين.

٨ ـ النجاة من فتن آخر الزمان ومهالكه.

٩ ـ أنه أداء لبعض حقوقه.

١٠ ـ تعظيم لله ولدينه.

١١ ـ شفاعة النبي والأئمة للداعي له.

١٢ ـ يوجب إجابة الدعاء.

١٣ ـ أداء أجر الرسالة.

١٤ ـ يوجب دفع البلاء.

١٥ ـ يوجب سعة الرزق.

١٦ ـ يوجب غفران الذنوب.

١٧ ـ التشرّف بلقائه في اليقظة أو المنام.

١٨ ـ الرجعة إلى الدنيا في زمان ظهوره عليه‌السلام.

١٩ ـ يصير الداعي من إخوان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٠ ـ أسوة بالنبي والأئمة الأطهار عليهم‌السلام.

٢١ ـ أنه وفاء بعهد الله وميثاقه.

٢٢ ـ يترتّب عليه برّ الوالدين.

٢٣ ـ زيادة إشراق نور الإمام في قلب الداعي له.

٢٤ ـ طول العمر ببركة الدعاء له.

__________________

(١) رواه الصدوق في كمال الدين والطبرسي في الاحتجاج.

٣٠٤

٢٥ ـ أنّه تعاون على البرّ والتقوى.

٢٦ ـ الفوز بنصر الله والغلبة على الأعداء بعون الله تعالى.

٢٧ ـ الاهتداء بنور القرآن المجيد.

٢٨ ـ صيرورته معروفا عند طه وآل ياسين.

٢٩ ـ الفوز بطلب العلم.

٣٠ ـ الأمن من المخاوف والعقوبات الأخروية.

٣١ ـ البشارة والرفق عند الموت.

٣٢ ـ إجابة دعوة الله ودعوة رسوله كونه مع أمير المؤمنين في درجته.

٣٣ ـ يصير أحب الخلق إلى الله وإلى رسوله.

٣٤ ـ يشمله دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٥ ـ غفران الذنوب وتبدّل السيئات بحسنات.

٣٦ ـ يدفع به العقوبة عن أهل الأرض إن شاء الله.

٣٧ ـ فيه ثواب إعانة المظلوم.

٣٨ ـ فيه ثواب إجلال الكبير والتواضع له.

٣٩ ـ فيه ثواب طلب ثار المظلوم الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام.

٤٠ ـ تحمّل أحاديث الأئمة الأطهار عليهم‌السلام.

٤١ ـ إضاءة نوره لغيره يوم القيامة.

٤٢ ـ شفاعته لسبعين ألفا من المذنبين.

٤٣ ـ دخول الجنة بغير حساب.

٤٤ ـ السلامة من عطش يوم القيامة.

٤٥ ـ يوجب خمش وجه إبليس وقرح قلبه.

٤٦ ـ يتحف يوم القيامة بتحفة مخصوصة.

٤٧ ـ يكون في ظلّ الله الممدود وتنزل عليه الرحمة ما دام مشتغلا بذلك الدعاء.

٤٨ ـ فيه ثواب نصيحة المؤمن.

٤٩ ـ ان المجلس الذي يدعى فيه للقائم عجل الله تعالى فرجه يكون محضرا للملائكة المكرمين.

٣٠٥

٥٠ ـ إن الداعي لهذا الأمر الجليل ممّن يباهي به الإله الجليل.

٥١ ـ يستغفر له الملائكة.

٥٢ ـ يكون من خيار الناس بعد الأئمة الطاهرين.

٥٣ ـ أنه أحب الأعمال إلى الله تعالى شأنه.

٥٤ ـ الأنيس الشفيق له في البرزخ والقيامة.

٥٥ ـ يوجب زوال الغمّ.

٥٦ ـ أنه أفضل من الدعاء في حقّ الإمام زمان ظهوره.

٥٧ ـ دعاء الملائكة في حقه.

٥٨ ـ أنه تمسك بالثقلين.

٥٩ ـ أنه اعتصام بحبل الله تعالى.

٦٠ ـ يوجب كمال الإيمان.

٦١ ـ درك مثل ثواب جميع العباد.

٦٢ ـ أنه تعظيم شعائر الله عزوجل.

٦٣ ـ فيه ثواب من استشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦٤ ـ ثواب من استشهد تحت راية القائم.

٦٥ ـ فيه ثواب الإحسان إلى مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام.

٦٦ ـ فيه ثواب إكرام العالم.

٦٧ ـ الحشر في زمرة الأئمة الطاهرين.

٦٨ ـ ارتفاع الدرجات في روضات الجنّات.

٦٩ ـ الفوز بالشفاعة الفاطمية عليها‌السلام.

كل هذه الفوائد الحاصلة ببركة الدعاء لمولانا الحجة المنتظر عليه‌السلام مستنبطة من نصوص العترة الطاهرة عليها‌السلام (١).

الثالث : من التكاليف الخاصة اتجاه إمام العصر والزمان عليه‌السلام : التصدق بما تيسّر في كل وقت لحفظ الوجود المبارك لإمام العصر عليه‌السلام.

__________________

(١) من أراد المزيد فعليه بملاحظة مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم ، والنجم الثاقب.

٣٠٦

الرابع : الحجّ عن إمام الزمان عليه‌السلام والاستنابة بالحجّ عنه كما هو معروف بين الشيعة قديما.

الخامس : القيام تعظيما لسماع اسمه المبارك وبالأخص إذا كان باسمه المبارك «القائم» عليه‌السلام كما جرت عليه السيرة عند الإمامية.

السادس : الاستمداد والاستغاثة والاستعانة والاستنجاد به عليه‌السلام حين الشدائد والأهوال والبلايا والأمراض وعند تقادم الشبهات والفتن ، فإن المتوسّل بجنابه الأقدس يوجب صلاح البال ودفع البليات ورفع الكربات وحلّ الشبهات ، فإنّ فضله وصل ويصل دائما إلى كل احد بمقدار قابليته واستعداده فإنّ جود الله عامّ على كلّ المكلفين ولكنّ الضيق في القابليات يمنع من وصول الفيض والكمالات.

أمّا الثانية : أي التكاليف العامة المتعلقة بالمكلفين من التكاليف التي يتوجّب على المكلفين الإتيان بها في عصر الغيبة أمران :

١ ـ الأول : الجهاد.

٢ ـ الثاني : الانتظار.

أما الأمر الأول : فإنّ المتأمّل لآيات الكتاب الكريم ونصوص السنّة المطهّرة يرى بوضوح عظمة الجهاد في سبيل الله ضدّ الظلم والظالمين كما في آيات عدّة منها :

قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال / ٦١) (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة / ٤١) (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ...) (التوبة / ١٢٠). والجهاد ينقسم إلى قسمين :

ابتدائي ودفاعي.

فالأول : ما كان لأجل توسيع رقعة الإسلام على وجه البسيطة بالدعوة إليه حتى ولو اقتضى الأمر إلى الصدام المسلّح.

والثاني : وهو ما يتضمّن في مفهومه الواعي العمل على ترسيخ أصول العقائد الإسلامية في نفوس الأفراد المعتقدين بها ، وترسيخها لا يتمّ إلّا عبر نشرها ابتداء

٣٠٧

أو الوقوف إلى جانبها دفاعا.

فالقسم الثاني ، هو المطلوب بحكم العقل والنقل ، وليس الشيعة الإمامية هم المتفردون به بل كل الأفراد من كلّ دين يسعون إلى نشر مبادي دينهم والدفاع عنها بكلّ غال ورخيص ، فلا مجال للتشكيك أو التجريح بالشيعة لمقالتهم هذه كما ربما يصوّر أعداؤهم ومبغضوهم.

ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أمرت الشريعة المقدسة بالأخذ بهما وحرمة التكاسل في أدائهما لما يترتّب عليهما من إصلاح الفرد والمجتمع ومحاولة حفظ المجتمعات عن الانحراف والتفكك وشيوع الفاحشة ، ولهما شرائط عديدة ذكرت في مصادر الفقه التشريعية فلتراجع.

أما الأمر الثانى : ونعني به الانتظار وما هو المفهوم الصحيح له؟

معنى الانتظار لغة وعرفا هو توقّع مجيء شخص أو أمر ما للمنتظر وهذا المعنى لا بدّ أن يتوفّر على كلّ المنتظرين لإمام الزمان من سنّة وشيعة حيث إن هذا المفهوم للانتظار أعني التوقّع الدائم لظهور الحجّة (عج) الشريف لتنفيذ الهدف المنشود من إقامة العدل ونشر الرحمة على البسيطة جمعاء.

ولكن يختلف انتظارنا عن انتظار غيرنا من الفرق الإسلامية بملاحظة أنّ انتظارهم لهعليه‌السلام لا يولّد حافزا كبيرا في معرفة إمام الزمان وما تشكّله هذه المعرفة من تعميق أو تصعيد درجة الإخلاص وقوّة الإرادة عند المنتظر بليله ونهاره والسعي الحثيث للالتقاء بإمامه الغائب عن أعين الظالمين لأنفسهم وللآخرين ، هذا الحافز موجود دائما عند الإمامي في حين أنّه لا يتوفّر عند غيره ، وفرق كبير بين الانتظارين ، إذ قد تنتظر شخصا غائبا وأنت تعلم بوجوده إلّا أنه يعيق عن رؤيته عائق خارجي أو نفسي فيحاول المرء إزالته بأيّ وسيلة كانت ، وقد ينتظر المرء شخصا لا وجود له على الإطلاق بل سوف يولد كما يقول العامّة ، فهذا لا يولّد الشعور بالمسئولية وتعميق درجة الإخلاص ليفوز بالقدح الأوفى من الرؤية والحضور ونيل الرضوان.

فالتفكير في الوصول إلى إمام الزمان يولّد إشراقة أمل في القلوب ويحرّض الأفراد على التزكية والإصلاح والاستعداد لتلك الثورة الكبيرة التي سيخوضها إمام العصر (عج) الشريف ، وهذا بدوره يعدّ عملا عباديّا يؤجر الفرد عليه لذا ورد أنّ انتظار الفرج عبادة ، وأنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة ، لأنّ

٣٠٨

هذا الانتظار العبادي مرتبط دائما بمسألة الإيمان بالغيب المطلق كما أشارت إليه الآية المباركة (وَالْعَصْرِ (٢) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٤)) وقد قرن سبحانه الإيمان بالعمل الصالح وانتظار الفرج الإلهي المعبّر عنه ب «الصبر» لأنّ الصبر بالنسبة للإيمان بمثابة الرأس من الجسد فمن لا صبر له لا إيمان له.

لذا ورد التأكيد على الانتظار الصحيح الذي يحقق شرط الظهور والتمهيد بالعمل الصالح بخروج الحجة (عج) الشريف كما ورد عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : «من دين الأئمة : الورع والعفّة والصّلاح وانتظار الفرج بالصبر» وعنه عليه‌السلام أيضا : «من مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر هو كمن كان مع القائم في فسطاطه» ، ثم مكث هنيهة وقال : «لا بل كمن قارع معه بسيفه لا والله إلّا كمن استشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

وما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبيّنا فضيلة المنتظرين لإمام العصر حيث قال : سيأتي قوم من بعدكم ، الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم ، قالوا : يا رسول الله كنّا معك ببدر وأحد وحنين ، وأنزل فينا القرآن ، فقال : إنكم لو تحمّلوا لما حمّلوا لم تصبروا صبرهم» (٢).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من سرّ [أو سرّه] أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه ، فجدّوا وانتظروا ، هنيئا لكم أيتها العصابة المرحومة» (٣).

فانتظار صاحب الزمان عليه‌السلام مستلزم للتفكير في الوصول إليه وهذا بدوره يولّد إشراقة أمل في القلوب ، ويحرّض الأفراد على التزكية والاصلاح والاستعداد لتلك الثورة العظمى التي سيخوضها إمام الزمان المهدي المنتظر عليه‌السلام ، وهذا بدوره يعدّ عملا عباديا يؤجر الفرد عليه ، لذا ورد «أنّ انتظار الفرج عبادة» كما ورد «أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».

__________________

(١) البحار : ج ٥٢ ص ١٢٦.

(٢) البحار : ج ٥٢ ص ١٣٠ ح ٢٦.

(٣) البحار : ج ٥٢ / ١٤٠.

٣٠٩

ويظهر من تتبع النصوص المتواترة بأنّ المراد من الانتظار هو انتظار شخص الإمام المهدي (عج) الشريف لا انتظار نهجه فحسب (كما تصوره البعض) (١) لأن النهج فرع وجود الذات المطهّرة ، ولو لا هذه الذات لما عرفنا النهج الرسالة الذي يجب أن يسير على خطاه المرء المسلم. كما أن انتظار المؤمن لرسالة الإمام المهدي عليه‌السلام لا يلغي دور الإمامعليه‌السلام الّذي تترشح الرسالة من ذاته المطهرة بمحكم الكتاب الكريم (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فكل ما يترشح من هذه الذات محكوم بالعصمة والطهارة ، فالرسالة أثر من المؤثر ، والمؤثر هو الذات المقدسة للمهدي المنتظرعليه‌السلام التي قامت الآيات والروايات على انتظارها والدفاع عنها ، لذا أمر أئمة آل البيت عليهم‌السلام بالوقوف حال سماع اسم القائم المهدي عليه‌السلام ووضع الأيدي على الرءوس إجلالا وتعظيما لا سمه وذاته المطهرة التي لم ولن يدنسها رجس على الإطلاق ، فالاستغراق في ذات الإمام عجل الله فرجه الشريف لا يعني عبادتها أو ترك العمل ، بل هو حركة جهادية للوصول إليه روحا وجسدا ، وأي إشكال أو نقيصة لو زاد المرء من محبته لإمام زمانه؟ وهل في محبة الإمام عليه‌السلام ما يوجب اشكالا شرعيا يخرج صاحبها من الدين ، أو يلحقه بزمرة الفاسقين والمنحرفين؟!!

لا أحتمل فقيها يفتي بذلك أو يفكر أن يفتي به.

قد يقول :

عرفنا فضيلة الانتظار ولكن ما هي شروطه؟

والجواب :

أنّ الفرد الرساليّ الذي يحمل همّ الانتظار لا بدّ أن تتوفّر فيه عناصر ثلاثة :

 ـ اعتقادية ـ ونفسية ـ وسلوكيّة.

 ـ أمّا العنصر الأول : فيجب على الفرد أن يعتقد بأنّ إمام الزمان (عج) الشريف هو الفرد الّذي ادّخره سبحانه لتنفيذ غرضه الإلهيّ من بسط العدل وإماتة

__________________

(١) في مجلة المنطلق عدد ٥١ الصادرة عام ١٩٩١ تحت عنوان حول الإمام المهدي عليه‌السلام.

٣١٠

الجور وأنّه ابن الإمام العسكري (١) عليه‌السلام وحفيد الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

مع التأكيد على دراسة الأسس الاعتقادية التي يبتني عليها التفكير الإمامي أو أن يكون المرء محافظا على معتقداته من التلوّث والشبهة ، ويتمّ الحفاظ على المعتقدات عبر التلقين الصحيح بواسطة الآباء والأجداد فإنّ هذا كاف في سلامة وصحّة الإيمان من دون تعمّق في البحث التنقيب عمّا ذكرنا.

 ـ العنصر الثاني : يجب على المنتظر أن يتحلّى باستعداد دائم وكامل لتطبيق أحكام الشريعة وأن يكون كواحد من الدعاة إليها والمضحّين في سبيلها ، لأنّ

__________________

(١) قد قامت الضرورة عند الشيعة الإمامية على ولادته (عج) الشريف ، وأنه ابن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام ، وهناك مئات الروايات عن النبي والعترة تصرّح بذلك ، ومع هذا فقد أنكر علينا كل ذلك صاحب كتاب «بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود» ج ١ ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ط. مكتبة الغرباء الأثرية المدينة المنورة حيث نفث الجميلي صاحب الكتاب المذكور سمومه على الشيعة الإمامية متهما إياهم أنهم طائفة من اليهود وقد اعتمد بإنكاره ولادة الإمام المهدي (عج) (وأنّ ما تدّعيه الشيعة بذلك فهو كذب). ـ على رواية للكليني في أصول الكافي : ج ١ ص ٥٠٥ حيث أشارت الى هجوم جند الخليفة العباسي على دار الإمام العسكرى عليه‌السلام باحثين عن الإمام المهدي (عج) ولزموا جارية سمعوا أنّ بها حملا ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل لازمين لها حتى تبين بطلان الحمل فلمّا بطل الحمل عنهن قسّم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر ... أقول : أولا : ما استدلّ به الناصبي المذكور ليس دليلا على المدّعى. إذ لعلّ هذه الجارية غير أم الإمام المهدي (عج) ، ولو كانت أمّه حقيقة فلم يبن عليها أثر الحمل وهي شبيهة أم إبراهيم وأمّ موسى ومريم بنت عمران عليها‌السلام حيث أخفى الله عزّ ذكره حملهنّ حفاظا على حياة أولادهن ، أما مريم عليها‌السلام فأخفى حملها لتكون معجزة فجائية للقوم ولدفع تهمة الفاحشة عنها ؛ ثانيا : إن الوريث الشرعي للإمام الحسن العسكري إنما هو ابنه الإمام المهدي عليه‌السلام لذا انكر جعفر وجود ولد لأخيه العسكري عليه‌السلام حتى يمكنه الاستيلاء على الميراث مستعينا بسلطة الخليفة العباسي ، وقد أبدى الإمام المهدي عليه‌السلام انزعاجه من عمه واستنكاره عليه ، فنراه ـ كما جاء في إكمال الدين ـ يخرج على عمه من موضع لم يعلم به ويجابهه بالقول : يا جعفر ما لك تعرّض في حقوقي؟ فتحيّر جعفر وبهت ثم غاب الإمام عليه‌السلام وطلبه جعفر بعد ذلك في الناس فلم يره ، علاوة عليه فإنّ المذكور لم يذكر ذيل الرواية وما قبله حيث ورد في نفس النص أن السلطان العباسي كان يطلب أثر ولد الإمام الحسن عليه‌السلام ليقينه بأنه موجود ولكنه غاب عن أعينهم لكونهم سمعوا من الروايات أن المهدي من ولد الحادي عشر من الأئمة عليهم‌السلام. وقد اعترف بولادته ثلّة من علماء العامة ناهزوا السبعين ذكر أعيانهم المحقق لطف الله الصافي في منتخب الأثر : ص ٣٢٦ ـ ٣٤٦ فليلاحظ.

٣١١

وقت الظهور مبهم لا يعلمه إلّا الله والإمام ، وهذا يتطلّب من الفرد شعورا نفسيّا مشبعا بالإخلاص والفداء لإمام زمانه إذا ظهر وطلب منه النصرة والتضحية ، وإلّا فإنّ الانتظار ليس بمعنى الاسترخاء ورفض المسئوليّة والعمل والتعهّد ، وإحالة ذلك إلى إمام الزمان ، وهذا كما قلنا سابقا خلاف مفهوم الانتظار الذي هو ترقّب قدوم غائب والعمل بتهيئة ما يسرّه ويفرحه حيث يشكّل بدوره دعامة كبرى في تمهيد الفرج وبسط العدل.

 ـ العنصر الثالث : ويراد منه الالتزام بتطبيق أحكام الشريعة التي لا تنحصر بفترة زمنيّة معيّنة بل سارية في كل عصر وحاكمة على تصرّفات الفرد وأفعاله وأقواله فيكتسب الإرادة القويّة وعمق الإخلاص بحيث يؤهّل الفرد للتشرّف بتحمّل طرف من مسئوليات اليوم الموعود ، والتضحية بالنفس والنفيس من أجل إمام الزمان (عج) الشريف.

هذا الالتزام والسلوك العمليّ واجب على كلّ فرد مسلم سواء ظهر الإمام أم لا لكنّه يزداد تأكيدا عند ما يعلم الإمامي أنّ قائده معاصر له ، يراقب أعماله ويعرف أقواله ويأسف لسوء تصرفه ، فهذا الإحساس يولّد وجوب إعداد النّفس لليوم الموعود بتحمّل المسئوليات في حاضره ومستقبله لكي لا يكون عاصيا لقائده متمرّدا على تعاليمه ، إضافة إلى أنّه يسرع بالفرد إلى النجاح في التمحيص قبل الظهور وبهذا يكون المنتظر قد أحرز الخير لنفسه وأمّته والبشرية جمعاء مع المساهمة في إرضاء إمامه المهديّ وجلب الراحة إليه بزيادة المؤمنين وقلّة العاصين والمشاركة الحقيقية في الإعداد لليوم الموعود الذي انتظرته أجيال فأجيال ويندفع ما قد يتصوّره بعض السّذج من أنّ المهديّ عليه‌السلام لا يخرج إلّا بعد أن تمتلئ الأرض جورا وظلما فيتعيّن على الأفراد ترك الإصلاح وعدم معارضة الظلم والظالمين فذلك يعجّل بظهورهعليه‌السلام اعتمادا على إصلاح الإمام المهدي (عج) الشريف حال خروجه.

ويكفي في دفع هذا التصوّر الخاطئ أنّ مشاركة الفرد والمجتمع في إيجاد شرط الظهور لا يكون إلّا بالعمل الجادّ المنتج لرفع درجة الإخلاص والشعور بالمسئولية ، ليكون في إمكان المخلصين المشاركة في مهامّ هداية العالم عند ظهوره (عج) الشريف. إضافة إلى أنّ المرء عليه أن يجعل نفسه على مستوى رضا الله ورضا الإمام المهدي قبل الظهور وبعده ولن يكون ذلك إلّا بقيامه بواجباته وما

٣١٢

تفرضه عليه أحكام الإسلام من امر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأقلّ تهاون في ذلك يوجب سخط الله تعالى والإمام عليه‌السلام.

أيضا إنّ عدم مشاركة الفرد في عملية الإصلاح الاجتماعي قبل الظهور يسبّب ويمهّد لنشر الظلم والظالمين وتعطيل أحكام الإسلام وهذا لا يرتضيه الله سبحانه كما في مجمل آيات الكتاب الكريم.

قد يقال :

كيف تتم هذه المشاركة في الإصلاح في حال أنه عليه‌السلام لا يظهر إلّا بعد أن تمتلئ الأرض ظلما وجورا ممّا يدلّ أنّ الظّلم والجور قبل عصر الظهور يعدّ جزءا من هذا التخطيط ليوم الظهور؟

وجوابه :

إنّ امتلاء الأرض جورا قبل الظهور يحمل على الأعمّ الأغلب أيّ أن عامة الناس ينحرفون عن مبادي وقيم الإسلام الحنيف وتغليب المصالح الشخصيّة على النفع العامّ واندحارهم تجاه تيّار الخوف والإغراء ، ولو امتلأت الأرض كلّها ظلما من دون توفّر نخبة صالحة من المؤمنين أو انعدام العنصر الإيماني فيها لأدّى ذلك إلى انعدام الإصلاح عن طريق القيادة العامة أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل سوف ينحصر الإصلاح بإقامة المعجزات وإرسال نبيّ آخر غير نبيّ الإسلام وقد قامت الضرورة على عدم وجود نبيّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إضافة إلى أنّ امتلاء الأرض جورا من دون مكافحة من قبل المؤمنين يعني ذلك أنه سبحانه أمر بنشر الظلم ودعا إليه وهو واضح البطلان عند الإمامية كافّة.

فلا بدّ إذن من الاعتقاد بوجوب القيام بالمهام والمسئوليات الملقاة على عواتقنا من تحكيم وتثبيت أسس الدّين الحنيف في القلوب والسعي لنشر معارف الإسلام والعمل والإخلاص لها لأنّ في ذلك إحياء لنهضة المهديّ عليه‌السلام لبسط العدل وإقامة الحق وقهر الظلم والظالمين قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٦) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٧)) (القصص / ٦ ـ ٧).

«ولو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من

٣١٣

عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما» (١).

«فاسهروا إذا لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان» (٢).

«لذلك كونوا مستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان» (٣).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ص ١٥٢.

(٢) إنجيل متى الإصحاح ٢٥ مقطع ١٣.

(٣) إنجيل متى الإصحاح ٢٤ مقطع ٤٤.

٣١٤

الباب الثّامن والعشرون

عقيدتنا في الرجعة

قال المصنّف (قدّس الله سرّه) :

إنّ الذي تذهب إليه الإماميّة أخذا بما جاء عن آل البيت عليهم‌السلام أنّ الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها ، فيعزّ فريقا ويذلّ فريقا آخر ، ويديل المحقّين من المبطلين والمظلومين من الظالمين ، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

ولا يرجع إلّا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد ، ثمّ يصيرون بعد ذلك إلى الموت ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب ، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمنى هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالارتجاج فنالوا مقت الله أن يخرجوا ثالثا لعلهم يصلحون : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (غافر / ١٢).

نعم ، قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا ، وتظافرت بها الأخبار عن بيت العصمة ، والإمامية بأجمعها عليه إلّا قليلون منهم تأولوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت بظهور الإمام المنتظر ، من دون رجوع أعيان الأشخاص وإحياء الموتى.

والقول بالرجعة يعدّ عند أهل السنة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها ، وكان المؤلفون منهم في رجال الحديث يعدّون الاعتقاد بالرجعة

٣١٥

من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها. ويبدو أنهم يعدّونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع ، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبز به الشيعة الإمامية ويشنع به عليهم.

ولا شكّ في أنّ هذا من نوع التهويلات التي تتخذها الطوائف الإسلامية فيما غبر ذريعة لطعن بعضها في بعض والدعاية ضدّه.

ولا نرى في الواقع ما يبرّر هذا التهويل ، لأنّ الاعتقاد بالرجعة لا يخدش في عقيدة التوحيد ولا في عقيدة النبوّة ، بل يؤكد صحة العقيدتين ، إذ الرجعة دليل القدرة البالغة لله تعالى كالبعث والنشر ، وهي من الأمور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة لنبيّنا محمد وآل بيته صلّى الله عليه وعليهم وهي عينا معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح عليه‌السلام ، بل أبلغ هنا لأنها بعد أن يصبح الأموات رميما (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٩) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٨٠)) (يس / ٧٩ ـ ٨٠) ، وأما من طعن في الرجعة باعتبار أنها من التناسخ الباطل ، فلأنه لم يفرّق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني ، والرجعة من نوع المعاد الجسماني ، فإنّ معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الأول ، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني ، فإنّ معناه رجوع نفس البدن الأول بشخصيّاته النفسية فكذلك الرجعة. وإذا كانت الرجعة تناسخا فإنّ إحياء الموتى على يد عيسى عليه‌السلام كان تناسخا ، وإذا كانت الرجعة تناسخا كان البعث والمعاد الجسماني تناسخا.

إذن ، لم يبق إلّا أن يناقش في الرجعة من جهتين :

الأولى : أنّها مستحيلة الوقوع.

الثانية : كذب الأحاديث الواردة فيها.

وعلى تقدير صحّة المناقشتين فإنّه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي هوّلها خصوم الشيعة. وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين هي من الأمور المستحيلة أو التي لم يثبت فيها نص صحيح ، ولكنها لم توجب تكفيرا وخروجا عن الإسلام ، ولذلك أمثلة كثيرة : منها

٣١٦

الاعتقاد بجواز سهو النبي أو عصيانه ، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن ، ومنها القول بالوعيد ، ومنها الاعتقاد بأن النبي لم ينصّ على خليفة من بعده.

على أنّ هاتين المناقشتين لا أساس لهما من الصحة ، أما أن الرجعة مستحيلة فقد قلنا أنها من نوع البعث والمعاد الجسماني غير أنها بعث موقوت في الدنيا ، والدليل على إمكان البعث دليل على إمكانها ، ولا سبب لاستغرابها إلّا أنها أمر غير معهود لنا فيما أفناه في حياتنا الدنيا ، ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما يقربها إلى اعترافنا أو يبعدها ، وخيال الإنسان لا يسهل عليه أن يتقبل تصديق ما لم يألفه ، وذلك كمن يستغرب البعث فيقول : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فيقال له : (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).

نعم ، في مثل ذلك ، مما لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته أو نتخيل عدم وجود الدليل ، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي من مصدر الوحي الإلهي ، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الأموات كمعجزة عيسى في إحياء الموتى (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) وكقوله تعالى : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) والآية المتقدمة (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ...) فإنّه لا يستقيم معنى هذه الآية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت ، وإن تكلّف بعض المفسرين في تأويلها بما لا يروي الغليل ولا يحقق معنى الآية.

وأمّا المناقشة الثانية ، وهي دعوى أن الحديث فيها موضوع ، فإنه لا وجه لها لأنّ الرجعة من الأمور الضرورية فيما جاء عن آل البيت من الأخبار المتواترة.

وبعد هذا ، أفلا تعجب من كاتب شهير يدّعي المعرفة مثل أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) إذ يقول : (فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة) ، فأنا أقول له على مدّعاه : (فاليهودية أيضا ظهرت في القرآن بالرجعة) كما تقدم ذكر القرآن لها في الآيات المتقدمة.

٣١٧

ونزيده فنقول : والحقيقة أنّه لا بدّ من أن تظهر اليهودية والنصرانية في كثير من المعتقدات والأحكام الإسلامية لأنّ النبي الأكرم جاء مصداقا لما بين يديه من الشرائع السماوية وأن نسخ بعض أحكامها ، فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الإسلامية ليس عيبا في الإسلام ، على تقدير أنّ الرجعة من الآراء اليهودية كما يدّعيه هذا الكاتب.

وعلى كلّ حال فالرجعة ليست من الأصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها وإنما اعتقادنا بها كان تبعا للآثار الصحيحة الواردة عن آل البيت عليهم‌السلام الذين ندين بعصمتهم من الكذب ، وهي من الأمور الغيبيّة التي أخبروا عنها ، ولا يمتنع وقوعها.

* * *

يقع الكلام في الرجعة ضمن نقاط :

النقطة الأولى : في معنى الرجعة :

الرجعة : من الرجوع والرجع أي العود بعد الذهاب ومنه قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) (الطارق / ٩) أي أنه تعالى قادر على إرجاع الميّت إلى الحياة بعد موته.

وقوله تعالى : (إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي عودكم إليه تعالى لأنّه خلقكم ابتداء فتعودون إليه انتهاء. قال تعالى : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (البقرة / ١٥٧).

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) (الأنبياء / ٩٤).

فالرجعة والمراجعة والرجوع كلها بمعنى المعاودة التي هي نقيض الذهاب.

والرجعة : بالفتح عود البدن إلى الدنيا بعد الموت ، بعد ظهور القائم المنتظر (عج) الشريف ، بمعنى أنّ الله سبحانه يعيد أرواح بعض المخلصين إلى أبدانهم ليفوزوا بنصرته عليه‌السلام. وثبوت الرجعة من العقائد التي يتوقف الإيمان بها على الأدلة السمعيّة من الكتاب والسنّة ، وهي من الضروريات عند الشيعة دون غيرهم من الفرق المبتدعة بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنكرها إجمالا خارج عن ربقة الإيمان.

وقد أنكر جمهور السنّة على الشيعة إيمانهم بالرجعة حتى قال في النهاية : «الرجعة مذهب قوم من العرب في الجاهلية وطائفة من فرق المسلمين وأهل البدع

٣١٨

والأهواء ومن جملتهم طائفة من الرافضة».

والعامّة كعادتهم ينكرون أغلب معتقدات الشيعة التي هي في الواقع معتقدات الإسلام، واتهامهم الشيعة بالرفض ما هو إلّا حلقة من حلقات التشنيع على من سار على درب العترة الطاهرة ، والتشنيع عليهم في مسألة الرجعة ممّا يدعو للعجب ، وكأنهم لا يقرءون القرآن وإذا قرءوا لا يفهمون بل على قلوب أقفالها ، وقد تناسوا أنّ أول من قال بالرجعة من قادتهم عمر بن الخطاب عند ما خرج من الغرفة المسجّى فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إنّ رسول الله ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات والله ليرجعن رسول الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنّ رسول الله مات» (١).

والرجعة لصنفين من الناس :

١ ـ من محض الإيمان محضا.

٢ ـ ومن محض الكفر محضا.

والمراد في الصنف الأول رجوع أئمتنا عليهم‌السلام مع النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعضهم استبعد رجوع جميع الأئمة عليه‌السلام وإنما يرجع بعضهم كالإمام علي والحسين عليهما‌السلام لورود نصوص فوق حدّ التواتر بشأنهما فرجوعهما هو القدر المتقين وهذا لا يخلّ بمبدإ الإيمان بالرجعة إجمالا.

نعم ، هناك بعض الشّذاذ (٢) من الشيعة أنكروا رجوع الأشخاص إلى الدنيا وأوّلوا النصوص برجوع دولة الأئمة عليهم‌السلام إلى الدنيا بعد موتها.

ينقض على ذلك :

أولا : إنّ ظهور الإمام (عج) الشريف شيء وعودة الحياة إلى مجموعة من

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٤٤٢ ط. الأعلمي حوادث سنة ١١ والكامل في التاريخ لابن الأثير : ج ٢ ص ٣٢٣ حوادث سنة ١١.

(٢) لاحظ البحار ج ٥٣ ص ١٣٨ : نقل عن السيّد المرتضى «قدّس سره» أنّه قال : أنّ شذاذ الإمامية يذهبون إلى أن الرجعة رجوع دولتهم في أيام القائم عليه‌السلام من دون رجوع أجسامهم. وممّن قال بهذا أيضا السيد محمد حسين فضل الله في مجلة الفكر الجديد ص ١٣ ومجلة المعارج المجلّد السادس السنة الثامنة ص ٣٢٨.

٣١٩

الأموات شيء آخر وذلك ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته فينتقمون من أعدائه ومبغضيه.

ثانيا : إنّ رجوع أوصافهم ودولتهم أجنبي عن صريح الأخبار وحقيقة الرجعة ، وان الذين يرجعون هم الأشخاص وذواتهم أما رجوع الأوصاف فلا اختصاص له بآخر الزمان بل هو أمر واقع من لدن خلقة آدم ، فإنّ كل نبيّ ووصيّ كان يقوم في مقام نبيّ أو وصيّ سابق، بل أصحابهم أيضا كانوا يقومون مقام أصحاب الماضين من الأنبياء والأوصياء.

ثالثا : أن النص الذي يراد تأويله لا بدّ أن يكون مخالفا في ظاهره لما يحكم به العقل ، أو مخالفا للثوابت والمسلّمات الشرعية وغيرها ، وأي غضاضة إذا قلنا أنّ الله يعيد بعض الأشخاص إلى الدنيا؟! وهل الاعتقاد بهذا يستلزم مخالفة لأحكام العقل والشرع حتى استدعى الأمر عند بعضهم أن يؤول النصوص الواردة فيها؟! فلا بدّ للذين يريدون تأويل النصوص أن يكون تأويلهم معقولا ومقبولا وموافقا للكتاب الكريم وإلّا فلا بد حينئذ من رفضه وردّه لمخالفته للنص القرآني القطعيّ ، وما خالف القرآن فهو زخرف (١) ، وهل يمكن تأويل الآية التي دلّت على رجعة عزير إلى الدنيا بحملها على عودة نبوّته دون جسده؟! وإذا لم يمكن التأويل لصراحة الآية بذلك ، فكيف يتطرّق التأويل حينئذ إلى النصوص المتعلقة بالرجعة مع صراحتها بعودة بعض الأجساد مع أرواحها إلى الدنيا؟!

رابعا : لا يجوز شرعا وعقلا أن نرفض كل نص لم نستطع إدراك الحكمة فيه ، كما يحرّم علينا تأويله بما لا يتناسب والأسس المقررة ، فعدم القدرة على تعقّل أو فهم النص لا يبرّر رفضه أو تأويله بما يخرجه عن معناه الصحيح ، وإذا لم يمكن تأويله فعلينا أن نسلّم بفحواه ما دام غير مخالف للقرآن الكريم إذ قد يأتي زمان تترقّى فيه قوانا الفكرية ويزيد فيه علمنا ، ونعرف الحكمة فيه كما روي عن ابن عباس قال : «لا تفسّروا القرآن فالزمان يفسّره» ، حيث كشفت البحوث العلمية في زماننا هذا عن كثير من حقائق القرآن التي لا يخفى وجه الحكمة فيها في العصور المتقدّمة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٧٩ ح ١٤. مؤسسة دار إحياء التراث العربي.

٣٢٠