الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

للدين الإلهي ويعيّن من قبل الله تعالى وهو من يسمّى ب «الإمام» كما يدعى حامل الوحي الإلهي ب «النبي» وهو من قبل الله تعالى أيضا.

«ومن هنا نصل إلى نتيجة أن ليس هناك ضرورة أن يكون نبي بين الناس بصورة مستمرة ، لكن يستلزم أن يكون إمام بينهم ، ويستحيل على مجتمع بشري أن يخلو من وجود إمام سواء عرفوه أم لم يعرفوه. وهناك أدوار من الزمن خلت من وجود الأنبياء إلّا أن هناك إمام حق في كل حصر» (١)

فمن خلال وضوح الفرق بين النبي والإمام يندفع وجه الإشكال ، إذ إن الشيعة لا يقولون بوجود نبي بعد محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما هناك أئمة معصومون هم نفس النبي ويحملون صفاته وخصائصه إلّا ما استثناه الدليل ، وبلوغ مطلق إنسان إلى مراتب الكمال ليس منحصرا بالأنبياء وحدهم ، كما اعتقد العامة أنه ليس بمقدور غير الأنبياء أن يفوا بوظائف الرسالة بعد رحيل نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا اعتقاد باطل ، قامت الضرورة على خلافه ، وآيات الكتاب تناهضه ، حيث إنّ هناك جماعات ليسوا بأنبياء بلغوا القمة في الكمال أمثال الخضر عليه‌السلام حيث نال مرتبة العلم اللدني بحيث أمر الله تعالى أحد أنبيائه العظام موسى بن عمران أن يقتبس منه علما.

وكذا فإن آصف بن برخيا جليس النبي سليمان عليه‌السلام ، جاء بعرش بلقيس بأقل من طرفة عين ، فهذان العبدان «الخضر وآصف» لم يكونا نبيين بل وليين صالحين ، من هنا يتبيّن أن هناك رجالا صالحين ، يحملون علوم النبوة ويحتضنونها بفضل من الله سبحانه ، لغاية قدسية هي إبلاغ الأمّة غايتها من الكمال ، وإيصاد الثغرات الهائلة التي تخلّفها رحلة النبي.

ثالثا :

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استوفى مهمته التشريعية كاملة لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة / ٤).

فما الداعي لأن يقول الشيعة أنّ الإمامة مكمّلة للنبوة حتى تكون أصلا ، فبما أنّ الدين كامل لا بدّ أن تكون فرعا.

__________________

(١) الشيعة في الإسلام : ص ١٦٢ للطباطبائي (قدس‌سره).

٢١

والجواب :

إنّ الاعتراض المذكور على عدم كون الإمامة أصلا مبني على تفسير «الدين» في الآية بالأحكام الشرعية الفرعية ، وبحمل «الإكمال» فيها على بيانها ؛ لكنه تفسير خاطئ لقرينتين :

القرينة الأولى :

إنّ عامة مفسري الشيعة وتبعهم بعض مفسري العامة ، ذهبوا إلى أنّ يوم الإكمال الوارد في الآية المباركة هو يوم عرفة من حجّة الوداع ، مع ورود نصوص كثيرة تشير إلى نزول أحكام وفرائض بعد ذلك اليوم منها : أحكام الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء ، ومنها آيات الربا في سورة البقرة / ٢٧٥ ـ ٢٧٨.

وقد روى العامة أنّ عمر بن الخطاب قال :

«من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وإنه مات رسول الله ولم يبيّنه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم» (١).

وروى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال : آخر آية أنزلها الله على رسول الله آية الربا» (٢).

القرينة الثانية :

إنّ مفردات الآية : «يئس الكفار ـ وإكمال الدين ـ وإتمام النعمة» لا ينسجم مع ما ذكر ، لأنّ تبيين بعض الأحكام في حجة الوداع لا يستدعي يأس الكفار من دين الإسلام ، لو لا أنّ الشيء الميئوس منه أمر عظيم الأهمية وله دخل في تثبيط مخططات المشركين والمنافقين ، فهناك أحكام كثيرة قد بيّنها النبي ولم يكن في تبيينه لها أي يأس عند المشركين ، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خصّ بمزية إتمام الدين وإكمال النعمة؟!! فيتعيّن أن تكون ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام هي الشيء الوحيد الذي أوجب المشركين أن ييأسوا منه بعد ما طمعوا فيه وحاولوا الاستيلاء عليه ، لأنهم كانوا يتوقعون أن الدين سيموت بموت رسوله ويرجّع المؤمنون إلى الكفر (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ

__________________

(١) الدر المنثور للسيوطي : ج ١ ص ٣٦٥ وتفسير الرازي.

(٢) الدر المنثور للسيوطي : ج ١ ص ٣٦٥.

٢٢

إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) (البقرة / ١١٠) (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (الصف / ٩) (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة / ٣٣) ولذلك لم يكن لهم همّ إلّا أن يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها ، ويهدموا هذا البنيان الرفيع من أسه بتفتين المؤمنين وتسرية النفاق في جماعتهم ، وبث الشبه والخرافات بينهم لإفساد دينهم (١).

رابعا :

إنّ نصب الإمام واجب على الأمّة سمعا (٢) تماما كبقية الواجبات الكفائية ، وقد استدل عليه بوجهين :

الأول : تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي على امتناع خلوّ الوقت عن إمام ، حتى قال أبو بكر ألا إنّ محمّدا قد مات ، ولا بدّ لهذا الدين ممن يقوم به ، فبادر الكل إلى قبوله ، وتركوا أهم الأشياء وهو دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يزل الناس في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر.

الثاني : إنّ في نصب الإمام دفع ضرر مظنون وأنه واجب إجماعا ، وبعبارة : إنّ في نصب الإمام استجلاب منافع كثيرة ، واستدفاع مضار كثيرة ، وكل ما هو كذلك فهو واجب بالإجماع.

يرد على أصل الدليل :

إنّ وجوب نصبه على الأمّة يقتضي أنهم إذا لم يتفقوا لم يحصل انعقاد الإمامة ، بل يجب إعادة النظر مرّة بعد أخرى ، وقد لا يثمر شيئا من ذلك اتفاقهم لاختلاف الآراء غالبا وهو يبطل تعليقها على رأي الأمة وإلّا لزم تعذر نصب الإمام أو جواز عمل كل فريق برأيه ، فيكون منصوب كلّ فريق إماما عليهم وهو خلاف المطلوب (٣).

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ٥ ص ١٧٥ والإلهيات : ج ٢ ص ٥٤٥.

(٢) الفرق بين الدليل الأول والرابع ؛ أنّ الأول واجب عرفا ، وأما الرابع فواجب سمعا.

(٣) إحقاق الحق : ج ٢ ص ٣٠٩.

٢٣

ويرد على الوجه الأول :

١ ـ إنّ الإجماع لا يدلّ على نفي الوجوب العقلي الدالّ على ضرورة نصب الإمام ، مضافا إلى أن امتناع خلوّ الزمان من الإمام أعمّ من أن يكون منصوبا من الله ورسوله أو من قبل الأمة ، ولا دلالة للعام على الخاص ، فلا يستلزم المطلوب ، مع أنّ الإجماع المذكور حجة عليهم ، لأنّا نجد كثيرا من الزمان خاليا عن إمام جامع للشرائط المعتبرة عندهم وهي القرشية بالاتفاق والعدالة والاجتهاد على خلاف بينهم.

والقول بوجوده في ناحية غير معلومة مكابرة.

وبعبارة أخرى : إنّ الإجماع في كل عصر على نصب إمام غير موافق لمذهبهم مع أنّ القرشية معتبرة عندهم في الإمام ، وهي غير حاصلة في مطلق الرئيس.

وأما قوله : فبادر الكل ...

فلأنّ هذا الكل ، كان بعضا من الكل باتفاق الكل ، فلا يكون حجة على الكل عند الكل ، أي أنّ الذين بايعوا أبا بكر هم عدّة قليلة جدا ، وبقية المسلمين بايعوا خوفا من سيف ابن الخطّاب عند ما أزبد وأرعد وتوعّد ، فالذين انتخبوا أبا بكر في سقيفة بني ساعدة ما هم إلّا رفقاؤه وأحباؤه ، في حين أن بقية الصحابة الأجلّاء كأمير المؤمنين علي عليه‌السلام وسلمان وأبي ذرّ وعمّار والمقداد وو وكانوا خارج اللعبة المرسومة ، فأين الإجماع ومبادرة الكل إلى قبول أبي بكر؟!!

٢ ـ أما دعوى أنّ الناس في كل عصر ينصبّون إماما فمكابرة وخلافها ظاهر لا يخفى على أحد.

ويرد على الوجه الثاني :

١ ـ أنّه أقرب إلى الدليل العقلي منه إلى الدليل السمعي ، وأين الإجماع المدّعى وقد خرج منه أهل البيت عليهم‌السلام وصحابته الميامين وسعد بن عبّادة سيد الأنصار وأولاده وأصحابه ، فكيف يتحقق الإجماع في الصدر الأول وهو كما عرفت مخروق بخروج أعاظم الأصحاب وأفضلهم سواء فسّر الإجماع باتفاق الكل أو اتفاق أهل الحل والعقد أو اتفاق أهل المدينة أو اتفاق الأعاظم من المسلمين إلى ما هنالك من تعريفات لحقيقة الإجماع ، فعلى هذه التعاريف كلها

٢٤

ألم يكن أمير المؤمنين ومن أشرنا إليهم من أهل الإجماع أو الحل والعقد؟! فما معنى هذه الغميضة في حقهم وعدم الالتفات إليهم؟ وهل هذا إلّا الجفاء والشقاء بالنسبة إلى هؤلاء النبلاء؟ هذا مضافا إلى أن الإجماع بذاته لا يعدّ حجّة ما لم يشتمل على معصوم ، فإن اشتمل عليه كان حجة لدخول المعصوم فيه ، وإن لم يشتمل على معصوم لم يكن حينئذ حافظا للشرع ومانعا عن الاختلاف لجواز الخطأ على كل واحد ، فيجوز صدور الخطأ على المجمعين. هذا بالغض عن أنه لو كان حجة للزم منه حجية كل إجماع ، حتى إجماع اليهود والنصارى وهو باطل ، فلا يصلح ـ أي الاجماع ـ أن يكون دليلا على صحة خلافة أبي بكر.

٢ ـ انه لا دلالة فيه على نفي الأدلة العقلية على وجوب نصب الإمام عليه‌السلام.

٣ ـ إنه إن كان ملاحظة المصلحة والمفسدة بالنظر إلى كل واحد أو بالنظر إلى الكل ، فإن كان الأول فغير مسلّم ، وإن كان الثاني فكذلك ، لأنّ التكليف مخصوص بمن عليه الضرر وله المصلحة ، ولو سلّمنا ذلك كله وأنه واجب سمعا بهذين الدليلين ، فليس هذا مما يدل على فرعية المسألة ، إذ ليس كل ما دليله الإجماع يكون من الفروع ، كالإجماع على حاجة الناس إلى الرسول ونحو ذلك من المسائل (١).

تلخّص بما قدّمنا فساد ما استدلّ به الأشاعرة على كون الإمامة فرعا. وبالجملة : فلو كانت هذه المسألة من الفروع لكفى فيها ظن المجتهد ، أو تقليد الغير ولما استدعى ذلك إلى تخطئة من قال بأصوليتها فضلا عن قتله كما حصل لكثيرين استشهدوا لأنهم قالوا بإمامة علي بن أبي طالب دون غيره.

وأما الجهة الثانية :

ذهب بعض متأخرينا إلى أنّ الإمامة من أصول المذهب ، والوجه في تسميتها بأصول المذهب هي أنها تثبت عند أهل المذهب المعتقد بها دون غيره من بقية الفرق والمذاهب.

__________________

(١) الإمامة للعلامة الجيلاني : ص ٧٤ بتصرّف.

٢٥

لكن يرد على هذا :

أولا :

إنّ ثبوت الإمامة عند الشيعة الإمامية دون غيرهم لا يخرجها من أصول الدين.

ثانيا :

إنّ الشيعة هم الإسلام ، وليسوا فرقة مبتدعة أو مذهبا مصطنعا ، حتى يقال انهم فرقة من الفرق ، فقياس غيرهم عليهم قياس مع الفارق فتأمل.

هذا وقد استدلّ هؤلاء على أنها من أصول المذهب بما يلي :

إنه لو كانت الإمامة من أصول الدين ، للزم خروج الفرق الإسلامية غير الاثنا عشرية عن الدين ، ولزم تكفير المنكرين لها ، فيكون بذا الإسلام فرقة واحدة ، والباقي كفّارا ، لذا حكم بعضهم بكونها من أصول المذهب لا الدين دفعا للمحذور المتقدم ، ولذهاب بعض المتأخرين إلى الحكم بإسلامهم.

والجواب :

١ ـ إنّ الهروب دفعا للمحذور لا يخرجها عن كونها أصلا ، فيكون الخلاف صوريا ، مضافا إلى أنّ تبنّي هذا الرأي ما هو إلّا مماشاة معهم ومداراة لهم.

٢ ـ إنّ التكفير من لوازم عدم الاعتقاد بإمامة العترة الطاهرة ؛ والشيعة حينما يعتقدون بكفر منكرها ، فليسوا بدعا في ذلك ، ولا شواذا عن غيرهم ، فقد قال بمقالتهم جمع من العامة كالقاضي البيضاوي في مبحث الأخبار من كتاب المنهاج ، وجمع من شارحي كلامه بأنّ مسألة الإمامة من أعظم مسائل أصول الدين الذي مخالفته توجب الكفر والبدعة ، وكذا مال إلى هذا الاعتقاد الأسروشني (١) من الحنفية في كتابه المشهور بينهم بالفصول الأسروشني حيث ذهب إلى تكفير من لا يقول بإمامة أبي بكر ؛ بل هم يؤكدون ذلك بفعلهم أيضا حيث يتصدون لقتل (٢) من ظن أنّ أبا بكر ليس بإمام أو قال بإمامة أمير المؤمنين

__________________

(١) هو أبو الفتح مجد الدين محمد بن محمود بن حسين الحنفي المتوفى سنة ٦٣٢ ه‍.

(٢) وممن قتل في سبيل عقيدة التشيع الشيخان السعيدان الأول والثاني ، والقاضي السيد نور الدين التستري صاحب إحقاق الحق وآخرون ذكرهم العلّامة الأميني في شهداء الفضيلة فراجع.

٢٦

علي بن أبي طالب عليه‌السلام مباشرة بعد رسول الله بلا واسطة.

وممن قال بمقالة الأسروشني ما ذكره ابن حجر في آخر صواعقه ، باب التخيير والخلافة ما نصه : «إنّ أبا حنيفة وغيره من علماء السنّة أفتوا بكفر من أنكر خلافة أبي بكر» ونقل القزويني في كتاب الإمامة الكبرى عن ابن حجر في صواعقه هذا الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يكون في آخر أمتي الرافضة ينتحلون حب أهل بيتي .. ومن أدركهم منكم فليقتلهم فإنهم مشركون» (١).

والعجب من العامة كيف يجعلون الإمامة أو الخلافة من الفروع ، ثم من حيث يشعرون أو لا يشعرون يحكمون بتكفير من أنكر خلافة أبي بكر وعمر؟!!

قال يقال : إنّ خلافة الشيخين فرع ، ولكنها من ضرورات الدين ، وكل من أنكر ضرورة دينية فهو كافر.

والجواب :

إنّ هذه الدعوى مرفوضة ، وذلك لأنّ الشرط الأساس للضرورة الدينية هو أن يجمع عليها المسلمون الأوائل ، وقامت من أجلها الأدلة من الكتب والسنّة ، بحيث يرجع إنكار هذه الضرورة إلى إنكار ما نزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قامت الأدلة (٢) على أنّ عليّا أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الإمام بنص الكتاب والسنّة ، فمنكره راجع إلى إنكار ما نزل على قلب محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ أما حكم بعض المتأخرين بإسلامهم ، فمبني على ضرب من المصلحة والتسهيل وحقنا للدماء ، كل هذا بحسب الظاهر دون الواقع ، ويشهد له ما ذكره صاحب البحار والخوئي في مصباح الفقاهة فليراجع ، وإلّا فالمسألة موضع اتفاق لا سيما عند المتقدمين :

قال الشيخ المفيد «قدّس سره» في باب تلقين المحتضرين :

«ولا يجوز لأحد من أهل الإيمان أن يغسّل مخالفا للحق في الولاية ولا

__________________

(١) فلسفات إسلامية : ص ١٧٥ نقلا عن الصواعق المحرقة.

(٢) يكفي من الأدلة قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) حيث يعدّ تكذيب أمير المؤمنين عليه‌السلام ردّا لكتاب الله وسنّة رسوله.

أفلم يصرّح عليه‌السلام بأن الخلافة له دون غيره حتى كذّبوه وأقعدوه في داره؟!.

٢٧

يصلي عليه إلّا أن تدعوه ضرورة إلى ذلك ، فيغسّله تغسيل أهل الخلاف ...» (١).

وقال الشيخ الطوسي : (٢) معقّبا على عبارة المفيد : «والوجه فيه : أن المخالف لأهل الحق كافر ، فيجب أن يكون حكمه حكم الكفّار إلّا ما خرج بالدليل ، وإذا كان غسل الكافر لا يجوز ، فيجب أن يكون غسل المخالف أيضا غير جائز. وأما الصلاة عليه فيكون على حد ما كان يصلي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام على المنافقين.».

وقال الشيخ البحراني : (٣)

لا خلاف في وجوب الصلاة على المؤمن وهو المسلم المعتقد لإمامة الأئمة الاثنى عشر ، كما أنه لا خلاف ولا إشكال في عدم الوجوب بل عدم الجواز إلّا للتقية على الخوارج والنواصب والغلاة والزيدية ونحوها ممن يعتقد خلاف ما علم من الدين ضرورة.

ثم قال بعد استعراض كلام المفيد والطوسي :

وإلى هذا القول ذهب أبو الصلاح وابن ادريس وسلّار وهو الحق الظاهر بل الصريح من الأخبار ولاستفاضتها وتكاثرها بكفر المخالف ونصبه وشركه ، كما بسطنا عليه الكلام بما لا يحوم حوله شبهة النقض والإبرام في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ...

وقال العلّامة في المنتهى في أوصاف مستحقي الزكاة :

الوصف الأول : الإيمان ، ذهب إليه علماؤنا أجمع ، خلافا للجمهور كافة ، واقتصروا على اسم الإيمان ، لنا : إنّ الإمامة من أركان الدين وأصوله ، وقد علم ثبوته من النبي ضرورة ، فالجاحد بها لا يكون مصدّقا للرسول في جميع ما جاء به ، فيكون كافرا فلا يستحق الزكاة.

وقال القاضي نور الله الشهيد في شرح المبحث الخامس من الفضائل الدالّة على خلافة مولانا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «ومن المعلوم أن الشهادتين بمجرّدهما غير كافيتين إلّا مع الالتزام بجميع ما جاء به النبي من أحوال المعاد والإمامة كما يدلّ عليه ما اشتهر من قوله عليه‌السلام : «من مات ولم يعرف إمام

__________________

(١) المقنعة ص ٨٥ ط. دار المفيد.

(٢) التهذيب : ج ١ / ٣٥٤ ط. دار الأضواء.

(٣) الحدائق ج ١٠ / ٣٥٩ ط. مؤسسة النشر الاسلامي قم.

٢٨

زمانه مات ميتة جاهلية» ، ولا شك أن المنكر بشيء من ذلك ليس بمؤمن ولا مسلم ، فإنّ الغلاة والخوارج وإن كانا من فرق المسلمين نظرا إلى الإقرار بالشهادتين ، فهما من قبيل الكافرين نظرا إلى جحودهما ما علم من الدين ، وليكن منه بل من أعظم أصوله إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ...» (١). وكلمات الأعلام المتأخرين واضحة فيما ذكرنا(٢). ومستند هؤلاء الأعلام إنما هو الأخبار الكثيرة الدالّة على تكفير منكر الولاية (٣) ، ومن البعيد جدا حمل الاعتقاد بإمامتهم عليهم‌السلام على خصوص شيعتهم ، وتخصيصها بأصول المذهب ، فإطلاق مدلول هذه الروايات يفيد كونها من أصول الدين. فتأمل.

وزبدة المخض :

إنّ عمدة أدلتهم «رضوان الله تعالى عليهم» أمران :

الأول :

إن منكر ولاية العترة الطاهرة ـ وليست إمامتهم فحسب ـ يعتبر منكرا لما علم ضرورته وثبوته في الكتاب الكريم والسنة المطهّرة ، ومن الضروري أن الجاحد لما علم ثبوته بالنص المتواتر ، لا يكون مصدّقا للرسول في جميع ما جاء به فيكون كافرا بما نزل على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الإمامة أو الولاية من أعظم ما جاء به محمد بن عبد الله ، فيكون إنكارها إنكارا لأعظم الأصول والأركان ، ويكفي في أصوليتها أنه سبحانه هدّد رسوله بعدم تبليغ أصل الرسالة إن لم يبلّغ أن عليا أمير المؤمنين الولي من بعده.

وكيف يعتبر مؤمنا من أخرج أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام قهرا مقادا يساق بين جملة العالمين ، وأدار الحطب على بيته ليحرقه عليه وعلى من فيه ، وضرب سيدة نساء العالمين الزهراء البتول عليها‌السلام حتى اسقطها جنينها ولطمها حتى خرّت لوجهها وجبينها وكسر ضلعها حتى خرجت لوعتها ، هذا مضافا إلى غصب

__________________

(١) الإمامة للشفتي : ص ٨٢ نقلا عن إحقاق الحق للتستري.

(٢) انظر : مكاسب الأنصاري فصل غيبة المخالف جواهر النجفي ج ٢٢ / ٦٣ ، مصباح الفقاهة للخوئي ج ١ / ٣٢٣ ، المكاسب المحرمة للخميني ج ١ / ٢٥١.

(٣) أصول الكافي : ج ١ ص ٤٣٧ ح ٧ ـ ٨ وج ٢ ص ٣٨٨ ح ١٨ ، ٢٠ الخ.

ولاحظ الإمامة للشفتي : ص ٤٢.

٢٩

الخلافة الذي هو أصل هذه المصائب وبيت هذه الفجائع والنوائب ، وغصب حق الزهراء من الخمس وفدك وتكذيبهم إياها مع تطهير الله سبحانه لها ، وتغييرهم لموازين الشرع المبين؟! هذا حال من نصبوا أنفسهم للناس أئمة بغير حق ، فكيف بمن حذا حذوهم من التابعين الذين اعتقدوا بإمامتهم دون إمامة علي وأبنائه الميامين.

الثاني :

إن المستفاد من النصوص المتضافرة بل المتواترة على بطلان عمل منكر الولاية ، لكونه التزم بما هو أعظم من الفسق. ومفاد هذه الأخبار كفر المخالفين عدا المستضعفين ، فمنها :

١ ـ ما ورد في موثقة محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كلّ من دان الله عزوجل بعبارة يجهد فيها نفسه ، ولا إمام له من الله ، فسعيه غير مقبول ، وهو ضال متحير ، والله شانيء لأعماله ، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق ، واعلم يا محمد : أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلّوا وأضلّوا ، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد (١).

٢ ـ وورد في موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته ، أما لو أن رجلا قام ليله وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان على الله حق في ثوابه ، ولا كان من أهل الإيمان (٢). والأخبار متواترة بذلك احجمنا عن استغراضها خوف الإطالة.

هذا مضافا إلى الاعتقاد بالعقائد الخرافية كالجبر ونحوه يوجب الكفر والزندقة ، وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة في كفر المعتقد بالعقائد المذكورة ، وما يشبهها من الضلالات ، منها :

١ ـ ما ورد عن ياسر الخادم قال : سمعت أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ / ٩٠ ج ١ باب ٢٩ بطلان العبادة بدون ولاية الأئمة عليهم‌السلام.

(٢) نفس المصدر ج ٢ باب ٢٩.

٣٠

عليه‌السلام يقول : من شبّه الله بخلقه فهو مشرك ، ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر (١).

٢ ـ وفي خبر عبد السلام بن صالح الهروي عن الإمام الرضا عليه‌السلام قال : من وصف الله بوجه كالوجوه فقد كفر (٢). والأخبار بذلك كثيرة جدا فلتراجع في الوسائل أبواب حدّ المرتد.

إشكال وحل :

مفاد الإشكال : كيف حكم هؤلاء الفقهاء (طبقا لتلكم النصوص المتواترة) بكفر منكر الولاية في حين أن آيات عدة ربطت الإيمان بالتصديق بالله تعالى وبرسوله والمعاد ، ولم تعلّقه على الاعتقاد بالولاية؟

والجواب :

أولا : إن الآيات التي ربطت الايمان بالله ورسوله والمعاد دون الولاية هي آيات نزلت في أول البعثة ، حيث كانت الدعوة في أخطر مراحلها ، فكان من غير المناسب ، وخلاف الحكمة ، أن يعلّق الله سبحانه الايمان به وبالنبي والعترة الطاهرة ، وذلك لضعف ايمانهم بالرسول وبالمعاد ، فمن المناسب أن يدعوهم أولا إلى التصديق بالله وبرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن يرتبطوا بعالم الآخرة ، ثم بعدئذ يدعوهم إلى التصديق بأوليائه ، وقد تم ذلك من خلال ما نزل في مكة من آيات تظهر فضله على كافة المسلمين ، ثم بعدها في المدينة حيث تتابعت الآيات بحق أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهناك الكثير من الآيات التي نصت على وجوب مودة آل البيت وإطاعتهم وموالاتهم ، كما توجد آيات تنص على تنزههم عن الأرجاس المعنوية والمادية وغير ذلك ولا ننسى آية البلاغ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (المائدة / ٦٨) حيث هدّد الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم قبول الرسالة فى حال لم يبلّغ النبي بالولاية لعلى عليه‌السلام فى غدير خم. ثم توّج الله سبحانه البلاغ بإتمام النعمة بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ / ٥٥٧ باب ١٠ جملة مما يثبت به الكفرة والارتداد.

(٢) نفس المصدر والباب ج ٣.

٣١

لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة / ٤) حينما بايع المسلمون الإمام عليا عليه‌السلام حتى قال له أبو بكر وعمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا علي أصبحت مولانا ومولى كل مسلم ومسلمة.

حيث كان الدين قبل تنصيب الإمام علي عليه‌السلام ناقصا ، والنعمة غير تامة ، والإسلام غير مرضي. وهل هناك أبلغ من هذه الآيات الصريحة مع تأكيد الرسول الأكر يوم الغدير على الولاية لعلي وأبنائه المعصومين المطهّرين؟! وكأنّ القوم سدّوا آذانهم عن الحق واقفلوا قلوبهم عن الحقيقة فكيف يؤمنون حينئذ بما أنزل الله على نبيه الأعظم!! قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (الأنعام / ١١٢) ، (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (لقمان / ٨).

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) (فصلت / ٦).

ثانيا : إن التصديق بالله ورسوله يستتبع التصديق بكل ما أمر به الله ورسوله ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء / ١٣٧) ، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص / ٦٩).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب / ٣٧).

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر / ٨).

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (آل عمران / ٣٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء / ٦٠).

٣٢

فمن يدّعي أنه مؤمن بالله وبرسوله عليه أن يتبع أقواله ، ألم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ أول الدعوة بوجوب إطاعة الإمام علي عليه‌السلام والتسليم له ، لا سيما في العام الثالث من البعثة كما في حديث الدار عند ما نزل قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، فجمع النبي عشيرته فأطعمهم وسقاهم ثم قال لهم : من يؤازرني على هذا الأمر ويكون أخي ووصيي وخليفتي عليكم من بعدي؟ فلم يجبه أحد إلا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : أنا ، فرفع النبي يد علي عليه‌السلام وقال : هذا أخي وحبيبي وصهري ووصيي عليكم فاسمعوا له وأطيعوا ...» (١).

كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشاد بابن عمه الإمام علي عليه‌السلام طيلة حياته ، وبالأخص في المدينة حيث أكد صلوات الله عليه وآله على وجوب إتباع مولى الثقلين والأخذ منه معالم الدين ، لكن كل هذه التصريحات والتأكيدات لم تلاق قبولا عند المنافقين المتغلغلين في أوساط المسلمين (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (التوبة / ١٠٢) وهؤلاء المنافقون معروفون بسيماهم (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (الرحمن / ٤٢). والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرفهم بتعريف الله له (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) (البقرة / ٢٧٣) (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) (الأعراف / ٤٩) (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (محمد / ٣١) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (الحجر / ٧٦). والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف المنافقين لما حباه عزوجل من العلم اللدني ، فهو من المتوسمين الذين لا تنطلي عليهم اللقب والأراجيف ، لكنه سكت عنهم لحكمة هو أدرى بها منا (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء / ٢٤).

ثالثا : إن الإيمان بالأسس الثلاثة في مطلع البعثة يعتبر إيمانا واقعيا ، تماما كمن آمن ببعض التكاليف الواقعية التي نزلت في مطلع البعثة دون التي لم تنزل ، بمعنى أن التكليف منجز بحق المكلف بمقدار ما وصله من الأحكام والفرائض دون ما لم يصل ، فكل مكلف وصلته بعض الأحكام الواقعية وامتثل لها ، تصبح فعلية في حقه ، ويعتبر مؤمنا بها واقعا ، من حيث إن الله سبحانه أراد من المكلفين

__________________

(١) رواه عامة المؤرخين من الطرفين فلاحظ ابن الأثير والطبري وغيرهما في أحداث أول البعثة.

٣٣

في مطلع البعثة أن يؤمنوا بالأصول الثلاثة المقررة ، ثم بعد ذلك أراد منهم الأصول المتبقية كالإمامة أو الولاية والعدل ؛ وبعبارة : إن الإيمان بالأصول الثلاثة في مطلع البعثة كان ناقصا ثم أكمله الله تعالى بالولاية من خلال ما أورده على المسلمين من آيات دالة على فضله وعلو مقامه ووجوب اطاعته والتسليم له.

وقد أجاد العارف بآل البيت آية الله العظمى السيد الخميني (قدّس سره) حيث قال:

«إن الإيمان كان قبل نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام للولاية عبارة عن التصديق بالله ورسوله ، ولم يكن قبل نصبه أو قبل وفاته على احتمال مورد التكليف للناس ومن الأركان المتوقف على الاعتقاد بها الايمان ، لعدم الموضوع له ، وأما بعد نصبه أو بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صارت الولاية والإمامة من أركانه ، فقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) هو جعل الاخوة بين المؤمنين الواقعيين ، غاية الأمر أن في زمان رسول الله كان غير المنافق مؤمنا واقعا لإيمانه بالله ورسوله ، وبعد ذلك كان المؤمن الواقعي من قبل الولاية وصدقها أيضا ، فيكون خطاب «يا أيها المؤمنون» متوجها إلى المؤمنين الواقعيين وإن اختلفت أركانه بحسب الأزمان ، من غير أن يكون الخطاب من أول الأمر متوجها إلى الشيعة حتى يستبعد ، سيما إذا كان المراد بالمؤمن الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ، وأما الأخبار فما اشتملت على المؤمن فكذلك ، وما اشتملت على الأخ لا تشملهم أيضا لعدم الاخوة بيننا وبينهم بعد وجوب البراءة عنهم وعن مذهبهم وعن أئمتهم كما تدل عليه الأخبار واقتضته أصول المذهب ، وما اشتملت على المسلم فالغالب منها مشتمل على ما يوجبه ظاهرا في المؤمن ...» (١).

ونظير هذا الكلام ما ذكره الفقيه الحجة «البحراني» فلاحظ (٢).

إشكال :

كيف تقولون بكفر المخالف مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجتنب أسآر (٣) المخالفين ، وكان يشرب من المواضع التي تشرب منها عائشة المعروفة بعدائها لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

__________________

(١) المكاسب المحرمة ج ١ / ٢٥٠ ط قم.

(٢) الحدائق الناضرة ج ٥ / ١٧٨ ط قم.

(٣) أسآر : جمع سؤر وهو بقية الشراب في قعر الإناء.

٣٤

والجواب :

١ ـ إن مساورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة وأمثالها كانت تقية ومصلحة.

٢ ـ صحيح أن الآيات نزلت بحق الإمام علي عليه‌السلام وبيان فضله ، حيث كانت على وجه الترغيب لا الترهيب والوعيد ، إلى أن جاء يوم الغدير ، فهدّد الله سبحانه حينئذ المسلمين إن لم يعتقدوا بالولاية كأنهم لا يعتقدون بما جاء به سيد المرسلين ؛ فتنصب الولي عليه‌السلام إنما كان في آخر عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غدير خم ، والمخالفة فيها المستلزمة لكفر المخالف إنما وقع بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يتوجه الإيراد بمساورة النبي لعائشة والغسل معها من إناء واحد وما شابه ذلك كما لا يخفى ، وذلك لأنها في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ظاهر الإيمان وإن ارتدت بعد موته كما ارتد ذلك الجم الغفير المجزوم بإيمانهم في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع تسليم كونها في حياته من المنافقين ، فالفرق ظاهر بين حالي وجودهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموته حيث إن جملة المنافقين كانوا في وقت حياته على ظاهر الإسلام منقادين لأوامره ونواهيه ولم يحدث منهم ما يوجب الارتداد ، وأما بعد موته فحيث ابدوا تلك الضغائن البدرية ، وأظهروا الأحقاد الجاهلية ، ونقضوا تلك البيعة الغديرية التي هي في ضرورتها أظهر من الشمس المضيئة ، فقد كشفوا ما كان مستورا من الداء الدفين وارتدوا جهارا أمام جموع المسلمين كما استفاضت به أخبار الأئمة الطاهرين فشتان ما بين الحالتين ، فأي عاقل يزعم أن أولئك الكفرة اللئام قد بقوا على ظاهر الإسلام حتى يستدل بهم في هذا المقام.

الجهة الثالثة : أنّ الإمامة من أصول الدين :

اتفقت الإمامية على أنّ الإمامة أصل عظيم من أصول الدين ، بل أهم الأصول لما يترتّب عليها من فوائد عظيمة على أسس التوحيد وبقية الأصول ، لكنّ الخلاف ـ كمنا عرفت من مطاوي الكلام السابق ـ بين الشيعة والسنّة القائلين بفرعيتها مع مبالغتهم في ذلك ، حتى قالوا لا يجب البحث فيها بل يكفي فيها التقليد ، وإنما التزموا بذلك لتحصل الغفلة عمّا اقترحوه من ثبوت الإمامة بالاختيار دون النص والاعتبار ، لئلا يحصل الظفر بفساد ما انتحله خلفاؤهم من حقوق الأئمة عليهم‌السلام.

وهنا نبحث في أصوليتها بالأدلة العقلية والنقلية ضمن أمور :

٣٥

الأمر الأول : دليل العقل :

١ ـ إنّ الإمامة من لوازم الولاية ، فحكومتهم أو خلافتهم عليهم‌السلام أحد مظاهر ولايتهم ، والولاء أمر قلبي لا يثبت إلّا بالقطع واليقين ، والفرع يثبت بالظن وخبر الواحد ، والقطع مقدّم على الظن ، فهي بذلك أصل بالقطع واليقين.

٢ ـ إنّ الإمامة لطف عام ، والنبوة لطف خاص لإمكان خلوّ الزمان عن نبيّ حيّ ، بخلاف الإمام ، وإنكار اللطف العام شرّ من إنكار اللطف الخاص ، فإذا كانت النبوة التي هي لطف خاص أصلا من أصول الدين ، فكذا الإمامة تكون أصلا بلا إشكال.

٣ ـ إن مرتبة الإمامة أرقى من مرتبة النبوة ، ونسبة الإمامة إلى النبوة ، نسبة العلة المبقية إلى العلة المحدثة ، فإذا كانت العلة الموجدة (أي النبوة) واجبة ، فكذا العلة المبقية (أي الإمامة) بطريق أولى ، وحيث إن النبوة هي علة لوجود الأحكام والتشريعات ، فلا بدّ لها من علة مبقية تحافظ على تلك الأحكام والقوانين فتكون واجبة وأصلا من الأصول الكبرى.

٤ ـ الإمام لا شك أنه حافظ لكل الدين ، ولا بدّ للحافظ أن يكون على منزلة كبيرة لحفظ ما يراد حفظه وإلّا يقبح حفظ الداني للعالي ، والجاهل للعالم ، والسفيه للحليم ، فلو لم تكن الإمامة أصلا لما وجب على صاحبها حفظ الدين.

٥ ـ إنّ الناس مع تفاوتهم في العقول وهوى النفس ، فهم بهذا محتاجون غير كاملين ، فلولا إمام بينهم كان قيّما عليهم أمينا لديهم ، حافظا لأحكام نبيهم وأساس دينهم ، لفسدوا باندراس الملة وتغيير الأحكام والسنّة وازدياد المبتدعين فيها ، ونقص الملحدين منها ، وحصول الاشتباه على المسلّمين بها.

٦ ـ إنّ الإمامة على حدّ النبوة ، فالحاجة إلى النبي والإمام على نهج واحد ، بل وظيفة الثاني أشمل من الأول ، فإذا كانت النبوة أصلا ، فالإمامة بطريق أولى.

وسنتطرق إلى مزيد من الأدلة العقلية في النقطة الرابعة إن شاء الله تعالى.

الأمر الثانى : دليل الكتاب الكريم :

يستدل على أصولية الإمامة بآيات عدّة من كتاب الله العزيز منها :

١ ـ قوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة / ٢ ـ ٣).

٣٦

وقد أشارت النصوص الصحيحة أنّ أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام قبلة المهتدين والقاصدين إليه تعالى ، وكونه هاديا لهم باعتباره الدالّ على الله تعالى والمرشد إليه ، وقد عصمه سبحانه بعلم لا ريب فيه ، يجعله في قمّة الدالّين عليه تعالى والحافظين لشريعته.

٢ ـ قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة / ١٢٥).

روى فى الكافي في باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة عن زيد الشحّام قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ الله تعالى اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، وإنّ الله تعالى اتّخذه نبيّا قبل أن يتخذه رسولا ، وإنّ الله تعالى اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، وإنّ الله تعالى اتّخذه خليلا قبل أن يجعله إماما ، فلما جمع له هذه الأشياء : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قال : فمن عظمها في عين إبراهيم : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون السفيه إمام المتقي (١).

فمنزلة الإمامة الممنوحة لإبراهيم عليه‌السلام بعد اجتيازه لكل الاختبارات ، تفوق منزلة النبوة والرسالة ، ولو لم تكن أهم من المنصبين المتقدمين عليها لما كان سبحانه شرّفه بها ، إذ لا يشرّف المرء بالأدون ، فبذا تكون أصلا عظيما منحه الله تعالى لعبده الرسول إبراهيمعليه‌السلام.

٣ ـ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (النساء / ٥٩) المستفاد منها أداء أمانة الإمامة ، والروايات في تفسيرها بالإمامة كثيرة منها ما رواه الكليني في باب أنّ الأئمة لم يفعلوا شيئا إلّا بعهد من الله عزوجل وأمر منه لا يتجاوزونه ، بإسناده عن عيسى بن المستفاد أبي موسى الضرير قال : حدثنى الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : قلت لأبى عبد الله عليه‌السلام : أليس كان أمير المؤمنين عليه‌السلام كاتب الوصية ورسول الله المملي عليه وجبرائيل والملائكة المقرّبون شهودا؟.

قال : فأطرق طويلا ثم قال : يا أبا الحسن قد كان ما قلت ، ولكن حين نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمر ، نزلت الوصية من عند الله كتابا مسجّلا ، نزل به جبرائيل

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ص ١٧٥.

٣٧

عليه‌السلام مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة ، فقال جبرائيل عليه‌السلام : يا محمد مر بإخراج من عندك إلّا وصيك ليقبضها منّا وتشهدنا بدفعك إيّاها إليه ضامنا لها (يعني عليّا عليه‌السلام).

فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخراج من كان في البيت ما خلا عليّا عليه‌السلام وفاطمة فيما بين الستر والباب ، فقال جبرائيل : يا محمد ربّك يقرؤك السلام ويقول : هذا كتاب ما كنت عهدت إليك ، وشرطت عليك ، وشهدت به عليك ، وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي يا محمد شهيدا.

قال : فارتعدت مفاصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :

يا جبرائيل ربّي هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه يعود السلام ، صدق عزوجل وبرّ ، هات الكتاب ، فدفعه إليه وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : اقرأه حرفا حرفا فقال: يا علي هذا عهد ربّي تبارك وتعالى إليّ وشرطه عليّ وأمانته ، وقد بلّغت ونصحت وأدّيت الخ (١).

٤ ـ قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة / ٥٦).

روى الكليني بسند صحيح عن عمر بن أذينة عن زرارة ، والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبى الجارود جميعا عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

أمر الله عزوجل رسوله بولاية على وأنزل عليه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة / ٤) الآية وفرض ولاية أولى الأمر ، فلم يدروا ما هي ، فأمر الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفسّر لهم الولاية كما فسّر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتخوّف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذّبوه فضاق صدره وراجع ربّه عزوجل فأوحى الله عزوجل إليه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (المائدة / ٦٨) فصدع بأمر الله تعالى ذكره فقام بولاية علي عليه‌السلام يوم غدير خم ،

__________________

(١) الحديث طويل لا لاحظ أصول الكافى : ج ١ ص ٢٨١ والسند معتبر.

٣٨

فنادى الصلاة جامعة ، وأمر الناس أن يبلّغ الشاهد الغائب ؛ قال : أبو جعفر عليه‌السلام ، وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عزوجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة / ٤) قال أبو جعفر عليه‌السلام يقول الله عزوجل : «لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة قد أكملت لكم الفرائض» (١).

فالآية الكريمة مما أجمع الفريقان على نزولها في الإمام علي عليه‌السلام ، وقد دلّت الروايات المتواترة معنى ولفظا ، نقلت في كتب الحديث والتفسير والكلام والفقه ، ونصّ الأعاظم من الجمهور على صحة تلك المرويات والوثوق بها والركون عليها. وقد نصّت تلك المرويات أن أمير المؤمنين عليه‌السلام تصدّق بخاتمه على مسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة ، والولي هو المتصرّف وقد أثبت الله الولاية لذاته ، وشرّك معه الرسول وأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، وولاية الله تعالى عامة فكذا ولاية نبيه ووليه (٢).

٥ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (المائدة / ٦٨).

نقل الفريقان بأسانيد متواترة نزولها في بيان فضل مولى الثقلين علي بن أبي طالب عليه‌السلام يوم الغدير ، حيث أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد الإمام علي عليه‌السلام وقال : أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه كيفما دار.

والمولى يراد به الأولى بالتصرّف لتقدم ألست أولى ولعدم صلاحية غيره هاهنا.

والآية واضحة الدلالة بظهور التهديد من الله تعالى لنبيه الأكرم بأنه إذا لم يبلّغ ما نزل عليه بشأن ولاية أمير المؤمنين وأنه الإمام والخليفة والقيّم على الأمر ،

__________________

(١) أصول الكافى : ج ١ ص ٢٨٩ ح ٤.

(٢) هامش إحقاق الحق ، ج ٢ ص ٣٩٩ وقد ذكر العلامة الكبير النجفي المرعشي المصادر الكثيرة من كتب العامة بشأن نزول الآية بأمير المؤمنين عليه‌السلام.

٣٩

فكأنّه لم يبلّغ شيئا من رسالاته التي منها معارف التوحيد والنبوات والاعتقادات ، ولو كانت فرعا فكيف تكون أهم من تلك الأصول المزبورة؟! وهل يجوز بحكمة المعقول والمنقول أن يهدّد سبحانه بعدم قبول تلك الأصول بفرع من الفروع؟ ما لكم كيف تحكمون؟!!

٦ ـ قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء /٦٠).

روى الكليني بسند صحيح عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس وعلي بن محمد ، عن سهل بن زياد أبي سعيد محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

فقال : نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم‌السلام.

فقلت له : إن الناس يقولون : فما له لم يسمّ عليا وأهل بيته عليه‌السلام في كتاب الله عزوجل؟

قال : فقال : قولوا لهم : إن الرسول نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثا ولا أربعا ، حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي فسّر ذلك لهم ، ونزلت عليه الزكاة ولم يسمّ لهم من كل أربعين درهما درهما ، حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي فسّر ذلك لهم ، ونزل الحج فلم يقل لهم : طوفوا أسبوعا حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي فسّر ذلك لهم ، ونزلت : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ـ ونزلت في علي والحسن والحسين ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي : من كنت مولاه ، فعلي مولاه ؛ وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي ، فإني سألت الله عزوجل أن لا يفرّق بينهما حتى يوردهما عليّ الحوض ، فأعطاني ذلك ، وقال : لا تعلّموهم فهم أعلم منكم ؛ وقال : إنهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة ، فلو سكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يبيّن من أهل بيته ، لادّعاها آل فلان وآل فلان ، لكنّ الله عزوجل أنزله في كتابه تصديقا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم‌السلام ، فأدخلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الكساء في بيت أم سلمة ، ثم قال : اللهم إنّ لكل نبي أهلا وثقلا وهؤلاء أهل بيتي وثقلي ، فقالت أم سلمة : ألست من أهلك؟ فقال : إنك إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي ، فلما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليّ أولى الناس بالناس لكثرة ما بلّغ فيه

٤٠