الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

الشيخ محمّد جميل حمّود

الفوائد البهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد جميل حمّود


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

يستكبره الإنسان يكون خروجا عن الحدّ الأوسط وإفراطا في الاعتقاد ، إنّ الغلو إنما يكون فيما إذا استلزم القول والاعتقاد فيهم إخراجهم عن ناموس البشر وجعلهم أربابا من دون الله.

ولم لا نعكس القول فنكفّر الذين فرّطوا في كمالاتهم وفضائلهم لاستلزامه إنكار الضرورة الدينية وهذا يستتبع إنكار ما نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا صدق أن أولئك مغالون فيصدق أيضا أن المنكرين جاحدون وكافرون ، فقد ورد عن مولانا الإمام الباقر عليه‌السلام قال : والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم واكتمهم لحديثنا ، وإنّ أسوأهم عندي حالا وأمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا ، فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفّر من دان به ، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج إلينا وأسند ، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا (١).

إنّ التقصير بحق النبي والأئمة عليهم‌السلام بنسبة الغلوّ إلى من نسب إليهم الفضائل التي لا تحتملها العقول ليست الأولى في زماننا هذا ، بل لها نظير في تاريخنا الغابر كما يروى عن الشيخ الصدوق «عليه الرحمة» حيث نسب الغلوّ إلى كلّ من يعتقد بعدم سهو النبي والأئمة لمقالته المشهورة : «أول درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبي والإمام».

وقال في كتابه من لا يحضره الفقيه (٢) : «وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي والردّ على منكريه إنّ شاء الله» حتى استدعى أن يرد عليه بعض المحقّقين ـ بالقول : «الحمد لله الذي قطع وتينه قبل أن يؤلف هذه الرسالة» ، وأيضا ردّ عليه الشيخ المفيد «عليه الرحمة» بأنه مقصّر بحق النبي والأئمة عليهم‌السلام فقال : «وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر لم نجد لها دافعا فى التقصير وهي ما حكي عنه أنه قال : أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي والإمام ، فإن صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر ، وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيرا ظاهرا في الدين ، وينزلون الأئمة عليهم‌السلام عن مراتبهم ، ويزعمون أنهم كانوا لا يعرفون كثيرا من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم ، ورأينا من يقول أنهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون ويدّعون مع ذلك أنهم مع العلماء وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه ، ويكفي في علامة

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٢٢٣ ح ٧ ط. إيران ١٣٨٨ ه‍.

(٢) ج ١ ص ٢٣٥ «أحكام السهو في الصلاة» ط. إيران ١٣٩٠ ه‍.

١٨١

الغلوّ نفي القائل به عن الأئمة سمات الحدوث وحكمه لهم بالإلهية والقدم ؛ إذ قالوا بما يقتضي ذلك من خلق أعيان الأجسام واختراع الجواهر وما ليس بمقدور العباد من الأعراض ، ولا يحتاج مع ذلك إلى الحكم عليهم وتحقيق أمرهم بما جعله أبو جعفر سمة للغلو على كلّ حال» (١).

ويا ليت الكاتب نور الدين اكتفى بما ذكر بل زاد الطين بلّة حيث نقل عن السيد فضل الله : «إنّ عدم رؤية السيدة الزهراء عليها‌السلام للعادة الشهرية يعتبر حالة مرضية تحتاج إلى العلاج ، أو هي على الأقل حالة نقص في أنوثتها» ، ثم قال : «وهو قول وجيه لأنّ الزهراء عليها‌السلام المرأة الكاملة في طبيعتها وأنوثتها لا يمكن أن تكون على مثل هذا الحال فهي منزّهة عن كلّ عيب ونقص وعن كلّ ما يخرجها عن كونها امرأة ، لها ما لكلّ النساء وتجري عليها ما يجري على النساء بما له علاقة بالأمور النسويّة العامة ...» (٢).

يرد عليه :

أولا : إنّ استدلاله هذا اجتهاد في مقابل النص ، حيث لا يوجد دليل نقلي على مدّعاه لكون المسألة من الأمور التاريخية والعقيدية التي تمسّ ذات المعصوم والداخلة في باب الكرامات ، فلا يجوز المساس بها والاعتراض عليها ، فطرح النصوص اعتمادا على الظنون والاستحسانات مشكل بل محرّم شرعا.

ثانيا : إذا كانت الحالة الطبيعية في المرأة هي الحيض فلا يعني ذلك أنّ عدمها يعتبر نقصا وعيبا ، نظيره ما لو قلنا : إنّ الحالة الطبيعية في الإنسان هي النسيان أو السهو أو الخطأ ، فعدم هذه الحالة لا يعتبر نقصا في صاحبها! ولو كان الطمث صفة كمال وعدمه صفة نقص في أنوثة المرأة لكانت المرأة التي بلغت سن اليأس أو التي لا ترى الطمث خلقة خارجة عن أنوثتها؟!!

ثالثا : ما علاقة الطمث بأنوثة المرأة؟! وهل الدم الخارج منها يزيدها نعومة وجمالا؟!! بل العكس هو الصحيح فإن المرأة حال الحيض يغلب عليها الكبت والحزن وهذا ملحوظ عند النساء وإنكاره مكابرة! وقد أكّد على ذلك الأطباء القدامى والجدد ، وفي بعض المرويات أنه اعتلال للمرأة وأنّه عقوبة ابتلى الله بها

__________________

(١) لاحظ تصحيح الاعتقادات ص ١٣٥ ط. دار المفيد ١٤١٤ ه‍.

(٢) مأساة كتاب المأساة ص ٩٩.

١٨٢

بعض نساء بني إسرائيل عند ما فعلن البغاء ، هذا بالإضافة إلى أن الطمث يمنعها من الدخول إلى المساجد وعن الصلاة وعن الصوم ، بل يحرّم عليها لمس آيات الكتاب العزيز (١) وما إلى ذلك من أمور تشير إلى أن المرأة حال الحيض ليست في وضع يمكنها من أن تعيش الأجواء الروحية بكل حيويتها وصفائها وقوّتها.

هذا الحدث الذي لا يرفعه وضوء ولا غسل للعيش في الأجواء العبادية ، إلى أن يرتفع هو بنفسه ويزول ، كل ذلك إشارة إلى خباثته ونجاسته وقد نزّه الله تعالى الزهراء عليها‌السلام عنه لكونها المطهرة من الأرجاس والأنجاس بمحكم القرآن إكراما لها وتأكيدا على تميّزها عن كل من عداها دون أن يكون في ذلك أي تغيير في طبيعتها الأنثوية ، والله تعالى هو مسبب الأسباب وهو قادر على أن يتجاوز قانون العلية والتسبيب لا بالخروج عنه وتحطيمه ، والزهراء عليها‌السلام كحور العين لا يصيبهن طمث كما ورد في النصوص الصريحة.

قد يقال :

قلتم أن حور العين لا يحضن (وذلك لحكمة عدم التوالد في الجنة لذا لم يلق الله عليهن الحيض) بعكس الحيض في الدنيا فحيث إنّه من مقتضيات التوالد فلا مانع حينئذ أن تصاب الزهراء بالحيض كغيرها من النساء!!

والجواب :

صحيح أن الحكمة من الحيض قد يكون للتوالد ، فحيث لم تحض المرأة لا تحمل ، ولكن الزهراء عليها‌السلام أولدت خمسة أولاد من دون سبق حيض عليها إكراما وإجلالا لها والله مسبب الأسباب ومفتّح الأبواب.

رابعا : ليس كلّ خارج عن المألوف أو الحالات الطبيعية يعتبر نقصا وعيبا ، إذ لا ملازمة بالخروج عن الحالة الطبيعية وبين النقص والعيب ، ولو كان هناك ملازمة بينهما لاعتبر خروج مريم عليها‌السلام عمّا هو المألوف والطبيعي (في ولادة عيسى عليه‌السلام حيث حملت به ولم يمسسها بشر ومثلها زوجة إبراهيم عليه‌السلام حيث حملت وهي عجوز وكذا حملت زوجة زكريا عليه‌السلام وهي عاقر) أمرا غير طبيعي ونقصا وعيبا يفرض بحكمة العقل والنقل أن لا يفعله الباري بخاصة أوليائه لاستلزامه التنفير من قبول الدعوة وشماتة الأعداء بعيسى وبإسحاق وبيحيى.

__________________

(١) بل ورد في الصحيح أنّ الملائكة تتأذّى من وجود الحائض عند المحتضر.

١٨٣

خامسا : بما أن المحيض من الأذى وهو قذارة ظاهرية بدلالة اللغة والعرف عليه ، فيجب أن تنزّه الزهراء عن ذلك لكون القذارة رجسا هي مطهّرة منه لقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمتواتر : «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويسخطني ما يسخطها ...» ، فحيث عبّر الله عن المحيض بالأذى فكيف يؤذي الله الزهراء وقد نهى على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس أن يؤذوا الزهراء عليها‌السلام؟ فكيف ينهاهم عن الأذية ثم يخلق فيها ما يؤذيها؟!

فدعوى أنّ الحيض من لوازم الخلقة البشرية وخلوّ المرأة منه نقص لها مردودة : لأن الحيض بنفسه قذارة ظاهرة لقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أي قذارة يتأذّى منها بشهادة العرف الخاص والعام لما يترتب عليه من السلبيات على نفسية المرأة والرجل ، فهو أذى لكليهما للإطلاق في كلمة (أذى) فلم يحدّد الشارع الأذيّة للمرأة فقط وإنما أطلق كما أنه لا موجب لتقييد الأذى بالأذى النفسي فقط فيبقى الإطلاق منعقدا في الظهور فيشمل كل أنواع الأذى : الروحي والنفسي والجسدي. وما ورد في رواية (١) (من أنّ عدم الحيض عيب للمرأة). فهو بالغضّ عن إرساله فمحمول على الجارية لا مطلق امرأة ، ولو سلّمنا إطلاقه ـ وأنه يشمل غير الجارية ـ فلعلّ فقده (أي الحيض) عن المرأة يعتبر من العيوب لدلالته في الغالب على وجود عيب في الرّحم موجب لعدم الولادة ، فإذا تفضّل الله تعالى على أحد من أوليائه بالولادة الكاملة بدون هذه القذارة (كما هو شأن مولاتنا الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام) فلا محالة كان ذلك في حقّها فضيلة وكمالا ظاهرا وتطهيرا زائدا.

سادسا : لا يحقّ لأحد كان أن يطرح النصوص إلا إذا اصطدمت مع نص الكتاب الكريم وأدلة العقل ، ومسألة طهارة الصدّيقة الزهراء عليه‌السلام من الطمث لا نراها تعارض ما ذكرنا بل دعوى الطمث لها يعارض نصّا محكما في الكتاب الكريم كآية لتطهير ، لأنّ الحيض كما قلنا قذر ونجس ، والصدّيقة الطاهرة منزّهة عنه ، فطرح النصوص التي فيها الصحيح والموثّق يتعارض مع ما ذكرنا لا سيما أنّ هذه المرويات قد بلغت حدّ التواتر رواها الفريقان شيعة وسنّة ، فاجتهاد مثل هذا

__________________

(١) مرسلة داود بن فرقد المروية في الوسائل ج ١٢ ص ٤١٣ ح ١ وج ٢ ص ٥٨٢ ح ٢.

١٨٤

هو اجتهاد في مقابل النصوص وقد حرّمته الشريعة المقدّسة تحريما مؤبّدا.

إذن علة عدم الحيض عند مولاتنا الزهراء عليها‌السلام هي التطهير لا المرض ؛ فما ادعاه السيد فضل الله على لسان الكاتب المذكور ليس إلّا مجرد استحسان وتخّرص على الغيب ، أعاذنا الله تعالى من زلة الأقلام وفلتات اللسان.

عود على بدء :

قلنا إن الغلو حالة غير طبيعية ، تخرج صاحبها عن الحدّ المعقول.

ويرجع سبب الغلوّ إلى فساد العقيدة الناتج عن عدم فهم الدين والابتعاد عن حقيقة العبودية لله والانبهار بكرامات المخلوق دون معجزات الخالق ، وقد قصّ علينا القرآن المجيد ظاهرة الغلوّ في الأمم السابقة كما حصل في أمة النبي عيسى عليه‌السلام حيث غالوا به فنهاهم الله عن ذلك بقوله تعالى :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (النساء / ١٧٢).

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة / ٧٣).

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة / ٧٤).

(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (المائدة / ٧٦).

وقد وردت النصوص عن عترة آل الرسول مستنكرة على الغلاة أشدّ الإنكار منها :

١ ـ عن الحسين بن عبيد الله عن أحمد بن محمد بن العطار عن أبيه عن أحمد بن محمّد البرقي عن العباس بن معروف عن عبد الرحمن بن مسلم عن فضيل بن يسار قال :

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم فإنّ الغلاة شرّ خلق الله ، يصغّرون عظمة الله ويدّعون الربوبية لعباد الله ، والله إنّ الغلاة لشرّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا ؛ ثم قال عليه‌السلام : إلينا يرجع الغالي فلا نقبله ، وبنا يلحق المقصّر فنقبله ، فقيل له : كيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال : الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج فلا يقدر على ترك

١٨٥

عادته وعلى الرجوع إلى طاعة الله أبدا ، وإنّ المقصّر إذا عرف عمل وأطاع (١).

٢ ـ وعن الحسين بن عبيد الله عن علي بن محمد العلوي عن أحمد بن علي بن إبراهيم عن أبيه عن جدّه إبراهيم بن هاشم عن أبي أحمد الأزدي عن عبد الصمد بن بشير عن ابن طريف عن ابن نباتة قال :

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : اللهم إني بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى ، اللهمّ اخذلهم أبدا ولا تنصر منهم أحدا (٢).

وهناك نصوص أخر نفت عن الأئمة عليه‌السلام كونهم شركاء الله تعالى في علمه وقدرته ، لكنها تؤول على العلم الذاتي ومن دون استعانة به تعالى وإلّا فعلمهم بالغيب وقدراتهم العظمى إنما هي من علم الله وقدرته.

وبعبارة أخرى : إنّ كل ما يملكونه عليهم‌السلام من العلوم والمعارف والقدرات هي طولية وبإذنه تعالى وهذا لا إشكال فيه ولا غبار يعتريه طبقا لأحكام العقل ودساتير النقل من الكتاب والسنّة المطهّرة.

٣ ـ وفي حسنة محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد عن البرقي عن أبي طالب عن سدير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ قوما يزعمون أنكم آلهة ، يتلون بذلك علينا قرآنا : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (الزخرف / ٨٥).

فقال عليه‌السلام : يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء ، وبرئ الله منهم ، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي ، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلّا وهو ساخط عليهم ... (٣). الخبر طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

٤ ـ عن الخشّاب عن اسماعيل بن مهران عن عثمان بن جبلة عن كامل التمار قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ذات يوم فقال لي : يا كامل اجعل لنا ربّا نؤب إليه وقولوا فينا ما شئتم.

قال : قلت : نجعل لكم ربّا تؤبون إليه ونقول فيكم ما شئنا؟

قال : فاستوى جالسا ثم قال : وعسى أن نقول : ما خرج إليكم من علمنا إلّا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٦٥ ح ٦.

(٢) نفس المصدر.

(٣) أصول الكافي : ج ١ ص ٢٦٩ ح ٦.

١٨٦

ألفا غير معطوفة (١).

بيان : قال صاحب البحار (قدس‌سره) قوله عليه‌السلام غير معطوفة ، أي نصف حرف كناية عن نهاية القلة ، فإنّ الألف بالخط الكوفي نصفه مستقيم ونصفه معطوف هكذا «ا» وقيل : أي ألف ليس بعده شيء ، وقيل ألف ليس قبله صفر أي باب واحد ، والأول هو الصواب والمسموع من أولي الألباب.

ويؤكد الحديث المتقدم ما ورد بالمستفيض بل المتواتر أن أمرهم صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن (٢). بل إن بعض أحاديثهم وأسرارهم لا يحتملها لا ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا عبد مؤمن ممتحن بل هم يحتملونه.

فعن أحمد بن الحسن مسندا إلى أبي الصامت قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ من حديثنا ما لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا عبد مؤمن ، قلت فمن يحتمله؟ قال : نحن نحتمله (٣).

وورد أن من شيعتهم من يمتلك قابلية تحمّل أحاديثهم لذا لم يخف أئمة أهل البيت عن هؤلاء بعض أسرارهم التي لم يقدر على حملها ملك أو نبي مرسل أو عبد مؤمن ، فعن أبي الصامت قال :

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ حديثنا صعب مستصعب شريف كريم ذكوان ذكي وعر لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا مؤمن ممتحن ، قلت فمن يحتمله جعلت فداك؟ قال : من شئنا يا أبا الصامت ، قال أبو الصامت ، فظننت أنّ لله عبادا هم أفضل من هؤلاء الثلاثة (٤).

إذن لا بدّ للمؤمن المتديّن ألّا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم وغرائب أحوالهم إلّا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين بقواطع البراهين أو الأخبار المتواترة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٨٣ ح ٣٠ عن بصائر الدرجات.

(٢) بصائر الدرجات : ج ١ ص ٤٤ ح ١٧ ، وباب ١٢ وفيه ١٦ حديثا بأسانيد موثقة وصحيحة.

(٣) نفس المصدر : ج ١ ص ٤٣ ح ١١.

(٤) بصائر الدرجات : ج ١ ص ٤٢ ح ١٠.

١٨٧

الباب الخامس والعشرون

عقيدتنا في أن الإمامة بالنص

قال المصنّف (قدّس الله سرّه) :

نعتقد أن الإمامة كالنبوّة لا تكون إلّا بالنص من الله تعالى على لسان رسوله أو لسان الإمام المنصوب بالنصّ إذا أراد أن ينصّ على الإمام من بعده ، وحكمها في ذلك حكم النبوّة بلا فرق ، فليس للناس أن يتحكّموا فيمن يعيّنه الله هاديا ومرشدا لعامّة البشر ، كما ليس لهم حقّ تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه لأنّ الشخص الذي له من نفسه القدسيّة استعداد لتحمّل أعباء الإمامة العامّة وهداية البشر قاطبة يجب ألّا يعرف إلّا بتعريف الله ولا يعيّن إلا بتعيينه.

ونعتقد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على خليفته والإمام في البريّة من بعده ، فعيّن ابن عمّه علي بن أبي طالب أميرا للمؤمنين وأمينا للوحي وإماما للخلق في عدة مواطن ، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم الغدير فقال : «ألا من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاده وانصر من نصره واخذ من خذله وأدر الحق معه كيفما دار».

ومن أوّل مواطن النصّ على إمامته قوله حينما دعا أقرباءه الأدنين وعشيرته الأقربين فقال : «هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا» وهو يومئذ صبيّ لم يبلغ الحلم ، وكرر قوله له في عدّة مرات «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي» إلى غير ذلك من روايات وآيات كريمات دلّت على ثبوت الولاية العامة له كآية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (المائدة / ٥٦).

١٨٨

وقد نزلت فيه عند ما تصدّق بالخاتم وهو راكع ، ولا يساعد وضع هذه الرسالة على استقصاء كلّ ما ورد في إمامته من الآيات والروايات ولا بيان وجه دلالتها.

ثمّ إنه عليه‌السلام نصّ على إمامة الحسن والحسين ، والحسين نصّ على إمامة ولده عليّ زين العابدين وهكذا إماما بعد إمام ينصّ المتقدّم منهم على المتأخر إلى آخرهم وهو أخيرهم على ما سيأتي.

* * *

وهنا يقع الكلام في أمور :

الأمر الأول :

من الواضح عند المسلمين جميعا أن أمر تعيين النبي بيد الله تعالى وحده ولا شأن للناس فيها وذلك لاشتراط صفات ومميزات في النبي لا يطّلع عليها إلّا علّام الغيوب ، ومنها صفة العصمة التي هي أمر خفي لا يعلمها إلّا الله تعالى لأنّ النبي إن لم يكن معصوما احتاج إلى غيره ليقوّمه فيتسلسل ، والتسلسل باطل.

وحيث إن الإمامة كالنبوة إلّا في تلقي الوحي التشريعي ، فالأمر حينئذ واضح فلا مجال لانتخاب الناس وتعيينهم كما لا يخفى ، لذا قال العلّامة الحلي في شرحه على تجريد الاعتقاد للطوسي :

«ذهبت الإمامية خاصة إلى أنّ الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه ، وقالت العبّاسية إن الطريق إلى تعيين الإمام النص أو الميراث ، وقالت الزيدية تعيين الإمام بالنص أو الدعوة إلى نفسه ، وقال باقي المسلمين الطريق إنما هو النص أو اختيار أهل الحلّ والعقد.

والدليل على ما ذهبنا إليه وجهان :

الأول : إنّا قد بيّنا أنه يجب أن يكون الإمام معصوما ، والعصمة أمر خفي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى لأنّه العالم بالشرط دون غيره.

الثاني : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أشفق على الناس من الوالد على ولده حتى أنه عليه‌السلام أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده ، كما أرشدهم في قضاء

١٨٩

الحاجة إلى أمور كثيرة مندوبة وغيرها من الوقائع ، وكان عليه‌السلام إذا سافر عن المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين ، ومن هذه حاله كيف ينسب إليه إهمال أمّته ، وعدم إرشادهم في أجلّ الأشياء وأسناها وأعظمها قدرا وأكثرها فائدة وأشدّهم حاجة إليها وهي المتولي لأمورهم بعده فوجب من سيرته عليه‌السلام نصب إمام بعده والنص عليه وتعريفهم إيّاه وهذا برهان لمي» (١)

وقد ذكرنا سابقا الأدلة العقلية الأخرى فلا نعيد.

وما يؤيد الدليل العقلي ما ورد في الأخبار والروايات منها :

ما عن مولانا الإمام الرضا عليه‌السلام في ضمن حديث :

إن الإمامة أجلّ قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم (٢).

ومنها : ما عن الصدوق عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول :

أترون الأمر إلينا نضعه حيث نشاء ، كلا والله إنه لعهد معهود من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل فرجل حتى ينتهي إلى صاحبه (٣).

وفي رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

إنّ الإمامة عهد من الله عزوجل معهود لرجل مسمى ، ليس للإمام أن يزويها عمّن يكون من بعده (٤).

والروايات في هذا المضمون كثيرة جدا فليلاحظ بصائر الدرجات والكافي والبحار ؛ ومن المعلوم أنّ مع التعيين والتشخيص من جانب الله تعالى لا مورد لاختيار الناس ، ثم لا يخفى أن التنصيص أحد الطرق التي يعرف الإمام بها ، لإمكان المعرفة بالإمام من إقامة المعجزة مع دعوى الإمامة «لذا صرّح الميرزا القمي قدس‌سره بذلك حيث قال :

إنّ الإمام إذا ادّعى الإمامة ، وأقام على طبقها المعجزة دلّ ذلك على حقيته

__________________

(١) شرح التجريد : ص ٣٦٦.

(٢) أصول الكافي : ج ١ ص ١٩٨ والحديث طويل فراجع.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٧٠ ح ٧ نقلا عن بصائر الدرجات.

(٤) نفس المصدر : ص ٧٢.

١٩٠

كما مرّ في النبوة» (١).

بل ظاهر الأدلة أن الإمام يعرف بالأفضلية في الصفات ، فإنّ تقديم المفضول على الأفضل قبيح ، فهو طريق ثالث للمعرفة بالإمام.

الأمر الثاني :

في ثبوت النصوص على أنّ الإمام بعد النبي هو الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام وتدلّ عليه الآيات والروايات الصحاح والمتواترات ، وقد أشار المصنف إلى بعض منها كآية الولاية ، وحديث الغدير ويوم الدار وحديث المنزلة ، وفيما أشار إليه غنى وكفاية.

ثمّ إنّ المظفر (قدس‌سره) لم يشر إلى البحث السندي عن هذه الروايات لأنها من المتواترات ، وقد تصدّى لإثباته جمع من أعاظم الأصحاب كالعلّامة مير سيد حامد حسين الموسوي النيشابوري الهندي (قدس‌سره) في عبقات الأنوار ، وكالعلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني (قدس‌سره) في الغدير حيث قال :

«ولا أحسب أنّ أهل السنّة يتأخرون بكثير عن الإمامية في إثبات هذا الحديث (أي حديث الغدير) والبخوع لصحته ، والركون إليه والتصحيح له والإذعان بتواتره اللهمّ إلّا شذاذ تنكّبت عن الطريقة وحدت بهم العصبية العمياء إلى رمي القول على عواهنه ، وهؤلاء لا يمثلون من جامعة العلماء إلّا أنفسهم فإنّ المثبتين المحققين للشأن المتولعين في الفن لا تخالجهم أية شبهة في اعتبار أسانيدهم التي أنهوها متعاضدة متظافرة ، بل متواترة إلى جماهير من الصحابة والتابعين وإليك أسماء جملة وقفنا على الطرق المنتهية إليهم على حروف الهجاء (٢) ، ثم ذكر مائة وعشرة من أعاظم الصحابة وقال : هؤلاء من أعاظم الصحابة الذين وجدنا روايتهم لحديث الغدير ، ولعلّ فيما ذهب علينا أكثر من ذلك بكثير ، وطبع الحال يستدعي أن تكون رواة الحديث أضعاف المذكورين ، لأنّ السامعين الوعاة له كانوا مائة ألف أو يزيدون ، وبقضاء الطبيعة أنهم حدّثوا به عند مرتجعهم إلى أوطانهم شأن كل مسافر ينبئ عن الأحداث الغريبة التي شاهدها في سفره ، نعم فعلوا ذلك إلّا شذاذ منهم صدتهم الضغائن عن نقله ، والمحدثون منهم وهم الأكثرون فمنهم

__________________

(١) بداية المعارف الإلهية : ج ٢ ص ١١٤ نقلا عن أصول الدين : ص ٣٧.

(٢) الغدير ج ١ / ١٤ ط قم.

١٩١

هؤلاء المذكورون ، ومنهم من طوت حديثه أجواز الفلى بموت السامعين في البراري والفلوات قبل أن ينهوه إلى غيرهم ، ومنهم من أرهبته الظروف والأحوال عن الإشادة بذلك الذكر الكريم ...

وجملة من الحضور كانوا من أعراب البوادي لم يتلق منهم حديث ولا انتهى إليهم الإسناد ، ومع ذلك كله ففي من ذكرناه غنى لإثبات التواتر (١). ثم ذكر أربعة وثمانين من التابعين ثم قال ليست الصحابة بالعناية بحديث الغدير بدعا من علماء القرون المتتابعة بعد قرنهم ، فإن الباحث يجد في كل قرن زرافات من الحفاظ الأثبات يروون هذه الاثارة من علم الدين متلقين عن سلفهم ، ويلقونها إلى الخلف ، شأن ما يتحقق عندهم ويخضعون لصحته من الأحاديث فإليك يسيرا من أسمائهم في كل قرن شاهدا على الدعوى ونحيل الحيطة بجميعها إلى طول باع القارئ الكريم والوقوف على الأسانيد ومعرفة المشيخة.

ثم شرع من القرن الثاني إلى القرن الرابع عشر وذكر وعدّ ستين وثلاثمائة من الحفّاظ والناقلين لحديث الغدير مع أنّ جمعا من هؤلاء كانوا يروون ذلك بطرق مختلفة كما قال في هامش ص ١٤ أن أحمد بن حنبل رواه من أربعين طريقا وابن جرير الطبري من نيف وسبعين طريقا ، والجزري المقرئ من ثمانين طريقا وابن عقدة من مائة وخمس طرق ، وأبو سعيد السجستاني من مائة وعشرين طريقا ، وأبو بكر الجعابي من مائة وخمس وعشرين طريقا ، وفي هداية العقول ص ٣٠ عن الأمير محمد اليمني (أحد شعراء الغدير في القرن الثاني عشر) أن له مائة وخمسين طريقا ، ثم قال العلّامة الأميني (قدس‌سره) في متن الغدير : بلغ اهتمام العلماء بهذا الحديث إلى غاية غير قريبة ، فلم يقنعهم إخراجه بأسانيد مبثوثة خلال الكتب حتى أفرده جماعة بالتأليف ، فدوّنوا ما انتهى إليهم من أسانيده ، وضبطوا ما صحّ لديهم من طريقه ، كل ذلك حرصا على كلاءة متنه من الدثور ، وعن تطرق يد التحريف إليه ثم أيّد تواتره بالمناشدة والاحتجاج حيث قال : لم يفتأ هذا الحديث منذ الصدر الأول ، وفي القرون الأولى ، حتى القرن الحاضر من الأصول المسلّمة ، يؤمن به القريب ويرويه المناوي من غير نكير في صدوره ، وكان ينقطع المجادل إذا خصمه مناظره بإنهاء القضية إليه ، ولذلك كثر الحجاج به وتوفّرت

__________________

(١) نفس المصدر ص ٦١.

١٩٢

مناشدته بين الصحابة والتابعين وعلى العهد العلوي وقبله.

ثم ذكر الاثنين والعشرين من مواضع المناشدة والاحتجاج وبيّن أعلام الشهود فيها ، ثم ذكر جماعة من علماء العامة الذين اعترفوا بصحة الحديث وثبوته وتواتره وهم الثلاثة والأربعون ، وهذا هو المحصّل لما أفاده (قدس‌سره) في تحقيق سند حديث الغدير (١).

وقال أستاذنا آية الله العظمى المحقق الكبير المرعشي النجفي (قدس‌سره) في هامش إحقاق الحق : «إنّ هذا الحديث الشريف من المتواترات بين النقلة وحفاظ الأحاديث النبوية ، قد بلغت كثرة أسانيده واستفاضتها إلى درجة لو ارتاب فيه أحد لم يجد متواترا في الدنيا ، ولعدّ المكابر له من السوفسطائية في الحسيات فكيف يتطرق إلى صدوره الإنكار وإلى صراحة دلالته الاحتمال ، وقد شهد بتواتره فطاحل الآثار وحفظة الأخبار أودعوه في كتبهم على تنوّعها وأذعنوا بعد التأويلات الباردة بصراحته في ما نقول نحن معاشر شيعة أهل البيت (٢).

وقال المظفر في دلائل الصدق :

بل الحق أن هذا الحديث من المتواترات حتى عند القوم ، فقد نقل السيد السعيد (قدّس سره) عن الجزري الشافعي أنه أثبت في رسالته أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب تواتره من طرق كثيرة ونسب منكره إلى الجهل والعصبية (٣).

إذن حديث الغدير متواتر عند الشيعة والسنة بالاتفاق.

وأما سند حديث المنزلة فهو أيضا في غاية القوة والاعتبار ويكفيك فيه ما حققه آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس‌سره) في المراجعات حيث قال :

«لم يختلج في صحة سنده ريب ، حتى الذهبي ـ على تعنته ـ صرّح في تلخيص المستدرك بصحته وابن حجر الهيثمي ـ على محاربته بصواعقه ـ ذكر الحديث في الشبهة ١٢ من الصواعق ، فنقل القول بصحته عن أئمة الحديث الذين

__________________

(١) لاحظ الغدير للأميني (قدس‌سره) : ج ١ ص ١٤ ـ ٣١٤.

(٢) إحقاق الحق : ج ٢ ص ٤٢٢ الهامش.

(٣) دلائل الصدق : ج ٢ ص ٥٣.

١٩٣

لا معوّل فيه إلّا عليهم فراجع ، ولو لا أن الحديث بمثابة من الثبوت ما أخرجه البخاري في كتابه فإنّ الرجل يغتصب نفسه عند خصائص علي وفضائل أهل البيت اغتصابا ، ومعاوية كان إمام الفئة الباغية ، ناصب أمير المؤمنين وحاربه ولعنه على منابر المسلمين وأمرهم بلعنه لكنه ـ بالرغم من وقاحته في عدوانه ـ لم يجحد حديث المنزلة ولا كابر فيه سعد بن أبي وقّاص حين قال له ـ فيما أخرجه مسلم ـ ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال :

أما ما ذكرت ثلاثا قالهنّ له رسول الله فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم ، سمعت رسول الله يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبوة بعدي ... الحديث ، فأبلس معاوية ، وكفّ عن تكليف سعد.

أزيدك على هذا كلّه أن معاوية نفسه حدّث بحديث المنزلة قال ابن حجر في صواعقه أخرج أحمد أنّ رجلا سأل معاوية عن مسألة فقال : سل عنها عليّا فهو أعلم ، قال : جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب علي ، قال : بئس ما قلت ؛ لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغرّه بالعلم غرا ، ولقد قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أن لا نبي بعدي ، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه ... إلى آخر كلامه (١).

ثم أشار صاحب المراجعات (قدس‌سره) إلى أسماء الكتب التي أدرج فيها حديث المنزلة فلاحظ.

وأما سند حديث الإنذار يوم الدار فهو في غاية الاعتبار قال العلّامة شرف الدين في المراجعة (٢) :

«وحسبك منها (أي النصوص على الخلافة) ما كان في مبدأ الدعوة الإسلامية قبل ظهور الإسلام بمكة ، حين أنزل الله تعالى عليه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فدعاهم إلى دار عمّه أبي طالب عليه‌السلام وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه وفيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، والحديث في ذلك من صحاح السنن المأثورة ، وفي آخره قال رسول الله : يا بني عبد المطلب إني

__________________

(١) المراجعات : ص ٢٣٠ المراجعة ٢٨.

١٩٤

والله ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على أمري هذا ، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟

فأحجم القوم عنها غير علي عليه‌السلام وكان أصغرهم إذ قام فقال : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ رسول الله برقبته وقال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. اه.

ثم أشار إلى من أخرج هذا الحديث من حفظة الآثار كابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي في سننه وفي دلائله ، والثعلبي والطبري في تفسير سورة الشعراء من تفسيرهما الكبيرين ، وأخرجه الطبري أيضا في الجزء الثاني من كتابه تاريخ الأمم والملوك ، وأرسله ابن الأثير إرسال المسلّمات في الثاني من كامله عند ذكره أمر الله نبيه بإظهار دعوته ، وأبو الفداء في الجزء الأول من تاريخه عند ذكره أول من أسلم من الناس ، ونقله أبو جعفر الإسكافي المعتزلي في كتابه نقض العثمانية مصرحا بصحته وأورده الحلبي في باب استخفائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في دار الأرقم من سيرته المعروفة ، وأخرجه بهذا المعنى مع تقارب الألفاظ غير واحد من إثبات السنّة وجهابذة الحديث ، كالطحاوي والضياء المقدسي في المختارة ، وسعيد بن منصور في السنن ، كما أخرجه أحمد بن حنبل في الجزء الأول من مسنده (١) ، وصرّح في آخر كلامه بتواتره عند الشيعة فراجع (٢).

هذه جملة من النصوص الدالة على إمامة مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وبقيتها تطلب من مظانها.

الأمر الثالث : في فقه حديث الغدير :

لا شكّ أنّ مدلول الحديث حجّة قاطعة على أنّ أمير المؤمنين إمام له ما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاية على الأنفس ، فالحديث يثبت إمامته عليه‌السلام بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه ... وكلمة مولى لغة بمعنى «الأولى بالتصرّف»

__________________

(١) المراجعات : ص ٢١٣ ـ ٢١٤ ط. الأعلمي.

(٢) المراجعات : ص ٢٢٣ المراجعة ٢٤.

١٩٥

ولكن بعض العامة شكّك في الوضع اللغويّ لكلمة «مولى» وقال : إنّ المولى في الحديث بمعنى الناصر.

ولكن يرد عليه :

أنّه لا يقال في اللغة العربيّة «هو مولى دين الله» مكان «ناصر دين الله» ولا يصحّ تبديل قوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) إلى «من مواليّ إلى الله» أو تبديل قول الحواريّين (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) إلى «نحن مواليّ الله».

وقد ذكر أهل اللغة لتفسير «المولى» معاني عدّة منها : المالك ـ العبد ـ المعتق ـ المعتق ـ الصّاحب ـ الجار ـ الحليف ـ الابن ـ العمّ ـ النزيل ـ الشريك ـ ابن الأخت ـ الوليّ ـ الربّ ـ الناصر ـ المنعم ـ المنعم عليه ـ المحبّ ـ التّابع ـ الصّهر (١). ولكنّ الحق أنّ كلمة مولى لها معنى واحد وهو «الأولى بالتصرّف» وتختلف هذه الألوية بحسب الاستعمال في كلّ مورد من موارده.

وهناك قرائن على أنّ المراد من «المولى» هو «الأولى بالتصرّف أو الوليّ».

القرينة الأولى :

سبق أمر الله تعالى نبيّه بالقول : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) فإنّه لا يصحّ حمله على الأمر بتبليغ أنّ عليّا عليه‌السلام محبّ أو ناصر لمن أحبّه النبيّ أو نصره ، فإنّ الذي يليق بهذا التهديد هو أن يكون المبلّغ به أمرا دينيا يلزم الأمّة الأخذ به كالإمامة مثلا لا مثل الحبّ والنصرة من علي عليه‌السلام لهم التي لا دخل لها بتكليفهم فهل ترى أنّ الله سبحانه ورسوله يريدان تسجيل الأمر على عليّ والإشهاد عليه لئلا يفعل ما ينافي الحبّ والنّصرة أو يريدان توضيح الواضحات؟!

القرينة الثانية :

إنّ قول النبيّ في صدر الحديث «ألست أولى بكم من أنفسكم» تمّ تفريعه على الصدر بقوله : «فمن كنت مولاه فعليّ مولاه» إشارة إلى أنّ المراد من «المولى» هو «الأولى بالتصرّف» ولا وجه للتفكيك بين الصدر والذيل المفرّع عنه.

__________________

(١) لاحظ القاموس : ج ٤ ص ٤٠١.

١٩٦

القرينة الثالثة :

ما دلّت عليه قرائن الحال الدالّة على أنّ ما أراد بيانه النبي هو أهمّ الأمور وأعظمها كأمره بالصلاة في السفر بالمنزل الوعر في حرارة الشمس وقت الظهيرة مع إقامة منبر وقيامه خطيبا بين جماهير المسلمين إلى آخر ما هناك ، لا بدّ مع هذا كلّه أن يكون مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان إمامة الأمير عليه‌السلام التى يلزم إيضاح حالها والاهتمام بشأنها وإعلام كل مسلم بها ، لا مجرّد بيان أنّ عليّا عليه‌السلام محبّ لمن أحبّه النبيّ وناصر لمن نصره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهوعليه‌السلام لا أمر ولا إمرة له.

القرينة الرابعة :

إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن يبلّغ الشاهد الغائب ، وهذا تأكيد لا يصحّ أن يصدر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمجرّد بيان النصرة أو المحبة ، فلا بدّ أن يكون هذا التأكيد على شيء عظيم لم تتح الفرصة لتبليغه على نطاق واسع ولا عرفته جماهير المسلمين وما هو إلّا إمامة عليّ عليه‌السلام.

القرينة الخامسة :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب نزول آية الإكمال : الله أكبر على إكمال الدّين وإتمام النّعمة ورضى الربّ برسالتي والولاية لعليّ بن أبي طالب. وفي لفظ شيخ الإسلام الحمويني : «الله أكبر على تمام نبوتي وتمام دين الله بولاية عليّ بعدي».

القرينة السادسة :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إبلاغ الولاية : «اللهم أنت شهيد عليهم إني قد بلّغت ونصحت» فالإشهاد على الأمة بالبلاغ والنصح يستدعي أن يكون ما بلّغه النبي ذلك اليوم أمرا جديدا لم يكن قد بلّغه من قبل. مضافا إلى أن بقيّة معاني «المولى» العامّة بين أفراد المسلمين من الحبّ والنّصرة لا تتصوّر فيها أيّ حاجة إلى الإشهاد على الأمّة في عليّ خاصّة.

إلى غير ذلك من القرائن الكثيرة المذكورة في المطولات ، أو التي يمكن أن يستنبطها المتدبر بكتاب الله وأحاديث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أما ما ورد من الإيرادات الواهية التي توهمها بعض المخالفين والمعاندين على حديث الغدير ، نذكر إيرادين منها :

١٩٧

الإيراد الأول :

ما تمحّله البعض كما في النهاية لابن الأثير ، حيث ذكر أنه قيل سبب ذلك : أنّ أسامة قال للإمام علي عليه‌السلام لست مولاي إنما مولاي ـ أي معتقي ـ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه ـ أي معتقه ـ فعلي عليه‌السلام مولاه ـ أي معتقه (١).

فالحديث ـ بزعم هذا المستشكل ـ ورد في عتق الإمام علي عليه‌السلام لأسامة لا أنه مولى للمؤمنين.

والجواب :

إذا كان أسامة بن زيد قد أعتقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا معنى لإعتاق الإمام علي عليه‌السلام له ، ولو فرض فلا يناسبه هذا الاهتمام العظيم ، على أنّ أسامة لم يعتقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنما أعتق أباه زيد بن حارثة ، فإطلاق أنّه مولى رسول الله عليه إنّما هو باعتبار انجرار الولاء إليه من أبيه ، ولهذا قال بعضهم : إنّ القائل لعلي عليه‌السلام لست مولاي ، وإنما مولاي رسول الله هو زيد بن حارثة ، فقال رسول الله : «من كنت مولاه فعلي مولاه» ردّا لقول زيد.

ولعلّ هذا القول قاله إسحاق بن حمّاد بن زيد للمأمون ، لمّا جمع العلماء ليحتجّ عليهم في فضل علي عليه‌السلام فيما ذكره صاحب العقد الفريد ، فقال إسحاق للمأمون : ذكروا أنّ الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشيء جرى بينه وبين علي ، وأنكر ولاء عليعليه‌السلام ، فقال رسول الله : «من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

فردّ عليه المأمون بأن ذلك كان في حجة الوداع ، وزيد بن حارثة قتل قبل ذلك ، وكأنّ من ذكر هذا العذر التفت إلى مثل ما ردّ به المأمون ، فغيّر العذر ، وقال : إنه قال ذلك في شأن أسامة بن زيد.

وسواء أقيل : إن ذلك في شأن زيد أو ابنه أسامة ، فزيد إنما هو مولى عتاقه وابنه أسامة كذلك بجر الولاء ، والإمام علي عليه‌السلام لم يعتقه ، وإنما أعتقه النبي فكيف يكون زيد أو ابنه مولاه وهو لم يعتقه؟!

__________________

(١) النهاية لابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧.

١٩٨

على أنه لا يناسبه كل هذا الاهتمام كما عرفت.

الإيراد الثاني :

ما تمحّله ابن كثير (١) وصاحب السيرة الحلبية (٢) ، من صرف ما وقع يوم الغدير إلى ما وقع عند رجوع الإمام علي عليه‌السلام من اليمن ، فقد قال ابن كثير في تاريخه : أنّ النبي خطب بمكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريبا من الجحفة ، يقال له : غدير خمّ ، فبيّن فيها فضل علي بن أبي طالب عليه‌السلام وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر إليهم من المعدلة التي ظنّها بعض جورا وتضيقا وبخلا ، والصواب كان معه عليه‌السلام في ذلك ، ولهذا لمّا فرغ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيان المناسك ورجع إلى المدينة بيّن ذلك في أثناء الطريق فخطب خطبة عظمية في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ ، وكان يوم الأحد بغدير خمّ تحت شجرة هناك ، وذكر من فضل عليّ عليه‌السلام وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ، ونحن نورد عيون الأحاديث الواردة في ذلك ... إلى أن قال : وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة ، ونحن نورد عيون ما روي في ذلك مع أعلامنا أنه لا حظ للشيعة فيه ولا متمسك لهم ولا دليل ...».

والجواب :

١ ـ بالغض عن السبب الموجب لأن يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل علي عليه‌السلام بمقالته المشهورة : «من كنت مولاه ...» فإنّ ذلك كاف في بيان عظمة علي عليه‌السلام وأن له ما للنبي طبق القذة بالقذة ، فبما أن للنبيّ ولاية عامة على الأموال والأنفس كذا هي بعينها لأمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢ ـ إن ابن كثير لم يأت بدليل يثبت ما قال ، بل قدّم أولا روايات هذه الواقعة ، فنقل عن محمّد بن إسحاق ، بسنده عن يزيد بن طلحة ، قال : لمّا أقبل عليّ عليه‌السلام من اليمن ليلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة ، تعجّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) البداية والنهاية : ج ٥ ص ١٥٨ ط. دار الكتب العلمية حوادث السنة العاشرة للهجرة.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٧٥.

١٩٩

واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حلّة من البز الذي كان مع عليّ ـ وهو الذي أخذه من أهل نجران ـ فلمّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل ، قال : «ويلك ما هذا؟» قال : «كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس».

قال : «ويلك انزع قبل أن ينتهي به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانتزع الحلل من الناس فردّها في البزّ ، وأظهر الجيش شكواهم لما صنع بهم».

ثمّ حكى عن ابن إسحاق أنّه روى بسنده عن أبي سعيد الخدري ، قال : اشتكى الناس عليّا ، فقام رسول الله فينا خطيبا فسمعته يقول : «أيّها الناس ، لا تشكوا عليّا ، فو الله إنّه لأخشن في ذات الله ، أو في سبيل الله ، من أن يشكى».

ثم حكي عن أحمد أنّه روى بسنده عن بريدة ، قال : غزوت مع عليّ عليه‌السلام اليمن ، فرأيت منه جفوة ، فلمّا قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرت عليّا فتنقصته ، فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتغيّر ، فقال : «يا بريدة ، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قلت : بلى يا رسول الله.

قال : «من كنت مولاه فعليّ مولاه».

قال ابن كثير : وكذا رواه النسائي بإسناده ، نحوه.

قال : وهذا إسناد جيّد قويّ رجاله كلّهم ثقات ، إلى آخره ...

ثمّ أتبع ابن كثير ذلك بروايات الغدير ، ليجعلهما بزعمه واقعة واحدة ، وأنّ ما وقع يوم الغدير هو تدارك لما وقع في سفر اليمن ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن يوم الغدير فضل الإمام عليّ عليه‌السلام وبراءة ساحته ممّا تكلّم فيه أهل ذلك الجيش ، مع أنّهما واقعتان لا دخل لإحداهما في الأخرى ، فلمّا شكا الجيش من الإمام عليّ عليه‌السلام وكانت شكايتهم منه بمكّة في أيام الحجّ ، غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك وبيّن لهم أنّ شكايتهم منه في غير محلّها وقام فيها خطيبا ، وقال : «لا تشكوا عليّا ، فو الله إنّه لأخشن في ذات الله من أن يشكى».

وقال لهم يومئذ : «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا : بلى.

قال : «من كنت مولاه فعليّ مولاه».

٢٠٠